الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العمليات الفدائية في الأعداء من الكفار المحاربين
اختلفت أساليب الحرب وفنون القتال من عصر إلى آخر، ولكنها أكثر تغيرًا وفتكًا في هذا العصر، ومن أساليب القتال تلك قيام المسلم بقتل مجموعة من المحاربين ويتم ذلك بتفجير نفسه وسط الأعداء المقاتلين من الكفار فيموت هو ومن حوله، كما يحدث في فلسطين، وقد شكلت تلك العمليات عنصرًا مهمًّا وأساسيًّا في إدارة الصراع مع إسرائيل، وأحدثت توازنًا في القوى بين الفلسطينيين واليهود على الرغم من تفوق اليهود في الأسلحة والعتاد.
وقد اختلف العلماء المعاصرون في مثل هذا الأسلوب:
1 -
فذهب بعضهم إلى أن هذا الأسلوب لا يجوز، وهو نوع من الانتحار وأنه لم يكن معهودًا من قبل، وفيه إلقاء بالنفس إلى التهلكة والله يقول:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
ويقول تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
2 -
وذهب آخرون إلى جواز ذلك؛ فقد صرح الحنفية بأنه إن علم أنه يقتل إذا قاتل بشرط أن ينكي في العدو فإنه جائز، أما إذا علم أنه لا ينكي فيهم فإنه لا يحل له أن يحمل عليهم؛ لأنه لا يحصل بحملته شيء من إعزاز الدين.
وقال محمَّد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في قتل أو نكاية في العدو.
كما ذهب المالكية إلى جواز إقدام الرجل المسلم على الكثير من الكفار إن كان قصده إعلاء كلمة الله، وكان فيه قوة وظن تأثيره فيهم ولو علم ذهاب نفسه، ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثرًا ينتفع به المسلمون فجائز أيضًا وقيل إذا طلب
الشهادة وخلصت النية فليحمل؛ لأن مقصوده واحد منهم (1).
وذلك بيّن في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207].
وقد قال رجل من المسلمين يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة ضعوني بالحَجَفة (2) وألقوني إليهم، ففعل الصحابة، وقاتلهم وحده وفتح الباب. ونقل الرازي (3) رواية عن الشافعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنة، فقال رجل. أرأيت إن قتلت في سبيل الله فأين أنا؟ قال:"في الجنة"، فألقى تمرات في يديه، ثم قاتل حتى قتل (4). وقال ابن العربي (5): والصحيح عندي جوازه؛ لأن فيه أربعة أوجه:
* الأول: طلب الشهادة.
* الثاني: وجود النكاية.
* الثالث: تجرئة المسلمين عليهم.
* الرابع: إضعاف نفوس الأعداء ليروا أن هذا صنيع واحد منهم فما ظنك بالجميع.
وجاء في توضيح الأحكام "قال الحافظ: ذهب جمهور العلماء إلى أنه يجوز للرجل الشجاع أن يحمل على الكثير من العدو، إذا كان له قصد حسن، كأن يرهب العدو، أو
(1) حاشية ابن عابدين (4/ 137) وحاشية الدسوقي (2/ 183)، وتفسير القرطبي (2/ 363)، وروضة الطالبين (ص: 229)، والعدة شرح العمدة لبهاء الدين المقدسي (ص: 117)، وانظر: فقه السنة للسيد سابق (1/ 347).
(2)
الرجل هو البراء بن مالك أخو أنس بن مالك والحَجَفة: ترس يتخذ من الجلود، تفسير القرطبي (2/ 364).
(3)
التفسير الكبير لفخر الدين الرازي (5/ 150).
(4)
أخرجه مسلمٌ (3/ 1).
(5)
أحكام القرآن لابن العربي (1/ 116).
يجرئ المسلمين على الإقدام أو نحو ذلك من المقاصد" (1).
وجاء في الموسوعة الفقهية: "وربما يشبه ذلك لبس الحزام الناسف وإلقاء النفس أمام دبابات العدو للقضاء عليها مع علمه بأنه سيقتل"(2).
الراجح:
يتبين مما ذكر من أقوال الفقهاء أن تلك الحالة وما يماثلها جائزة؛ لما ذكروه من فوائد للمسلمين، بل هي مرتبة عالية إن تحققت فيها الرغبة الصادقة لإعلاء دين الله وكسر شوكة الكفر، ودفع المسلمين إلى الجرأة على أعدائهم، والنيل منهم بتحقيق الشهادة في سبيل الله، ولا سيما في هذا العصر الذي اختلت فيه موازين القوى، وأصبح للأعداء اليهود في فلسطين وغيرها قوة حربية كبيرة، قد لا يستطيع المسلمون التصدي لهم حاضرًا ولم يبق أمامهم إلا مثل تلك العمليات. قال القرطبي (3): "وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ. . .} [التوبة: 111].
وأما الآية التي استدل بها المانعون فيجاب عنها بما جاء في حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عندما غزا المسلمون القسطنطينية، فحمل رجل على عسكر العدو، فقال قوم: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: لا، إن هذه الآية نزلت في الأنصار حين أرادوا أن يتركوا الجهاد، ويعمروا أموالهم.
وأما هذا، فهو الذي قال الله فيه (4): {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ
(1) توضيح الأحكام لابن بسام (6/ 376).
(2)
الموسوعة الفقهية (6/ 11).
(3)
تفسير القرطبي (2/ 111، 363).
(4)
أخرجه أبو داود (2512)، والترمذيُّ (2972) وصححه، وقال الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي على تصحيحه، توضيح الأحكام لابن بسام (6/ 375).
مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207]
فالتهلكة هي ترك الجهاد وما فيه من عظيم الأجر وحلول النصر، والركون إلى الدنيا وما يترتب على ذلك من ضعف المسلمين وقوة أعدائهم وتسلطهم عليهم وغزوهم في عقر دارهم وإذلالهم، وهو ما يؤدي إلى التهلكة للفرد والأمة، وأما من افتدى المسلمين والإِسلام بنفسه، فقد باعها لله رغبة فيما عنده من عظيم الأجر وجزيل الثواب للشهداء والمجاهدين في سبيله.
ويجاب عن الآية الثانية بأنها لا تتناول موضوع الاستدلال، وإنما المراد بها أن يقتل الناس بعضهم بعضا. قال القرطبي (1): أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل بعض الناس بعضا، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل والحرص على الدنيا وطلب المال بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي للتلف، ويحتمل أن يقال:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} في حال ضجر أو غضب، فهذا كله يتناوله النهي.
وليست تلك العمليات انتحارًا؛ إذ الانتحار قتل للنفس وتخلص منها بعد أن ضاقت الدنيا في وجهه لأي سبب من أسباب الحياة، فهو لا يقصد أبعد من ذلك، وإنما الفداء بالنفس لإعلاء كلمة الله وعز الإسلام والمسلمين وقهر الأعداء والنكاية بهم شراء للآخرة بالحياة الدنيا، فهو لم يقدم على إزهاق نفسه سخطًا لأمر من أمور الدنيا، وإنما أرخصها لهدف أسمى وأعلى ألا وهو الشهادة في سبيل الله، فقد باع نفسه وما يفني بما يبقى من رضوان الله والدرجات العلى.
وقد حققت مثل هذه العمليات نتائج طيبة بالنيل من العدو ورفع الروح المعنوية للمسلمين، وأنه يمكن النصر على الأعداء إذا صدق المسلمون مع الله وحققوا عوامل النصر، وإن لم يكونوا مثل الأعداء عددًا وعدة كما هي شواهد التاريخ.
(1) تفسير القرطبي (5/ 156).
ونرى أن يقيد هذا الجواز بشروط هي:
1 -
ألا يقصد قتل نفسه والخلاص من الدنيا.
2 -
أن يحاول تنفيذ العملية الفدائية مع المحافظة على نفسه ما أمكن.
3 -
أن تكون تلك العمليات موجهة إلى أعداء المسلمين المحاربين من الكفار فقط.
4 -
أن يكون فيه مصلحة ظاهرة للمسلمين ونكاية مؤثرة في العدو.
5 -
أن تكون تلك العمليات مقرَّة من علماء البلد الذي يحارب العدو؛ لأنهم أدرى بما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين عندهم.
وبتحقيق تلك الشروط يتم البعد عن السلبيات التي يمكن أن تقع إذا قيل بالجواز مطلقًا. والله أعلم.