الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل التاسع والأربعون: الحياة اليومية
مدخل
…
الفَصْلُ الثَّامِنُ والأرْبَعُون: الحياة اليومية
لا نستطيع أن نتصور وجود حياة يومية صاخبة أو متغيرة عند أهل الوبر، فحياة البادية في غاية البساطة ساذجة إلى أقصى حدّ من السذاجة. تذهب وتأتي على وتيرة واحدة ونمط واحد. فليس للرجل في البادية من عمل سوى رعي الإبل والإشراف عليها. وهو عمل لا يستوجب مجهودًا ولا يتطلب بذل طاقة، لذلك يعهد به إلى الأحداث في الغالب، أما الرجال، فليس لهم عمل مهم يذكر. لذلك يقضون معظم وقتهم جلوسًا بغير عمل، أو في التحديق بعضهم إلى بعض. وحياة على هذا النحو تجبل الإنسان على الكسل والخمول. فصار الأعرابي خاملًا كسولًا على صحة جسمه وتوقد ذهنه وذكائه. يحسن الكلام ويجيد تنميق الحديث ويتلاعب في كلامه وفي إيجاد معانٍ وحيل ومخارج له، ويسترسل في الخيال وفي التصور وفي شعوره الذي سبكه وصاغه في كلام موزون منظوم مقفى، وفي كلام مسترسل غير مقفى، وفي كل حرفة لسانية، أو تعبير عن شعور ذاتي كالحب والبطولة وما شاكل ذلك مما لا يحتاج إلى مجهود وعمل. أما النواحي العملية من الحياة، النواحي التي تحتاج إلى جهد وعمل، فقد ترك أمرها لغيره، بل ازدراها وازدرى شأن من يعمل بها، واحتقر الحرف والصناعات، لأنها من عمل الأعاجم والعبيد. ورأى أن من العار أن يصاهر أهل الصناعات والحرف والزراعة، لأنهم دونه في المنزلة بكثير. وهو غير ملوم على نظرته هذه إلى العمل اليدوي المجهد، فالإنسان عدو ما جهل معظّم لما يكون عنده؛ كاره لما لا يملكه ويكون عند غيره. فقد حرمته الطبيعة من كل
ما يحمله على بذل الجهد للاشتغال في صناعات أو حرفة أو زراعة، ولم تهيّئ له البذور والمواد اللازمة لإقامتها، لذلك جهلها فحاربها وازدراها وازدرى شأن من يشتغل بها. كما سأتحدث عن ذلك في المواضع المناسبة لهذا البحث.
والبادية أرضون واسعة شاسعة جرداء في أغلب أيام السنة، خلا مواسم نزول الغيث وهي قليلة، وقد تنحبس. إذا أمطرت السماء ظهر "الربيع"، فتفرح الأرض وتكسى بخضرة تتخللها أوراد وأزهار وشقائق، ويضحك عندئذ وجهها، بعد يبوس وعبوس، ضحكًا يُفهم الإنسان الحضري عندئذ سرّ تعلق الأعرابي بباديته. ففي البادية على ما فيها من شقاء وجفاف ويبوسة؛ سحر ينسي الإنسان صعوبة الحياة، وحلاوة تنسيه مرارة الأيام القاسية التي يعيشها البدوي في باديته. بعيدًا عن الحضر وعن المجتمع المتكثف في مستوطنة أو قرية أو مدينة، بل بعيدًا حتى عن أبناء عشيرته. فمن طبيعة الصحراء أن قلبها لا يتقبل المجتمعات الكبيرة، بل يفضل المجتمعات الصغيرة المتناثرة. فصارت البيوت فيها متباعدة منتشرة هنا وهناك انتشار النجوم في السماء. كل بيت مسئول عن حماية نفسه وعن وقاية أفراده من أذى الإنسان والحيوان، وعن حماية جاره وذوي رحمه وأبناء عشيرته. لأنه إن لم يفعل ذلك، لم يجد من يدافع عنه أيام الشدة والعناء، حتى صار الجار عنده بمنزلة الأهل والدار.
وحياة من هذا النوع هي حياة لا بد وأن تصير بسيطة جدًّا ساذجة إلى أقصى حدود السذاجة. أحاديثها اليومية تكرار وإعادة، وأحاسيسها نسخة لأحاسيس اليوم الماضي والأيام السابقة. وأفق التفكير فيها محدود ضيق. إذ لا مجال فيها للفكر أن يتفتق وأن يتفتح ويتوسع. ومنها طبعت الحياة العقلية والاجتماعية بطابع الفطرة والبساطة. وهي لا يمكن إلا أن تكون كذلك. وكيف تريد منها أن تكون غير ذلك، ومحيطها وظروفها هي على هذا النحو من الحدود والقيود!
وفي وسع الرجل بفضل ما أوتي من قوة ومن بسطة في الجسم، قطع المسافات لزيارة الأقارب والجيران، لقتل الوقت بالكلام معهم، أو للتحدث عن غزو سابق أو عن شئون سيد القبيلة أو عن إشراف العشيرة أو للخروج إلى صيد لاصطياد ما قد يجده من حيوان مسكين، حَتَّم عليه سوء طالعه أن يولد في هذا الأرض الفقيرة، فهو مثل الإنسان تائه بهذه الحياة في هذه البادية الواسعة المكشوفة الشحيحة، يشكو إلى خالقه من ظلم طبيعةٍ أنبتته في هذه الأرض الفقيرة، على