المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌40 - باب: أداء الخمس من الإيمان - النكت على صحيح البخاري - جـ ٢

[ابن حجر العسقلاني]

فهرس الكتاب

- ‌37 - بَابُ: سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الإِيمَانِ وَالإِسْلَامِ وَالإِحْسَانِ وَعِلْمِ السَّاعَةِ

- ‌38 - بَابٌ

- ‌39 - بَابُ: فَضْلِ مَنِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ

- ‌40 - بَابٌ: أَدَاءُ الْخُمُسِ مِنَ الإِيمَانِ

- ‌41 - باب: مَا جَاءَ إِنَّ الأَعْمَالَ بالنِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى

- ‌42 - باب: قَوْلِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ لله وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ" وَقَوْلهِ تَعَالَى: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}

- ‌3 - كتاب العلم

- ‌1 - باب: فَضْلِ الْعِلْمِ

- ‌2 - باب: مَنْ سُئِلَ عِلْمًا وَهُوَ مُشْتَغِلٌ في حَدِيثِهِ فَأَتَمَّ الْحَدِيثَ ثُمَّ أَجَابَ السَّائِلَ

- ‌3 - باب: مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بالْعِلْمِ

- ‌4 - باب: قَوْلِ الْمُحَدِّثِ: حَدَّثَنَا، وأَخْبَرَنَا، وَأَنْبَأَنَا

- ‌5 - بابُ: طَرْحِ الإمَام الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ

- ‌6 - بابُ: مَاجَاءَ في الْعِلْمِ

- ‌7 - بَابُ: مَا يُذْكَرُ في الْمُنَاوَلَةِ وَكِتَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ بالْعِلْمِ إِلى الْبُلْدَانِ

- ‌8 - بَابُ: مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِي بهِ الْمَجْلِسُ وَمَنْ رَأَى فُرْجَةً في الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا

- ‌9 - باب: قَوْلِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ

- ‌10 - بَابُ: الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ

- ‌11 - باب: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُهُمْ بالْمَوْعِظَةِ وَالْعِلْمِ كَيْ لَا يَنْفِرُوا

- ‌12 - باب: مَنْ جَعَلَ لأَهْلِ الْعِلْمِ يَوْمًا مَعْلُومًا

- ‌13 - باب: مَنْ يُرِدِ اللهُ بهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ

- ‌14 - باب: الْفَهْمِ في الْعِلْمِ

- ‌15 - باب: الاغْتِبَاط في الْعِلْمِ وَالْحِكمَةِ وَقَالَ عُمَرُ: تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا

- ‌16 - باب: مَا ذُكِرَ في ذَهَابِ مُوسَى صلى الله عليه وسلم في الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ

- ‌17 - باب: قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ

- ‌18 - باب: مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ

- ‌19 - باب: الْخُرُوجِ في طَلَبِ الْعِلْمِ، وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ في حَدِيثٍ وَاحِدٍ

- ‌20 - باب: فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ

- ‌21 - باب: رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ، وَقَالَ رَبِيعَةُ: لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ

- ‌22 - باب: فَضْلِ الْعِلْمِ

- ‌23 - باب: الْفُتْيَا وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا

- ‌24 - باب: مَنْ أَجَابَ الْفُتْيَا بإِشَارَةِ الْيَدِ وَالرَّأْسِ

- ‌25 - باب: تَحْرِيضِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى أَنْ يَحْفَظُوا الإيمَانَ وَالْعِلْمَ وَيُخْبِرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ

- ‌26 - باب: الرِّحْلَةِ في الْمَسْأَلَةِ النَّازِلَةِ

- ‌27 - باب: التَّنَاوُبِ في الْعِلْمِ

- ‌28 - باب: الْغَضَبِ في الْمَوْعِظَةِ وَالتَّعْلِيمِ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ

- ‌29 - باب: مَنْ بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الإِمَامِ أَوِ الْمُحَدِّثِ

- ‌30 - باب: مَنْ أَعَادَ الْحَدِيْثَ ثَلَاثًا لِيُفْهَمَ

- ‌31 - باب: تَعلِيمِ الرَّجُلِ أَمَتَهُ وَأَهْلَهُ

- ‌32 - باب: عِظَةِ الإِمَامِ النِّسَاءَ وَتَعلِيمِهِنَّ

- ‌33 - باب: الْحِرْصِ عَلَى الْحَدِيثِ

- ‌34 - باب: كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ

- ‌35 - باب: هَلْ يَجْعَلُ لِلنِّسَاءِ يَوْمًا عَلَى حِدَةٍ في العِلْمِ

- ‌36 - باب: مَنْ سَمِعَ شَيْئًا، فَرَاجَعَهُ حَتَّى يَعْرِفَهُ

- ‌37 - باب: لِيُبَلِّغِ الْعِلْمَ الشَّاهِدُ الْغَائبَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌38 - باب: إِثمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌39 - باب: كِتَابَةِ الْعِلْمِ

- ‌40 - باب: الْعِلْمِ وَالْعِظَةِ باللَّيْلِ

- ‌41 - باب: السَّمَرِ بالْعِلْمِ

- ‌42 - باب: حِفْظِ الْعِلْمِ

الفصل: ‌40 - باب: أداء الخمس من الإيمان

‌40 - بَابٌ: أَدَاءُ الْخُمُسِ مِنَ الإِيمَانِ

53 -

حَدَّثَنَا عِلي بْنُ الْجَعْدِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، قَالَ: كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ، يُجْلِسُني عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالي، فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: إِن وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ الْقَوْمُ أَوْ مَنِ الْوَفْدُ". قَالُوا: رَبِيعَةُ. قَالَ: "مَرْحَبًا بالْقَوْمِ -أَوْ بِالْوَفْدِ- غيرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلَّا في الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ، نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلْ بِهِ الْجَنَّةَ. وَسَأَلُوهُ عَنِ الأَشْرِبَةِ. فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ بِالله وَحْدَهُ. قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِالله وَحْدَهُ". قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَن مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ". وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنِ الْحَنتمِ وَالدُّبَّاءِ وَالنَّقِيِر وَالْمُزَفَّتِ. وَرُبَّمَا قَالَ: الْمُقَيَّرِ. وَقَالَ: "احْفَظُوهُنَّ وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ".

قوله: (باب: أداء الْخُمُس مِنَ الإيمان) هو بضم الخاء المعجمة، وهو المراد بقوله تعالَى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: 41].

وقيل: إنه روي هنا بفتح الخاء، والمراد: قواعد الإسلام المذكورة في حديث: "بُني الإسلام عَلى خَمس"، وفيه بُعْد؛ لأن الحج لَم يُذكر هنا؛ ولأن غيره من القواعد قد تقدم، ولَم يرد هنا إلا ذكر خُمس الغنيمة، فتعين أن يكون المراد إفراده بالذكر، وسنذكر وجه كونه من الإيمان قريبًا.

قوله: (عن أبي جَمرة) هو بالجيم والراء كما تقدم، اسمه: نَضر بن عِمْرَان بن نُوح ابن مَخْلَد الضُّبَعي بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة، من بني ضُبَيْعَة بضم أوله مصغرًا، وهم بطن من بني عبد القَيْس كما جزم به الرَّشَاطي، وفِي بكر بن وائل بطنٌ يقالُ لهم: بنو ضُبَيْعَة [106/أ] أيضًا.

ص: 37

وقد وهم من نسب أبا جَمْرة إليهم من شراح البُخَاريّ، فقد روى الطبراني وابن مَنْده في ترجمة نوح بن مَخْلد جد أبي جَمرة أنه قدم عَلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:"ممن أنت؟ فقال: من ضُبَيْعَة ربيعة، فقال: خير ربيعة عبد القَيْس، ثم الحي الذين أنت منهم"(1).

قوله: (كنت أقعد مع ابن عباس) بَيَّن المصنف في العلم من رواية غُنْدَر عن شُعْبَة السبب في إكرام ابن عباس له، ولفظه:"كنتُ أُتَرْجِم بين ابن عباس وبين الناس".

قَالَ ابن الصلاح: أصل الترجمة: التعبير عن لغة بلغة، وهو عندي هنا أعم من ذَلِكَ، وأنه كانَ يبلغ كلام ابن عباس إلَى من خفي عليه، ويبلغه كلامهم إما لزحام أو لقصور فهم.

قُلْت: الثاني أظهر؛ لأنه كَانَ جالسًا معه عَلى سريره، فلا فرق في الزحام بينهما، لكن أبو جَمرة قالوا كانَ يعرف الفارسية، فكان يترجم لابن عباس بها.

قَالَ القرطبي: فيه دليلٌ عَلى أن ابن عباس كَانَ يكتفي في الترجمة بواحد.

قُلْت: وقد بوب عليه البُخَاريّ في أواخر كتاب الأحكام، واستنبط منه ابن التين جواز أخذ الأجرة عَلى التعليم لقوله:"حَتَّى أجعل لك سهمًا من مالي".

قوله: (ثم قَالَ: إن وفد عبد القيس) بَين مُسْلِم (2) من طريق غُنْدَر، عن شُعْبَة السبب في تَحديث ابن عباس لأبي جَمْرة بهذا الحديث، فقال بعد قوله:"وبيْنَ الناس": "فأتت امرأة تسأله عن نبيذ الجر، فنهى عنه، فقلتُ: يا أبا عباس، إني أنتبذ في جرة خضراء نبيذًا حلوًا فأشربُ منه فيقرقر بطني، قَالَ: لا تشرب منه وإن كَانَ أحلى من العسل".

وللمصنف في أواخر المغازي من طريق قُرَّة، عن أبي جَمْرة قَالَ:"قُلْت لابن عباس: إن لي جَرَّة أنتبذُ فيها فأشربه حلوًا، إن أكثرت منه فجالست القوم فأطلت الجلوس خشيتُ أن أفتضح، فقال: قدم وفد عبد القيس. . . ."(3).

(1) أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"(7122).

(2)

كذا قَالَ الحافظ، والصحيح: أن الَّذِي أخرجه النّسَائي في "السنن"(كتاب الأشربة، باب: ذكر الأخبار الَّتِي اعتل بِها من أباح شراب المسكر)(8/ 322).

(3)

"صحيح البُخَاريّ"(كتاب المغازي، باب: وفد عبد القيس) برقم (4368).

ص: 38

فلما [كَانَ](1) أبو جَمْرة من عبد القَيْس، وكان حديثهم يشتمل عَلى النهي عن الانتباذ في الجِرار ناسب أن يذكره له، وفِي هذا دليل عَلى أن ابن عباس لَم يبلغه نسخ تَحريم الانتباذ [106/ ب] في الجِرار، وهو ثابت من حديث بُرَيْدة بن الحُصَيْب عند مُسْلِم وغيره (2).

قوله: (لَما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: من القوم؟ أو من الوفد؟ ) الشك من أحد الرواة، وأظنه شُعْبَة، فإنه في رواية قُرَّة وغيره بغير شك، قَالَ النووي: الوفد: الجماعة المختارة للتقدم في لُقى العظماء، واحدهم: وافد.

قَالَ: ووفد عبد القَيْس المذكورون كانوا أربعة عشر راكبًا، كبيرهم الأشَج، ذكره صاحب التحرير في شرح مُسْلِم، وسمي منهم: المُنْذر بن عائذ، وهو الأشَج المذكور، ومُنْقِذ بن حَيَّان، ومَزِيدة بن مالك، وعمرو بن مَرْحُوم، والحارث بن شُعَيْب، وعُبَيْدَة بن هَمَّام، والحارث بن جُنْدَب، وصُحَار بن العباس، وهو بصاد مضمومة وحاء مهملتين، قَالَ: ولَم نعثر بعد طول التتبع عَلى أسماء الباقين.

قُلْت: قد ذكر ابن سعد منهم عُقْبَة بن جَرْوَة (3)، وفِي سنن أبي داود قَيْس بن النُّعْمَان العَبْدي (4)، وذكره الخطيب أيضًا في المُبْهَمات، وفِي مسند البزار وتاريخ ابن أبي خَيْثَمة الْجَهْم بن قُثَم (5)، ووقع ذكره في صحيح مُسْلِم أيضًا (6) لكن لَم يسمه، [و](7)

(1) مكانها بياض بالأصل، والمثبت من "الفتح".

(2)

أخرجه مُسْلِم في "صحيحه"(كتاب الجنائز، باب: استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه في زيارة قبر أمه) برقم (977)، وكذلك في (1977، 1999)، وأخرجه أبو داود في "سننه"(كتاب الأشربة، باب: في الأوعية) برقم (3698)، والترمذي في "سننه"(كتاب الأشربة، باب: الرخصة أن ينبذ في الظروف) برقم (1869).

(3)

"الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 566).

(4)

"سنن أبي داود"(كتاب الأشربة، باب: في الأوعية) برقم (3695).

(5)

أخرجه الهيثمي في "مجمع الزوائد"(كتاب المناقب، باب: ما جاء في الأشج ورفقته رضي الله عنهم)(9/ 388، 389، 390).

(6)

"صحيح مُسْلِم"(كتاب الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله تعالَى ورسوله صلى الله عليه وسلم) برقم (18).

(7)

زيادة من "الفتح".

ص: 39

في مسندي أَحْمَد وابن أبي شَيبة (1) الرَّسِيم العبدي، وفِي المعرفة لأبي نُعيم جويرية العبدي، وفِي الأدب للبخاري الزَّرَّاع بن عامر العبدي (2)، فهؤلاء الستة الباقون من العدد.

وما ذكر من أن الوفد كانوا أربعة عشر راكبًا لَم يذكر دليله، وفِي المعرفة لابن مَنْدَه من طريق هُود العَصَري -وهو بعين وصاد مهملتين مفتوحتين نسبة إلَى عَصَر بطن من عبد القَيْس- عن جَدِّه لأمه مَزيدة قَالَ:"بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه إذ قَالَ لهم: سيطلع لكم من هذا الوجه ركب هم خير أهل المشرق، فقام عمر فلقي ثلاثة عشر راكبًا، فرَحَّب وقَرَّب، وَقَالَ: من القوم؟ قالوا: وفد عبد القَيْس". فيمكن أن يكون أحد المذكورين كَانَ غير راكب أو مرتدفًا.

وأما ما رَوَاهُ الدُّولَابي وغيره من طريق أبي خَيْره -بفتح الخاء المعجمة وسكون المثناة التحتانية وبعد الراء هاء- الصُّباحي -وهو بضم الصاد المهملة بعدها موحدة خفيفة وبعد [107/أ] الألف حاء مهملة نسبة إلَى صُيَاح بطن من عبد القيس- قَالَ: "كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وفد عبد القيس، وكنا أربعين رجلًا، فنهانا عن الدُّبَّاء والنَّقير" الحديث، فيمكن أن يجمع بينه وبين الرواية الأخرى بأن الثلاثة عشر كانوا رءوس الوفد، ولهذا كانوا رُكْبَانًا، وكان الباقون أتباعًا.

وقد وقع في جملة من الأخبار ذكر جماعة من عبد القيس زيادة عَلى من سميت هنا، منهم: أخو الزَّراع واسمه مَطَر، وابن أخته ولَم يسم، روى ذَلِكَ البغوي في معجمه، ومنهم مُشَمْرج السَّعْدي روى حديثه ابن السكن أنه قدم مع وفد عبد القيس.

ومنهم جابر بن الحارث، وخُزَيْمة بن عمرو، وهَمَّام بن ربيعة، وجارية -أوله جيم- بن جابر، ذكرهم ابن شاهين في معجمه.

(1)"مسند أحْمَد"(3/ 481)، ولَم أقف عليه في "مسند ابن أبي شيبة"، وهو في "المصنف" له في (كتاب الأشربة، باب: في الشرب في الظرف)(5/ 86)(23946).

(2)

الَّذِي في "الأدب المفرد" مزيدة العبدي (كتاب المريض، باب: التؤدة في الأمور)(587)(ص 206).

وفِي "طبقات ابن سعد"(5/ 563): "الزراع بن وازع العبدي وكان في وفد عبد القيس. .".

ص: 40

ومنهم نوح بن مَخْلَد جد أبي جَمْرة كما تقدم، وإنما أطلت في هذا الفصل لقول صاحب التحرير: إنه لَم يظفر بعد طول التتبع إلا بما ذكر.

قوله: (قالوا: ربيعة) فيه التعبير عن البعض بالكل؛ لأنهم بعض ربيعة، وهذا من بعض الرواة، فإن عند المصنف في الصلاة من طريق عَبَّاد بن عَبَّاد، عن أبي جَمْرة فقالوا:"إنا هذا الحي من ربيعة"(1).

قَالَ ابن الصلاح: الحي منصوب عَلى الاختصاص، والمعنى: إنما هذا الحي حي من ربيعة، قَالَ: و [الحي هو اسم لمنزل القبيلة، ثم سميت القبيلة به؛ لأن بعضهم يحيا ببعض.

قوله: (مرحبًا) هو منصوب] (2) بفعل مضمر، أي: صادفت رُحبًا بضم الراء، أي: سَعَة، والرَّحْب -بالفتح-: الشيء الواسع، وقد [يزيدون](3) معها [أهلًا، أي: وجدت أهلًا، فاستأنس ..

قوله] (4): (غير خزايا) بنصب غير عَلى الحال، وخَزَايَا جَمع خَزْيَان، وهو الَّذِي أصابه خِزْي، والمعنى: أنهم أسلموا طوعًا من غير حرب أو سبي يخزيهم ويفضحهم.

قوله: (ولا ندامى) قَالَ الخطابي: كان أصله نادمين جمع نادم؛ لأن ندامى إنّما هو جمع ندمان، أي: المنادم في اللهو، لكنه خرج عن الاتباع، كما قالوا: العشايا والغدايا، وغداة جمعها: الغدوات لكنه أتبع. انتهى

وقد حكى القَزَّاز والجَوْهَري وغيرهما من أهل اللغة أنه يقال: نادم وندمان في الندامة بِمعنى، فعلى هذا فهو عَلى الأصل ولا إتباع فيه، والله أعلم.

قَالَ ابن أبي جَمْرَة: "بَشَّرَهم [107/ ب] بالخير عاجلًا وآجلًا"، لأن الندامة إنما تكون في العاقبة، فإذا انتفت ثبت ضدها.

(1)"صحيح البخاريّ"(كتاب مواقيت الصلاة، باب: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)}) برقم (523).

(2)

زيادة من "الفتح".

(3)

مكانها بياض بالأصل، والمثبت من "الفتح".

(4)

زيادة من "الفتح".

ص: 41

قوله: (فقالوا: يا رسول الله) فيه دليل عَلى أنهم كانوا حين المقالة مسلمين، وكذا في قولهم:"كُفَّار مُضَر"، وفِي قولهم:"الله ورسوله أعلم".

قوله: (إلا في الشهر الحرام) وللأَصِيلي وكَريمة: "إلا في شهر الحرام"، وهي رواية مُسْلِم (1)، وهي من إضافة الشيء إلَى نفسه، كمسجد الجامع، ونساء المؤمنات.

والمراد بالشهر الحرام: الجنس، فيشمل الأربعة الحرم، ويؤيده رواية قرة عند المؤلف في المغازي بلفظ:"إلا في أشهر الحرم"(2)، ورواية حَمَّاد بن زيد عنده في المناقب بلفظ:"إلا في كل شهر حرام"(3).

وقيل: اللام للعهد، والمراد: شهر رجب، وفِي رواية البيهقي (4) التصريح به، وكانت مُضَر تبالغ في تعظيم شهر رجب، فلهذا أضيف إليهم في حديث أبي بكرة، حيث قالَ:"رجب مضر" كما سيأتي، والظاهر أنهم كانوا يخصونه بمزيد التعظيم مع تَحريمهم القتال في الأشهر الثلاثة الأخرى، إلا أنهم ربما أَنْسَأوها بخلافه.

وفيه دليل عَلى تقدم إسلام عبد القَيْس عَلى قبائل مُضَر الذين كانوا بينهم وبين المدينة، وكانت مساكن عبد القَيْس بالبحرين وما وَالاها من أطراف العراق، ولهذا قالوا كما في رواية شُعْبَة عند المؤلف في العلم:"وإنا نأتيك من شُقَّة بعيدة"(5)، قَالَ ابن قتيبة: الشُّقَّة: السفر، وَقَالَ الزجاج: هِيَ الغاية الَّتِي تُقصد.

ويدل عَلى سبقهم إلَى الإسلام أيضًا ما رَوَاهُ المصنف في الجمعة من طريق أبي جَمْرة أيضًا عن ابن عباس قَالَ: "إن أول جمعة جُمِّعَت -بعد جمعه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القَيْس بجُواثى من البحرين"(6)، وجُواثَى -بضم الجيم وبعد الألف

(1)"صحيح مُسْلِم"(كتاب الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله تعالَى ورسوله صلى الله عليه وسلم .. ) برقم (17).

(2)

"صحيح البُخَاري"(كتاب المغازي، باب: وفد عبد القيس) برقم (4368).

(3)

"صحيح البُخَاري"(كتاب المناقب، باب: نسبة اليمن إلَى إسماعيل) برقم (3510).

(4)

"السنن الكبرى" للبيهقي (كتاب قسم الفيِء والغنيمة، باب: سهم الصفي)(6/ 303).

(5)

"صحيح البُخَاري"(كتاب العلم، باب: تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس عَلى أن يحفظوا الإيمان. . .) برقم (87).

(6)

"صحيح البُخَاري"(كتاب الجمعة، باب: الجمعة في القرى والمدن) برقم (892).

ص: 42

مثلثة مفتوحة-: وهي قرية شهيرة لهم، وإنما جمعوا بعد رجوع وفدهم إليهم، فدل عَلى أنهم سبقوا جميع القرى إلَى الإسلام.

قوله: (بأمرٍ فصلٍ) بالتنوين فيهما لا بالإضافة، والأمر: واحد الأوامر، أي: مُرْنا بعمل بواسطة افعلوا، ولهذا قَالَ الراوي:"أمرهم"، وفِي رواية [108/أ] حَمَّاد بن زيد وغيره عند المؤلف:"قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: آمركم"(1)، وله عن أبي التَّيَّاح بصيغة افعلوا (2).

والفصل بمعنى: الفاصل، كالعدل بمعنى: العادل، أي: يفصل يين الحق والباطل، أو بمعنى المفصَّل، أي: المبين المكشوف، حكاه الطيبي، وَقَالَ الخطابي: الفصل البَيِّن، وقيل: المُحْكم.

وقوله: (نخبر به) بالرفع عَلى الصفة لأمر. وكذا قوله: (وندخل) ويروى بالجزم فيهما عَلى أنه جواب الأمر.

قوله: (فأمرهم بأربع) قَالَ القرطبي: قيل: إن أول الأربع المأمور بِها إقام الصلاة، وإنما ذكر الشهادتين تبرُّكًا بِهما كما قيل في قوله تعالَى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفالَ: 41].

وإلَى هذا نَحَا الطّيبي فقال: عادة البُلَغاء أن الكلام إذا كَانَ منصوبًا لغرض جعلوا سياقه له وطرحوا ما عداه، وهنا لَم يكن الغرض في الإيراد ذكر الشهادتين؛ لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتي الشهادة، ولكن ربما كانوا يظنون أن الإيمان مقصور عليهما [كما كَانَ](3) الأمر في صدر الإسلام، قَالَ: فلهذا لَم يَعُدَّ الشهادتين في الأوامر.

قيل: ولا يرد عَلى هذا إلا الإثبات بحرف العطف فيحتاج إلَى تقدير، قَالَ القاضي أبو بكر ابن العربي: لولا وجود العطف لقلنا: إن ذكر الشهادتين ورد عَلى سبيل التصدير، لكن يُمكن أن تقرأ قوله:"وإقام الصلاة" بالخفض، فيكون عطفًا عَلى قوله:"أمرهم بالإيمان"، والتقدير أمرهم بالإيمان مصدرًا به وبشرطه من الشهادتين، وأمرهم بإقام الصلاة إلَى آخره.

(1)"صحيح البُخاري"(كتاب المناقب، باب: نسبة اليمن إلَى إسماعيل) برقم (3510).

(2)

"صحيح البُخَاري"(كتاب الأدب، باب: قول الرجل مرحبًا .. ) برقم (6176).

(3)

مكانها بياض بالأصل، والمثبت من "الفتح".

ص: 43

قَالَ: ويؤيد هذا حذفهما في رواية المصنف في الأدب من طريق أبي التياح عن أبي جَمرة ولفظه: "أربع وأربع: أقيموا الصلاة إلى آخره".

فإن قيل: ظاهر ما ترجم به المصنف من أن أداء الخمس من الإيمان يقتضي إدخاله مع باقي الخصال في تفسير الإيمان، والتقدير المذكور يخالفه.

أجاب ابن رُشَيد: بأن المطابقة تحصل من جهة أخرى، وهي أنهم سألوا عن الأعمال الَّتي يدخلون بِها الجنة، وأجيبوا بأشياء منها أداء الخمس، والأعمال الَّتِي تدخل الجنة هِيَ أعمال الإيمان، فيكون أداء الخمس من الإيمان بهذا التقريب.

فإن قيل: فكيف قَالَ [108/ ب] في رواية حَمَّاد بن زيد، عن أبي جَمْرَة:"آمركم بأربع: الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله وعقد واحدة" كذا للمؤلف في المغازي (1)، وله في فَرْض الخمس:"وعاقد بيده"(2)، فدل أن الشهادة إحدى الأربع.

وأمَّا مَا وقع عنده في الزكاة (3) من هذا الوجه من زيادة الواو في قوله: (وشهادة أن لا إله إلا الله) فهي زيادة شاذة، لَم يتابع عليها حَجَّاج بن مِنْهَال أحد.

والمراد بقوله: "شهادة أن لا إله إلا الله" أي: وأن مُحَمَّدًا رسول الله، كما صرح به في رواية عباد بن عباد في أوائل المواقيت، ولفظة:"آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع الإيمان بالله"، ثم فسرها لهم: شهادة أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّدًا رسول الله" (4) الحديث، وهذا أيضًا يدل عَلى أنه عدَّ الشهادتين من الأربع، لأنه أعاد الضمير في قوله: "ثم فسرها" مؤنثة، فيعود عَلى الأربع، ولو أراد تفسير الإيمان لأعاده مذكرًا.

وَعَلى هذا فيقال: كيف قَالَ أربع والمذكورات خَمس؟

وقد أجاب عنه القاضي عياض: بأن الأربع ماعدا أداء الخمس، قَالَ: كأنه أراد

(1)"صحيح البخاري"(كتاب المغازي، باب: وفد عبد القيس) برقم (4369).

(2)

"صحيح البُخَاري"(كتاب فرض الخمس، باب: أداء الخمس من الدين) برقم (3095).

(3)

"صحيح البُخَاري"(كتاب الزكاة، باب: وجوب الزكاة) برقم (1398).

(4)

"صحيح البُخَاري"(كتاب مواقيت الصلاة، باب: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)}) برقم (523).

ص: 44

إعلامهم بقواعد الإيمان وفروض الأعيان، ثم أعلمهم بما يلزمهم إخراجه إذا وقع لهم جِهَاد؛ لأنهم كانوا بصدد مُحاربة كفار مُضَر، ولَم يقصد إلَى ذكرها بعينها؛ لأنها [مسببة](1) عن الجهاد، ولَم يكن الجهادُ إذ ذاك فَرْضَ عينٍ، قَالَ: وكذلك لَم يذكر الحج لأنه لَم يكن فُرض.

وَقَالَ غيره: قوله: "وأن تعطوا" معطوف عَلى قوله: "بأربع"، أي: آمركم بأربع وبأن تعطوا، ويدل عليه العدول عن سياق الأربع والإتيان بأن والفعل مع توجه الخطاب إليهم.

قَالَ ابن التين: لا تمتنع الزيادة إذا حصل الوفاء بوعد الأربع.

قُلْت: ويدل عَلى ذلِكَ لفظ رواية مُسْلِم من حديث أبي سعيد الخدري في هذه القصة: "آمركم بأربع: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وأعطوا الخمس من الغنائم"(2).

وَقَالَ القاضي أبو بكر ابن العربي: يحتمل أن يقال: إنه عد الصلاة والزكاة واحدة؛ لأنها قرينتها في كتاب الله وتكون الرابعة أداء الخمس، أو أنه لَم [109/أ] يعد أداء الخمس؛ لأنه داخل في عموم إيتاء الزكاة، والجامع بينهما: إخراج مالٍ معين في حال دون حال.

وَقَالَ البيضاوي: الظاهر أن الأمور الخمسة المذكورة هنا تفسير للإيمان، وهو أحد الأربعة الموعود بذكرها، والثلاثة الأخر حذفها الراوي اختصارًا أو نسيانًا.

كذا قَالَ، وما ذَكَر أنه الظاهر لعله بحسب ما ظهر له، وإلا فالظاهر من السياق أن الشهادة أحد الأربع لقوله:"وعقد واحدة"، وكان القاضي أراد أن يرفع الإشكال من كون الإيمان واحدًا والموعود بذكره أربعًا.

وقد أجيب عن ذلِكَ بأنه باعتبار أجزائه المفصلة أربع، وهو في ذاته واحد، والمعنى: أنه اسم جامع للخصال الأربع الَّتِي ذَكَر أنه يأمرهم بها، ثم فسرها، فهو واحد

(1) مكانها بياض بالأصل، والمثبت من "الفتح".

(2)

"صحيح مُسْلِم"(كتاب الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله تعالَى ورسوله صلى الله عليه وسلم. . .) برقم (18).

ص: 45

بالنوع متعدد بحسب وظائفه، كما أن المنهي عنه وهو الانتباذ فيما يُسْرع إليه الإسكار واحد بالنوع متعدد بحسب أوعيته.

والحكمة في الإجمال بالعدد قبل التفسير أن تتشوف النفس إلَى التفصيل ثم تسكن إليه، وأن يتحصل حفظها للسامع، فإذا نسي شيئًا من تفاصيلها طالب نفسه بالعدد، فإذا لَم يستوفِ العدد الَّذِي في حفظه علم أنه قد فاته بعض ما سمع.

وما ذكره القاضي عياض من أن السبب في كونه لَم يذكر الحج في الحديث لأنه لَم يكن فُرض هو المعتمد، وقد قدمنا الدليل عَلى عدم إسلامهم، لكن جَزْم القاضي بأن قدومهم كَانَ في سنة ثمانٍ قبل فتح مكة تَبِع فيه الوَاقِدي، وليس بجيد؛ لأن فرض الحج كَانَ سنة ستٍّ عَلى الأصح كما سنذكره في موضعه إن شاء الله، ولكن القاضي يختار أن فرض الحج كَانَ سنة تسعٍ حَتَّى لا يَرد عَلى مذهبه أنه عَلى الفور شيء.

وقد احتج الشافعي بكونه عَلى التراخي بأن فرض الحج كَانَ بعد الهجرة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ قادرًا عَلى الحج في سنة ثمانٍ وفِي سنة تسعٍ ولَم يحج إلا في سنة عشرٍ.

وأما قول من قَالَ: إن ترك ذكر الحج لكونه عَلى التراخي فليس بجيد؛ لأن كونه عَلى التراخي لا يمنع من الأمر به.

وكذا قول من قَالَ: إنما تركه لشهرته عندهم ليس بقوي [109/ ب]؛ لأنه عند غيرهم ممن ذكره لهم أشهر منه عندهم.

وكذا قول من قَالَ: إن ترك ذكره لأنهم لَم يكن لهم إليه سبيل من أجل كفار مُضَر ليس بمستقيم؛ لأنه لا يلزم من عدم الاستطاعة في الحال ترك الإخبار به ليعمل به عند الإمكان كما في الآية، بل دعوى أنهم كانوا لا سبيل لهم إلَى الحج ممنوعة؛ لأن الحج يقع في الأشهر الحُرُم، وقد ذكروا أنهم كانوا يأمنون فيها.

لكن يُمكن أن يقال إنه إنما أخبرهم ببعض الأوامر لكونهم سألوه أن يخبرهم بما يدخلون بفعله الجنة، فاقتصر لهم عَلى ما يمكنهم فعله في الحال، ولَم يقصد إعلامهم

ص: 46

بجميع الأحكام الَّتِي تجب عليهم فعلًا وتركًا، ويدل عَلى ذلِكَ اقتصاره في المناهي عَلى الانتباذ في الأوعية مع أن في المناهي ما هو أشد في التحريم من الانتباذ، لكن اقتصر عليها لكثرة تعاطيهم لَها.

وأما ما وقع في كتاب الصيام من "السنن الكبرى" للبيهقي من طريق أبي قلابة الرَّقَاشي، عن أبي زيد الهَرَوي، عن قُرَّة في هذا الحديث من زيادة ذكر الحج ولفظه:"وتحجوا البيت الحرام"(1)، ولَم يتعرض لعدد، فهي رواية شاذة، وقد أخرجه الشيخان ومن استخرج عليهما والنسائي وابن خزيمة وابن حبان من طريق قُرَّة لَم يذكر أحد منهم الحج (2)، وأبو قلابة تغير حفظه في آخر أمره، فلعل هذا مما حدَّث به في التغيُّر، وَعَلى تقدير أن يكون ذِكْر الحج فيه مَحفوظًا فيجمع في الجواب عنه بين الجوابين المتقدمين، فيقال: المراد بالأربع: ماعدا الشهادتين وأداء الخمس، والله أعلم.

قوله: (ونهاهم عن أربع: الحنتم. . .) إلَى آخره في جواب قوله: (وسألوه عن الأشربة) هو من إطلاق المحل وإرادة الحال أي: "ما في الحنتم ونَحوه"، وصرح بالمراد في رواية النّسَائي فقال:"وأنْهَاكُم عن أربع ما ينبذ في الحنتم" الحديث.

والْحَنتم -بفتح المهملة وسكون النون وفتح المثناة من فوق-: هِيَ الجَرَّة، كذا فسرها ابن عُمر في صحيح مُسْلِم (3)، وله عن أبي هريرة:"الحنتم الجرار الخضر"(4)،

(1)"السنن الكبرى" للبيهقي (كتاب الصيام، باب: فرض صوم شهر رمضان)(4/ 199).

(2)

أخرجها البخاري في "صحيحه"(كتاب المغازي، باب: وفد عبد القيس) برقم (4368)، وَمُسْلِم في "صحيحه"(كتاب الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله تعالَى ورسوله صلى الله عليه وسلم .. ) برقم (17)، والنسائي في "السنن الكبرى"(كتاب الأشربة، باب: ذكر الأخبار الَّتِي اعتل بِها من أباح شرب المسكر)(3/ 235)، وفي "المجتبى" في نفس الكتاب والباب (8/ 322 - 323)، وابن خزيمة في "صحيحه"(كتاب الصيام، باب: ذكر البيان أن صوم شهر رمضان من الإيمان) برقم (1879)، وابن حبان في "صحيحه"(كتاب إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة، باب: فضل الصحابة والتابعين) برقم (7251).

(3)

"صحيح مُسْلِم"(كتاب الأشربة، باب: النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم .. ) برقم (1997).

(4)

"صحيح مُسْلِم"(كتاب الأشربة، باب: النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم .. ) برقم (1993).

ص: 47

وروى الحربي في الغريب عن عطاء: إنها جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم (1).

و(الدُّبَّاء) بضم المهملة وتشديد الموحدة والمد: هو القَرْع. قَالَ النووي: المراد: اليابس منه، وحكى القزاز [110/ أ] فيه القصر.

و(النَّقِير) بفتح النون وكسر القاف: أصل النَّخْلة ينقر فيتخذ منه وعاء.

و(المُزَفَّت) بالزاي والفاء: ما طلي بالزفت.

و(المُقَيَّر) بالقاف والياء الأخيرة: ما طُلي بالقار، ويقال: القير، وهو نبت يُحرق إذا يبس تطلى بها السفن وغيرها كما يطلى بالزفت، قاله صاحب المحكم.

وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي بكرة قَالَ: "أما الدُّبَّاء فإن أهل الطائف كانوا يأخذون القرع فيخرطون فيه العنب ثم يدفنونه حَتَّى يهدر ثم يموت، وأما النَّقير: فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة ثم ينبذون الرطب والبُسْر ثم يدعونه حَتَّى يهدر ثم يموت، وأما الحَنْتَم فجرار كانت يحمل إلينا فيها الخمر، وأما المُزَفَّت فهذه الأوعية الَّتِي فيها الزفت"(2). انتهى، وإسناده حسن، وتفسير الصحابي أولَى أن يعتمد من غيره؛ لأنه أعلم بالمراد.

ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها لأنه يسرع إليها الإسكار، وربما شرب منها من لا يشعر بذلك، ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كل وعاء مع النهي عن شرب كل مسكر كما سيأتي في كتاب الأشربة إن شاء الله تعالَى.

قوله: (وأخبروا بِهن من وراءكم) بفتح "مَن" وهي الموصولة، ووراءكم يشمل من جاءوا من عندهم وهذا باعتبار المكان، ويشمل من يَحْدُث لهم من الأولاد وغيرهم وهذا باعتبار الزمان، فيحتمل إعمالها في المعنيين معًا حقيقة ومجازًا.

واستنبط منه المصنف الاعتماد عَلى أخبار الآحاد كما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالَى.

(1) لَم نقف عليها في "غريب الحديث" للحربي، وفِي "النهاية" لابن الأثير في مادة (حنتم) قَالَ:"وقيل لأنها كانت تعمل من طين يعجن بالدم والشعر. .".

(2)

"مسند أبي داود الطيالسي"(1/ 120).

ص: 48