المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌39 - باب: فضل من استبرأ لدينه - النكت على صحيح البخاري - جـ ٢

[ابن حجر العسقلاني]

فهرس الكتاب

- ‌37 - بَابُ: سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الإِيمَانِ وَالإِسْلَامِ وَالإِحْسَانِ وَعِلْمِ السَّاعَةِ

- ‌38 - بَابٌ

- ‌39 - بَابُ: فَضْلِ مَنِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ

- ‌40 - بَابٌ: أَدَاءُ الْخُمُسِ مِنَ الإِيمَانِ

- ‌41 - باب: مَا جَاءَ إِنَّ الأَعْمَالَ بالنِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى

- ‌42 - باب: قَوْلِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ لله وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ" وَقَوْلهِ تَعَالَى: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}

- ‌3 - كتاب العلم

- ‌1 - باب: فَضْلِ الْعِلْمِ

- ‌2 - باب: مَنْ سُئِلَ عِلْمًا وَهُوَ مُشْتَغِلٌ في حَدِيثِهِ فَأَتَمَّ الْحَدِيثَ ثُمَّ أَجَابَ السَّائِلَ

- ‌3 - باب: مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بالْعِلْمِ

- ‌4 - باب: قَوْلِ الْمُحَدِّثِ: حَدَّثَنَا، وأَخْبَرَنَا، وَأَنْبَأَنَا

- ‌5 - بابُ: طَرْحِ الإمَام الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ

- ‌6 - بابُ: مَاجَاءَ في الْعِلْمِ

- ‌7 - بَابُ: مَا يُذْكَرُ في الْمُنَاوَلَةِ وَكِتَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ بالْعِلْمِ إِلى الْبُلْدَانِ

- ‌8 - بَابُ: مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِي بهِ الْمَجْلِسُ وَمَنْ رَأَى فُرْجَةً في الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا

- ‌9 - باب: قَوْلِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ

- ‌10 - بَابُ: الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ

- ‌11 - باب: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُهُمْ بالْمَوْعِظَةِ وَالْعِلْمِ كَيْ لَا يَنْفِرُوا

- ‌12 - باب: مَنْ جَعَلَ لأَهْلِ الْعِلْمِ يَوْمًا مَعْلُومًا

- ‌13 - باب: مَنْ يُرِدِ اللهُ بهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ

- ‌14 - باب: الْفَهْمِ في الْعِلْمِ

- ‌15 - باب: الاغْتِبَاط في الْعِلْمِ وَالْحِكمَةِ وَقَالَ عُمَرُ: تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا

- ‌16 - باب: مَا ذُكِرَ في ذَهَابِ مُوسَى صلى الله عليه وسلم في الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ

- ‌17 - باب: قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ

- ‌18 - باب: مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ

- ‌19 - باب: الْخُرُوجِ في طَلَبِ الْعِلْمِ، وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ في حَدِيثٍ وَاحِدٍ

- ‌20 - باب: فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ

- ‌21 - باب: رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ، وَقَالَ رَبِيعَةُ: لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ

- ‌22 - باب: فَضْلِ الْعِلْمِ

- ‌23 - باب: الْفُتْيَا وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا

- ‌24 - باب: مَنْ أَجَابَ الْفُتْيَا بإِشَارَةِ الْيَدِ وَالرَّأْسِ

- ‌25 - باب: تَحْرِيضِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى أَنْ يَحْفَظُوا الإيمَانَ وَالْعِلْمَ وَيُخْبِرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ

- ‌26 - باب: الرِّحْلَةِ في الْمَسْأَلَةِ النَّازِلَةِ

- ‌27 - باب: التَّنَاوُبِ في الْعِلْمِ

- ‌28 - باب: الْغَضَبِ في الْمَوْعِظَةِ وَالتَّعْلِيمِ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ

- ‌29 - باب: مَنْ بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الإِمَامِ أَوِ الْمُحَدِّثِ

- ‌30 - باب: مَنْ أَعَادَ الْحَدِيْثَ ثَلَاثًا لِيُفْهَمَ

- ‌31 - باب: تَعلِيمِ الرَّجُلِ أَمَتَهُ وَأَهْلَهُ

- ‌32 - باب: عِظَةِ الإِمَامِ النِّسَاءَ وَتَعلِيمِهِنَّ

- ‌33 - باب: الْحِرْصِ عَلَى الْحَدِيثِ

- ‌34 - باب: كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ

- ‌35 - باب: هَلْ يَجْعَلُ لِلنِّسَاءِ يَوْمًا عَلَى حِدَةٍ في العِلْمِ

- ‌36 - باب: مَنْ سَمِعَ شَيْئًا، فَرَاجَعَهُ حَتَّى يَعْرِفَهُ

- ‌37 - باب: لِيُبَلِّغِ الْعِلْمَ الشَّاهِدُ الْغَائبَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌38 - باب: إِثمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌39 - باب: كِتَابَةِ الْعِلْمِ

- ‌40 - باب: الْعِلْمِ وَالْعِظَةِ باللَّيْلِ

- ‌41 - باب: السَّمَرِ بالْعِلْمِ

- ‌42 - باب: حِفْظِ الْعِلْمِ

الفصل: ‌39 - باب: فضل من استبرأ لدينه

‌39 - بَابُ: فَضْلِ مَنِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ

52 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ. أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنّ حِمَى الله في أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنّ في الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كلُّهُ. أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ".

قوله: (باب فضل من استبرأ لدينه) كأنه أراد أن يبين أن الورع من مكملات الإيمان، فلهذا أورد حديث الباب في أبواب الإيمان.

قوله: (حَدَّثَنَا زكرياء) هو ابن أبي زائدة، واسم أبي زائدة: خالد بن مَيْمُون الوَادِعي.

قوله: (عن عامر) هو الشعبي الفقيه المشهور، ورجال الإسناد كوفيون، وقد دخل النُّعْمَان الكوفة، وولي إمرتها، ولأبي عَوانة في "صحيحه" من طريق أبي حَرِيز -وهو بفتح الحاء المهملة وآخره زاي- عن الشّعبي: أن النُّعْمَان بن بَشِير خطب به بالكوفة.

وفِي رواية لمسلم: أنه خطب به بحمص (1)، ويجمع بينهما: بأنه سمعه منه مرتين، فإنه ولي إمرة البلدين واحدة بعد أخرى، وزاد مُسْلِم، والإسماعيلي من طريق زكرياء فيه:"وأهْوى النعمان بأصبعيه إلَى أذنيه، يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول"، وفي هذا رد لقول الواقدي ومن تبعه أن النُّعمان لا يصح سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفيه دليل عَلى صحة تحمل الصبي المميز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات وللنعمان ثمان سنين.

(1)"صحيح مُسْلِم"(كتاب المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات) برقم (1599).

ص: 29

وزكرياء موصوف بالتدليس، ولَم أره في الصحيحين وغيرهما من روايته عن الشّعبي إلا معنعنًا، ثم وجدته في فوائد ابن أبي الهيثم من طريق يزيد بن هارون، عن زكرياء قَالَ:"حَدَّثنَا الشّعبي"، فحصل الأمن من تدليسه.

* فائدة:

ادعى أبو عمرو الدَّاني أن هذا الحديث لَم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير النُّعْمَان بن بَشِير، فإن أراد من وجه صحيح فَمُسَلَّم، وإلا فقد رُويِّنَاه من حديث ابن عُمَر، وعَمَّار في "الأوسط" للطبراني (1)، ومن حديث ابن عباس في "الكبير" له (2)، ومن حديث وَاثِلَة في "الترغيب" للأصبهاني، وفي أسانيدها مقال.

وادعى أيضًا أنه لَم يروه عن النُّعمان غير الشَّعْبي، وليس كما قَالَ، فقد رَوَاهُ عن النُّعْمَان أيضًا خَيْثَمة بن عبد الرحمن عند أَحْمَد وغيره (3)، وعبد الملك بن عُمَير [103/ ب] عند أبي عوانة وغيره، وسِمَاك بن حرب عند الطبراني (4)، لكنه مشهور عن الشَّعْبي، رَوَاهُ عنه جَمع جم من الكوفيين.

وَرَوَاهُ عنه من البصريين عبد الله بن عون، وقد ساق البُخَاريّ إسناده في البيوع (5)، ولَم يسق لفظه، وساقه أبو داود (6)، وسنشير إلَى ما فيه من فائدة إن شاء الله تعالَى.

قوله: (الْحلال بَيِّن والْحَرام بَيِّن) أي: في عينهما ووصفهما بأدلتهما الظاهرة.

قوله: (وبينهما مشبَّهات) بوزن مفعَّلات بتشديد العين المفتوحة، وهي رواية مُسْلِم (7)، أي: شُبِّهت بغيرها مما لَم يتبين به حكمها عَلى التعيين، وفي رواية الأصِيلي:"مُشْتَبِهَات" بوزن مفتَعِلات -بتاء مفتوحة وعين خفيفة مكسورة-، وهي رواية ابن

(1)"المعجم الأوسط" حديث ابن عمر (2868)، وحديث عمار بن ياسر (1735).

(2)

"المعجم الكبير"(10/ 333).

(3)

أخرجه الإمام أَحْمَد في "مسنده"(4/ 267)، وأبو نُعيم في "حلية الأولياء"(4/ 125).

(4)

"المعجم الأوسط"(7729).

(5)

"صحيح البخَاري"(كتاب البيوع، باب: الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات) برقم (2051).

(6)

"سنن أبي داود"(كتاب البيوع، باب: في اجتناب الشبهات) برقم (3329).

(7)

في رواية مُسْلِم: "مشتبهات"، أما لفظة:"مشبهات" فهي في رواية أبي داود السابقة.

ص: 30

ماجه (1)، وهو لفظ ابن عون (2)، والمعنى: أنها اكتسبت الشبه من وجهين متعارضين، وَرَوَاهُ الدارمي عن أبي نُعيم شيخ البُخَاريّ فيه بلفظ:"وبينهما متشابهات"(3).

قوله: (لا يعلمها كثير من الناس) أي: لا يعلم حكمها، وجاء واضحًا في رواية التّرمِذيّ فلفظه:"لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هِيَ أم من الحرام"(4).

ومفهوم قوله: (كثير) أنَّ معرفة حكمها ممكن، لكن لقليل من الناس، وهم المجتهدون، فالشبهات عَلى هذا في حق غيرهم، وقد يقع لهم حيث لا يظهر لهم ترجيح لأحد الدليلين.

قوله: (فمن اتقى المشبهات) أي: حذر منها، والاختلاف في لفظها بين الرواة نظير الَّذِي قبلها، لكن عند مُسْلِم والإسماعيلي:"الشُّبُهَات" بالضم: جَمع شُبْهَة.

قوله: (استبرأ) بالهمز بوزن استفعل من البراءة، أي: برأ دينه من النقص، وعِرْضه من الطعن؛ لأن من لَم يعرف باجتناب الشبهات لَم يَسْلَم لقول من يطعن فيه.

وفيه دليل عَلى أن من لَم يَتَوق الشبهة في كسبه ومعاشه فقد عَرَّض نفسه للطعن فيه، وفِي هذا إشارة إلَى المحافظة عَلى أمور الدين والمروءة.

قوله: (ومن وقع في الشبهات) فيها أيضا ما تقدم من اختلاف الرواة، وحاصل ما فسر به العلماء الشبهات أربعة أشياء:

أحدها: تعارض الأدلة كما تقدم.

ثانيها: اختلاف العلماء، وهي [104/ أ] منتزعة من الأولى.

ثالثها: أن المراد بِها قسم المكروه؛ لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك.

رابعها: أن المراد بِها المباح، ولا يُمكن قائل هذا أن يحمله عَلى متساوي

(1)"سنن ابن ماجه"(كتاب الفتن، باب: الوقوف عند الشبهات)(3984) من رواية زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي.

(2)

"سنن أبي داود"(كتاب البيوع، باب: في اجتناب الشبهات) برقم (3329).

(3)

"سنن الدارمي"(كتاب البيوع، باب: في الحلال بين والحرام بَيِّن) برقم (2531).

(4)

"جامع الترمِذيّ"(كتاب البيوع، باب: ما جاء في ترك الشبهات) برقم (1205).

ص: 31

الطرفين من كل وجه، بل يُمكن حمله عَلى ما يكون من قسم خلاف الأَوْلَى، بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته، راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج.

ونقل ابن المنير في مناقب شيخه القباري عنه أنه كَانَ يقول: المكروه عَقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلَى الحرام، والمباح عَقَبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلَى المكروه.

وهو مَنْزع حسن، ويؤيده رواية ابن حِبَّان من طريقٍ ذكر مُسْلِم إسنادها ولَم يسق لفظها، فيها من الزيادة:"اجعلوا بينكم وبين الحرام سُتْرة من الحلال، من فعل ذلِكَ استبرأ لِعرْضه ودينه، ومن أرتع فيه كَانَ كالمرتع إلَى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه"(1).

والمعنى: أن الحلال حيث يخشى أن يئول فعله مطلقًا إلَى مكروه أو محرم ينبغي اجتنابه، كالإكثار مثلًا من الطيبات فإنه يحوج إلَى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لا يستحق، أو يفضي إلَى بَطَر النفس، وأقل ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية.

والَّذِي يظهر لي رجحان الوجه الأول عَلى ما سأذكره، ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادًا، ويختلف ذَلِكَ باختلاف الناس، فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم، ولا يقع له ذلكَ إلا في الاستكثار من المباح أو المكروه كما تقرر قبل، ودونه تقع له الشُّبْهة في جَميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال.

ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جُرْأة عَلى ارتكاب المنهي في الجملة، أو يحمله اعتياده ارتكاب المنهي غير المحرم عَلى ارتكاب المنهي المحرم إذا كَانَ من جنسه، أو يكون ذلِكَ لسر فيه، وهو أن من تعاطى ما نُهي عنه يصير مظلم القلب لفقدان الورع، فيقع في الحرام ولو لَم يَختر الوقوع فيه.

ووقع عند المصنف في البيوع من رواية أبي فروة، عن الشعبي في هذا الحديث:"فمن [104/ ب] ترك ما شُبِّه عليه من الإثم كَانَ لما استبان له أترك، ومن اجترأ عَلى ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان". وهذا يرجح الوجه الأول كما أشرت إليه.

(1)"صحيح ابن حبان"(كتاب الحظر والإباحة، ذكر الأمر بمجانبة الشبهات سترة بين المرء وبين الوقوع في الحرام المحض) برقم (5543).

ص: 32

* تنبيه:

استدل به ابن المنير عَلى جواز بقاء المجمل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وفِي الاستدلال بذلك نظر؛ إلا إن أراد أنه مجمل في حق بعض دون بعض، وأراد الرد عَلى منكر القياس، فيحتمل ما قَالَ، والله أعلم.

قوله: (كراعٍ يرعى) هكذا في جَميع نسخ البُخَاريّ بحذف جواب الشرط، إن أعربت "من" شرطية، وقد ثبت المحذوف في رواية الدَّارمي عن أبي نُعيم شيخ البُخَاريّ فيه فقال:"ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراعٍ يرعى"(1).

ويُمكن إعراب: "من" في سياق البُخَاريّ موصولة، فلا يكون فيه حذف، إذ التقدير: والَّذِي وقع في الشبهات مثل راعٍ يرعى، والأول أولى لثبوت المحذوف في صحيح مُسْلِم وغيره من طريق زكرياء الَّتِي أخرجه منها المؤلف، وَعَلى هذا فقول:"كراعٍ يرعى" جملة مستأنفة وردتْ عَلى سبيل التمثيل، للتنبيه بالشاهد عَلى الغائب.

"والْحِمى": المحمي، أطلق المصدر عَلى اسم المفعول، وفِي اختصاص التمثيل بذلك نكتة، وهي: أن ملوك العرب كانوا يحمون لمراعي مواشيهم أماكن مختصة، يتوعدون من رعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة، فمثل لهم النبي صلى الله عليه وسلم بما هو مشهور عندهم، فالخائف من العقوبة، المراقب لرضا الملك، يبعد عن ذَلِكَ الحمى خشية أن تقع مواشيه في شيء منه، فبُعده أَسْلم له ولو اشتد حذره.

وغير الخائف المراقب يقرب منه ويرعى من جوانبه، فلا يأمن أن تنفرد الفاذَّة فتقع فيه بغير اختياره، أو يَمْحل المكان الَّذِي هو فيه ويقع الخِصْب في الحِمَى، فلا يَملك نفسه أن يقع فيه، فالله سبحانه وتعالى هو الملك حقًّا، وحماه محارمه.

* تنبيه:

ادعى بعضهم أن التمثيل من كلام الشَّعبي، وأنه مدرج في الحديث، حكى ذَلِكَ أبو عمرو الدَّاني، ولَم أقف عَلى دليله، إلا ما وقع عند ابن الجارود والإسماعيلي من

(1)"سنن الدارمي"(كتاب البيوع، باب: في الحلال بيِّن والحرام بيِّن) برقم (2531).

ص: 33

رواية ابن عون، عن الشعبي [105/أ] قَالَ ابن عون في آخر الحديث:"لا أدري المثل من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو من قول الشعبي"(1).

قُلْت: وتردُّد ابن عون في رفعه لا يستلزم كونه مُدرجًا؛ لأن الأَثْبات قد جزموا باتصاله ورفعه، فلا يقدح شك بعضهم فيه، وكذلك سقوط المثل من رواية بعض الرواة كأبي فروة عن الشعبي لا يقدح فيمن أثبته؛ لأنهم حفاظ.

ولعل هذا هو السر في حذف البُخَاريّ قوله: "وقع في الحرام" ليصير ما قبل المثل مرتبطًا به، فيسلم من دعوى الإدراج، ومما يقوي عدم الإدراج رواية ابن حِبان الماضية، وكذا ثبوت المثل مرفوعًا في رواية ابن عباس وعمار بن ياسر أيضًا.

قوله: (ألا وإن حِمى الله تعالى في أرضه مَحارمه) سقط "في أرضه" من رواية المُسْتَمْلي، وثبتت الواو في قوله:"ألا وإن حِمَى الله" في رواية غير أبي ذر، والمراد بالحرام: فعل المنهي المحرم، أو ترك المأمور الواجب، ولهذا وقع في رواية أبي فروة التعبير بـ"المعاصي" بدل "المحارم". وقوله:"ألا" للتنبيه عَلى صحة ما بعدها، وفِي إعادتها وتكريرها دليل عَلى عظم شأن مدلولها.

قوله: (مضغة) أي: قدر ما يُمضغ، وعبر بِها هنا عن مقدار القلب في الرؤية، وسُمي القلب قلبا لتقلبه في الأمور، أو لأنه خالص ما في البدن، وخالص كل شيء: قلبه، أو لأنه وضع في الجسد مقلوبًا.

وقوله: (إذا صلحت وإذا فسدت) هو بفتح عينيهما وتضم في المضارع، وحكى الفراء: الضم في ماضي صَلُح، وهو يُضم وفاقًا إذا صار له الصلاح هيئة لازمة لشرف ونحوه، والتعبير بـ"إذا" لتحقق الوقوع غالبًا، وقد تأتي بمعنى:"إن" كما هنا، وخص القلب بذلك؛ لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية.

(1)"المنتقى من السنن المسندة" لابن الجارود (باب: في التجارات) برقم (555) وعنده "قَالَ ابن عون: لا أدري هذا ما سمع من النعمان، أو قَالَ برأيه".

ص: 34

وفيه تنبيه عَلى تعظيم قدر القلب، والحث عَلى صلاحه، والإشارة إلَى أن لطيب الكسب أثرًا فيه، والمراد المتعلق به من فهم الَّذِي ركبه الله فيه.

ويستدل به عَلى أن العقل في القلب، ومنه قوله تعالَى:{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} الآية [الحج: 46]. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]. [105/ ب].

قَالَ المفسرون: أي عقل، وعبر عنه بالقلب؛ لأنه محل استقراره.

* فائدة:

لم تقع هذه الزيادة الَّتِي أولها "ألا وإن في الجسد مضغة" إلا في رواية الشعبي، ولا في أكثر الروايات عن الشعبي، وإنما تفرد بِها في الصحيحين زكرياء المذكور عنه، وتابعه مجالد (1) عند أحْمَد (2)، ومغيرة وغيره عند الطبراني (3)، وعبر في بعض رواياته عن الصلاح والفساد بالصحة والسقم، ومناسبتها لما قبلها بالنظر إلى أن الأصل في الإتقاء والوقوع هو ما كَانَ بالقلب؛ لأنه عماد البدن، وقد عظم العلماء أمر هذا الحديث فعدوه رابع أربعة تدور عليها الأحكام، كما نقل عن أبي داود، وفيه البيتان المشهوران وهما:

عُمْدَة الدِّين عندنا كلماتٌ

مُسْنَدات من قول خير البرية

اتْرُك المُشَبَّهات وازْهَد ودعَ ما

ليس يعنيك واعْمَلن بِنِيَّة

(1) تصحفت في "الفتح" إلَى "مجاهد".

(2)

حديث مجالد عن الشعبي في "مسند أحْمَد"(4/ 271) ليس فيه هذه الزيادة.

(3)

هذه اللفظة عند الطبراني في "المعجم الصغير"(1/ 235) من رواية مجالد عن الشعبي، عن النعمان مرفوعًا في حديث أوله:"مثل المؤمنين في توادهم. . . ."، فالله أعلم.

وأما رواية مغيرة فأخرجها ابن حبان في "صحيحه"(كتاب البر والإحسان، باب: الصدق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) برقم (297) بدون ذكر أول الحديث.

وقد ثبتت هذه الزيادة من رواية عبد الله بن عون، عن الشعبي، عند أبي نُعيم في "حلية الأولياء"(4/ 336)، ومن رواية مجالد، عن الشعبي، عند أبي نُعيم أيضًا في "حلية الأولياء"(8/ 136).

ص: 35

والمعروف عن أبي داود عَدُّ: "ما نَهَيْتُكم عنه فاجتنبوه" الحديث (1)، بدل:"ازهد فيما في أيدي الناس"(2).

وجعله بعضهم ثالث ثلاثة حذف الثاني، وأشار ابن العربي إلَى أنه يُمكن أن تُنتزع منه وحده جَميع الأحكام، قَالَ القرطبي: لأنه اشتمل عَلى التفصيل بين الحلال وغيره، وَعَلى تعلق جميع الأعمال بالقلب، فمن هنا يُمكن أن ترد جَميع الاحكام إليه، والله المستعان.

(1) الحديث بهذا اللفظ أخرجه مُسْلِم في "صحيحه"(كتاب الفضائل، باب: توقيره صلى الله عليه وسلم. . .) برقم (1337)، وهو عند البُخَاريّ في "صحيحه"(كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم) برقم (7288) بلفظ: ". . . فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه. .".

(2)

رَوَاهُ ابن ماجه في "سننه"(كتاب الزهد، باب: الزهد في الدُّنْيَا)(2/ 1373)، والطبراني في "المعجم الكبير"(6/ 193)، والحاكم في "المستدرك"(كتاب الرقاق، ازهد في الدُّنْيَا يُحبك الله)(4/ 313).

ص: 36