الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحوال متعلقات بالفعل:
الكلام في هذا الباب مقصور على بحثين:
"1" بحث حذف المفعول.
"2" بحث تقديمه على عامله.
البحث الأول:
اعلم: أن للفعل ارتباطًا بكل من الفاعل والمفعول، فارتباطه بالفاعل من جهة وقوعه منه، وارتباطه بالمفعول من حيث وقوعه عليه، ولاختلاف نوع الارتباط اختلف أثر العامل، ولهذا كان أثره في الفاعل "الرفع" وفي المفعول "النصب".
والفعل المتعدي إذا أسند إلى فاعله، ولم يكر له مفعول، لا بد فيه من داع لهذا الهدف، وهاك أهم دواعيه:
1-
البيان بعد الإبهام كما في فعل المشيئة1 إذا وقع شرطًا، ولم يكن تعلقه بالمفعول المحذوف غريبًا، كقوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} ، فمفعول فعل المشيئة محذوف، والتقدير:{وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُم} ، ونكتة حذفه:"البيان بعد الإبهام" لأنه لما قيل: "ولو شاء" علم أن هناك شيئًا تعلقت به المشيئة، فلما جيء بجواب الشرط وهو قوله:{لَهَدَاكُمْ} وضح ذلك الشيء، وعلم أنه "الهداية" فكل من الشرط والجواب حينئذ دلا على المفعول، غير أن الشرط دل عليه إجمالًا، والجواب دل عليه تفصيلًا، والبيان بعد الإبهام أو لتفصيل بعد الإجمال، أو وقع في النفس، إذ إن السامع حينما يسمع قوله:{وَلَوْ شَاءَ} تتحرك نفسه، وتتشوق إلى ما تعلقت به المشيئة، فإذا جاء بعد ذلك جاء النفس في لهفة وشوق، ترقب قدومه فلا يلبث أن يقع منها موقع الماء الفرات من جوف الصدى، ومنه قول الشاعر:
1 مثله كل ما في معناه كالإرادة والرغبة والمحبة وما شابه ذلك.
فلو إني استطعت خفضت طرفي
…
فلم أبصر به حتى أراكا
أي لو أني استطعت خفض الطرف خفضت طرفي، فحذف المفعول للنكتة المتقدمة، والمفعول المحذوف في مثل هذه المواضع يقدر دائمًا مصدر فعل الجواب "كما رأيت".
فإن كان تعلق فعل المشيئة بالمفعول غريبًا لم يحسن حذف المفعول إذ لا يدل عليه الجواب حينئذ كقول الشاعر يرثي ابنه:
ولو شئت أن أبكي دما لبكيته
…
عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
لم يحذف مفعول فعل المشيئة وهو قوله: "أبكي دمًا" لغرابة تعلق الفعل المذكور، ببكاء الدم، لهذا ذكر ليتقرر في ذهن السامع.
2-
دفع توهم غير المراد ابتداء كما في قول أبي عبادة البحتري:
وكم نددت عني من تحامل حادث
…
وسورة أيام حززن إلى العظم
يقول الشاعر: كثيرًا ما دفعت عني ظلم الزمان وجبروته ورددت طغيان أيام ضربت فأوجعت، حتى بلغت في قسوتها الغاية. والشاهد في قوله:"حززن إلى العظم" والأصل حززن اللحم إلى العظم، فقد حذف المفعول، لأن ذكره يوهم السامع ابتداء، أي قبل ذكر قوله:"إلى العظم" أن الحز لم يصل إلى العظم، وإنما كان في بعض اللحم، وهذا غير مراد، بل المراد أن الحز جاوز اللحم إلى العظم كناية على أن أيام بلغت في شدتها، فدفعًا لتوهم غير المراد حذف المفعول ليدل الكلام على المراد من أول الأمر.
3-
قصد إفادة التعميم في المفعول المحذوف مع الاختصار كقولهم: "قد كان منك ما يؤلم" أي كل أحد، فحذف المفعول لغرض إفادة العموم بقرينة المقام، إذ الغرض: المبالغة في الوصف بالإيلام، وهذا يقتضي إرادة العموم فبمن وقع عليه الألم، وأنه لا يختص به واحد دون الآخر، بل الكل في معاناة الألم سواء، قضاء لحق المبالغة، وكقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} أي يدعو جميع عباده المكلفين. غير أن إفادة العموم في الآية، على وجه الحقيقة، لأن الدعوة إلى الجنة تعم الناس جميعًا، أما المثال الأول فإفادته العموم فيه على وجه المبالغة، لأن إيلام كل أحد من شخص واحد محال عادة، وإنما قلنا:"مع الاختصار" لأن التعميم يمكن أن يستفاد من ذكر المفعول بصيغة العموم، بأن يقال مقالًا:"قد كان منك ما يؤلم كل أحد"، أو يقال في غير القرآن:"والله يدعو كافة الناس إلى دار السلام" لكن يفوتنا الاختصار، وهو مطلوب أيضًا.
4-
قصد الاختصار المجرد عن أي اعتبار آخر، من عموم أو خصوص كقولهم: "أصغيت إليه، أي أذني، حذف المفعول هنا لمجرد الاختصار وعليه قوله تعالى:{رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} أي أرني ذاتك.
5-
استهجان التصريح به كقول عائشة رضي الله عنها: "ما رأيت منه، ولا رأى مني" تريد "العورة"، ونص الحديث:"كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، فما رأيت منه، ولا رأى مني".
6-
أن ينزل الفعل المتعدي منزلة اللازم لعدم تعلق الغرض بالمعمول كقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ؟ فالغرض مجرد إثبات العلم ونفيه، دون ملاحظة تعلقه بمعمول ما، أي هل يستوي من له علم، ومن لا علم له؟ يريد نفي المساواة بين من هم من أهل العلم، ومن ليسوا من أهله مبالغة في ذمهم بالجهل بالدين، وإن الذين لا علم لهم به كان لا علم عندهم أصلًا.
7-
قصد المحافظة على سجع أو وزن، فالأول كقوله تعالى:{وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} أي وما قلاك، والثاني كقول الشاعر:
بناها فأعلى والقنا بقرع القنا
…
وموج المنايا حولها متلاطم
أي فأعلاها
…
إلى غير ذلك من دواعي الحذف كالاعتماد على تقديم ذكره نحو: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} أي ويثبت ما يشاء، وكتعينه نحو:"رعت الماشية" أي النبات، وكغير ذلك.
البحث الثاني:
اعلم: أن الأصل في العامل أن يتقدم على المعمول، وقد يعكس الأمر فيقدم المعمول1 على العامل لاعتبارات شتى أهمها ما يلي:
1-
إفادة التخصيص أي قصر العامل على المعمول، بحيث لا يتجاوزه إلى غيره كقوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإن المعنى نخصك بالعبادة والاستعانة، لا نعبد غيرك، ولا نستعين به، فقدم المفعول
1 كالمفعول به وكالجار والمجرور والظرف والحال وما أشبه ذلك.
على الفعل لإفادة هذا الحصر، ومثله:{لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} أي لا إلى غيره، قدم المعمول، وهو جار ومجرور، لإفادة الحصر كذلك.
2-
رد المخاطب إلى الصواب عند خطئه في تعيين المعمول، أو في الاشتراك فيه كقولك في الأول:"علينا لقيت" أي "لا غيره" ردا لمن اعتقد أنك لقيت رجلا غيره، وكقوله في الثاني:"محمدا أكرمت" أي "وحده" ردا لمن اعتقد أنك أكرمت "محمدا" وآخر معه، فقد قدم المفعول "في المثالين" لرد الخطأ في التعيين في الأول، وفي الاشتراك في الثاني.
وكالمفعول في هذا: الحال، والتمييز، والظرف، والجار والمجرور، وغيرها من متعلقات الفعل، فتقول في الحال:"راكبا جئت" لمن زعم أنك جئت "ماشيا"، وتقول في التمييز:"نفسا طبت" لمن زعم أنك طبت "نفسا وجسما"، فالأول لرد الخطأ في تعين المعمول، والثاني لرد الخطأ في الاشتراك فيه، وتقول في الظرف والجار والمجرور، "عند الأمير جلست"، و"في المنزل صليت" ردا لمن زعم العكس أو الاشتراك.
ويسمى الأول: قصر قلب، والثاني: قصر إفراد، وسيمر بك قريبا بحث واف خاص بهذا الموضوع.
3-
الاهتمام بأمر المقدم كما في "بسم الله" حيث يقدر العامل مؤخرا، أي بسم الله أفعل كذا بيانا للاهتمام بالاسم الكريم، وفيه إلى جانب ذلك رد على المشركين، إذ كانوا يبدءون بذكر آلهتهم اهتماما بأمرها، فيقولون:"باسم اللات، باسم العزى"، ولا يشكل علينا آية {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} بتقديم الفعل على "اسم الله"، لأن الأمر بالقراءة فيها أهم إذ هي أول ما نزل من القرآن، والمقصود بالذات من الإنزال حفظ المنزل، وهو متوقف على القراءة، فكان البدء بها أحق1.
4-
كون المعمول محط الإنكار كما تقول: "أبعد طول التجربة تنخدع بهذه الزخارف"؟ وكما تقول: "أفي الشر تسعى وقد جربت
1 وقد يقال ردا لهذا الإشكال: إن قوله: {بِاسْمِ رَبِّكَ} متعلق "اقرأ" الثاني على أنه مفعول والباء زائدة لإفادة التكرار أي اقرأ "اسم ربك" بمعنى اذكره مرارا وتكرارا وأما "اقرأ" الأول فمنزل منزلة اللازم على معنى وأوجد القراءة، ويكون الكلام حينئذ جاريا على أصله إذ قدم فيه المفعول على الفعل اهتماما به.
عواقبه"؟ فأنت في الأول لم تنكر عليه "الانخداع" إذ هو أمر شائع، وإنما تنكر عليه أن يكون الانخداع منه بعد طول التجربة، كما لم تنكر عليه في الثاني سعيه، وإنما تنكر عليه أن يكون السعي منه في الشر لا في الخير، وقد عرف وخامة عاقبته، وسوء مغبته لهذا قدم كل من الظرف والجار والمجرور على عاملهما إذ هما محطا الإنكار "كما رأيت" ومنه قول الشاعر:
أكل امرئ تحسبين امرأ
…
ونار توقد1 بالليل نارا
فمزية تقديم المفعول "في البيت": إفادة أن الإنكار مسلط عليه، فهو يريد أن ينكر عليها: أن كل الناس "في حسبانها" سواسية، لا فرق بين كامل وناقص، وأن كل نار في زعمها نار كرم وسماحة.
5-
التعجيل بالتبرك أو التلذذ به، أو بالمسرة، والمساءة، ففي الأول قولك:"محمدا صلى الله عليه وسلم أحببت"، وفي الثاني قولك:"ليلى وصلت، وسلمى لقيت"، وفي الثالث والرابع:"خيرا تلقي"، "شرا ينال عدوك".
6-
موافقة كلام السامع نحو: "محمدا دعوت" في جواب "من دعوت"؟ فيقدم المفعول ليوافق مقابله في كلام السائل وهو "من" الاستفهامية.
7-
مراعاة نظم الكلام كقوله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} والشاهد في الفقرة الثانية، حيث قدم المفعول على الفعل لتتوافق الفاصلتان في الفقرتين، ومثله قوله عز وجل:{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} ، فالتقديم في مثل هذه المواضع ليس إلا مجرد مراعاة نظم الكلام "كما ترى"، إلى غير ذلك من الأسباب التي تستدعي التقديم، ولا تخفى على صاحب الذوق السليم.
1 الأصل تتوقد حذفت إحدى التاءين.