المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌37 - باب: سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة - النكت على صحيح البخاري - جـ ٢

[ابن حجر العسقلاني]

فهرس الكتاب

- ‌37 - بَابُ: سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الإِيمَانِ وَالإِسْلَامِ وَالإِحْسَانِ وَعِلْمِ السَّاعَةِ

- ‌38 - بَابٌ

- ‌39 - بَابُ: فَضْلِ مَنِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ

- ‌40 - بَابٌ: أَدَاءُ الْخُمُسِ مِنَ الإِيمَانِ

- ‌41 - باب: مَا جَاءَ إِنَّ الأَعْمَالَ بالنِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى

- ‌42 - باب: قَوْلِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ لله وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ" وَقَوْلهِ تَعَالَى: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}

- ‌3 - كتاب العلم

- ‌1 - باب: فَضْلِ الْعِلْمِ

- ‌2 - باب: مَنْ سُئِلَ عِلْمًا وَهُوَ مُشْتَغِلٌ في حَدِيثِهِ فَأَتَمَّ الْحَدِيثَ ثُمَّ أَجَابَ السَّائِلَ

- ‌3 - باب: مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بالْعِلْمِ

- ‌4 - باب: قَوْلِ الْمُحَدِّثِ: حَدَّثَنَا، وأَخْبَرَنَا، وَأَنْبَأَنَا

- ‌5 - بابُ: طَرْحِ الإمَام الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ

- ‌6 - بابُ: مَاجَاءَ في الْعِلْمِ

- ‌7 - بَابُ: مَا يُذْكَرُ في الْمُنَاوَلَةِ وَكِتَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ بالْعِلْمِ إِلى الْبُلْدَانِ

- ‌8 - بَابُ: مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِي بهِ الْمَجْلِسُ وَمَنْ رَأَى فُرْجَةً في الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا

- ‌9 - باب: قَوْلِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ

- ‌10 - بَابُ: الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ

- ‌11 - باب: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُهُمْ بالْمَوْعِظَةِ وَالْعِلْمِ كَيْ لَا يَنْفِرُوا

- ‌12 - باب: مَنْ جَعَلَ لأَهْلِ الْعِلْمِ يَوْمًا مَعْلُومًا

- ‌13 - باب: مَنْ يُرِدِ اللهُ بهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ

- ‌14 - باب: الْفَهْمِ في الْعِلْمِ

- ‌15 - باب: الاغْتِبَاط في الْعِلْمِ وَالْحِكمَةِ وَقَالَ عُمَرُ: تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا

- ‌16 - باب: مَا ذُكِرَ في ذَهَابِ مُوسَى صلى الله عليه وسلم في الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ

- ‌17 - باب: قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ

- ‌18 - باب: مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ

- ‌19 - باب: الْخُرُوجِ في طَلَبِ الْعِلْمِ، وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ في حَدِيثٍ وَاحِدٍ

- ‌20 - باب: فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ

- ‌21 - باب: رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ، وَقَالَ رَبِيعَةُ: لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ

- ‌22 - باب: فَضْلِ الْعِلْمِ

- ‌23 - باب: الْفُتْيَا وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا

- ‌24 - باب: مَنْ أَجَابَ الْفُتْيَا بإِشَارَةِ الْيَدِ وَالرَّأْسِ

- ‌25 - باب: تَحْرِيضِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى أَنْ يَحْفَظُوا الإيمَانَ وَالْعِلْمَ وَيُخْبِرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ

- ‌26 - باب: الرِّحْلَةِ في الْمَسْأَلَةِ النَّازِلَةِ

- ‌27 - باب: التَّنَاوُبِ في الْعِلْمِ

- ‌28 - باب: الْغَضَبِ في الْمَوْعِظَةِ وَالتَّعْلِيمِ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ

- ‌29 - باب: مَنْ بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الإِمَامِ أَوِ الْمُحَدِّثِ

- ‌30 - باب: مَنْ أَعَادَ الْحَدِيْثَ ثَلَاثًا لِيُفْهَمَ

- ‌31 - باب: تَعلِيمِ الرَّجُلِ أَمَتَهُ وَأَهْلَهُ

- ‌32 - باب: عِظَةِ الإِمَامِ النِّسَاءَ وَتَعلِيمِهِنَّ

- ‌33 - باب: الْحِرْصِ عَلَى الْحَدِيثِ

- ‌34 - باب: كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ

- ‌35 - باب: هَلْ يَجْعَلُ لِلنِّسَاءِ يَوْمًا عَلَى حِدَةٍ في العِلْمِ

- ‌36 - باب: مَنْ سَمِعَ شَيْئًا، فَرَاجَعَهُ حَتَّى يَعْرِفَهُ

- ‌37 - باب: لِيُبَلِّغِ الْعِلْمَ الشَّاهِدُ الْغَائبَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌38 - باب: إِثمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌39 - باب: كِتَابَةِ الْعِلْمِ

- ‌40 - باب: الْعِلْمِ وَالْعِظَةِ باللَّيْلِ

- ‌41 - باب: السَّمَرِ بالْعِلْمِ

- ‌42 - باب: حِفْظِ الْعِلْمِ

الفصل: ‌37 - باب: سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة

‌37 - بَابُ: سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الإِيمَانِ وَالإِسْلَامِ وَالإِحْسَانِ وَعِلْمِ السَّاعَةِ

وَبَيَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ، ثُمَّ قَالَ:"جَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ"؛ فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا، وَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِوَفْدِ عَبْدِ القَيْسِ مِنَ الإِيمَانِ، وَقَوْلِ الله تَعَالَى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85].

قوله: (باب سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام إلَى آخره) تقدم أن المصنف يرى أن الإيمان والإسلام عبارة عن معنى واحد، فلما كَانَ ظاهر سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام يقتضي تغايرهما؛ وأن الإيمان: تصديق بأمور مَخصوصة، والإسلام: إظهار أعمال مخصوصة؛ أراد أن يرد ذَلِكَ بالتأويل إلَى طريقته.

قوله: (وبيان) أي: مع بيان أن الاعتقاد والعمل دين.

وقوله: (وما بَيَّن) أي: مع ما بَين للوفد أن الإيمان هو الإسلام حيث فسره في قصتهم بما فسر به الإسلام هنا [93 / ب].

وقوله: (وقول الله) أي: مع ما دلت عليه الآية أن الإسلام هو الدين، فاقتضى ذَلِكَ أن الإسلام والإيمان أمر واحد، هذا محصل كلامه، وقد نقل أبو عوانة الإسفراييني في "صحيحه" عن المزني صاحب الشافعي الجزم بترادفهما سمع ذلِكَ منه. وعن الإمام أَحْمَد الجزم بتغايرهما (1)، ولكلٍّ من القولين أدلة متعارضة.

وَقَالَ الخطابي: صنف في المسألة إمامان كبيران، وأكثرا من الأدلة للقولين، وتباينا في ذَلِكَ، والحق أن بينهما عمومًا وخصوصًا، فكل مؤمن مُسْلِم، وليس كل مُسْلِم مؤمنًا. انتهى كلامه ملخصًا.

ومقتضاه أن الإسلام لا يطلق عَلى الاعتقاد والعمل معًا، بخلاف الإيمان فإنه يطلق

(1)"مسند أبي عوانة"(كتاب الإيمان، باب: بيان التشديد في الَّذِي يقتل نفسه. . .)(1/ 53).

ص: 3

عليهما معًا، ويرد عليه قوله تعالَى:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. فإن الإسلام هنا يتناول العمل والاعتقاد معًا، لأن العامل غير المعتقد ليس بذي دين مرضي.

وبهذا استدل المُزني وأبو مُحَمَّد البغوي فقال في الكلام عَلى حديث جبريل هذا: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام هنا اسمًا لما ظهر من الأعمال، والإيمان اسمًا لما بطن من الاعتقاد، وليس ذَلِكَ لأن الأعمال ليست من الإيمان، ولا لأن التصديق ليس من الإسلام، بل ذاك تفصيل لجملة كلها لشيء واحد، وجِمَاعها الدين، ولهذا قَالَ صلى الله عليه وسلم:"أتاكم يعلمكم دينكم"، وَقَالَ سبحانه وتعالى:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وَقَالَ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]. ولا يكون الدين في محل الرضا والقبول إلا بانضمام التصديق. انتهى كلامه.

والَّذي يظهر من مَجموع الأدلة أن لكلٍّ منهما حقيقة شرعية، كما أن لكلٍّ منهما حقيقة لغوية، لكن كل منهما مستلزم للآخر بمعنى التكميل له، فكما أن العامل لا يكون مسلمًا كاملًا إلا إذا اعتقد، فكذلك المعتقد لا يكون مؤمنا كاملًا إلا إذا عمل، وحيث يطلق الإيمان في موضع الإسلام أو العكس أو يطلق أحدهما عَلى إرادتهما معًا فهو عَلى سبيل المجاز، ويتبين المراد بالسياق، فإن وردا في مقام السؤال حُملا عَلى الحقيقة، وإن لَم يردا معًا أو لَم يكن في مقام سؤال أمكن الحمل عَلى الحقيقة أو عَلى المجاز بحسب ما يظهر من القرائن.

قوله: (وعلم الساعة) تفسير منه [94 / أ] للمراد بقول جبريل في السؤال: "متى الساعة" أي: متى علم الساعة، ولابد من تقدير مَحذوف آخر أي: متى علم قيام الساعة؟

قوله: (وبيان النبي صلى الله عليه وسلم) هو مَجرور لأنه معطوف عَلى "عِلْم" المعطوف عَلى "سؤال" المجرور بالإضافة.

فإن قيل: لَم يبين النبي صلى الله عليه وسلم وقت الساعة فكيف قَالَ: "وبيان النبي صلى الله عليه وسلم له"؟

فالجواب: أن المراد بالبيان بيان أكثر المسئول عنه، فأطلقه لأن حكم معظم الشيء حكم كله، أو جعل الحكم في علم الساعة بأنه لا يعلمه إلا الله بيانًا له.

ص: 4

50 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ رجل فَقَالَ: مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: "الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَبِلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ". قَالَ: مَا الإِسْلَامُ؟ قَالَ: "الإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ". قَالَ: مَا الإِحْسَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ". قَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "مَا المَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا إِذَا وَلَدَتِ الأَمَةُ رَبَّهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإِبِلِ البُهْمُ فِي البُنْيَانِ، فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ". ثُمَّ تَلَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية [لقمان: 34]. ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ: "رُدُّوهُ". فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا. فَقَالَ: "هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنَ الإِيمَانِ.

قوله: (حَدَّثَنَا إسماعيل بن إبراهيم) هو البصري المعروف بابن عُلَيَّة.

قَالَ: (أنا أبو حيان التيمي) وأورده المصنف في تفسير سورة لقمان من حديث جرير بن عبد الحميد، عن أبي حيان المذكور (1)، وَرَوَاهُ مُسْلِم من وجه آخر عن جرير أيضًا عن عمارة بن القعقاع (2)، وَرَوَاهُ أبو داود، والنسائي من حديث جرير أيضًا عن أبي فَرْوَة (3)، ثلاثتهم عن أبي زُرْعَة، عن أبي هريرة، زاد أبو فروة:"وعن أبي ذر"، وساق حديثه عنهما جميعًا، وفيه فوائد زوائد سنشير إليها إن شاء الله.

ولَم أر هذا الحديث من رواية أبي هريرة إلا عن أبي زُرْعة بن عمرو بن جرير هذا

(1)"صحيح البُخَاريّ"(كتاب التفسير، سورة لقمان، باب: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}) برقم (4777).

(2)

"صحيح مُسْلِم"(كتاب الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان. . .) برقم (10).

(3)

أخرجه أبو داود في "سننه"(كتاب السنة، باب: في القدر) برقم (4698)، والنسائي في "السنن الكبرى"(كتاب الإيمان وشرائعه، باب: صفة الإيمان والإسلام)(6/ 528)، وفي "المجتبى" في نفس الكتاب والباب (8/ 101، 102).

ص: 5

عنه، ولَم يخرجه البُخَاريّ إلا من طريق أبي حيان عنه، وقد أخرجه مُسْلِم (1)، من حديث عمر بن الخطاب، وفِي سياقه فوائد زوائد أيضًا، وإنما لَم يخرجه البُخَاريّ لاختلافٍ فيه عَلى بعض رواته. فمشهوره رواية كَهْمَس -بسين مهملة قبلها ميم مفتوحة- ابن الحسن، عن عبد الله بن بُرَيْدة، عن يَحيى بن يَعْمَر -بفتح الميم أوله ياء تحتانية مفتوحة، عن عبد الله بن عُمر، عن أبيه عمر بن الخطاب.

رَوَاهُ عن كَهْمَس جماعة من الحفاظ وتابعه مَطَر الوراق، عن عبد الله بن بريدة، وتابعه سليمان التيمي، عن يحيى بن يعمر.

وكذا رَوَاهُ عُثْمَان بن غِيَاث، عن عبد الله بن بريدة، لكنه قَالَ: عن يحيى بن يعمر، وحُميد بن عبد الرحمن معًا، عن ابن عمر، عن عمر، زاد فيه حُميدًا، وحُميدٌ له في الرواية المشهورة ذكرٌ لا رواية.

وأخرج مُسْلِم هذه [94 / ب] الطرق (2)، ولَم يسق منها إلا متن الطريق الأولى، وأحال الباقي عليها، وبينها اختلاف كثير سنشير إلَى بعضه.

* فأما رواية مطر فأخرجها أبو عوانة في "صحيحه"(3).

* وأما رواية سليمان التيمي فأخرجها ابن خزيمة في "صحيحه"(4).

* وأما رواية عُثْمَان بن غياث فأخرجها أَحْمَد في "مسنده"(5).

وقد خالفهم سليمان بن بريدة أخو عبد الله فرواه عن يحيى بن يعمر، عن عبد الله ابن عمر قَالَ:"بينما نَحنُ عند النبي صلى الله عليه وسلم" فجعله من مسند ابن عمر لا من روايته عن أبيه، أخرجه أَحْمَد أيضًا (6).

(1)"صحيح مُسْلِم"(كتاب الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان. . .) برقم (8).

(2)

"صحيح مُسْلِم"(كتاب الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان. . .) برقم (8).

(3)

"مسند أبي عوانة"(كتاب الأحكام، باب: في السنة في الداخل عَلى الإمام. . .)(4/ 194).

(4)

"صحيح ابن خزيمة"(كتاب الوضوء، باب: ذكر الخبر الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن إتمام الوضوء من الإسلام) برقم (1).

(5)

"مسند أحْمَد"(1/ 27).

(6)

"مسند أحْمَد"(1/ 52).

ص: 6

وكذا رَوَاهُ أبو نعيم في "الحلية"(1) من طريق عطاء الخراساني، عن يحيى بن يَعْمر.

وكذا روي من طريق عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عمر أخرجه الطبراني (2).

وفِي الباب عن أنس أخرجه البزار (3)، وإسناده حسن.

وعن جرير البجلي أخرجه أبو عوانة في "صحيحه".

وعن ابن عباس، وأبي عامر الأشعري أخرجهما أَحْمد (4)، وإسنادهما حسن.

وفِي كل من هذه الطرق فوائد سنذكرها -إن شاء الله تعالَى- في أثناء الكلام عَلى حديث الباب، وإنما جمعت طرقها هنا وعزوتها إلَى مخرجيها؛ ليسهل الحوالة عليها؛ فرارًا من التكرار المباين لطريق الاختصار، والله الموفق.

قوله: (كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم بارزًا يومًا للناس) أي: ظاهرًا لهم غير محتجب عنهم ولا ملتبس بغيره، والبروز: الظهور، وقد وقع في رواية أبي فَرْوَةَ الَّتِي أشرنا إليها بيان ذلِكَ، فإن أوله:"كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو، فطلبنا إليه أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه، قَالَ: فبنينا له دُكَانًا من طين كَانَ يجلس عليه"(5). انتهى

واستنبط منه القرطبي استحباب جلوس العالم بمكان يختص به، ويكون مرتفعًا إذا احتاج لذلك؛ لضرورة تعليم ونَحوه.

قوله: (فأتاه رجل) أي: مَلَك في صورة رجل، وفِي التفسير للمصنف:"إذ أتاه رجل يمشي"(6). ولأبي فروة: "فَإِنا لَجُلوسٌ عنده إذ أَقْبَلَ رجلٌ أحسن الناس وجهًا،

(1)"حلية الأولياء"(5/ 207).

(2)

"المعجم الكبير"(12/ 430).

(3)

"مسند البزار"(1/ 193).

(4)

أخرجهما أحْمَد في "مسنده" فأما حديث ابن عباس فهو في (1/ 318، 319)، وأما حديث أبي عامر الأشعري ففي (4/ 129، 164).

(5)

أخرجه أبو داود في "سننه"(كتاب السنة، باب: في القدر) برقم (4698)، والنسائي في "السنن الكبرى"(كتاب الإيمان وشرائعه، باب: صفة الإيمان والإسلام)(6/ 528)، وفي "المجتبى" في نفس الكتاب والباب (8/ 101، 102).

(6)

"صحيح البُخَاريّ"(كتاب التفسير، سورة لقمان، باب: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} برقم (4777).

ص: 7

وأطيب الناس ريحًا، كأن ثيابه لَم يمسها [95 / أ] دنس" (1).

ولمسلم من طريق كَهْمَس في حديث عمر: "بينما نَحنُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر"(2).

وفِي رواية ابن حبان: "سواد اللحية، لا يُرى عليه أَثرُ السفرِ، ولا يعرفه منا أحد، حَتَّى جلس إلَى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبته إلَى ركبته، ووضع كفيه عَلى فخذيه"(3).

ولسليمان التيمي: "ليس عليه سحناء سفر، وليس من البلد، فتخطى حَتَّى برك بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم كما يجلس أحدنا في الصلاة، ثم وضع يده عَلى ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم"(4).

وكذا في حديث ابن عباس، وأبي عامر الأشعري:"ثم وضع يده عَلى ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم"(5).

فأفادت هذه الرواية أن الضمير في قوله: "عَلى فخذيه" يعود عَلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبه جزم البغوي، ووافقه التوربشتي؛ لأنه حمله عَلى أنه جلس هيئة المتعلم بين يدي من يتعلم منه، فهذا وإن كانَ ظاهرًا من السياق لكن وضعه يديه عَلى فخذي النبي صلى الله عليه وسلم صنيع منبه للإصغاء إليه.

وفيه إشارة لما ينبغي للمسئول من التواضع، والصفح عما يبدو من جفاء السائل، والظاهر أنه أراد بذلك المبالغة في تعمية أمره؛ ليقوي الظن بأنه من جفاة الأعراب؛ لأن الصحابة استغربوا هيئَتَه.

فإن قيل: كيف عرف عمر أنه لَم يعرفه أحد منهم؟

(1) أخرجه أبو داود في "سننه"(كتاب السنة، باب: في القدر) برقم (4698)، والنسائي في "السنن الكبرى"(كتاب الإيمان وشرائعه، باب: صفة الإيمان والإسلام)(6/ 528)، وفي "المجتبى" في نفس الكتاب والباب (8/ 101، 102).

(2)

"صحيح مُسْلِم"(كتاب الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان. . .) برقم (8).

(3)

"صحيح ابن حبان"(كتاب الإيمان، باب: فرض الإيمان) برقم (168).

(4)

أخرجها ابن خزيمة في "صحيحه"(كتاب الوضوء، باب: ذكر الخبر الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن إتمام الوضوء من الإسلام) برقم (1).

(5)

أخرجهما الإمام أحْمَد في "مسنده"، فأما حديث ابن عباس فهو في (1/ 318، 319)، وأما حديث أبي عامر الأشعري ففي (4/ 129، 164).

ص: 8

أجيب: بأنه يحتمل أن يكون استند في ذَلِكَ إلى ظنه، أو إلَى صريح قول الحاضرين.

قُلْت: وهذا الثاني أولى، فقد جاء كذلك في رواية عُثْمَان بن غِيَاث ففيها:"فنظر القوم بعضهم إلَى بعض، فقالوا: ما نعرفُ هذا"(1).

وأفاد مُسْلِم في رواية عمارة بن القعقاع سبب ورود هذا الحديث، فعنده في أوله:"قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوني فهابوا أن يسألوه، قَالَ: فجاء رجلٌ"(2).

ووقع في رواية ابن منده من طريق يزيد بن زُرَيْع، عن كَهْمَس:"بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذ جاء رجلٌ"(3). فكأن أمرَهُ لهم بسؤاله وقع في خطبته، فظاهره أن مجيء الرجل كَانَ في حالة الخطبة، فإما أن يكون وافق انقضاءها أو كَانَ ذكر ذَلكَ [95 / ب] القدر جالسًا، وعبر عنه الراوي بالخطبة.

قوله: (فقال) زاد في التفسير: "يا رسول الله! ما الإيمان؟ "(4).

فإن قيل: فكيف بدأ بالسؤال قبل السلام؟

أجيب: بأنه يحتمل أن يكون ذَلكَ مبالغة في تعمية أمره، أو يبين أن ذلكَ غير واجب، أو سَلَّم فلم ينقله الراوي.

قلتُ: وهذا الثالث المعتمد، فقد ثبت في رواية أبي فَرْوة ففيها بعد قوله:"كأن ثيابه لَم يمسها دنس، حَتَّى سلم من طرف البساط، فقال: السلام عليك يا مُحَمَّد، فرد عليه السلام، قَالَ: أَدْنُو يا مُحَمَّد؟ قَالَ: ادن، فما زال يقول أَدْنُو مرارًا ويقول له: ادن، ونحوه في رواية عطاء، عن ابن عمر، لكن قَالَ: "السلام عليك يا رسول الله"، وفِي رواية مطر الوراق: "فقال: يا رسول الله، أدنو منك؟ قَالَ: ادن"، ولَم يذكر السلام.

فاختلفت الروايات هل قَالَ له: يا مُحَمَّد، أو يا رسول الله، أو هل سلم أو لا، فقال القرطبي بناءً عَلى أنه لَم يسلم، وَقَالَ:"يا مُحَمَّد": أنه أراد بذلك التعمية، فصنع صنيع الأعراب.

(1) أخرجها الإمام أحْمَد في "مسنده"(1/ 27).

(2)

"صحيح مُسْلِم"(كتاب الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان. . .) برقم (10).

(3)

أخرجه ابن منده في "الإيمان"(1/ 132).

(4)

"صحيح البُخَاريّ"(كتاب التفسير، سورة لقمان، باب: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}) برقم (4777).

ص: 9

قُلْت: ويجمع بين الروايتين بأنه بدأ أولًا بندائه باسمه لهذا المعنى، ثم خاطبه بقوله: يا رسول الله. ووقع عند القرطبي أنه قَالَ: "السلام عليكم يا مُحَمَّد"، فاستنبط منه أنه يستحب للداخل أن يعمم بالسلام ثم يخصص من يريد تخصيصه. انتهى

والذي وقفت عليه من الروايات إنما فيه الإفراد، وهو قوله:"السلام عليك يا مُحَمَّد".

قوله: (ما الإيْمان) قيل: قدم السؤال عَلى الإيمان؛ لأنه الأصل، وثنَّى بالإسلام؛ لأنه يظهر مصداق الدعوى، وثلَّث بالإحسان؛ لأنه متعلق بهما، وفي رواية عُمَارة بن القعقاع بدأ بالإسلام، لأنه بالأمر الظاهر، وثنَّى بالإيمان؛ لأنه بالأمر الباطن. ورجح هذا الطيبي لما فيه من الترقي.

ولا شك أن القصة واحدة، اختلف الرواة في تأديتها، وليس في السياق ترتيب، ويدل عليه رواية مطر الوراق فإنه بدأ بالإسلام، وثنَّى بالإحسان، وثلَّث بالإيمان، فالحق أن الواقع أمرٌ واحد، والتقديم والتأخير وقع من الرواة، والله أعلم.

قوله: (قَالَ: الإيمان، أن تؤمن [96 / أ] بالله) إلى آخره. دل الجواب عَلى أنه علم أنه سأله عن متعلقاته لا عن معنى لفظه، وإلا لكان الجواب:"الإيمان: التصديق"، وَقَالَ الطيبي: هذا يوهم التكرار وليس كذلك، فإن قوله:"أن تؤمن بالله" مضمن معنى: أن تعترف به، ولهذا عَدَّاه بالباء؛ أي أن تصدَّق معترفًا بكذا.

قُلْت: والتصديق أيضًا يُعدَّى بالباء، فلا يحتاج إلَى دعوى التضمين.

وَقَالَ الكرماني: ليس هو تعريفًا للشيء بنفسه، بل المراد من المحدود: الإيمان الشرعي، ومن الحد: الإيمان اللغوي.

قُلْت: والَّذِي يظهر أنه إنما أعاد لفظ الإيمان للاعتناء بشأنه تفخيمًا لأمره، ومنه قوله تعالَى:{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] في جواب: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)} [يس: 78].

ص: 10

قوله: (وملائكته) والإيمان بالملائكة: هو التصديق بوجودهم، وأنهم كما وصفهم الله عباد مكرمون، وقَدَّم الملائكة عَلى الكتب والرسل نظرًا للترتيب الواقع، لأنه سبحانه وتعالى أرسل الملَك بالكتاب إلى الرسول، وليس فيه متمسك لمن فضل الملك عَلى الرسول.

قوله: (وكتبه) هذه عند الأصيلي هنا، واتفق الرواة عَلى ذكرها في التفسير، والإيمان بكتب الله: التصديق بأنها كلام الله، وأن ما تضمنه حق.

قوله: (وبلقائه) كذا وقعت هنا بين الكتب والرسل، وكذا لمسلم من الطريقين (1)، ولَم تقع في بقية الروايات، وقد قيل: إنها مكررة؛ لأنها داخلة في الإيمان بالبعث، والحق أنها غير مكررة، فقيل: المراد بالبعث: القيام من القبور، والمراد باللقاء: ما بعد ذَلكَ، وقيل: اللقاء يحصل بالانتقال من دار الدُّنْيَا، والبعث بعد ذلكَ، ويدل عَلى هذا رواية مطر الوراق، فإن فيها:"وبالموت وبالبعث بعد الموت"، وكذا في حديثي أنس وابن عباس.

وقيل: المراد باللقاء: رؤية الله، ذكره الخطابي. وتعقبه النووي بأن أحدًا لَم يقطع لنفسه برؤية الله؛ لأنها مُختصة بمن مات مؤمنًا، والمرء لا يدري بِم يُختم له، فكيف يكون ذَلِكَ من شروط الإيمان؟ !

وأجيب: بأن المراد [96 / ب] الإيمان بأن ذلكَ حق في نفس الأمر، وهذا من الأدلة القوية لأهل السنة في إثبات رؤية الله في الآخرة إذ جُعلت من قواعد الإيمان.

قوله: (ورسله) وللأصيلي: "وبرسله"، ووقع في حديث أنس وابن عباس:"والملائكة والكتاب والنبيين". وكل من السياقين في القرآن في البقرة، والتعبير بالنبيين يشمل الرسل من غير عكس.

والإيمان بالرسل: التصديق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله، ودل الإجمالُ في الملائكة والكتب والرسل عَلى الاكتفاء بذلك في الإيمان بهم من غير تفصيل، إلا من ثبتت تسميته فيجب الإيمان به عَلى التعْيين.

(1)"صحيح مُسْلِم"(كتاب الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان) برقم (9، 10).

ص: 11

قوله: (وتؤمن بالبعث) زاد في التفسير: "الآخر"، ولمسلم في حديث عمر:"واليوم الآخر"، فأما البعث الآخر فقيل: ذَكَر الآخر تأكيدًا، كقولهم: أمس الذاهب، وقيل: لأن البعث وقع مرتين.

الأولَى: الإخراج من العدم إلى الوجود، أو من بطون الأمهات بعد النطفة والعلقة إلَى الحياة الدُّنْيَا.

والثانية: البعث من بطون القبور إلَى مَحل الاستقرار، وأما اليوم الآخر فقيل له ذَلكَ؛ لأنه آخر أيام الدُّنْيَا، أو آخر الأزمنة المحدودة.

والمراد بالإيمان به: التصديق بما يقع فيه من الحساب والميزان والجنة والنار، وقد وقع التصريح بذكر الأربعة بعد ذكر البعث في رواية سليمان التيمي وفِي حديث ابن عباس أيضًا.

* فائدة:

زاد الإسماعيلي في (مستخرجه) هنا: "وتؤمن بالقدر"، وفِي رواية أبي فروة أيضًا، وكذا لمسلم من رواية عُمَارة بن القعقاع، وأكده بقوله:"كله"، وفِي رواية كَهْمَس، وسليمان التيمي:"وتؤمن بالقدر خيره وشره". وكذا في حديث ابن عباس، وهو في رواية عطاء، عن ابن عمر بزيادة:"وحلوه ومره من الله".

وكأن الحكمة في إعادة لفظ: "وتؤمن" عند ذكر البعث الإشارة إلَى أنه نوع آخر مما يؤمن بذلك (1)؛ لأن البعث سيوجد بَعْدُ، وما ذكر قبله موجود الآن، أو للتنويه بذكره لكثرة من كَانَ يُنكره من الكفار، ولهذا كثر تكراره في القرآن، وهكذا الحكمة في إعادة لفظ:"وتؤمن" عند ذكر القدر، كأنها إشارة إلَى ما يقع فيه من [97/ أ] الاختلاف، فحصل الاهتمام بشأنه بإعادة:"يؤمن"، ثم قرره بالإبدال بقوله:"خيره وشره، وحلوه ومره"، ثم زاد تأكيدًا بقوله في الرواية الأخيرة:"من الله".

(1) في "الفتح": (به).

ص: 12

والقدر: مصدر، تقول: قَدَرتُ الشيء بتخفيف الدال وفتحها أقْدِره بالكسر والفتح قَدَرًا وَقَدْرًا: إذا أحطتُ بمقداره، والمراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، وكل مُحدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته.

هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وعليه كَانَ السلف من الصحابة وخيار التابعين إلَى أن حدثت بدعة القدر في أواخر زمن الصحابة، وقد روى مُسْلِم (1) القصة في ذَلِكَ من طريق كَهْمَس، عن ابن بُرَيْدة، عن يَحْيَى بن يَعْمر قَالَ:"كَانَ أول من قَالَ في القدر بالبصرة مَعْبَد الجُهَني، قَالَ: فانطلقتُ أنا وحُميد الحِمْيَري"، فذكر اجتماعهما بعبد الله بن عمر، وأنه سأله عن ذلكَ، فأخبره بأنه بَرِيءٌ ممن يقول ذلكَ، وأن الله لا يقبل مِمن لَم يؤمن بالقدر عملًا.

وقد حكى المصنفون في المقالات عن طوائف من القدرية إنكار كون البارئ عالِمًا بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم، وإنما يعلمها بعد كونها، قَالَ القرطبي وغيره: قد انقرض هذا المذهب ولا نعرفُ أحدًا يُنسب إليه من المتأخرين، قَالَ: والقدرية اليوم مطبقون عَلى [أن](2) الله عالِمٌ بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لَهم، وواقعة منهم عَلى جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهبًا باطلًا أخف من المذهب الأول.

وأما المتأخرون منهم فأنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فرارًا من تعلق القديم بالمحدث، وهم مَخصومون بما قَالَ الشافعي: إن سلَّم القدري العلم خُصِم، يعني: يقال له: أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم؟ فإن منع وافق قول أهل السنة، وإن أجاز لزمه نسبة الجهل، تعالَى الله عن ذَلِكَ.

(1)"صحيح مُسْلِم"(كتاب الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان. . .) برقم (8).

(2)

زيادة من "الفتح".

ص: 13

* تنبيه:

ظاهر السياق يقتضي أن الإيمان لا يُطلق عَلى من صدَّق بجميع ما ذكر، وقد اكتفى الفقهاء بإطلاق الإيمان عَلى من آمن بالله ورسوله، ولا اختلاف؛ لأن الإيمان برسول الله المراد به: الإيمان بوجوده وبما جاء به عن ربه، فيدخل جميع ما ذكر تحت ذَلِكَ، والله أعلم.

قوله: (أن تعبد الله)[97 / ب].

قَالَ النووي: يحتمل أن يكون المراد بالعبادة: معرفة الله، فيكون عطف الصلاة وغيرها [عليها](1) لإدخالها في الإسلام، ويحتمل أن يكون المراد بالعبادة: الطاعة مطلقًا فيدخل فيه جَميع الوظائف، فعلى هذا يكون عطف الصلاة وغيرها من عطف الخاص عَلى العام.

قُلْت: أما الاحتمال الأول فبعيد؛ لأن المعرفة من متعلقات الإيمان، وأما الإسلام فهو أعمال قولية وبدنية، وقد عبر في حديث عمر هنا بقوله:"أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّدًا رسول الله"، فدل عَلى أن المراد بالعبادة في حديث الباب: النطق بالشهادتين، وبهذا تبين دفع الاحتمال الثاني، ولما عبر الراوي بالعبادة احتاج أن يوضحها بقوله:"ولا تشرك به شيئًا"، ولم يحتج إليها في رواية عمر لاستلزامها ذَلِكَ.

فإن قيل: السؤال عام لأنه سأل عن ماهية الإسلام، والجواب خاص لقوله:"أن تعبد" أو "تشهد"، وكذا قَالَ في الإيمان:"أن تؤمن"، وفِي الإحسان:"أن تعبد".

والجواب: أن ذَلِكَ لنكتة الفرق بين المصدر وبين أن والفعل؛ لأن "أن تفعل" تدل عَلى الاستقبال، والمصدر لا يدل عَلى زمان، عَلى أن بعض الرواة أورده هنا بصيغة المصدر، ففي رواية عُثْمَان بن غِيَاث قَالَ:"شهادة أن لا إله إلا الله"، وكذا في حديث أنس، وليس المراد بمخاطبته بالإفراد اختصاصه بذلك، بل المراد: تعليم السامعين الحكم في حقهم وحق من أشبههم من المكلفين، وقد تبين ذَلِكَ بقوله في آخره:"يعلِّم الناس دينهم".

(1) زيادة من "الفتح".

ص: 14

فإن قيل: لِمَ لَم يذكر الحج؟

أجابَ بعضهم: باحتمال أنه لَم يكن فُرِضَ، وهو مردود بما رَوَاهُ ابن مَنْدَه في "كتاب الإيمان" بإسناده الَّذِي عَلى شرط مُسْلِم من طريق سليمان التيمي في حديث عمر أوله:"أن رجلًا في آخر عُمُر النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . . ." فذكر الحديث بطوله (1)، فكأنه إنما جاء بعد إنجاز (2) جَميع الأحكام، لتقرير أمور الدين الَّتِي بَلَّغها متفرقة في مجلس واحد لتضبط.

ويستنبط منه جواز سؤال العالم ما لا يجهله السائل ليعلمه السامع.

وأمَّا الحج فقد ذكر، لكن بعض الرواة إما ذهل عنه وإما نسيه، والدليل عَلى ذَلِكَ [98 / أ] اختلافهم في ذكر بعض الأعمال دون بعض، ففي رواية كَهْمَس:"وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا"، وكذا في حديث أنس.

وفي رواية عطاء الخراساني لَم يذكر الصوم، وفي حديث أبي عامر ذكر الصلاة والزكاة حسب، ولَم يذكر في حديث ابن عباس مزيدًا عَلى الشهادتين، وذكر سليمان التيمي في روايته الجميع وزاد بعد قوله:"وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة وتتمم الوضوء"، وَقَالَ مطر الوراق في روايته:"وتُقيم الصلاة وتؤتي الزكاة قَالَ: فذكر عُرى الإسلام"، فتبين ما قلناه أن بعض الرواة ضبط ما لَم يضبطه غيره.

قوله: (وتقيم الصلاة) زاد مُسْلِم "المكتوبة" أي: المفروضة، وإنما عبر بالمكتوبة للتفنن في العبارة، فإنه عبر في الزكاة بالمفروضة، ولاتباع قوله:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)} [النساء: 103].

قوله: (وتصوم رمضان) استدل به عَلى قول رمضان من غير إضافة شهر إليه، وستأتي المسألة في كتاب الصيام إن شاء الله تعالَى.

(1)"الإيمان" لابن منده (1/ 143، 144).

(2)

في "الفتح": "إنزال".

ص: 15

قوله: (الإحسان) هو مصدر، تقول: أَحْسَنَ إحسانًا، ويتعدى بنفسه وبغيره، تقول: أحسنتُ كذا: إذا أتقنته، وأحسنتُ إلَى فلان: إذا أوصلت إليه النفع، والأول هو المراد، لأن المقصود إتقان العبادة، وقد يُلحظ الثاني بأن المخلص مثلًا يحسن لإخلاصه إلَى نفسه، وإحسان العبادة: الإخلاص فيها، والخشوع، وفراغ البال حال التلبس بها، ومراقبة المعبود، وأشار في الجواب إلَى حالتين:

أرفعهما: أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه حَتى كأنه يراها بعينه وهو قوله: (كأنك تراه) أي: وهو يراك.

والثانية: أن يستحضر أن الحق مطلع عليه، يرى كل ما يعمل وهو قوله:(فإنه يراك).

وهاتان الحالتان تثمرهما معرفة الله وخشيته، وقد عبر في رواية عُمَارة بن القعقاع بقوله:"أن تخشى الله كأنك تراه".

قالَ النووي: معناه أنك إنما تراعي الآداب المذكورة إذا كنت تراه ويراك، لكونه يراك لا لكونه تراه، فهو دائمًا يراك، فأحسن عبادته وإن لَم تره، فتقدير الحديث: فإن لَم [تكن](1) تراه فاستمر عَلى إحسان العبادة فإنه يراك.

* تنبيه:

دل سياق الحديث عَلى أن رؤية الله في [98 / ب] الدُّنْيَا بالأبصار غير واقعة، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فذاك لدليل آخر، وقد صرح مُسْلِم في روايته من حديث أبي أمامة بقوله صلى الله عليه وسلم:"واعلموا أنكم لن تروا ربكم حَتَّى تَموتوا"(2).

(1) زيادة من "الفتح".

(2)

هذا اللفظ من حديث أبي أمامة ليس في "صحيح مُسْلِم"، وأخرجه الحاكم في "المستدرك"(كتاب الفتن والملاحم، باب: إن الله تعالَى لَم يبعث نبيًّا إلا حذر أمته الدجال)(4/ 536، 537)، ولفظه:"وإنكم لن تروا ربكم حتَّى تموتوا"، وَقَالَ: هذا حديثٌ صحيحٌ عَلى شرط مُسْلِم، ولَم يخرجاه بهذه السياقة.

أما الحديث الَّذِي أخرجه مُسْلِم في "صحيحه"(كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر ابن صياد) برقم (2931)، فهو من حديث عبد الله بن عمر، ولفظه:"لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حَتَّى يموت".

ص: 16

وأقدم بعض غلاة الصوفية عَلى تأويل الحديث بغير علم، فقال: فيه إشارة إلَى مقام المحو والفناء، وتقديره: فإن لَم تكن، أي: فإن لَم تَصِرْ شيئًا، وفنيت عن نفسك حَتى كأنك ليس بموجود، فإنك حينئذ تراه.

وغفل قائل هذا -للجهل بالعربية- عن أنه لو كَانَ المراد ما زعم لكان قوله: "تراه" مَحذوف الألف؛ لأنه يصير مَجزومًا؛ لكونه عَلى زعمه جواب الشرط، ولَم يرد في شيء من طرق هذا الحديث بحذف الألف، ومن ادعى أن إثباتها في الفعل المجزوم عَلى خلاف القياس فلا يصار إليه؛ إذ لا ضرورة هُنَا، وأيضًا فلو كَانَ ما ادعاه صحيحًا لكان قوله:"فإنه يراك" ضائعًا؛ لأنه لا ارتباط له بما قبله.

ومما يفسد تأويله رواية كَهْمَس، فإن لفظها:"فإنك إن لا تراه فإنه يراك"، وكذلك في رواية سليمان التيمي، فسلط النفي عَلى الرؤية لا عَلى الكون الَّذِي حَمَل عَلى ارتكاب التأويل المذكور، وفِي رواية [أبي] (1) فَرْوَة:"فإن لَم تره فإنه يراك"، ونَحوه في حديث أنس، وابن عباس، وكل هذا يبطل التأويل المتقدم، والله أعلم.

* فائدة:

زاد مُسْلِم في رواية عُمَارة بن القعقاع قول السائل: "صدقت" عقب كل جواب من الأجوبة الثلاثة، وزاد أبو فَرْوَة في روايته:"فلما سمعنا قول الرجل: صدقت؛ أنكرناه"، وفي رواية كَهْمَس:"فعجبنا له يسأله ويصدقه"، وفِي رواية مطر: انظروا إليه كيف يسأله، وانظروا إليه كيف يصدقه"، وفِي حديث أنس: "انظروا هو يسأله وهو يصدقه كأنه أعلم منه"، وفِي رواية سليمان بن بُرَيْدة: "قَالَ القوم: ما رأينا رجلًا مثل هذا كأنه يُعلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: صدقت صدقت".

قَالَ القرطبي: إنما عجبوا من ذَلِكَ؛ لأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا يُعرف إلا من جهته، وليس هذا السائل ممن عُرف بلقاء النبي صلى الله عليه وسلم ولا بالسماع منه، ثم هو يسأل سؤال عارف بما يسأل عنه؛ لأنه يخبره بأنه صادق فيه، فتعجبوا [99 / أ] من ذَلِكَ تعجب المستبعد لذلك.

(1) زيادة من "الفتح".

ص: 17

قوله: (متى الساعة) أي: متى تقوم الساعة، وصرح به في رواية عُمَارة بن القعقاع، واللام للعهد، والمراد: يوم القيامة.

قوده: (بأعلم) الباء زائدة لتأكيد النفي، وهذا وإن كانَ مشعرًا بالتساوي في العلم لكن المراد بالتساوي في العلم بأن الله استأثر بعلمها؛ لقوله بَعْدُ:"خمس لا يعلمها إلا الله"، وسيأتي نظير هذا التركيب في أواخر الكلام عَلى هذا الحديث في قوله:"ما كنت بأعلم به من رجل منكم"، فإن المراد أيضًا: التساوي في عدم العلم به، وفِي حديث ابن عباس هنا فقال:"سبحان الله خَمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله"، ثم تلا الآية.

قَالَ النووي: يستنبط منه: أن العالم إذا سئل عمَّا لا يعلم يصرح بأنه لا يعلمه، ولا يكون في ذلِكَ نقص من مرتبته، بل يكون دليلًا عَلى مزيد ورعه.

وَقَالَ القرطبي: مقصود هذا السؤال: كف السامعين عن السؤال عن وقت الساعة؛ لأنهم كانوا قد أكثروا السؤال عنها، كما ورد في كثير من الآيات والأحاديث، فلما حصل الجواب بما ذكر هنا حصل اليأس من معرفتها، بخلاف الأسئلة الماضية، فإن المراد بها: استخراج الأجوبة ليتعلمها السامعون ويعملوا بِها، ونبه بهذه الأسئلة عن تفصيل ما تمكن معرفته مما لا تمكن.

قوله: (من السائل) عدل عن قوله: "لست بأعلم بها منك" إلَى لفظ يشعر بالتعميم؛ تعريضًا للسامعين، أي: أن كل مسئول وكل سائل فهو كذلك.

قوله: (وسأخبرك) وفِي التفسير: "ولكن سأحدثك عن أشراطها، وفِي رواية أبي فروة: "ولكن لَها علامات تُعرف بِها"، وفِي رواية كَهْمَس قَالَ: "فأخبرني عن أماراتها"، فترددنا هل ابتدأه بذكر الأمارات؟ أو السائل سأل عن الأمارات؟

ويجمع بينهما بأنه ابتدأ بقوله: "وسأخبرك فقال له السائل: "فأخبرني"، ويدل عَلى ذَلِكَ رواية سليمان التيمي؛ فلفظها: "ولكن إن شئت نبأتك عن أشراطها. قَالَ: أجل". ونحوه في حديث ابن عباس وزاد: "فحدثني".

وقد حصل تفسير الأشراط من الرواية الأخرى، وأنها العلامات: وهي بفتح

ص: 18

الهمزة جمع شَرَط بفتحتين كقلم وأقلام، ويستفاد من اختلاف الروايات [99 / ب] أن التحديث والإخبار والإنباء بِمعنى واحد، وإنما غاير بينها أهل الحديث اصطلاحًا.

قَالَ القرطبي: علامات الساعة عَلى قسمين ما يكون من نوع المعتاد أو غيره، والمذكور هنا الأول، وأما الغير مثل طلوع الشمس من مغربها، فتلك مقارنة لها أو مطابقة، والمراد هنا: العلامات السابقة عَلى ذَلِكَ.

قوله: (إذا ولدت) التعبير "إذا" للإشعار بتحقق الوقوع.

فإن قيل: الأشراط جمع وأقله ثلاث والمذكور هنا اثنان.

أجاب الكرماني: بأنه قد تستقرض القلة للكثرة وبالعكس، أو لأن الفرق بالقلة والكثرة إنما هو في النكرات لا في المعارف، أو لفظ جمع الكثرة للفظ الشرط.

وفِي هذه الأجوبة نظر، والجواب المرضي: أن المذكور من الأشراط ثلاثة، وإنما بعض الرواة اقتصر عَلى اثنين منها؛ لأنه هنا ذكر الولادة والتطاول، وفِي التفسير ذكر الولادة وترؤس الحفاة، وفِي رواية ابن بشر الَّتِي أخرج مُسْلِم إسنادها وساق ابن خُزيْمة لفظها عن أبي حَيَّان ذكر الثلاثة (1)، وكذا في مستخرج الإسماعيلي من طريق ابن عُلية، وكذا ذكرها عُمَارة بن القعقاع، ووقع مثل ذَلِكَ في حديث عمر، ففي رواية كَهْمَس ذكر الولادة والتطاول فقط، ووافقه عُثْمَان بن غِياث، وفِي رواية سليمان التيمي ذكر الثلاثة ووافقه عطاء الخراساني.

قوله: (إذا ولدت الأمة ربها). وفي التفسير: "ربتها" بتاء التأنيث، وكذا في حديث عمر، ولمحمد بن بشر مثله، وزاد:"يعني: السَّرَارِي" وفِي رواية عُمَارة بن القعقاع: "إذا رأيت الأمة تلد ربها"، ونَحوه لأبي فروة، وفِي رواية عُثْمَان بن غِيَاث:"الإماء أَربابهن" بلفظ الجمع.

(1) أخرج مُسْلِم إسنادها في "صحيحه"(كتاب الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان. . .) برقم (9)، وأخرجها ابن خُزيمة في "صحيحه"(كتاب الزكاة، باب: البيان أن إيتاء الزكاة من الإسلام. .) برقم (2244).

ص: 19

وقد اختلف العلماء في معنى ذَلِكَ، قَالَ ابن التين: اخْتُلف فيه عَلى سبعة أوجه، فذكرها لكنها متداخلة، وقد لخصتها بلا تداخل، فإذا هِيَ أربعة:

الأول: قَالَ الخطابي: معناه اتساع الإسلام واستيلاء أهله عَلى بلاد الشرك وسبي ذراريهم، فإذا ملك الرجل الجارية واستولدها كَانَ الولد منها بمنزلة ربها؛ لأنه ولدُ سيدها. قَالَ النووي وغيره: إنه قول الأكثرين.

قُلْت: لكن في كونه المراد نظر، وسبي [100 / أ] ذراريهم واتخاذهم سراري كانَ الكثرة في صدر الإسلام، وسياق الكلام يقتضي الإشارة إلى وقوع ما لَم يقع قرب قيام الساعة.

وقد فسره وكيع في رواية ابن ماجه (1) بأحصر (2) من الأول: أن تلد العجم العرب.

ووجهه بعضهم: بأن الإماء يلدن الملوك فتصير الأم من جهة الرعية والملك سيد رعيته وهذا لإبراهيم الحربي، وقربه بأن الرؤساء في الصدر الأول كانوا يستنكفون غالبا عن وطء الإماء، ويتنافسون في الحرائر، ثم انعكس الأمر، ولاسيما في أثناء دولة بني العباس، ولكن رواية "ربتها" بتاء التأنيث قد لا تساعد عَلى ذَلِكَ.

ووجهه بعضهم: بأن إطلاق ربتها عَلى ولدها مَجاز؛ لأنه لما كَانَ سببًا في عتقها بموت أبيه أطلق عليه ذَلِكَ، وخصه بعضهم بأن السبي إذا كثر فقد يُسبى الولد أولًا وهو صغير، ثم يعتق ويكبر ويصير رئيسًا بل ملكًا، ثم تسبى أمه فيما بعد فيشتريها عارفًا بِها، أو وهُوَ لا يشعر أنها أمه، فيستخدمها أو يتخذها موطوءة، أو يعتقها ويتزوجها، وقد جاء في بعض الروايات:"أن تلد الأمة بَعْلها"، فحمل عَلى هذه الصورة، وقيل: المراد بالبعل: المالك، وهو أولى لتتفق الروايات.

الثاني: أن تبيع السادة أمهات أولادهم ويكثر ذَلِكَ، فيتداول الملاك المستولدة حَتى يشتريها ولدها، وَعَلى هذا فالذي يكون من الأشراط غلبة الجهل بتحريم بيع أمهات الأولاد والاستهانة بالأحكام الشرعية.

(1) أخرجه ابن ماجه في "سننه" في المقدمة (باب: في الإيمان)(1/ 24).

(2)

في "الفتح": (بأخص).

ص: 20

فإن قيل: هذه مسألة مُختلف فيها فلا يصلح الحمل عليها؛ لأنه لا جهل ولا استهانة عند القائل بالجواز.

قلنا: يصح أن يحمل عَلى صورة اتفاقية كبيعها في حال حملها فإنه حرام بالإجماع.

الثالث: وهو من نمط الَّذِي قبله، قَالَ النووي: لا يختص شراء الولد أمه بأمهات الأولاد، بل يتصور في غيرهن: بأن تلد الأمة حرًّا من غير سيدها بوطء شبهة، أو رقيقًا بنكاح أو زنا ثم تباع الأمة في الصورتين بيعًا صحيحًا، وتدور في الأيدي حَتى يشتريها ابنها أو ابنتها.

ولا يعكر عَلى هذا تفسير مُحَمَّد بن بشر بأن المراد السَّراري؛ لأنه [100 / ب] تخصيص بغير دليل.

الرابع: أن يكثر العقوق في الأولاد، فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة بالسب والضرب والاستخدام، فأطلق عليه ربها مَجازًا لذلك، أو المراد بالرب: المربي، فيكون حقيقة، وهذا أوجه الأوجه عندي لعمومه، ومحصله الإشارة إلَى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث يصير الْمُرَبي مُرَبيًّا والسافل عاليًا، وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى:"أن تصير الحُفَاة العُرَاة ملوك الأرض".

* تنبيهان:

أحدهما: قَالَ النووي: ليس فيه دليل عَلى تَحريم بيع أمهات الأولاد ولا عَلى جوازه، وقد غلط من استدل به لكل من الأمرين؛ لأن الشيء إذا جُعِل علامة عَلى شيء آخر لا يدل عَلى حظر ولا إباحة.

الثاني: يجمع بين ما في هذا الحديث من إطلاق الرب عَلى السيد المالك في قوله: "ربها"، وبين ما في الحديث الآخر وهو في الصحيح:"لا يقل أحدكم: أَطْعِم رَبَّكَ، ولا يقل أحدكم: ربي، ولكن ليقل: سيدي ومولاي"(1)، بأن اللفظ هنا خرج عَلى

(1) أخرجه البخاري في "صحيحه"(كتاب العتق، باب: كراهية التطاول عَلى الرقيق وقوله عبدي) =

ص: 21

سبيل المبالغة، أو المراد بالرب هنا: المربي، وفِي المنهي عنه السيد، أو أن النهي متأخر، أو مُختص بغير الرسول صلى الله عليه وسلم.

قوله: (تطاول) أي: تفاخروا في تطويل البنيان وتكاثروا به.

قوله: (رُعَاة الإبل) هو بضم الراء: جمع راعٍ، كقضاة وقاضٍ.

و(البُهْم) بضم الموحدة، ووقع في رواية الأصيلي بفتحها، ولا يتجه مع ذكر الإبل، وإنما يتجه مع ذكر الشياه، أو مع عدم الإضافة كما في رواية مُسْلِم.

وميم "البُهْم" في رواية البُخَاريّ يَجوز ضمها عَلى أنها صفة الرعاة، ويجوز الكسر عَلى أنها صفة الإبل، يعني: الإبل السود، وقيل: إنها شر الألوان عندهم، وخيرها الحمر التِي ضُرب بها المثل، فقيل: خير من حُمْر النَّعَم، ووصف الرعاة بالبُهْم إما لأنهم مجهولو الأنساب، ومنه أُبْهم الأمر فهو مُبْهم: إذا لَم تعرف حقيقته.

وَقَالَ القرطبي: الأولَى أن يحمل عَلى أنهم سود الألوان؛ لأن الأدمة غالب ألوانهم.

وقيل: معناه أنهم لا شيء لَهم، كقوله صلى الله عليه وسلم:"يحشر الناس حفاة عراة [101 / أ] بُهْمًا"(1). وَقَالَ: وفيه نظر؛ لأنه قد نسب لهم الإبل فكيف يقال: لا شيء لَهم؟

قلت: يحمل عَلى أنها إضافة اختصاص لا ملك، وهذا هو الغالب أن الراعي يرعى لغيره وبأجرة، وأما المالك فَقَلَّ أن يباشر بنفسه.

قوله في التفسير: (وإذا كَانَ الحفاة العراة)(2). زاد الإسماعيلي في روايته: "الصم البكم"، وقيل لهم ذَلكَ مبالغة في وصفهم بالجهل، أي: لَم يستعملوا أسماعهم ولا أبصارهم في شيء من أمر دينهم وإن كانت حواسهم سليمة.

= برقم (2552)، ومسلم في "صحيحه"(كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب: حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى) برقم (2249).

(1)

أخرجه البُخَاريّ في "التاريخ الكبير"(4/ 1/ 169، 170) وليس فيه كلمة "حفاة"، وأخرجه الطبراني في "مسند الشاميين" (1/ 104) بلفظ:"إن الله يبعثكم يوم القيامة من قبوركم حفاة عراة بهمًا".

(2)

"صحيح البُخَاريّ"(كتاب التفسير، سورة لقمان، باب: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} برقم (4777).

ص: 22

قوله: (رءوس الناس) أي: ملوك الأرض، وصرح به الإسماعيلي، وفِي رواية [أبي](1) فروة مثله، والمراد بهم: أهل البادية، كما صرح به في رواية سليمان التيمي وغيره، وَقَالَ: ما الحفاة العُرَاة؟ قَالَ: "العُرَيْب" -وهو بالعين المهملة عَلى التصغير.

قَالَ القرطبي: المقصود الإخبار عن تبدل الحال بأن يستولي أهل البادية عَلى الأمر، يتملكوا البلاد بالقهر فتكثر أموالهم وينصرف همهم إلَى تشييد البنيان والتفاخر وبه، وقد شاهدنا ذَلِكَ في هذه الأزمان ومنه [الحديث الآخر:"لا تقوم الساعة حَتَّى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع"(2)، ومنه:"إذا وُسِّد الأمرُ" أي: أسند] (3) إلَى غير أهله، فانتظروا الساعة" (4)، وكلاهما في الصحيح.

قوله: (في خَمس) أي: علم وقت الساعة داخل في جملة خمس، وحَذْف متعلق الجار سائغ، كما في قوله تعالَى:{فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12]، أي: اذهب إلَى فرعون بهذه الآية في جملة تسع آيات، وفِي رواية عطاء الخراساني قَالَ:"فمتى الساعة؟ قَالَ: هِيَ في خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله".

قَالَ القرطبي: لا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمس لهذا الحديث، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]، بهذه الخمس، وهو في الصحيح.

قالَ: فمن ادعى علم شيء منها غير مسندة إلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ كاذبًا في دعواه.

قَالَ: وأما ظن الغيب فقد يجوز من المُنَجم وغيره إذا كَانَ عن أمر عادي، وليس ذلك بعلم، وقد نقل ابن عبد البر الإجماع عَلى تَحريم أخذ الأجرة والجُعْل وإعطائها في ذَلِكَ.

(1) زيادة من "الفتح".

(2)

أخرجه الترمذي في "جامعه"(كتاب الفتن، باب: ما جاء في أشراط الساعة) برقم (2209)، والإمام أَحْمَد في "المسند"(5/ 389).

(3)

زيادة من "الفتح".

(4)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(كتاب العلم، باب: من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه. . .) برقم (59) وفيه: "فانتظر".

ص: 23

* تنبيه:

تضمن الجواب زيادة عَلى السؤال للاهتمام بذلك إرشادًا للأمة لما يترتب عَلى معرفة ذَلكَ من المصلحة.

فإن قيل: ليس في الآية أداة حصر كما في الحديث.

أجاب الطيبي: بأن الفعل إذا كَانَ عظيم الخطر، وما ينبني عليه الفعل رفيع الشأن، فُهِم منه الحصر عَلى [101 / ب] سبيل الكتابة، ولاسيما إذا لوحظ ما ذكر في أسباب النزول من أن العرب كانوا يدَّعون علم نزول الغيث، ويشعر بأن المراد من الآية نفي علمهم بذلك، واختصاصه بالله سبحانه وتعالى.

* فائدة:

النكتة في العدول عن الإثبات إلَى النفي في قوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]. وكذا التعبير بالدراية دون العلم؛ للمبالغة والتعميم؛ إذ الدراية اكتساب علم الشيء بحيلة، فإذا انتفى ذَلكَ عن كل نفس مع كونه من مختصاتها، ولم يقع منه عَلى علم؛ كَانَ علم اطلاعها عَلى علم غير ذَلكَ من باب أولَى. انتهى ملخصًا من كلام الطيبي.

قوله: (الآية) أيَ: تلا الآية إلَى آخر السورة، وصرح بذلك الإسماعيلي، وكذا في رواية عُمَارة ولمسلم:"إلى قوله: {خَبِيرٌ}، وكذا في رواية أبي فروة، وأما ما وقع عند المؤلف في التفسير من قوله: "إلَى {الأَرْحَامِ} فهو تقصير من بعض الرواة، والسياق يرشد إلَى أنه تلا الآية كلها.

قوله: (ثم أدبر فقال: ردوه) زاد في التفسير: "فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئًا".

قوله: (جاء يعلم) في التفسير: "ليعلم"، وللإسماعيلي:"أراد أن تعلموا إذ لَم تسألوا"، ومثله لعُمارة، وفِي رواية أبي فَرْوة:"والَّذِي بعث مُحَمَدًا بالحق ما كنت بأعلم به من رجل منكم وإنه لجبريل، وفي حديث أبي عامر: "ثم ولى، فلما لَم ير طريقه قالَ النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم، والَّذِي نفس مُحَمَّد بيده ما جاء قط إلا وأنا أعرفه إلا أن يكون هذه المرة".

ص: 24

وفِي رواية سليمان التيمي: "ثم نهض فولى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليَّ بالرجل، فطلبناه كل مطلب فلم نقدر عليه، فقال: هل تدرون من هذا؟ هذا جبريل أتاكم ليعلمكم دينكم، خذوا عنه، فوالذي نفسي بيده ما شُبِّه علي منذ أتاني قبل مرَّتِي هذه، وما عرفته حَتَّى ولى".

قَالَ ابن حبان: تفرد سليمان التيمي بقوله: "خذوا عنه".

قُلْت: وهو من الثقات الأثبات، وفِي قوله:"جاء ليعلم الناس" الإشارة إلَى هذه الزيادة، فما تفرد إلا بالتصريح، وإسناد التعليم إلَى جبريل مجازي؛ لأنه كَانَ السبب [102/ أ] في الجواب، فكذلك الأمر بالأخذ عنه (1).

واتفقت هذه الروايات عَلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر الصحابة بشأنه بعد أن التمسوه فلم يَجدوه، وأما ما وقع عند مُسْلِم وغيره من حديث عُمر في رواية كَهْمَس:"ثم انطلق، قَالَ عمر: فلبثت مَلِيًّا، ثم قَالَ: يا عمر، أتدري من السائل؟ قُلْتُ: الله ورسوله أعلم، قَالَ: فإنه جبريل".

وقد جمع بين الروايتين بعض الشراح بأن قوله: "فلبثت مليًّا"، أي: زمانًا بعد انصرافه. فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمهم بدلك بعد مُضي وقت لكنه في ذَلِكَ المجلس.

لكن يعكر عَلى هذا الجمع قوله في رواية النّسَائي والترمذي: "فلبثت ثلاثًا"(2)، لكن ادعى بعضهم فيها التصحيف، وأن مليًّا صَغُرَت ميمها فأشبهت ثلاثًا؛ لأن ثلاثًا تُكْتَب بلا ألف، وهذه الدعوى مردودة، فإن في رواية أبي عوانة:"فلبثنا لياليَ، فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث"، ولابن حبان:"بعد ثالثة"، ولابن منده:"بعد ثلاثة أيام".

(1) كذا في الأصل، وَفِي "الفتح":(فلذلك أمر بالأخذ عنه).

(2)

أخرجه النسائي في "الكبرى"(كتاب الإيمان وشرائعه، باب: نعت الإسلام)(6/ 528)، وفي "المجتبى" في نفس الكتاب والباب (8/ 97 - 101).

وأخرجه الترمذي في جامعه (كتاب الإيمان، باب: ما جاء في وصف جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم والإيمان والإسلام) برقم (2610)، ولكن وقع عنده:"فلقيني النبي "بعد ذلك بثلاث".

ص: 25

وجمع النووي بين الحديثين: بأن عُمَر لَم يحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس، بل كَانَ ممن قام، إما مع الذين توجهوا في طلب الرجل، أو لشغل آخر، ولم يرجع مع من رجع لعارض عرض له، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الحاضرين في الحال، ولَم يتفق الإخبار لعُمر إلا بعد ثلاثة أيام، ويدل عليه قوله:"فلقيني"، وقوله:"فقال لي: يا عمر"، فوجه الخطاب له وحده بخلاف إخبار الأول، وهو جمع حسن.

* تنبيهات:

الأول: دلت الروايات الَّتِي ذكرناها عَلى أن النبي صلى الله عليه وسلم ما عرف أنه جبريل إلا في آخر الحال، وأن جبريل أتاه في صورة رجل حسن الهيئة، لكنه غير معروف لديهم، وأما ما وقع في رواية النّسَائي من طريق أبي فَرْوة في آخر الحديث:"وإنه لجبريل نزل في صورة دِحْيَة الكَلْبِي"، فإن قوله:"نزل في صورة دِحْيَة الكلبي" وَهْمٌ؛ لأن دِحْيَة معروف عندهم، وقد قَالَ عمر:"ما يعرفه منا أحد"، وقد أخرج مُحَمَّد بن نصر المَرْوَزي في كتاب "الإيمان" له من الوجه الَّذِي أخرجه منه النسَائي فقال في آخره:"فإنه جبريل جاء ليعلمكم دينكم" حسب، وهذه الرواية هِيَ المحفوظة لموافقتها باقي الروايات.

الثاني: قَالَ ابن المنذر في قوله: "يعلمكم دينكم": دلالة عَلى أن السؤال [102/ ب] الحسن يسمى عِلْمًا وتَعْلِيمًا؛ لأن جبريل لَم يصدر منه سوى السؤال، ومع ذَلكَ فقد سماه مُعَلِّمًا، وقد اشتهر قولهم: حُسْن السؤال نصف العلم، ويُمكن أن يؤخذ من هذا الحديث؛ لأن الفائدة فيه انْبَنَت عَلى السؤال والجواب معًا.

الثالث: قَالَ القرطبي: هذا الحديث يصلح أن يقال له: أم السنة، لما تضمنه من حَمل علم السنة، وَقَالَ الطِّيبي: لهذه النكتة استفتح به البغوي كتابيه: "المصابيح" و"شرح السنة" اقتداء بالقرآن بافتتاحه بالفاتِحة؛ لأنها تضمنت علوم القرآن إجمالًا.

وَقَالَ القاضي عياض: اشتمل هذا الحديث عَلى جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة، من عقود الإيمان ابتداء وحالًا ومآلًا، ومن أعمال الجوارح، ومن إخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حَتَّى أن علوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه.

ص: 26

قُلْت: ولهذا أشبعت في القول الكلام عليه، مع أن الَّذِي ذكرته وإن كَانَ كثيرًا لكنه بالنسبة لما يتضمنه قليل، فلم أخالف طريقة الاختصار، والله الموفق.

قوله: (قَالَ أبو عبد الله) يعنِي: المؤلف.

(جعل ذَلِكَ كله من الإيمان) أي: الإيمان الكامل المشتمل عَلى هذه الأمور كلها.

ص: 27