الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مواضع الفصل والوصل:
الأول: أن يكون بين الجملتين "كمال انقطاع"، بحيث لا يصح الربط بينهما لكن ذلك مشروط بألا يكون في الفصل إيهام خلاف المراد كما سيأتي بيانه بعد، وإنما وجب الفصل في هذه الحالة لأن العطف بالواو يقتضي المناسبة بين الجملتين، ولا مناسبة فيما بينهما كمال انقطاع.
الثاني: أن يكون بين الجملتين "كمال اتصال"، بحيث لا يصح التغاير بينهما، وإنما وجب الفصل في هذه الحالة؛ لأن العطف بالواو يقتضي المغايرة بين الجملتين، ولا مغايرة فيما بينهما كمال اتصال.
الثالث: أن يكون بين الجملتين "شبه كمال انقطاع".
الرابع: أن يكون بين الجملتين "شبه كمال اتصال"، وإنما وجب الفصل في هاتين الحالتين لما ذكر في الحالتين الأوليين لأن شبه الشيء يأخذ حكمه.
الخامس: أن يكون بين الجملتين "توسط بين كمال الانقطاع وكمال الاتصال" مع قيام المانع من الوصل، وإليك تفصيل القول في المواضع الخمسة على الترتيب المذكور:
أما كمال الانقطاع بين الجملتين "بالشرط المتقدم"، فيتحقق في صورتين:
الأولى: أن تختلف الجملتان خبرًا وإنشاء بأن تكون أحداهما خبرًا لفظًا ومعنى، أو معنى فقط، وتكون الأخرى إنشاء لفظًا ومعنى، أو معنى فقط، فالمدار في الاختلاف على المعنى1.
فمثال اختلافهما لفظًا ومعنى "والأولى هي الإنشاء" قول الشاعر:
لا تسأل عن المرء عن خلائقه
…
وجهه شاهد من الخبر
فصلت الجملة الثانية عن الأولى لاختلافهما خبرا وإنشاء في اللفظ والمعنى كما ترى، ومثله قول الشاعر:
1 فإن اختلفا لفظًا فقط وجب الوصول نحو قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} إلى قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} فقوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} عطف على قوله: {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} لأنه بمعنى النهي أي "لا تعبدوا".
وقال رائدهم أرسوا نزاولها
…
فحتف كل امرئ يجري بمقدار1
يقول: أقيموا في هذا المكان نقاتل العدو، ولا تحجموا عن قتاله خشية الموت، فلكل إنسان أجل محدود ينتهي إليه، فلا الإقدام يدنيه، ولا الإحجام يقصيه، والشاهد في قوله "أرسوا نزاولها" حيث فصل بين الجملتين لاختلافهما خبرًا وإنشاء كما ترى.
ومثال اختلافهما لفظا ومعنى "والأولى هي الخبر" عكس ما تقدم قولك: "ضل زيد السبيل، اهده يا عمرو".
ومثال اختلافهما معنى "وهما في اللفظ خبران" قولهم: "سافر محمد، بلغه الله مناه" فالثانية -وإن كانت خبرًا في اللفظ- هي في المعنى إنشاء للدعاء، على معنى: اللهم بلغه مناه.
ومثال اختلافهما معنى "وهما في اللفظ إنشاءان" قولك عند ذكر من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم: "ليتبوأ مقعده من النار، لا تصاحبه أيها الصديق". فالأولى -وإن كانت إنشاء في اللفظ- هي في المعنى خبر.
في المعنى خبر على معنى: يتبوأ مقعده. ومثله أن تقول: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} ؟ اتق الله أيها العبد"، فالأولى خبرية معنى على معنى: الله كاف، وإن كانت في اللفظ إنشاء.
الصورة الثانية: أن تتفق الجملتان خبرًا وإنشاء، ولكن لا تناسب بينهما في المعنى، أو في السياق، فالأولى: نحو أن تقول لآخر: "خرجت من داري، أبدع ما قيل من الشعر كذا"، فتفضل الثانية عن الأولى لعدم المناسبة بين الخروج من الدار وإبداع ما قيل من الشعر، مع اتفاقهما في الخبرية لفظًا ومعنى، والثاني: نحو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} ، بعد قوله تعالى:{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} الآية، لم يعطف قوله:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}
…
إلخ على قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}
…
إلخ، مع ما بينهما من مناسبة في المعنى بالتضاد: من حيث إن الأول مبين لحال المؤمنين، والثاني مبين
1 الرائد في الأصل من يتقدم القوم لطلب الماء أو الكلأ، والمراد هنا الشجاع "المقدام" و"أرسوا" أقيموا و"نزاولها" بالرفع: نحاولها ونعالجها والضمير للحرب و"الحتف" الهلاك و"المقدار" قضاء الله.
لحال الكفار؛ لأن بيان حال المؤمنين غير مقصود بالذات، وإنما ذكر بطريق التبع لبيان حال الكتاب، في قوله:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} ، وليس بين حال الكتاب، وحال الكفار مناسبة ظاهرة، تقتضي الوصل.
واعلم أن المانع من العطف في هاتين الصورتين ذاتي، لا يمكن دفعه أصلا، وهو كون الجملتين لا تناسب بينهما كما أوضحناه لك فيما تقدم.
وأما كمال الاتصال بين الجملتين:
فيتحقق في أن تتحد الجملتان اتحادًا تامًّا، بحيث تنزل الثانية من الأولى منزلة نفسها، وذلك في صور ثلاث:
الصورة الأولى: أن تكون الجملة الثانية مؤكدة للأولى تأكيدًا لفظيًّا، أو معنويًّا.
فالتأكيد اللفظي: أن يكون مضمون الجملة الثانية هو مضمون الجملة الأولى لدفع توهم الغلط أو السهو في الجملة الأولى كما في قوله تعالى:
{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} ، فصل بين الجملتين؛ لأن الثانية بمثابة التأكيد اللفظي من الأولى وهو ظاهر.
والتأكيد المعنوي: أن يختلف مفهوما الجملتين، ولكن يلزم من تقرر معنى إحداهما: تقرر معنى الأخرى لدفع توهم التجوز في الجملة الأولى كقوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} فصل بين الجملتين؛ لأن الثانية من الأولى بمنزلة التأكيد المعنوي لاختلاف مفهومي الجملتين؛ ولأن مضمون الثانية منهما مقرر لمضمون الأولى، ذلك أنه إذا كان ملكًا لم يكن بشرًا، فإثبات ملكيته تحقيق وتأكيد لنفي بشريته.
الصورة الثانية: أن تكون الجملة الثانية بدلا من الأولى، بأن يكون في الأولى قصور، أو خفاء في وفائها بالمراد، وتكون الثانية أوفى به منها، والمقام يقتضي اعتناء بشأنه.
والبدل -كما هو معلوم- أنواع ثلاثة: بدل بعض، وبدل اشتمال، وبدل كل بناء على اعتباره في الجمل.
فمثال بدل البعض قوله تعالى: {أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} فصل بين الجملتين؛ لأن الثانية من الأولى بمثابة بدل البعض لقصور الأولى عن وفائها بالمراد، ذلك أن المراد: التنبيه على نعم الله "سبحانه"، والمقام يقتضي اهتمامًا بشأن هذا التنبيه، لأنه إيقاظ للغافلين من سنة غفلتهم عن نعم الله تعالى، وليس من شك: أن الجملة الثانية أوفى بتأدية هذا المراد لدلالتها على نعم الله تفصيلا
بخلاف الجملة الأولى، فإن في وفائها بهذا المراد قصورًا لدلالتها عليه إجمالا، وإنما كانت الجملة الثانية بمثابة بدل البعض من الأولى؛ لأن ما ذكر في الجملة الثانية من النعم الأربع بعض ما يعلمون، فهي على وزان "وجهه" من قولك:"أعجبني محمد وجهه".
ومثال بدل الاشتمال قوله تعالى: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} ، فصلت الثانية عن الأولى إذ أبدلت منها بدل اشتمال؛ لأنها أبين وأوفى من الأولى في تأدية المعنى المقصود، وهو حمل المخاطبين على اتباع الرسل، إذ مفادها: أنهم لا يخسرون معهم شيئًا عن دنياهم بل يربحون صحة دينهم، فينتظم لهم خيري الدنيا والآخرة، وإنما كانت الثانية بدل اشتمال؛ لأن اتباع الرسل يتضمن اتباعًا موسومًا بالهداية والسعادة، وهو مضمون الجملة الثانية، فوزانها حينئذ وزان "علمه" من قولك:"أعجبني محمد علمه"، ومثله قول الشاعر:
أقول له ارحل لا تقيمن عندنا
…
وإلا فكن في السر والجهر مسلما
يقول: إنك لم تخلص في صحبتنا، وإن ظاهرك وباطنك على طرفي نقيض، فارحل إذًا، ولا تقم بيننا، وإلا فكن على ما ينبغي أن يكون عليه الرجل المسلم: من طهارة وصفاء في سره وعلنه، والشاهد في قوله "ارحل لا تقيمن" حيث أبدلت الجملة الثانية من الأولى بدل اشتمال إذ هي أوفى منها في تأدية المراد الذي هو "إظهار كمال الكراهية في إقامته"؛ لأنها تدل عليه دلالة صريحة، مع تأكيدها بالنون، وإنما كان البدل اشتمالا؛ لأن الارتحال يتضمن عدم الإقامة.
ومثال بدل الكل قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ، قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} ؟ أبدلت جملة "قالوا" الثانية من جملة "قالوا" الأولى بدل كل، لأن الثانية أوفى من الأولى من حيث إنها مفصلة للمقول، فوزانها وزان "أخوك" من قولك:"زارني محمد أخوك"، وإنما كان بدل كل؛ لأن الجملتين بمعنى واحد، والاختلاف بينهما إنما هو بالإجمال والتفصيل.
ومثله قولهم: "فلان جمع بين أمرين: بين طهارة السريرة وحسن السيرة". وقولهم: "قنعنا بالأسودين، قنعنا بالماء والتمر". وقولهم في امراة تزني وتتصدق توبيخًا لها: "لا تجمعي بين الأمرين، لا تزني ولا تتصدقي"، ومن لم يعتد ببدل الكل من الجمل يجعل كل هذه الأمثلة من تمييز التوكيد، أو من قبيل عطف البيان الآتي بعد.
الصورة الثالثة: أن تكون الجملة الثانية بيانًا للأولى لخفائها، والمقام يقتضي إزالة هذا الخفاء، كقوله تعالى:{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} فصلت جملة {قَالَ يَا آَدَمُ} عن جملة {فَوَسْوَسَ} ؛ لأنها موضحة لها، بمثابة عطف البيان منها لخفائها إذ لم تتبين تلك الوسوسة. فوزان {قَالَ يَا آَدَمُ} وزان "عمر" من قولهم:"أقسم بالله أبو حفص عمر". وكالآية الكريمة الأمثلة المتقدمة في بدل الكل عند من لم يعتد به في الجمل.
وأما شبه كمال الانقطاع:
فيتحقق في أن يكون عطف الثانية على الأولى موهمًا بعطفها على غيرها، وهو غير مقصود لما في العطف على هذا الغير من خلل في المعنى ذلك يكون في جملة مسبوقة بجملتين، يصح عطفها على أحدهما للوجوه المناسبة، ولا يصح عطفها على الأخرى لفساد المعنى، فيترك العطف حينئذ دفعًا لتوهم أنها معطوفة على هذه الأخرى. مثاله قول الشاعر:
وتظن سلمى أنني أبغي بها
…
بدلا أراها في الضلال تهيم
لم يعطف جملة "أراها" على "تظن" لئلا يدور في خلد السامع أنها معطوفة على "أبغي" لقربها منها، فتكون من مظنونات "سلمى"، ويصير المعنى حينئذ: أن سلمى تظن: أنني أبغي بها بدلا، وتظن أيضًا: أنني أراها تهيم في الضلال، وليس هذا مراده أن يقول: إن "سلمى" أخطأت في زعمها أنني أبغي بها بدلًا، بدليل قوله بعد هذا البيت أو قبله:
زعمت هواك عفا الغداة كما عفا
…
عنها طلال باللوى ورسوم
وشبه هذا بكمال الانقطاع لاشتماله على مانع من العطف "كما بينا" وإنما لم يكن من كمال الانقطاع، لأن المانع ليس من ذات الجملتين، بل خارج عنهما، يمكن دفعه بنصب قرينة على المراد.
وأما شبه كمال الاتصال:
فيتحقق في أن تكون الجملة الثانية جوابًا لسؤال نشأ عن الجملة الأولى، فتفصل الثانية عنها كما يفصل الجواب عن السؤال، ويسمى الفصل "استئنافًا"، وتسمى الجملة الثانية "مستأنفة"، والسؤال الناشئ عن الجملة الأولى يكون عن واحد من ثلاثة.
الأول: عن سبب عام للحكم الذي تضمنته الجملة الأولى، بمعنى أن السائل يجهل السبب من أصله كما في قول الشاعر:
قال لي كيف أنت قلت عليل
…
سهر دائم وحزن طويل
فالجملة الأولى هي قوله: "عليل" إذ التقدير: "أنا عليل"، وقد فصلت عنها جملة "سهر دائم
…
إلخ"؛ لأنها وقعت جوابًا لسؤال ناشئ عن الجملة الأولى، وكان المخاطب حين سمع قوله: "عليل" تساءل: ما سبب علتك؟ فأجاب سهر دائم، وحزب طويل، ومثله قول الشاعر:
جزى الله الشدائد كل خير
…
عرفت بها عدوى من صديقي
فصل بين الجملتين؛ لأن الثانية في موقع الجواب عن سؤال ناشئ عن الجملة الأولى، وكأن سائلا قال: لم دعوت للشدائد بالخير على غير المألوف، فأجاب: عرفت بها
…
إلخ.
الثاني: عن سبب خاص للحكم الذي دلت عليه الجملة الأولى؛ أهو حاصل أم غير حاصل؟ كما في قولك: "إني لأتهم نفسي إن النفس نزاعة إلى الشر" فصلت الثانية لوقوعها جوابًا لسؤال نشأ عن الجملة الأولى، وكان سائلا سأل: لم تتهم نفسك ألأنها مطبوعة على حب الشر؟ أم لسبب آخر؟ فأجاب: إن النفس نزاعة إلى الشر، منطبعة على طلب ما لا ينبغي، ومنه قوله تعالى:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} .
وهذا النوع من السؤال يقتضي تأييد الحكم الذي تضمنته الجملة الثانية؛ لأن السائل -كما عرفت- في حكم المتردد في حصوله، وقد تقدم في مبحث الإسناد الخبري أن المتردد يؤكد له الخبر استحسانًا.
الثالث -عن غيرهما- أي لا عن سبب عام ولا خاص، ولكن عن شيء آخر له تعلق بالجملة الأولى كما في قوله تعالى:{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} فصلت جملة: {قَالَ سَلَامٌ} عن جملة: {فَقَالُوا سَلَامًا} ؛ لأن الثانية جواب عن سؤال ناشئ عن الأولى، وكأن سائلًا سأل: فماذا قال إبراهيم عليه السلام ردًّا لتحيتهم؟ فأجاب: "قال: سلام"، ومثله قول الشاعر:
زعم العواذل أنني في غمرة
…
صدقوا ولكن غمرتي لا تفجلي
يقول: قد اتهمني العذال، فزعموا: أنني في كرب وشدة، مما ينتاب القلب من لوعة الهوى، وقد صدقوا فيما زعموا، غير أن ما أنا فيه من شدة لا مطمع لي في زواله. والشاهد فيه: فصل جملة "صدقوا" عن جملة "زعم العواذل"؛ لأن الثانية جواب عن سؤال ناشئ عن الأولى، ذلك أن مساق الكلام: في بث الشكوى من جماعة العذال، وهذا مما يحرك السامع لأنْ يسأل: أصدقوا في هذا الزعم أم كذبوا؟ فأجاب: صدقوا، والسؤال في هذين المثالين لا عن سبب عام ولا خاص إذ إن قول إبراهيم عليه السلام ليس سببًا لسلام الملائكة لا عامًّا ولا خاصًّا، كما أن صدق العواذل ليس سببًا لما زعموه على خلاف ما تقدم من أن "السهر الدائم" سبب في المرض، و"كون النفس نزاعة للشر، أمارة بالسوء" سبب في اتهامها.
وأما التوسط بين الكمالين مع قيام المانع من الموصل:
فيتحقق في جملتين: لا يوجد بينهما سبب من أسباب الفصل المتقدمة، ولكن لأولاهما حكم، لا يصح تشريك الثانية فيه لما يترتب على هذا التشريك من اختلال المعنى كما في قوله تعالى:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} لم يعطف جملة: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على جملة "قالوا" الواقعة جوابًا للشرط لما يلزم على هذا المعطف من فساد المعنى، ذلك أن جملة {قَالُوا} مقيدة بالظرف الذي هو "إذا" والمعنى أنهم إنما يقولون ذلك وقت خلوهم بشياطينهم فحسب، فلو عطف جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على جملة {قَالُوا} لزم تشريك الثانية في حكم الأولى، وهو "التقيد بالظرف المذكور" فيكون المعنى حينئذ: إن الله يستهزئ بهم وقت خلوهم بشياطينهم فقط كالذي قبله وهو باطل إذ إن استهزاء الله بهم -بمعنى: مجازاته لهم بالخذلان- متحمل لا يتقيد بزمن.
كذلك لم يعطف جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على جملة {إِنَّا مَعَكُمْ} الواقعة مفعولا "لقالوا" لما يلزم على هذا العطف من فساد المعنى كذلك، ذلك أن قوله:{إِنَّا مَعَكُمْ} مفعول {قَالُوا} ، فهو إذًا من مقول المنافقين، فلو عطف قوله:{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} على قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} لزم تشريك الثانية في حكم الأولى، وهو كونها مفعولا "لقالوا"، فيلزم أن تكون جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} من مقول المنافقين أيضًا في حين أنها من مقول الله "سبحانه" فبطل إذا عطفها عليها لما يلزم عليه من هذا الفساد.
وإذ قد استوفينا القول في مواضع الفصل، فإليك الحديث مفصلا عن: