الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأصل الثاني: العبادة وأثرها في الفرد والمجتمع
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} 1.
بينت هذه الآية أن الغاية من خلق الله الجن والأنس هي عبادته، شكرًا له تعالى على نعمه، ووفاء من عباده بحقه عليهم. فقد سبق لنا حديث معاذ الذي نص على أن من حق الله على العباد أن يوحدوه، ويعبدوه.
معنى العبادة:
لها معنيان خاص وعام.
المعنى الخاص:
العبادة أعمال بدينة أو مالية مخصوصة، يسبقها اعتقاد جازم بأن المستحق لها هو الله وحده.
قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
فإياك تفيد التخصيص أي: نخصك يا الله بالعبادة، والاستعانة بك وحدك.
وضبط الشرع أحكامها فحدد أوقاتها وكيفيتها، وبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بقيامه بها، فقال:"صلوا كما رأيتموني أصلي"2.
1 سورة الذاريات: 56-57.
2 صحيح البخاري 10، الأذن 18، باب الأذن للمسافرين ج1:117.
عن جابر بن عبد الله، قال:"رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: "لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه" 1.
فالله سبحانه يعبد بما شرّع، وعلى الصفة التي شرع.
والمسلم مطالب بأداء الفرائض منها، وهي الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وعلى صفة الوجوب، والسنن، والصدقة غير الواجبة على وجه التطوع.
المعنى العام:
العبادة هي التقرب إلى الله تعالى بكل ما شرعه، وقام به صاحبه على الوجه المشروع، ونفع به نفسه، وغيره، وخلصت فيه نيته لله تعالى. قال صلى الله عليه وسلم:"الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوي، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه"2.
أهداف الصلاة
قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً} 3.
1 صحيح مسلم 15، الحج 51، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، حديث 31 ج4:79.
سنن أبي داود 24، المناسك 187، باب رمي الجمار ج2:201.
سنن النسائي 24، المناسك 220، باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم ج5:271.
2 صحيح البخاري 63، مناقب الأنصار 45، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأنصاره ج2:330.
صحيح مسلم 33، الإمارة 45، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنية"، حديث 155ج6: 48 واللفظ له.
3 سورة النساء: 103.
الصلاة تعود المسلم الاستعداد للعمل، وتحري الوقت بما توجبه من الطهارتين، وانتظار الوقت، واستقبال القبلة، وتعلمه الخشوع لله، وربط الصلة بأهل حيه وبلده، وتمحو ما يرتكبه من الصغائر، وتزوده بشحنة متجددة من الإيمان يوميًّا، فإذا سولت له نفسه ارتكاب معصية تذكر صلاته فتراجع.
عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ " قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا"2.
والخطايا التي تمحوها الصلاة هي الصغائر الراجعة إلى حقوق الله دون حقوق العباد.
أهداف الزكاة
أوجب الله تعالى الزكاة في أكثر من آية، وعطفها على الصلاة مرات. قال:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3.
وقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} . أشارت هذه الآية إلى بعض أهداف الزكاة، وهي تزكية نفس صاحب المال، وتطهيرها من الشح، ومن احتقار الفقراء، وهي أيضا تطهر قلب الفقير من الحقد، والبغض والحسد وتقوي الصلة بينه وبين صاحب المال.
وقد خفف الله نسبتها، فتراوحت بين الاثنين والنصف، والعشرة من المائة، ترغيبًا في دفعها، وحثا عليها، وتوعد الله سبحانه وتعالى الذين يبخلون بها بالعذاب الأليم يوم القيامة، فقال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
1 سورة العنكبوت: 45.
2 صحيح مسلم 5، المساجد 51، باب المشي إلى الصلاة، حديث 283 ج2:131.
3 سورة البقرة: 43.
4 سورة التوبة: 103.
يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 1.
أهداف الصوم
أوجب الله الصوم في القرآن والسنة فقال تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 2.
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"3.
وهو يعود الإخلاص، والصبر، والتضامن، وتجنب بذيء القول، ورديء الفعل. وعن أبي هريرة أيضا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"4.
أهداف الحج
فرض الله تعالى الحج على من استطاعه بالبدن والمال، قال تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} 5 وقال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} .
فالحج فرصة يجدد فيها المسلم الخشوع لله تعالى بالحضور في بيته وأداء المناسك، ومشاهدة ما لم يره من قبل، وهو مناسبة للتوبة، وقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم بمحو ذنوب الحاج المخلص الذي أدى المناسك كما
1 سورة آل عمران: 180.
2 سورة البقرة: 183.
3 صحيح البخاري 2، الإيمان 28، باب صوم رمضان احتسابا من الإيمان ج1: 16 وسنن الترمذي 6، الصوم 1، باب ما جاء في فضل شهر رمضان ج 3:67.
4 صحيح البخاري 30، الصوم 8، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم ج1:326.
5 سورة البقرة: 196.
6 سورة البقرة: 197.
شرعها الله تعالى فقال: "من حج لله، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه"1.
ومعلوم أن محو الذنوب خاص بما بين المسلم وبين ربه. أما حقوق العباد فعلى الحاج أن يرجعها إلى صاحبها. وإلا طولب بها يوم القيامة.
الإفلاس يوم القيامة
يحصل الإفلاس يوم القيامة لمن يسلك في الدنيا سلوكًا متناقضًا، فيؤدي العبادات المفروضة دون أن يفقه أهدافها، فيعتدي على الناس ويحسدهم، ويبغضهم، ويسيء القول إليهم، فيشتم، ويكذب، ويشهد شهادة الزور، ويمشي بالنميمة، ويطعن في الأعراض، ويمنع حق غيره، ويظلم، لأنه أدى العبادات شكلًا، ولم يفقه حكمتها، فلم يحصل له وازع يردعه عن المنكرات.
فإذا كان يوم الحساب وجد في حسناته ثواب العبادات التي أداها من صلاة وزكاة وصوم، ووجد في مقابلها حقوق الناس المتراكمة عليه، فيعطيهم من ثواب عباداته، فلا يكفي ذلك لكثرة ما لهم عليه، فترمى عليه خطاياهم، فتغمره، فيفلس، فيكون من أهل النار، فيلقى فيها.
عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أتدرون ما المفلس"؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن
1 صحيح البخاري 25، الحج 4، باب فضل الحج المبرور ج1: 265 واللفظ له. وصحيح مسلم 15، الحج 79، باب في فضل الحج والعمرة، ويوم عرفة، حديث 438ج 4:107.
سنن النسائي 24، المناسك 3، باب ما جاء في فضل الحج وثوابه ج 5:114.
فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار" 1.
إن سبب إفلاس هذا المسلم هو جهله بأهداف العبادات، فلو فكر، وعلم أنها إنما فرضت ليؤدي حقوق الله عليه، ويشكره على نعمه، ويلتزم بطاعته، ويجتنب معاصيه في كل تصرفاته لاستقام في قوله وفعله، واحترم غيره، وأعطى كل ذي حق حقه، ففاقت حسناته سيئاته فكان من أهل الجنة.
1 صحيح مسلم 45، والبر والصلة والآداب 15، باب تحريم الظلم، حديث 59ج 8:18.