الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التمهيد
(1)
.
رؤيا تحتوي على ستة رموز أساسية فقط، لم أكن أتوقع أنها تجمع هذه الأسرار!
من عظمة القرآن الكريم أنه لا يزال يمد الناس بالفوائد الكثيرة لكل زمان ومكان، وليس من الغريب استنباط جديد الفوائد منه بين الفينة والأخرى، فهذا من الخصائص اللصيقة بالقرآن العظيم، ورغم جميع ما أُلِّف وكُتب فلن يفي أحد من البشر بتبيان جميع لطائفه وفوائده، فلا يكاد لسان بليغ يصف ما فيه من الروعة والجمال، ولا قلم حاذق من كتابة ما فيه من الفوائد والنكت.
واستشفاف الفوائد من بعض آيات القرآن الحكيم ليس بالأمر الجديد بل هو من دأب الأولين، ولنا في الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما ترجمان القرآن قدوة، فقد وقف عدة وقفات مع آيات الله، منها في قوله تعالى:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}
(2)
قال: قرآنًا.
(1)
سورة يوسف؛ الآية (4).
(2)
سورة الرعد؛ الآية (17).
{فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}
(1)
قال: الأودية: قلوب العباد
(2)
.
والإمام ابن كثير ـ يرحمه الله ـ ينقل لنا أيضًا ما نُقِل عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}
(3)
، (هو إشارة إلى القلوب وتفاوتها، فمنها ما يسع علمًا كثيرًا ومنها ما لا يتسع لكثير من العلوم بل يضيق عنها)
(4)
ا. هـ.
وهذا دليلٌ واضح وطريق بيِّنٌ نسلكه من بعدهم في استشفاف واستخراج الفوائد من آيات الله.
(ولعل ذلك يُشْبِه الدم الذي يجري في عروق الجسد بسبب ضخ القلب له، كالماء الذي يجري في الوديان بسبب ضخه من قلب الأرض والله أعلم)
(5)
.
وقال الإمام ابن القيم ـ يرحمه الله ـ في عبارات رنانة: (والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص، وأن منهم من يفهم من الآية حكمًا أو حكمين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو
(1)
السابق.
(2)
تفسير القرطبي (12/ 51).
(3)
سورة الرعد؛ الآية (17).
(4)
تفسير ابن كثير (4/ 447).
(5)
من فوائد المؤلف.
أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره)
(1)
ا. هـ.
بل إن العالم المفسر الإمام ابن كثير ـ يرحمه الله ـ وقف وقفات المتأني مع رؤيا ملك مصر؛ ليبين على ما يشير من رمز البقرات ويشرح لنا كيف فهم يوسف عليه السلام هذا الرمز، يقول ـ يرحمه الله:(ففسر البقر بالسنين؛ لأنها تثير الأرض التي تستغل منها الثمرات والزروع)
(2)
، وبإذن المولى سيكون لنا وقفات مع هذه الآيات، ولكن أردت أن أستشهد بمثال يسير، والأمثلة على ذلك كثيرة.
(1)
إعلام الموقعين (1/ 354).
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 392).
وأيضا تفسير الإمام الجليل ابن سعدي ـ يرحمه الله ـ وهو يشرح تعبير رؤيا ملك مصر ويقف عليها ويبين عجائبها
(1)
.
وكانت تلك الوقفات من المفسرين العظماء نبراسًا نقتدي به لإكمال هذا البحث، وطريقًا بيِّنًا نسلكه لتدبر كتاب الله العظيم.
(1)
يقول ـ يرحمه الله ـ في كتابه (فوائد مستنبطة من قصة يوسف عليه السلام: (وكان هذا العلم العظيم من يوسف هو السبب الأعظم في خروجه من السجن، وتقريب الملك له من اختصاصه به، وتمكينه من الأرض ...... )، ص (19).
ويقول ـ يرحمه الله ـ في موضع آخر: فعبر يوسف السبع البقرات السمان والسبع السنبلات الخضر، بأنهن سبع سنين مخصبات، والسبع البقرات العجاف، والسبع السنبلات اليابسات، بأنهن سنين مجدبات، ولعل وجه ذلك ـ والله أعلم ـ أن الخصب والجدب لما كان الحرث مبنيًّا عليه، وأنه إذا حصل الخصب قويت الزروع والحروث، وحسن منظرها، وكثرت غلالها، والجدب بالعكس من ذلك. وكانت البقر هي التي تحرث عليها الأرض، وتسقى عليها الحروث في الغالب، والسنبلات هي أعظم الأقوات وأفضلها، عبرها بذلك، لوجود المناسبة، فجمع لهم في تأويلها بين التعبير والإشارة لما يفعلونه، ويستعدون به من التدبير في سني الخصب، إلى سني الجدب فقال:{تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} (يوسف: 47) أي: متتابعات، تفسير الإمام السعدي (1/ 399). وبإذن الله سيكون لنا مؤلَّف آخر يدرس هذه الوقفات.
وبين أيديكم هذا البحث المتواضع لنتفكر في آيات الله تفكرًا دقيقًا، وليزداد يقيننا بأن القرآن الكريم بين آياته ترابط ساحر
(1)
، ومن خلال الفهم العميق لهذا الترابط يكون الإبداع في الطرح
…
وسنجد أنفسنا أمام بحر من الفوائد التي لا تنضب.
وليعلم أن هناك من الحِكم ما ظهر لنا وخفي عن غيرنا
(2)
، وهناك ما خفي علينا وظهر لغيرنا، وهناك حِكمٌ تظهر في وقت لاحق، وهناك أمور يخفيها الله لحِكمة نحن لا نعلمها، فسبحان من له الحكمة في تدبير الأمور إنه هو الحكيم العليم، والحكمة ضالة المؤمن
(3)
، عليه أن يبحث عنها وإن لم يجدها بعد الجد والاجتهاد فليقف عند قوله تعالى:{وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}
(4)
.
(1)
مصداقًا لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن من البيان لسحرًا) رواه البخاري حديث رقم [5767](7/ 138)، يقول الفخر الرازي: أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط، (10/ 113).
(2)
يقول الشيخ الدكتور مساعد الطيار ـ يحفظه الله ـ وهو يشرح علم الاستنباط: (علم الاستنباط الذي لا حد له، وقد يفتح الله على عباده في عصر ما لم يفتحه على من قبلهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، انظر كتاب مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر لفضيلته ص (159).
(3)
جامع بيان العلم وفضله (1/ 101)، وأصله عند الترمذي والحديث ضعيف، ضعفه الشيخ الألباني في الضعيفة (13/ 776).
(4)
سورة الشورى؛ الآية (15).
والتدبر لكتاب الله هو: (التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكَلِم ومراميه البعيدة)
(1)
، فدل ذلك أنه علينا أن نضاعف جهدنا حتى نصل إلى فهم راقٍ للقرآن الكريم، ويكفي أن نعلم أن التدبر من العبادات العظيمة.
ولعل هذه الدراسة اليسيرة تكون بداية لطريق جديد لفهم آيات الله فهمًا متجددًا يقودنا إلى التعلق بكتاب الله العظيم وزيادة حبنا له، وأن نكون ممتثلين لقوله تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}
(2)
.
(1)
قواعد التدبر الأمثل للميداني ص (10)، ويعرفه الإمام الطاهر بن عاشور: بأنه التفكّر والتأمّل الذي يبلغ به صاحبه معرفة المراد من المعاني، وإنما يكون ذلك في كلامٍ قليل اللفظ كثير المعاني التي أودعت فيه، بحيث كلما ازداد المتدبِّر تدبّرًا انكشف له معانٍ لم تكن له بادئ النظر، (252/ 23).
(2)
سورة ص الآية (29).