الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس: الإفحام والتحدي
(1)
وذكر الشمس
هاكم مثالاً على هذا المعنى: تحدي إبراهيم عليه السلام للنمرود
(2)
يقول رب العزة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ
(1)
كما جاء في حكاية إبراهيم عليه السلام مع الطاغية النمرود عندما تحداه أن يأتي بالشمس من المغرب بدل المشرق؛ إذ قال ـ تعالى ـ حكاية عن ذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} (زهرة التفاسير 1/ 164) وسوف نفصل أكثر في الحاشية التي تليها.
(2)
وهذا الملك هو ملك بابل، واسمه النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، قاله مجاهد. وقال غيره: نمرود بن فالح بن عابر بن صالح بن أرفخشد بن سام بن نوح. قال مجاهد وغيره: وكان أحد ملوك الدنيا. فإنه قد ملك الدنيا فيما ذكروا أربعة: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان؛ ذو القرنين وسليمان. والكافران النمرود وبختنصّر، وذكروا أن نمرودًا هذا استمر في ملكه أربعمائة سنة، وكان قد طغى وبغى وتجبر وعتى، وآثر الحياة الدنيا، ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له حمله الجهل والضلال وطول الإمهال على إنكار الصانع، فحاجَّ إبراهيم الخليل في ذلك وادعى لنفسه الربوبية، فلما قال له الخليل:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}
…
(البقرة: 258)، قال قتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق: يعني أنه إذا أتي بالرجلين قد تحتم قتلهما فإذا أمر بقتل أحدهما، وعفا عن الآخر، فكأنه قد أحيا هذا وأمات الآخر، وهذا ليس بمعارضة للخليل، بل هو كلام خارجي عن مقام المناظرة ليس بمنع ولا بمعارضة، بل هو تشغيب محض، وهو انقطاع في الحقيقة، فإن الخليل استدل على وجود الصانع بحدوث هذه المشاهدات؛ من إحياء الحيوانات، وموتها على وجود فاعل ذلك الذي لا بد من استنادها إلى وجوده ضرورة، وعدم قيامها بنفسها، ولا بد من فاعل لهذه الحوادث المشاهدة؛ من خلقها، وتسخيرها، وتسيير هذه الكواكب، والرياح، والسحاب، والمطر، وخلق هذه =
اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
(1)
.
= الحيوانات التي توجد مشاهدة، ثم إماتتها. ولهذا
…
{قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي} (البقرة: 258). فقول هذا الملك الجاهل: {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} (البقرة: 258). إن عنى أنه الفاعل لهذه المشاهدات فقد كابر وعاند، وإن عنى ما ذكره قتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق فلم يقل شيئًا يتعلق بكلام الخليل؛ إذ لم يمنع مقدمة ولا عارض الدليل، ولما كان انقطاع مناظرة هذا الملك قد تخفى على كثير من الناس ممن حضره وغيرهم، ذكر دليلاً آخر بين وجود الصانع وبطلان ما ادعاه النمرود، وانقطاعه جهرة {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} (البقرة: 258). أي هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها خالقها ومسيرها وقاهرها، وهو الله الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء، فإن كنت كما زعمت من أنك الذي تحيي وتميت، فأت بهذه الشمس من المغرب، فإن الذي يحيي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء، ولا يمانع ولا يغالب، بل قد قهر كل شيء، ودان له كل شيء، فإن كنت كما تزعم فافعل هذا، فإن لم تفعله فلست كما زعمت، وأنت تعلم وكل أحد أنك لا تقدر على شيء من هذا، بل أنت أعجز وأقل من أن تخلق بعوضة أو تنتصر منها فبين ضلاله وجهله، وكذبه فيما ادعاه وبطلان ما سلكه وتبجح به عند جهلة قومه، ولم يبق له كلام يجيب الخليل به، بل انقطع وسكت؛ ولهذا قال:
…
{فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 258) البداية والنهاية (1/ 148).
(1)
سورة البقرة الآية (258).
وقوع معنى التحدي في قصته عليه السلام فكانت له تحديات كثيرة تتجلى في عدة مواقف، نكتفي بذكر موقفين:
الموقف الأول:
بعد ما هددته امرأة العزيز بأن يفعل بها ما تريد، فلم يستجب لها وتحداها واختار السجن مع أنه اختيار صعب: قال تعالى: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}
(1)
.
بل وتحدى نفسه لإرغامها على البعد عن المعصية.
الموقف الثاني:
(2)
.
(1)
سورة يوسف الآيتان (33، 32).
(2)
سورة يوسف الآية (50).
في قوله تعالى: {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} يقول صاحب مفاتيح الغيب: فعاد الشرابي
(1)
إلى يوسف عليه السلام قال: أجب الملك، فأبى يوسف عليه السلام أن يخرج من السجن إلا بعد أن ينكشف أمره وتزول التهمة بالكلية عنه
(2)
.
فهذا أيضًا تحدٍّ، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتدح موقفه وكأنه عليه السلام تحيطه الغرابة من تصرف يوسف عليه السلام:(لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي)
(3)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}
(4)
، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لو كنت أنا، لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر)
(5)
.
(1)
ساقي الملك.
(2)
مفاتيح الغيب (18/ 121).
(3)
صحيح مسلم حديث رقم [151]، (1/ 133).
(4)
سورة يوسف الآية (50).
(5)
مسند الإمام أحمد ـ يرحمه الله (14/ 228) حديث رقم [8554]، وعلق عليه الأرناؤوط بقوله: صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل محمد بن عمرو، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح.
وفي ذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لقد عجبت من يوسف، وصبره، وكرمه، والله يغفر له حين سئل عن البقرات، لو كنت مكانه لما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني، ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول، ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب)
(1)
.
(1)
تفسير عبدالرزاق (1/ 281، 282) وقد وصله إسحاق بن راهويه في مسنده، ومن طريقه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 249) من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا بنحوه. وفيه إبراهيم بن يزيد وهو متروك. ابن كثير (4/ 394)، ولعل في الأثر إشارة للمعبرين! !