الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن هنا نستنتج أن سلوك الوسطية جانب تربوي أيضا، يجب توجيه المسلمين إليه أفرادا وجماعات، شعوبا وحكومات، وذلك لازم في شؤونهم الدينية والدنيوية، وهذا مستفاد من قوله تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} .
وبالجملة فآثار تربية الله عز وجل الفائضة على كل فرد من أفراد الموجودات في كل آن غير متناهية، ويمكن لممعن النظر أن يكشف من أسباب التربية وأسرارها التي أودعها الله في خلقه الشيء الكثير، فسبحان الرب الخالق ما أعظم شأنه، وما أقوى حجته وبرهانه، نسأله تعالى الهداية إلى مناهج العلم والمعرفة، ونسأله العون والتوفيق لأداء حقوق نعمه، لا نحصي ثناء عليه، لا إله إلا هو، نستغفره ونتوب إليه.
النظرة الثامنة عشرة
أقسام الناس حسب فهم الفاتحة:
قبل الشروع في الحديث عن أقسام الناس حسب فهمهم للفاتحة، ومعرفتهم بما تضمنت من مقاصد ودلالات، نرغب في بيان أنه من المهم إيراد هذا الفصل، عقب ما ذكرنا من صلة الفاتحة بأمور الدنيا والآخرة، حتى لا
يتصور أحد أن هذه الآية حمّلها العلماء ما لم تتحمل، من احتواء العلوم الشرعية والكونية، والناس يقرؤونها ولا يلحظون ما ذكر المفسرون، ويكررونها صباح مساء ولا يتهيأ لهم ما يصفونها به، وأن ما ذكره العلماء ورد استطرادا لا استنباطا، وتطويلا لا تأويلا، وتعليما لا تفسيرا، وإكثارا لا استخراجا، فنقول: تمهلوا فإن الأمثلة تزيد الأمر وضوحا وتكسبه جلاء، فتساعد على الفهم والاستيعاب، فلو صورنا سورة الفاتحة بجنة خلق الله فيها من أنواع الثمار والفواكه، وأعطى من البهجة والخضرة ما لا يتصوره خيال، على حد قول الله سبحانه وتعالى:{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1)، فلو جمع الله هذه المذكورات وغيرها من الثمار والأشجار والأزهار في
(1) الآية (99) من سورة الأنعام.
مكان واحد، ونظر إليها وتجول فيها ثلاثة عقلاء، متفاوتو القدرات وهم:
مهندس خبير في الزراعة والأشجار والنباتات، وفلاّح، وطفل صغير.
ونوع رابع هو: دابة يستخدمها الفلاّح في خدمته وخدمة مزرعته، كيف يكون فهم ما حوت المزرعة في نظر كل واحد من الأربعة؟ ، فهل يكون هؤلاء والحقل أمامهم متفقين في الرأي والفكر بالنسبة لكل منهم، ؟ كلاّ إن الأمر مختلف قطعا.
وبيان أقسام الناس على نحو ما يلي:
إن المهندس الزراعي الخبير بالري وشئون الزراعة، وما يصلحها، وما يفسدها، وفق علم عميق ودراسة دقيقة، وتجارب مخبرية عديدة، يكون وهو أمام الحقل واسع الأفق، كبير المعاني، عالما بقدرة ربه ورب كل مخلوق {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وبما له في هذا المنظر من أسرار الخلق والتكوين، يتجلى منه عظمة الخالق سبحانه.
وهذا يمثل القسم الأول من أقسام الناس: وهم الذين عرفوا سورة الفاتحة، وعلموا فضلها، وخبروا مقاصدها، وفهموا دلالاتها الظاهرة والضمنية، فكانت عندهم بمنزلة القلب من الجسد، إذا توقف عن العمل، توقفت الحياة عن سائر الجسد، فجرى حرصهم على العمل بالفاتحة نصا وروحا، وكانوا مضرب المثل في الفهم النظري، والتطبيق العملي، وهؤلاء هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ربّاهم على وحي ربه، وأرشدهم
إلى العمل بسنته صلى الله عليه وسلم، فكانوا الصفوة المختارة، ليقتدي بهم من بعدهم من التابعين، فهم العدول المبلغون عن الله ورسوله، وهكذا يتكامل هذا الصنف الواعي جيلا بعد جيل، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أخرج الإمام البخاري من حديث المغيرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله، وهم ظاهرون)(1)، المعنى المراد منه العبادة والاستقامة على الحق، وهذا أشبه بذلك الفلاح، الذي يقبل على حقله وينظمه ويقوم على شؤونه في حدود علمه ولاشك أن المفسر للقرآن، العالم بمعانيه ومقاصده أرقى بكثير من العابد، فهو أشبه بالمهندس، والعابد أشبه بصاحب الحقل.
أما الطفل فإنه يقصر عن الاثنين قصورا بينا، فالصبي يروقه منظر الحقل وجماله، وتعجبه أشجاره وأزهاره، ويشتاق لفواكهه وثماره، لكنه لا يفقه من أسرارها شيئا، ولا يعلم كيف وجدت، فهذا مثل القسم الثالث من أقسام الناس: وهم الجهلاء من المسلمين عامة، الذين لا يحسنون فهم الفاتحة، وربما رددوها بتحريف وتصحيف، وإذا سألت أحدهم عن كلمة منها أهي على هذا الوجه، أو على وجه آخر؟ ، لما عرف الصواب من الخطأ وربما اختار الخطأ فصوبه، وهذا الصنف هم الكثرة الكاثرة، ويدخل فيهم المبتدعون من أصحاب
(1) أخرجه البخاري، حديث (71).
القبور، ودعاة الأولياء والصالحين، وغيرهم، فلو عرفوا معنى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}
…
ما وقعوا في بدعة قط.
وكم أخشى على كثيرين من القرّاء، الذين يفرحون بنغماتهم بالقرآن في المآتم، والأعراس، والحفلات العامة والخاصة، وكم من محفل يفتتح بالقرآن وفيه من مخالفة الكتاب والسنة ما الله به عليم، فهل عرف أسرار الفاتحة مثل هؤلاء؟ ! .
أما الدابة: فإنه لا يعنيها من ذلك إلا حاجتها، كل تلك الصورة الجمالية وما فيها من أسرار الخلق والتكوين لا تعنيها في شيء، كل ما تعرفه أن هذا يروق لها أكله، تأكل منه ما تشاء، وتطأ ما تشاء، ولا شيء وراء ذلك، فهذا مثل القسم الرابع من أقسام الناس: وهم الذين فارقوا شرع الله، واتبعوا الهوى، فأصبحوا كالأنعام بل هم أضل، وهم اليهود والنصارى ومن سار في ركابهم أوتشبّه بهم، ولم يعر الإسلام أذنا ولا رفع به رأسا.
ومعلوم أن فاتحة الكتاب يقرؤها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، وأكثرهم بها جاهلون، لا يعقلون معانيها ولا يعرفون مقاصدها، ولذلك تكالب عليهم الأعداء وهم في غفلةٍ معرضون، والعلم مفتاح التفكّر والتدبّر، إذ أن العلماء هم الذين يعرفون أسرار الأشياء،
بما علمهم الله من البحث والنظر، ولذلك حفل كتاب الله وسنة رسوله بالثناء عليهم والإشادة بهم قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1)، ويقول تعالى:{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (2)، وقوله سبحانه وتعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (3)، وقوله تعالى:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (4)، وغير ذلك، فعالم الكتاب والسنة يعقل مرامي الآيات، ومقاصد الأحاديث، وعالم النبات يعقل ما أودع الله فيه من أسرار الخلق والتكوين، وعالم الطب يعقل ما في الأجسام من عجائب الخلق، وكذلك الدارسون للشريعة الإسلامية يعقلون ما فيها من الحكم، وهم بعلم الفاتحة وعقل ما فيها أحرى، فالقرآن والسنة مثل ضوء الشمس منتشر في الجو، لكنه لا يظهر إلا على سطح الأرض، أو على جسم قابل، والهواء لا يعكس ضوءها، لذلك لا يراه الطائر في الجو، كذلك
(1) الآية (28) من سورة فاطر.
(2)
الآية (43) من سورة العنكبوت.
(3)
الآية (9) من سورة الزمر.
(4)
الآية (11) من سورة المجادلة ..