الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن والأربعون: الناس منازل ودرجات
مدخل
…
الفَصْلُ السَّابِعُ والأربَعُون: الناس منازل ودرجات
وأهل الجاهلية مثل غيرهم من شعوب ذلك الزمن: أحرار وعبيد، يستوي في ذلك الأعراب وأهل المدر. والحرّ نقيض العبد، والحرة نقيض الأمة1. والحر هو الذي يتصرف بأموره كما يشاء. وأما العبد فلا، فأمره بيد مالكه، فلا يجوز له أن يفعل شيئًا من غير رضا سيده ومالك رقبته. ويعبر عن الحر بلفظة "حرم" في المسند، فيقال "حرم"، أي "حر". والجمع "أحرر"، أي "أحرار"2.
والجاهليون وإن بدوا "ديمقراطيين" شعبيين، لا فرق عندهم بين حر وعبد، كبير أو صغير. يخاطب الفقير ملكه أو سيد قبيلته بلهجة بسيطة تنم عن "ديمقراطية" عميقة أصيلة إلا أنهم في الواقع طبقيون يعاملون الناس حسب منازلهم ودرجاتهم، ويعملون بمبدأ عدم التكافؤ بين الناس. وآية ذلك عُرف جلوس الناس في مجالس الملوك والمجتمعات، وعرف تقديم الطعام أو الشراب مبتدئين بالملك ثم بمن يجلس على جانبه الأيمن باعتبار أنه أشرف القوم ثم بالجالس على الجانب الأيسر من الملك، على ترتيب الناس في درجات جلوسهم أو حسب إشارة الملك إلى الساقي أو مقدم الطعام. ثم في نظرتهم إلى "الحق" وإلى الأعراف الاجتماعية كالأخذ بالثأر والزواج. فلهم في الأخذ بالثأر مبدأ مقرر
1 اللسان "4/ 181".
2 Rep. Epig، VII، P. 416، Nu. 4912، Philby 84.
معروف. هو أن القتيل إذا كان شريفًا في قومه. وكان قاتله وضيعًا صعلوكًا، أو عبدًا فلا يقبل أهل القتيل ب "القود"، بل بعرف تكافؤ الدم. فعندهم أن دم القتيل الشريف، لا يغسل إلا بدم شريف مثله ومن أهل مكانته، ومعنى هذا أن قتل القاتل لا يكفي، بل لا بد لأهل القتيل في هذه الحالة من البحث عن شريف من قوم القاتل يكون مكافئًا للقتيل في المنزلة والمكانة حتى يقتل به، فيغسل عندئذ بقتله دمه. وينام الثأر. وقد يكون المقتول وهو ما يحدث في الغالب بريئًا ولا علاقة له بالقتيل ولا القاتل. ولكن العرف القائم على نظرية التكافؤ بين الطبقات، لا يفهم براءة بريء، وحتى قتل القاتل وحده، بل يدين بعقيدة أن الدم لا يغسل إلا بدم موازٍ له، فلا بد من قتل شريف بشريف إذن حتى ينام أهل القتيل.
وإلى ما تقدم من الإسراف في القتل البريء بدم مقتول، أشير في القرآن الكريم:{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} 1. "وذلك أن أهل الجاهلية، كانوا يفعلون ذلك، إذا قتل رجل رجلًا عمد ولي القتيل إلى الشريف من قبيلة القاتل فقتله بوليه، وترك القاتل، فنهى الله عز وجل عن ذلك عباده، وقال لرسوله، عليه السلام، قتل غير القاتل بالمقتول معصية وسرف، فلا تقتل به غير قاتله. وإن قتلت القاتل بالمقتول، فلا تمثل به"2.
وعلى هذه النظرية الطبيعية بنوا تقييم أثمان الديات، أي ثمن الدم. فدية الملوك في الجاهلية أغلى ما دفع ثمنًا عن دم. إذْ جعلت دية الملك ألفًا من الإبل، فعرفت لذلك بدية الملك. تليها في الثمن ديات الأشراف وسادات القوم حسب الشرف والمنزلة حتى نصل إلى ديات المغمورين المطمورين فتكون أقلها ثمنًا. إذْ تبلغ خمسًا من الإبل، وقد تنقص في ذلك. وعلى هذه النظرية القائمة على "الفوقية"، و "التحتية"، قدرت فدية الأسرى أيضًا. ففدية الملوك الذين يقعون في أسر آسر ألف من الإبل، وعرفت ب "فدية الملوك" وفدية من هم دونهم أقل حتى تصل إلى أبخس ثمن، وهي فدية سواد الناس. ولهذا حرص
1 "الإسراء"، الآية 33.
2 تفسير الطبري "15/ 59".
الأسير الشريف الذي لا يعرفه آسره على إخفاء شخصيته وعلى التظاهر بالإملاق وبأنه من المغمورين ليجنب نفسه دفع فدية عالية قد يفرضها آسره عليه، فتوجعه وتؤلمه.
ومن هذه النظرة أيضًا ولد اعتقاد أهل الجاهلية أن دم الرئيس يشفي من عضة الكلب الكلب1. فإذا كُلب إنسان أتوا رجلُا شريفًا فيقطر لهم من دم أصبعه فيسقون المكلوب فيبرأ. أو يسقونه من دم ملك فيشفى. جاء في المثل: دماء الملوك شفاء الكلب. ودماء الملوك أشفي من الكلب. قال أهل الأخبار عن الكلب: "وأجمعت العرب أن دواءه قطرة من دم ملك يخلط بماء فيسقاه"، فيشفى بذلك من الكلب2. ولو لم يكن للجاهليين رأي خاص في الملوك والأشراف، وفي وجود تفوق لهم على سواد الناس، لما اعتقدوا هذا الاعتقاد في إشفاء دماء الملوك والأشراف لمن يصاب بالكلب. وبعدم إشفاء دم غيرهم لهؤلاء المرضى.
ومن هذه النظرة أيضا، تولد امتناعهم من تزويج بنات الأشراف والأسر من رجال هم دون البنت في المنزلة. وهو عرف يراعونه ويحافظون عليه إلى يومنا هذا. ويزدرون من شأن الخارج على "التكافؤ" بين البنت والولد في الزواج. وقد يرفضون تزويج رجل ثري مكتنز للمال، من امرأة فقيرة شريفة الأصل، إذا كان الرجل من أصل ذابل، كأن يكون أبوه أو جده "صانعًا" أو "خضارًا"، لأن الأصل في نظر العرب فوق المال. والشريفة يجب ألا تتزوج إلا من شريف مثلها، مراعاة منهم لمبدأ نقاوة الأصل وإنجاب الأولاد النجباء. ومن هذه النظرة امتنع العرب من تزويج بناتهم من الأعاجم حتى لو كان ذلك الأعجمي ملكًا. وقد رأينا كيف أن "النعمان بن المنذر"، رد طلب "كسرى" لمّا طلب منه تزويجه إحدى بناته من أحد أبنائه. وشق ذلك عليه حتى إنه لم يتمالك من ضبط نفسه، فقال للرسول: أما في عين السواد وفارس ما تبغون حاجتكم. ومراده من لفظة "عين" البقر. ومن اغتنام "زيد بن عديّ بن زيد العبادي" هذه الفرصة، وكان هو الذي اقترح على "كسرى" أن يزوج أحد ولده من بنات النعمان، فقال لكسرى: "قد كنت أخبرتك بضنهم بنسائهم على غيرهم،
1 بلوغ الأرب "2/ 319".
2 تاج العروس "1/ 460"، "كلب".
وأن ذلك من شقائهم واختيارهم الجوع والعري على الشبع والرياش، واختيارهم السموم والرياح على طيب أرضك هذه حتى إنهم ليسمّونها السجن". ومن قوله له:"أيها الملك: إن شر شيء في العرب وفي النعمان أنهم يتكرمون عن العجم"1. فكان ما كان من غضب "كسرى" على النعمان ومن القضاء عليه على النحو الذي تحدثت عنه2.
وقد جعل بعض العلماء تخوف العرب من القهر عليهم ومن طمع غير الأكفاء في بناتهم، في جملة العوامل التي حملتهم على وأد البنات. "قال قتادة: كان مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء، وأشدهم في هذا تميم. زعموا خوف القهر عليهم، وطمع غير الأكفاء فيهن"3. ومن شروط الكفاءة في الزواج عند الجاهليين، التكافؤ في النسب والحسب والمكانة وفي الأصل.
وسبب امتناع العربي من تزويج ابنته إلى أعجمي، هو تكرم العرب عن الأعاجم واستعلاؤهم عليهم. ونظرتهم إلى الأعاجم على أنهم دونهم في المنزلة والكرامة. لذلك رأوا أن تزويج بنت عربية إلى علج أعجميّ، خسّة ما بعدها خسّة ودناءة ما وراءها دناءة. حتى وإن كان العربي فقيرًا لا يملك شيئًا. بل عابوا العربي الذي يتزوج أعجمية بسبب النسل، واستصغروا شأن المولود من أب عربي ومن أم أعجمية. فهو وإن كان عربيًّا في عرف العرب من أجل أن النسب إلى الأب، ولكنه أعجمي من ناحية الأم، فهو دون الأصيل في المرتبة.
وفي غنى العربية بالمصطلحات الكثيرة التي تطلق على السادة والأشراف وعلى الفقراء والمعدمين التربين وعلى الطبقات الأخرى، دلالة ليس فوقها دلالة على وجود هذه النظرة الطبقية عندهم، وعلى نظرتهم إلى أنفسهم على أنهم منازل ودرجات، وأنهم غير متكافئين. وأن القيادة في المجتمع يجب أن تكون للبيوت.
1 الطبري "2/ 202 وما بعدها"، "ذكر خبر يوم ذي قار".
2 وقد هجا عبد القيس بن خفاف البرجمي، النعمان بن المنذر، في الجاهلية، وذكر ولادة الصائغ له، فقال:
لعن الله ثم ثنى بلعـ
…
ـن ابن ذا الصائغ الظلوم الجهول
يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو
…
ثم لا يرزأ العدو فتيلا
الحيوان، "4/ 379"، "هارون"، الأغاني "9/ 158".
3 القرطبي، الجامع "10/ 117"، "تفسير سورة النحل".