الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسائل تقوية الروابط الاجتماعية
إن الروابط الاجتماعية في المجتمع المسلم متعددة، كما رأينا عند الكلام عن نشأة المجتمع. وكنت ذكرت في الحديث عن العقيدة والعبادات أنها كلها ذات أهداف اجتماعية تمتن تلك الصلات، وأن من تلك العبادات ما يتعلق موضوعه أساسًا بهذه الصلات كالزكاة التي تفرض حقًّا للفقراء في مال الأغنياء فتقرب بين الفئتين.
وأبين هنا وسائل أخرى تدعم هذه العلاقات، وترجع إلى بعض العبادات وإلى الآداب، والحقوق، وسأجمل القول فيها متعرضًا لجانبها الاجتماعي، ومجمل أحكامها دون التفاصيل التي ترجع في كتب الفقه.
وأرتبها كما يلي:
أ- العبادات:
- صلاة الجماعة - صلاة الجمعة - صلاة العيدين
ب- الآداب:
- إفشاء السلام - التزاور - عيادة المريض
ج- الحقوق:
- تشييع الجنازة - حقوق الجوار -تحمل العاقلة للدية
الوسيلة الأولى: صلاة الجماعة
صلاة الجماعة مناسبة يومية يلتقي فيها أهل الحي في المسجد يعبدون الله تعالى، ويوحدونه، ويطمئنون على أحوالهم.
أكد عليها الرسول صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث ترغيبًا وترهيبًا.
ففي فضلها روى عنه عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده سبعًا وعشرين درجة"1.
وعن عثمان بن عفان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله"2.
وفي التشديد على التخلف عنها حدَّث أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق
1 موطأ مالك 8، صلاة الجماعة 1، باب فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ حديث1 ج1:129.
صحيح البخاري 10، الأذان 30، باب فضل صلاة الجماعة ج1:119.
صحيح مسلم 5، المساجد ومواضع الصلاة 42، باب فضل صلاة الجماعة حديث 249ج 2: 122 واللفظ له.
2 صحيح مسلم 5، والمساجد وموضع الصلاة 45، باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة حديث 260 ج2:125.
عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء" 1.
قوله: "أو مرماتين" تثنية مرماة بكسر الميم، وحكي فتحها، وهي ما بين ظلفي الشاه من اللحم، وفسرت بالهبة، وبالسهم.
والجملة لو يعلم أحدهم إلى آخر الحديث فيها إشارة إلى ذم المتخلفين عن الجماعة بوصفهم بالحرص على الشيء الحقير من مطعوم أو ملعوب مع التفريط فيما يحصل رفيع الدرجات ومنازل الكرامة2.
هذا الحديث أورده الإمام البخاري تحت عنوان وجوب صلاة الجماعة ويعني هذا أنه استدل به على وجوبها.
وفي المسألة خلاف قال ابن قدامة: الجماعة واجبة للصلوات الخمس، وروي نحو ذلك عن ابن مسعود وأبي موسى، وبه قال عطاء والأوزاعي، وأبو ثور 3.
ولم يوجبها مالك والثوري، وأبو حنيفة، والشافعي 4.
وأضاف ابن حجر بعض التوضيح، فقال: قال أحمد: إنها واجبة غير شرط، وظاهر نص الشافعي أنها فرض كفاية، وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه وقال به كثير من الحنيفية والمالكية، والمشهور عند البقية أنها سنة مؤكدة 5.
1 صحيح البخاري 10، الأذن 29، باب وجوب الجماعة ج1: 119 واللفظ له.
صحيح مسلم 5، المساجد ومواضع الصلاة 42، باب فضل صلاة الجماعة، وبيان التشديد في التخلف عنها، حديث 246ج2:123.
2 ابن حجر، فتح الباري 2: 129- 130.
3 ابن قدامة، المغني 2:176.
4 ابن قدامة، المغني 2:176.
5 ابن حجر، فتح الباري 2:126.
وأجاب هؤلاء عن ظاهرة الحديث السابق بأجوبة منها: أن التهديد بالتحريف يمكن أن يكون في حق تاركي فرض الكفاية.
ومنها أن الخبر ورد مورد الزجر، وحقيقته غير مرادة، وإنما المراد المبالغة، ويرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة التي يعاقب بها الكفار، وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك 1.
وقد تعددت الإجابات والردود عليها، ولسنا في حاجة إلى عرضها لأن الذي يهمنا تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على حضور الجماعة -بقطع النظر على حكمها- تحقيقًا لتآلف المجتمع وتماسكه وهذا لا خلاف فيه.
1 ابن حجر، فتح الباري 2:126.
الوسيلة الثانية: صلاة الجمعة
هي فرض أسبوعي على المسلمين، يؤدونها في المسجد الجامع، فيستمعون إلى خطبة الإمام ويصلون، ويلتقون مع بعضهم، فهي فرصة لقاء متممة للقاء اليومي، فمن تخلف عن الجماعة يلتقي مع أهل حيه وبلده يوم الجمعة، وقد أوجبها الله تعالى بالقرآن والسنة.
أوجبت هذه الآية حضور صلاة الجمعة، فأمرت بالسعي إليها، والأمر هنا للوجوب، ولا يجب السعي إلا إلى واجب.
والمراد امضوا إلى الجمعة، أو صلوا الجمعة، ولتأكيد ذلك حرم العمل أثناءها. ودليلها من السنة ما رواه عبد الله بن عمر، وأبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين"2.
وحتى تحقق صلاة الجمعة هدفها الديني والدنيوي كان فيها خطبتان وصلاة، ومن شأن الخطبتين أن تعالجا موضوعًا يذكر السامع بأحكام
1 سورة الجمعة: 9.
2 صحيح مسلم 7، الجمعة 12، باب التغليظ في ترك الجمعة، حديث 4ج 3: 10 واللفظ له.
سنن النسائي 14، الجمعة 2، باب التشديد في التخلف عن الجمعة ج3: 88-89.
الشرع، وينبهه إلى وجوب الاستقامة. واشتراط العدد والمسجد في أداء الجمعة تحقيق لجانهبا الاجتماعي، فالعدد لحضور كثير من الناس، والمسجد اشترط ليسع الحاضرين.
ولكي يقدم المسلم إلى الجمعة وهو خاشع لله تعالى، ومستعد للتلقي حثه الرسول صلى الله عليه وسلم على التبكير إلى المسجد، وربط الثواب بساعة الحضور. وأعلمه بأن هناك ساعة في يوم الجمعة يستجاب فيها الدعاء، ولم يحددها له تحديدًا دقيقًا ليظل ينتظرها أثناء الخطبة. وكامل اليوم.
وهذه أحاديث في فضل الجمعة وبعض أحكامها.
- غسل يوم الجمعة والتبكير إليها:
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح، فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام، حضرت الملائكة، يستمعون الذكر"1.
واختلف في المراد بالساعات، فقيل إنها الساعات المعروفة، وقيل المراد بها بيان مراتب المبكرين من أول النهار إلى الزوال، وإنها خمس.
وقيل إن المراد بها لحظات لطيفة أولها زوال الشمس، وآخرها جلوس الخطيب على المنبر، واستدلوا على ذلك بأن الساعة تطلق على جزء من الزمان غير محدود2.
1 موطأ مالك 5، والجمعة1، العمل في غسل الجمعة حديث 1، ج1: 101 واللفظ له.
صحيح البخاري 11، الجمعة، باب فضل الجمعة ج1:158.
صحيح مسلم 7، الجمعة1، باب وجوب غسل الجمعة حديث 10ج3:4.
2 ابن حجر، فتح الباري 2: 368-369
- الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة:
عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة، فقال:"فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلى، يسأل الله شيئًا، إلا أعطاه إياه"، وأشار صلى الله عليه وسلم بيده يقللها1.
- جزاء من استمع، وأنصت للخطبة:
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من اغتسل ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى تفرغ من خطبته، ثم يصلى معه غفر له ما بينه وبين الجمعة وفضل ثلاثة أيام"2.
- بطلان جمعة من تكلم أثناء الخطبة:
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت، والإمام يخطب فقد لغوت"3.
1 موطأ مالك5، الجمعة7، الساعة التي في يوم الجمعة، حديث 15ج1: 108 واللفظ له.
صحيح البخاري 11، والجمعة 37، باب الساعة التي فيها يوم الجمعة ج1:166.
صحيح مسلم 7، الجمعة4، باب في الساعة التي في يوم الجمعة، حديث 13، ج 3:5.
2 صحيح مسلم7، الجمعة، باب فضل من استمع وانصت في الخطبة حديث 35 ج 3:8.
صحيح البخاري 11، الجمعة 35، باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب ج 1:166.
الوسيلة الثالثة: صلاة العيدين
هي مناسبة سنوية يبدأ بها المسلمون أعمال يومي عيد الفطر والأضحي، فيصلون، ويسمعون الخطبة، ويهنئون بعضهم بالعيد ويفترقون، وقد أدوا الصلاة، وتزودوا بما سمعوه من التذكير، وأطمانوا على بعضهم.
ذكر ابن قدامة أنها فرض كفاية في ظاهر المذهب الحنبلي، وعند بعض أصحاب الشافعي، وواجبة على الأعيان عند أبي حنيفة، وليست فرضًا.
وسنة مؤكدة غير واجبة عند مالك، وأكثر أصحاب الشافعي 1.
وتشريعها تمّ بالقرآن الكريم في قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 2 فالمشهور في تفسير هذه الآية أن المراد بها صلاة العيد.
وتواتر قيام النبي صلى الله عليه وسلم بها، ووردت في الأحاديث الصحاح، عن البراء بن العازب، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال:"إن أول ما نبدأ به من يومنا هذا أن يصلى، ثم نرجع فننحر، فمن فعل فقد أصاب سنتنا"3.
1 ابن قدامة، المغني 2:367.
2 الكوثر: 2.
3 صحيح البخاري 3، العيدين 3، باب سنة العيدين لأهل الإسلام ج1:170.
وفي خصوص عيد الفطر، جاء عن أنس، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات. وعنه أنه قال: ويأكلهن وترا".1
وليس في صلاة العيد نداء ولا إقامة، وتكون الصلاة قبل الخطبة، ويشرع فيها عند حلول النافلة.
وأداؤها في المصلى أفضل، ولا بأس بخروج النساء إليها.
وقد فصلت أحكامها في كتب الفقه.
الآداب الإسلامية
حث الإسلام المسلمين على التأدب بآداب تشدهم إلى بعضهم، وتقوي صلاتهم، وتجعل منهم كلا ملتئمًا متقارب المشاعر، يفرحون معًا، ويتألمون معًا، ويتعاونون على دفع ما أصابهم، أو أصاب بعضهم.
والآداب كثيرة منها:
السلام، والتزاور، وعيادة المريض. وكلها وسائل تقوي الروابط الاجتماعية، وتعتبر تابعة للوسائل الثلاثة التي ذكرناها قبل قليل.
1 صحيح البخاري 3، العيدين4، باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج ج1:170.
الوسيلة الرابعة: السلام
هو بدء الحديث عند اللقاء، ومفتاح التعارف، وأمر به القرآن وحثت عليه الأحاديث، وبينته بتفصيل.
المراد بالاستئناس الاستذان، وقد أمرت هذه الآية بالاستئذان والسلام، وأمرت الآية التالية برد التحية بأحسن منها.
قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} 2.
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإفشاء السلام وتعميمه بأن لا يقتصر على المعرفة.
عن عبد الله بن عمرو أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت، ومن لم تعرف"3.
أي لا تخص به أحدا تكبرا، أو تصنعا، بل عممه تعظيما لشعار الإسلام، ومراعاة لاخوة المسلم4.
وابتداء السلام سنة، ورده واجب.
1 النور: 27.
2 النسا: 89.
3 صحيح البخاري2، الإيمان6، باب الطعام من الإسلام ج1: 11
4 ابن حجر فتح الباري 1: 56.
وكان الرد واجبًا لأن السلام معناه الأمان، فإذا ابتداء به المسلم أخاه فلم يجبه فإنه يتوهم منه الشر، فيجب عليه دفع ذلك التوهم عنه1.
وعموم الأمر بالتحية مخصوص بلفظ السلام.
وحرصًا على أداء التحية بين المسلمين سن لها الرسول صلى الله عليه وسلم أحكامًا، هي أن يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير، والراكب على الماشي.
ومن فوائد النشر السلام: التحابب، التعارف، والتواضع، والاحترام والأمان، والطمأنينة. عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا تدخلو الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على أمر، إذا أنتم فعلتموه تحاببتم، افشوا السلام بينكم"2.
ابن حجر، فتح الباري 1:77.
2 صحيح مسلم1، الإيمان 22، باب أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون حديث 93 ج1:53.
سنن الترمذي 43، والاستئذان 1، باب ما جاء في افشاء السلام ج5: 50 واللفظ له.
الوسلية الخامسة: الزيارة
الزيارة أدب إسلامي، يوثق العلاقة بين الزائر والمزور، ويشعرهما بالود والتجابب. ولئن جاز إطلاقها على الذهاب إلى الغير بمناسبة ما، فإن الإطلاق الأول لها الذهاب إلى الغير لربط الصلة والاستئناس بمجالسته والحديث معه.
وأثبت الواقع أن الزيارة لغير حاجة الزائر لها وقع طيب في نفس من وقعت زيارته. لا سيما، وأن الكثير من الناس يتزاورن لأغراض مادية والأدب أن تحصل الزيادة للتآخي، فإذا حصلت مع ذلك لحاجة فلا بأس.
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم زار عددًا من أصحابه، وكان يزور أبا بكر رضي الله عنه باستمرار.
عن عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت:"لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر عليهما يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية ،فبينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحرة الظهيرة، قال قائل: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ساعة لم يكن يأتينا فيها".
قال أبو بكر: ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قال: "إني قد أذن لي بالخروج"1.
1 صحيح البخاري 78،الأدب 63 ،باب هل يزور صاحبه كل يوم أو بكرة وسعشية ج4:62.
قال ابن بطال: الصديق الملاطف لا يزيده كثرة الزيارة إلا محبة بخلاف غيره1.
وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار أهل بيت من الأنصار فطعم عندهم طعامًا، فلما أراد أن يخرج أمر بمكان من البيت فنضح له على بساط، فصلى عليه، ودعا لهم2.
ومما يأخذ من هذا الحديث أن من تمام الزيارة أن يقدم للزائر ما حضر من الطعام اثباتًا للمودة وزيادة في المحبة.
- فضل الزيارة:
عن أبي هريرة مرفوعًا: "من عاد مريضًا، أو زار آخًا له في الله ناداه مناد أن طبت، وطاب ممشاك، وتبوأت الجنة منزلًا"3.
وعن معاذ بن جبل مرفوعًا قال: الله تبارك وتعالى: "وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فّي، والمتباذلين في"4.
والمتباذلون الذين يبذلون أموالهم في سبيل الله.
تضمن هذان الحديثان تبشيرًا للزائر بحب الله تعالى له، وبمنزلة في الحنة.
1 ابن حجر فتح الباري 10: 99 4
2 صحيح البخاري 78، والأدب 64، باب الزيارة ومن زار قومًا فطعم عندهم ج4:62.
3 سنن الترمذي 28، البر والصلة 64، باب ما جاء في زيارة الأخوان ج4:321.
4 موطأ مالك 51، الشعر 16، باب ما جاء في المتجابين في الله ج2:954.
الوسيلة السادسة: عيادة المريض
عيادة المريض من أساليب المواساة بين الناس، ولها أثر نفسي بالغ على المريض، يتمثل في شعوره بمحاولة غير التخفيف عنه.
وقد اعتبرها بعض العلماء من واجبات الكفاية كإطعام الجائع، وعدها البعض سنة، لكنها قد ترتقي إلى الواجب في حق بعض المرضى.
- آدابها:
1 اختيار الوقت المناسب الذي لا يزعج المريض، ولا ذويه، ولا العاملين في المصحات والمستشفيات إن كان المريض مقيمًا بها.
2 مواساة المريض.
3 تخفيفها حتى لا يضجر المريض، ولا يتعب أهله.
- الأحاديث الواردة فيها:
عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني"1.
1 صحصح البخاري 75، المرضى4، باب وجوب عيادة المرضى ج4:3.
فكوا العاني: اعملوا على استرداد الأسير حريته.
وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع"1.
والخرقة: الثمرة إذا نضجت، شبه ما يحوزه عائد المريض من الثواب بما بحوزه الذي يجني الثمر من الشجر.
صحيح مسلم45، البر والصلة والآداب 12، باب فضل عيادة المريض، حديث 40ج8:13.
سنن الترمذي 8، الجنائز، باب ما جاء في عبادة المريض ج3:299.
الوسيلة السابعة: حقوق المسلم على المسلم
من هذه الحقوق تشييع الجنازة، واحترام الجار، وتحمل العاقلة للدية، وكلها تابعة لوسائل تقوية الروابط الاجتماعية.
اتباع الجنائز
اتباع الجنائز: المشي معها إلى حين الصلاة عليها، ثم دفنها.
وهو واجب على ذي القرابة الحاضر، وعلى الجار 1.
وقد يكون مع المشي حملها إن لم تحمل في سيارة.
والواجب كفائي، وجاء في الحديث أنه من حق المسلم على المسلم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، واجابة الدعوة، وتشميت العاطس"2.
وعنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"من اتبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا، وكان معه حتى يصلى عليه، ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها، ثم يرجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط"3.
1 العيني، عمدة القارئ 8:7.
2 صحيح البخاري 23، الجنائز2، باب الأمر باتباع الجنائز ج1:215.
3 صحيح البخاري2، الإيمان 35 ،باب اتباع الجنائز من الإيمان ج1:18.
القيراط جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف العشر في أكثر البلاد، والمراد هنا النصيب. وقيل المراد بالقيراط هنا جزء من أجزاء معلومة عند الله تعالى، وقد قربها النبي صلى الله عليه وسلم للفهم بتمثيله القيراط بأحد، وقيل قوله:"مثل أحد" تفسير المقصود من الكلام لا للفظ القيراط، والمراد منه أن يرجع بنصيب من الأجر1.
واتباع الجنازة وحده لا يكفي إن لم يكن للميت من يجهزه، ويصلى عليه، ويدفنه، حيث إن هذه الأمور جميعها من واجبات الكفاية على الأقارب، والأجور، ثم على غيرهم من المسلمين، وورد في الحديث النص على الاتباع لأنه لا يتطلب كلفة، وفي إمكان الكثير من الأقارب والجيران وسواهم من غير المرضى والكبار القيام به.
وهو من ظاهر الاتحاد والتضامن.
العيني عمدة القارئ 8: 127- 128.
الوسيلة الثامنة: حقوق الجار
لئن كان للإنسان قرابة من جهة والده ومن جهة أمه، ينصرونه، ويعينونه، ويشاركونه مناسباته السارة وغير السارة غالبًا، فإنه من الممكن أن لا يكون الأقارب متجاورين، فقد لا يجد القريب قريبه عند الحاجة إليه لبعده عنه.
بيد أن لكل ساكن جارًا، وخاصية الجار القرب المكاني، مما يجعله قادرًا على مساعدة جاره ومواساته في كل الأوقات.
من أجل ذلك كان للجار منزلة كبيرة نص عليها القرآن والحديث.
قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} 1. عطف الله تعالى في هذه الآية الإحسان إلى الجار على عبادته تعالى، وتوحيده، والإحسان إلى الوالدين، وإلى ذي القربى، واليتامى، والمساكين. وعطف عليه الإحسان إلى الصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت الأيدي.
ووروده ضمن هذه المأمورات دليل على منزلته، ولولاها لما ذكر بينها
1 النساء: 36
وصنف الله تعالى الجار إلى صنفين: 1- الجار ذو القربى 2- الجار الجنب وفسّر الأول بمن له صلة قرابة، وفسر الثاني بخلافه. وقيل الأول القريب المسلم، والثاني غيره، وقيل القريب المرأة، والجنب الرفيق في السفر.
- تعريف الجار، ومرتبته.
الجار اسم يشمل المسلم، والكافر، والعابد، والفاسق، والصديق والعدو، والغريب، والبلدي، والنافع، والضار، والقريب، والأجنبي، والأقرب دارًا، والأبعد1.
وتبعًا لهذه الأصناف اختلفت مراتب الجيران، وحددت ثلاثة في حديث عند الطبراني مرفوعًا قال عليه -الصلاة والسلام-:"الجيران ثلاثة: جار له حق، وهو المشرك ،له حق الجوار. وجار له حقان، وهو المسلم ،له حق الجوار، وحق الإسلام. وجار له ثلاثة حقوق، مسلم، له رحم، له حق الجوار، والإسلام، والرحم"2.
- حد الجوار:
اختلف فيه فعن على كّرم الله وجهه أن: من سمع النداء فهو جاره، وقيل: الأجوار الذين يصلون صلاة الصبح في المسجد معًا.
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: "حد الجوار أربعون دارًا من كل جانب، وعلى هذا الرأي كثير من العلماء.
- الأحاديث الحاثة على الإحسان إلى الجار:
عن أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن". قيل من يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه"4.
1 ابن حجر، فتح الباري، 10:441.
2 نقلًا عن ابن حجر، فتح الباري 10:442.
3 المرجع نفسه 10: 447.
4 صحيح البخاري 78، الآدب 29، باب إثم من لا يأمن جاره بواتقه ج4:53.
والبوائق جمع بائقة، وهي الداهية، والشيء المهلك والأمر الشديد الذي يوافي بغتة، والقسم على نفي إيمان من لا يطمئن جاره إليه. إنذار لمن يؤذي جاره.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره"
…
الحديث1.وعند الإمام مسلم ،عن أبي هريرة من طريق آخر ،عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فليحسن إلى جاره" 2.
وعن أبي شريح العدوي، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره"3. ويراد بالإيمان هنا كماله، وخص بالله اليوم الآخر إشارة إلى المبدإ والمعاد.
- أوجه الإحسان إلى الجار:
يمكن تفسير الإحسان إلى الجار وإكرامه من جملة أحاديث عند الطبراني ت 360 والخرائطي محمد بن جعفر ت 367 وهي وإن كانت أسانيد ضعيفة فإن تعدد مخارجها يدل على أن لها أصلًا.
وملخص ما تضمنته: إقراض الجار، إعانته، عيادته عند المرض، تهنئته، مواساته، الإهداء إليه، عدم الاستطالة عليه بالبنيان، احترامه، السلام عليه، طلاقة الوجه عند لقائه، تفقد حاله، كف الأذى عنه، عظته بالحسنى، الدعاء له، عظة الكافر بعرض الإسلام عليه وترغيبه فيه، وعظ الفاسق بالرفق به، والستر عليه4.
صحيح البخاري 78، الأدب 31، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ج4:53.
2 صحيح مسلم1، الإيمان 19، باب الحث على إكرام الجار، حديث 76-77ج1:50.
3 صحيح البخاري 78، والأدب 31، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ج4:53.
4 ابن حجر، فتح الباري 9:446.
الوسيلة التاسعة: تحمل العاقلة للدية *
- تعريف العاقلة:
العاقلة بسر القاف جمع عاقل، وهو دافع الدية.
وسميت الدية عقلًا تسمية بالمصدر، لأن الإبل كانت تعقل بفناء ولي القتيل، ثم كثر الاستعمال حتى أطلق العقل على الدية، ولو لم تكن إيلًا 1.
وعاقلة الرجل: قراباته من قبل الأب، وهم عصبته، وكان العصبة يعقلون الإبل على باب ولي يالمقتول2.
- تحمل العاقلة للدية:
استدل ابن حجر على هذه المسألة بالسنة والإجماع، فقال: تحمل العاقلة للدية ثابت بالنسبة، وأجمع أهل العلم على ذلك3.
وبحثها من خلال الحديث التالي:
عن الشعبي، قال: سمعت أبا جحيفة، قال: سألت عليًا رضي الله عنه هل عندكم شيء ما ليس في القرآن؟ وقال مرة: ما ليس عند الناس، فقال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن - إلا فهمًا يعطي رجلًا في كتابه- وما في الصحيفة. قلت وما في الصحيفة؟ قال: العقل: وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر4.
* بحث هذه المسألة بتوسع أبو الوليد الباجي في "المنتقى" شرح الموطأ ج7: 98-104.
1 2 3 ابن حجر، فتح الباري 12:246.
4 صحيح البخاري 87، الديات 24، باب العاقلة ج4: 192-193.
ثم قال: وهو مخالف لظاهر قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . 1.
واعتبر الحديث والأحاديث الأخرى التي في موضوعه مخصصة لعموم الآية، وبين أسباب التخصيص.
وقبل عرضها أورد وجه التعارض بين مسألة تحمل العاقلة للدية والآية السابقة، وهو أن الآية صريحة في أن كل شخص يتحمل مسؤوليته، ولا يتحمل خطأ الآخر.
في حين تفيد مسألة تحمل العاقلة للدية أن من قتل غيره على وجه الخطإ تتحمل عاقلته دية القتيل، ولا تتحمل ما ارتكبه عمدًا.
عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول: ليس على العاقلة عقل في قتل العمد، إنما عليهم قتل الخطأ2.
وعن ابن شهاب الزهري، قال: مضت السنة في قتل العمد حين يعفو أولياء المقتول أن الدية تكون على القاتل في ماله خاصة إلا أن تعينه العاقلة عن طيب نفس منها3.
- أسباب تحمل العاقلة للدية:
1 احتمال أن تأتي الدية على مال القاتل إن دفعها بنفسه.
2 هدر دم القتيل إن عجز القاتل عن دفع الدية، ولم تتحملها العاقلة.
3 تحذير القاتل من إعادة فعله لأنه إن أعاد حذرته الجماعة، وتحذيرها أشد من تحذيره لنفسه.
3 ضمان الدية لأن افتقار الجماعة بعيد الاحتمال.
1 فاطر: 18، والزمر:7، والإسراء: 15
2 موطأ مالك: 2: 865 وانظر ابن قدامة المغني 7: 775-776.
3 ابن حجر، فتح الباري 12:246.
وبين الشوكاني فقه هذه المسألة فرأى أن ما تحملته فرأى أن ما تحملته العاقلة في جناية الخطإ والقسامة ليس من تحمل عقوبة الجناية، وإنما هو من باب النصرة والمعاضدة فيما بين الأقارب1.
- شروط المتحملين للدية من العاقلة:
يتحمل الدية من العاقلة الأقرب فالأقرب من الرجال البالغين، أصحاب اليسار2
- الأثر العائلي والاجتماعي لتحمل العاقلة للدية:
يظهر الأثر العائلي لتحمل العاقلة للدية في تمتين العلاقة العائلية نتيجة للتضامن الذي تجسم في دفع أولياء القاتل للدية.
ويظهر الأثر الاجتماعي لها في ضمان العاقلة الدية لورثة القتيل.
1 الشوكاني، نيل الأوطار 7:246.
2 ابن حجر، فتح الباري 12:246.