الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طرق القصر:
للقصر طرق يتأدى بها، وهي كثيرة1، ولكن المصطلح عليه منها ستة؛ غير أن المبحوث منها في هذا الباب أربعة2 وإليك بيانها:
1-
النفي والاستثناء3 والمقصور عليه فيهما هو ما يلي أداة الاستثناء، مثاله في قصر الصفة قصرًا حقيقيًا قولك:"ما شاعر إلا فؤاد" أي لا غير فؤاد، وفي قصر الموصوف قولك:"ما فؤاد إلا شاعر" أي شاعر، أي لا غير شاعر.
ومثاله في قصر الصفة قصرًا إضافيًا قولك: "ما شاعر إلا فؤاد" أي لا توفيق، فإن كان الخطاب مع من اعتقد أن الشاعر توفيق لا فؤاد كان قصر "قلب". وإن كان مع من اعتقد أن الشاعر توفيق وفؤاد كان قصر "إفراد" وإن كان مع من تردد بينهما كان قصر "تعيين"، وهكذا يقال في قصر الموصوف.
2-
إنما: والمقصور عليه فيها هو المؤخر. مثاله في قصر الصفة على الموصوف قصرًا حقيقيًا قولك: "إنما شاعر شوقي" أي لا غير شوقي، وفي قصر الموصوف على الصفة قولك:"إنما شوقي شاعر" أي لا غير شاعر.
ومثاله في قصر الصفة قصرًا إضافيًا قولك: "إنما شاعر شوقي" أي لا المنفلوطي، ومثال قصر الموصوف على الصفة قولك:"إنما شوقي شاعر" أي
1 منها التصريح بلفظ "وحده" أو "لا غيره"، أو "فقط" كما تقول زارني محمد وحده، أو لا غير، أو فقط، ومنها التصريح بمادة الاختصاص، أو القصر كما تقول: اختص محمد بالكتابة، أو الشعر مقصور على محمد، فكل هذا ليس من طرق القصر الاصطلاحية.
2 والاثنان الباقيان؛ أحدهما ضمير الفصل نحو: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} ؟ أو المقصور عليه فيه ما بعد الضمير. وثانيهما تعريف ركني الإسناد سواء اختلف طريقا التعريف كما في قوله: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} أو اتحدا نحو: الأمير القادم علينا، والمقصور عليه في المثال الأول هو المقدم، وفي الثاني هو المؤخر.
3 أي بإلا أو بإحدى أخواتها كغير وسوى.
لا خطيب، وكونه قصر قلب، أو إفراد، أو تعيين منوط بحال المخاطب كما تقدم.
ووجه إفادتها معنى القصر: تضمنهما معنى "النفي والاستثناء" فقولك: "إنما شوقي شاعر"، أو "إنما شاعر شوقي" في معنى قولك: ما شوقي إلا شاعر، أو ما شاعر إلا شوقي.
وأحسن مواقع "إنما" استعمالا: ما إذا كان المقصد منها التعريض1 كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} أي إنما يتعقل الحق أصحاب العقول. فمن المجزوم به: أن ليس الغرض من هذا الكلام ظاهره؛ وهو حصر تعقل الحق في ذوي العقول؛ لأن هذا أمر معلوم بالبداهة، وإنما هو تعريض بذم الكفار، وأنهم لفرط عنادهم، وغلبة الهوى عليهم في حكم من لا عقل له، وأن من يطمع في أن ينظروا ويتذكروا كمن يطمع في ذلك من غير أولي الألباب، ومثله قوله:
أنا لم أرزق محبتها
…
إنما للعبد ما رزقا
فهذا تعريض بأنه لا مطمع له في وصلها، وأنه بائس من تحقيق ما يرجوه منها، وإلا فكون الرزق منوطًا بصاحبه، لا يكون لغيره أمر معلوم.
وإنما كان التعريض أحسن مواقع "إنما"، لأن الحكم الذي شأنها أن تستعمل فيه يكون "في الغالب" معلومًا للمخاطب "كما سيأتي بعد" فلا يكون الغرض إفادته حينئذ، بل يكون المقصود التاريخ به إلى معنى آخر كما تقدم بيانه "في الآية والبيت" وهذا هو معنى التعريض.
3-
العطف بلا، أو ببل، أو بلكن. والمقصور عليه في العطف "بلا" هو المقابل لما بعدها، وفي العطف "ببل، ولكن"، هو ما بعدها. مثال العطف "بلا" في قصر الصفة قصرًا حقيقيًا قولك:"زهير شاعر لا غير زهير"، ومثاله في قصر الموصوف:"زهير شاعر لا غير شاعر" والمقصور عليه في الأول، "زهير" وفي الثاني "شاعر"؛ لأن كلا منهما هو المقابل لما بعد "لا".
1 هو الكلام المستعمل في معناه ليلوح به إلى غيره لغرض من الأغراض.
ومثاله في قصر الصفة قصرًا إضافيًا قولك: "زهير شاعر لا سحبان".
ومثاله في قصر الموصوف: قولك "زهير شاعر لا خطيب"، والمقصور عليه في الأول "زهير" وفي الثاني "شاعر" لأنهما المقابلان لما بعد "لا"، ويبدو لك من الأمثلة: أن المدار في كون هذا النوع "من القصر" حقيقيًا أو إضافيًا على المعطوف فإن كان عامًّا "كما في المثالين الأولين" فالقصر حقيقي، وإن كان خاصًّا "كما في المثالين الآخرين" فهو إضافي.
ومثال العطف "ببل ولكن في قصر الصفة قولك: "ما عبد الحميد شاعرًا بل بشار، أو لكن بشار"، ومثاله في قصر الموصوف قولك: "ما عبد الحميد شاعرًا بل كاتب، أو لكن كاتب"، والمقصور عليه في الأول "بشار" وفي الثاني "كاتب"، وهذا التمثيل للإضافي، وأما الحقيقي فيعلم التمثيل به بالمقايسة على ما تقدم، والمدار في كونه حقيقيًا، أو إضافيًا على عموم المعطوف أو خصوصه "كما بينا"، وفي كون الإضافي منه قلبًا، أو إفرادًا، أو تعيينًا مناطه حال المخاطبة "كما علمت".
"فائدة" إذا كثر النفي في العطف "بلا" قيل: "لا غير"، و"ليس إلا"، فتقول في قصر الصفة:"محمد تاجر لا غير" أي لا غير محمد فهو قائم مقام قولك: لا علي ولا أحمد ولا محمود، ولا غيرهم وتقول في قصر الموصوف:"محمد شاعر لا غير" أي لا غير شاعر، فهو قائم مقام قولك: لا فقيه، ولا تاجر، ولا كاتب، ولا غير ذلك.
4-
تقديم ما حقه1 التأخير: كتقديم الخبر على المبتدأ2، وتقديم المعمول على العامل، والمقصور عليه في هذا النوع من القصر هو المقدم. مثال الأول من قصر الموصوف قولك:"مصري أنا" أي لا غير مصري إن كان القصر حقيقيًّا أو لا شامي إن كان القصر إضافيًّا، فتقديم الخبر على المبتدأ أفاد قصر الموصوف، وهو "ضمير المتكلم" على الصفة، وهي "المصرية" بحيث لا يتعداها إلى غيرها أصلا "في القصر
1 احترز به عما وجب تقديمه لصدارته كأين ومتى.
2 محل كون تقديم الخبر على المبتدأ يفيد الحصر ما لم يكن المتبدأ نكرة قدم عليها الخبر كقولهم: في الدار رجل. فمثل هذا لا يفيد حصرًا.
الحقيقي"، أو إلى الشامية "في القصر الإضافي"، ومثال الثاني من قصر الصفة قصرًا حقيقيًّا قولك: "إياك نعبد"، أي لا غيرك، فتقديم المفعول على الفعل أفاد قصر الصفة وهي "العبادة" على الموصوف الذي هو "ضمير الخطاب"، بحيث لا تتعداه إلى غيره "سبحانه"، ولا يخفى اعتبار الإضافي منه قلبًا، أو إفرادًا، أو تعيينًا.
اختلاف طرق القصر:
هذه الطرق الأربعة -بعد اشتراكها في إفادة القصر- تختلف من عدة وجوه وإليك بيانها.
الأول: أن النفي "بلا العاطفة" لا يجامع النفي والاستثناء، فلا يصح أن يقال في قصر الصفة:"ما حكيم إلا المتنبي لا البحتري"، ولا أن يقال في قصر الموصوف:"ما سحبان إلا خطيب لا شاعر"؛ لأن شرط صحة المنفي "بلا" العاطفة: ألا يكون منفيًّا قبلها بغيرها من أدوات النفي، والمنفي "بلا" في المثالين منفي قبلها "بما" فقبح نفيه ثانيًا.
ولكنه يجامع "إنما"، والتقديم فيقال: إنما "أنا مصري لا عراقي".
ويقال: "محمدًا أكرمت لا عليًّا" وإنما صح ذلك فيهما؛ لأن النفي غير مصرح به، فلم يقبح النفي "بلا" حينئذ.
الثاني: إن التقديم يفيد الحصر بمفهوم الكلام ومعناه، بمعنى أن صاحب الذوق السليم إذا تأمل في الكلام الذي فيه التقديم المذكور فهم الحصر، وإن لم يعرف أن التقديم- في اصطلاح البلغاء- يفيد الحصر، فقولك:"مصري أنا" يدل بمفهومه ذوقًا على حصر المتكلم في المصرية، أما ما عداه من طرق القصر فدلالته على الحصر بالوضع، "فلا العاطفة" موضوعة للنفي بعد الإثبات، و"بل ولكن" موضوعتان للإثبات بعد النفي، وهذان المعنيان مفيدان للقصر، كذلك الحال في النفي والاستثناء، فإن حرف النفي موضوع للنفي، وحرف الاستثناء موضوع للإخراج من حكم النفي، وهذا المعنى مفيد للقصر، "وإنما" كذلك مفيدة للحصر وضعًا لتضمنها معنى "النفي والاستثناء" كما علمت.
الثالث: أن الأصل في القصر "بالعطف"، أن ينص على المثبت والمنفي معًا فإذا قلت في قصر الصفة:"الحجاج خطيب لا الوليد" فقد نصصت على من تثبت له الخطابة وهو "الحجاج"، وعلى من نفيت عنه وهو "الوليد"، وإذا قلت في قصر الموصوف: "الحجاج خطيب لا
شاعر "فقد نصصت على المثبت للحجاج وهو "الخطابة"، وعلى المنفي عنه وهو "الشعر" وكذلك الشأن في العطف "ببل ولكن" ولا يترك النص عليهما إلا كراهة الإطناب لغرض ما، كما يقال في قصر الموصوف: "محمد يعرف الكيمياء لا غير" أي لا الطب ولا الهندسة؛ ردًّا على من يقول محمد يعرف الكيمياء والطب والهندسة، وكما يقال في قصر الصفة: "محمد يعرف الطب لا غير" أي لا إبراهيم، ولا خالد، ردًّا على من يقول: محمد يعرف الطب، وإبراهيم، وخالد.
أما الطرق الثلاثة الباقية فالأصل فيها النص على المثبت فقط، فتقول في "النفي والاستثناء" في قصر الصفة:"ما أديب إلا محمد" فقد نص على الذي أثبت له الأدب، وهو "محمد" ولم ينص على الذي نفى عنه، وهو "أحمد" مثلًا. وتقول في قصر الموصوف: ما محمد إلا أديب، فقد نص على الذي أثبت وهو "الأدب"، ولم ينص على الذي انتفى وهو "التجارة" مثلًا، وهكذا يقال في "إنما" و"التقديم" فظهر أن الطرق الثلاثة لا ينص فيها إلا على المثبت.
الرابع: أن الأصل "في النفي والاستثناء": أن يستعملا في أمر من شأنه أن يجهله المخاطب، وينكره، أو فيما هو منزل هذه المنزلة. مثال الأول: أن ترى شبحًا من بُعْد، فتقول:"ما القادم إلا محمد" لمخاطب ينكر عليك ذلك معتقدًا أنه محمود، لا محمد، فقدوم محمد أمر من شأنه أن يجهله المخاطب، وينكره لبعد الشبح في مرأى العين. ومثال الثاني وهو ما نزل فيه الأمر المعلوم منزلة ما من شأنه أن يجهل، وينكر قوله تعالى:{إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِير} أي لست مكلفًا بغير الإنذار، فكونه عليه الصلاة والسلام منذرًا فقط أمر لا يجهله، ولا ينكره، لكن لما كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا جيد الحرص على هداية الناس، يكرر الدعوة جاهدًا لمن امتنع عن الإيمان، صادقًا عنه نزل ذلك الأمر المعلوم له منزلة ما من شأنه أن يجهل وينكر" فعبر فيه "بالنفي والاستثناء" على ما هو الأصل فيهما.
والأصل في "إنما" على العكس، أي أن تستعمل في أمر من شأنه ألا يجهله المخاطب، ولا ينكره، أو فيما نزل هذه المنزلة. مثال الأول: أن ترى شبحًا من قرب، بحيث يدرك بقليل من التأمل فتقول لآخر:"إنما المقبل ذئب" فمثل هذا الحكم -والحالة هذه- من شأنه ألا يجهله المخاطب ولا ينكره لقرب الشبح في مرأى العين، وكما تقول:"إنما هو صاحبك القديم"، و"إنما هو أخوك" لمن لا يجهل ذلك، ولكنك تريد أن تنبهه إلى ما يجب عليه: من رعاية حرمة الصاحب، وحق الأخوة لترققه،
وتستعطف قلبه -ومثال الثاني- وهو ما نزل فيه الأمر للمجهول منزلة ما من شأنه ألا يجهل قوله تعالى: حكاية عن اليهود: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} ، ادعوا: أن إصلاحهم المجهول للمخاطبين، والمنكر لديهم أمر جلي ظاهر، من شأنه ألا يجهله المخاطب، ولا ينكره تنزيلًا للأمر المجهول لهم، المنكر عندهم منزلة المعلوم المعترف به، فعبروا فيه "بإنما" على ما هو الأصل فيها، ومثله قول الشاعر:
إنما مصعب شهاب من الله
…
تجلت عن وجهه الظلماء
ادعى الشاعر أن ثبوت هذه الصفة لممدوحه أمر جلي لا يخفى على أحد، كما هو دأب الشعراء إذا مدحوا، فإنهم يدعون الشهرة فيما يصفون به ممدوحيهم.
وإنما خص "النفي والاستثناء" بما من شأنه أن يجهل وينكر دون "إنما" لأن القصر من أسباب التأكيد ولما كان النفي صريحًا في "الاستثناء" كان التأكيد أقوى، فكان لموضع الإنكار أنسب. ا. هـ.
الخامس: أن "إنما" يعقل منها الحكمان: الإثبات والنفي دفعة واحدة، ويستفادان منها نصًّا من غير توقف على شيء، فإذا قلت مثلا:"إنما خالد كاتب" فقد أثبت له صفة الكتابة، ونفى عنه صفة الشعر مثلا في القصر الإضافي، وهذان الحكمان استفيدا من العبارة المذكورة في آن واحد، ودلت عليهما نصًّا، بلا توقف على شيء آخر وراء ذلك.
بخلاف "العطف" نحو: "خالد كاتب لا شاعر" و"ما خالد كاتبًا بل شاعرًا"، فإن الذي يعقل أولا في "المثال الأول" ثبوت الكتابة لخالد، ثم نفي الشاعرية عنه، والذي يعقل في المثال الثاني "نفي الكتابة عن خالد"، ثم ثبوت الشاعرية له، ولا شك أن تعقل الحكمين معًا أرجح، إذ لا يذهب فيه الوهم إلى عدم الحصر من أول الأمر "كما في العطف".
وبخلاف: "التقديم" نحو: "العلوم لزمت" فإنه وإن أفاد الحكمين معًا لكن ليس ذلك نصًّا، بل احتمالا، فإن الاسم المقدم يحتمل أن يكون معمولا للعامل المؤخر، فيكون تقديم المعمول مفيدًا للحكمين معًا، ويحتمل أن يكون معمولًا لعامل آخر قدر تقديمه على المعمول، فلا يفيد الحكمين.
وبخلاف "الاستثناء" فإنه -وإن أفاد الحكمين معًا نصًّا- لكن إفادته ذلك موقوفة على المستثنى منه، لأن الاستثناء موضوع للإخراج فلا بد من ملاحظة المخرج منه.