الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القضاء على التذبذب لدى زعماء القبائل الذين تتحدث عنهم أكثر المصادر مودة بلغة تهديد بالغة الضآلة من قبل المدينة؟ وهل كان تجلد أبي بكر، وثباته يكفيان لإدماج قبيلة تميم الكبرى من جديد في المجتمع الإسلامي؟ إنها أسئلة لا يمكن الإجابة عليها بسهولة عندما يفكر المرء في حال المصادر، ذلك؛ لأن هدف المؤرخين كان يتمثل على ما يبدو في خفض حجم ردة بني تميم إلى مستوى شخص مالك، بل تقديمه في صورة المسلم الذي يساء تقدير إسلامه1.
1 كلير: ص178، 179.
القضاء على ردة بني حنيفة:
الزحف نحو اليمامة:
عاد خالد من المدينة إلى البطاح بعد أن كلفه أبو بكر بقتال مسيلمة في اليمامة، وزوده بقوة عسكرية إضافية ضمت جماعة من المهاجرين، وممن شهد بدرًا والقراء، فبلغ عديد جيشه، ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألف مقاتل، كما زوده بتعليمات سياسية، وعسكرية محددة تنم عن وعي كامل لرجل دولة يواجه تحديات كبرى1.
والواقع أن المسلمين لم يواجهوا أي قتال ضار خلال القضاء على المرتدين قبل اليمامة، حيث كانت القبائل التي هاجمت المدينة عقب وفاة النبي، وبيعة أبي بكر، لا يدعي أحد من أفرادها النبوة، ولا تطمع في شيء إلا أن تعفى من الزكاة، وتضاءلت قوة طليحة بعد انقضاض القبائل عنه، ولم تكن أم زمل بقادرة على خوض معركة ناجحة بمن اجتمع حولها من فلول تلك القبائل، وكان بنو تميم على خلاف داخلي، في الوقت الذي وهنت سجاح من قوة مالك بن نويرة، فمل يكن بينه، وبين خالد قتال.
أما الوضع في اليمامة، فكان مختلفًا، فقد أنكر بنو حنيفة نبوة محمد، ووضعوا أنفسهم بمصاف قريش، فلها نبي ورسول ولهم نبي ورسول، كما كان لهم مكانة بين العرب تضارع مكانة قريش، وفيهم من الجند الشجعان أضعاف جند قريش، وهم إلى ذلك كتلة متراصة لا يفت في عضدهم خلاف، ولا يضعضع من عزمهم تنافس، وليس بينهم تفاوت في العقيدة والجنس، فكانوا أولي بأس شديد، كما انتصروا على جيشين إسلاميين أرسلهما أبو بكر لإخضاعهم، الأول بقيادة عكرمة بن أبي جهل، والثاني بقيادة شرحبيل بن حسنة2.
1 انظر: ابن أعثم، ج1 ص28، 29.
2 الطبري: ج3 ص281.
وصل خالد إلى أراضي بني حنيفة، وبعد أن درس الوضع الميداني وضع خطة عسكرية من شقين:
الأول: إرباك العدو وإضعافه، وتوهين عزائمه، فيما يسمى في عصرنا بالحرب النفسية، وذلك عن طريق الإنذار والتهديد.
الثاني: الاصطدام المسلح به.
ففي ما يتعلق بالشق الأول، فقد حاول استقطاب بعض أشراف بن حنيفة، والطلب منهم التأثير على أتباع مسيلمة، وسلخهم من جيشه، عن طريق الترهيب والترغيب، لكن محاولته فشلت في دق إسفين بين بني حنيفة، ومسيلمة، وعلى الرغم من الجهود التي بذلها1، فقد جاءت نتائجها الإيجابية محدودة جدًا، وظل بنو حنيفة متكتلين حول مسيلمة، وقد نظروا إلى هذا الصراع من زاوية قبلية محضة.
وفي ما يتعلق بالشق الثاني، فقد توغل في أراضي بني حنيفة، وهو على تعبئة، استعدادًا للقاء المرتقب مع مسيلمة، وكان هذا الأخير قد عسكر بعقرباء في طرف اليمامة عندما علم بزحف المسلمين جاعلًا ريف اليمامة، وحصونها وراء ظهره، وعبأ جنوده البالغ عددهم أربعين ألفًا استعدادًا للمواجهة، وعسكر خالد في مواجهته، وتأهب الجمعان لخوض أشرس معركة سمع بها العرب حتى ذلك الحين، يعلق كل طرف مصيره بمصير ذلك اليوم، ولم يبالغ أي منهما في تقدير هذا الأمر، فيوم اليمامة من الأيام الحاسمة في التاريخ المبكر للإسلام، وفي تاريخ العرب.
معركة عقرباء:
ابتدأت المعركة بمبارزات فردية قبل أن يلتحم الجمعان في عدة جولات، وتعرض المسلمون في بداية المعركة لضغط قتالي شديد مما اضطر خالدًا إلى تعديل خطته العسكرية، فأجرى تغيرات جذرية في وضع الجيش من خلال تمييز المقاتلين حسب قبائلهم2، ويقصد به أن تمتاز كل فرقة عن أختها، أي تفترق عنها وتقاتل منفردة، وقد هدف من وراء هذا التعديل أن:
- يعرف بلاء كل فرقة على حدة.
- يعرف المسلمون من أبلى بلاء حسنًا، ومن صمد منهم في المعركة، ومن ضعف وانهزم.
- إثارة التنافس بين المسلمين للقتال حتى أقصى مداه.
1 ابن أعثم: ج1 ص29- 31.
2 الطبري: ج3 ص293.
وفعلًا، فقد أثارت هذه التغييرات القوة العصبية، والحمية الدينية لدى المقاتلين المسلمين، فاشتد التنافس بينهم، وبلغت الحماسة الدينية الأوج، فكل فرقة تقاتل تحت رايتها، وتود أن تنال النصر وشرف الغلبة، فيندفع جنودها
إلى الموت1.
استمر القتال في الجولة الأخيرة عدة ساعات، كثر فيها عدد القتلى من الجانبين، وثبت بنو حنيفة لوقع السيوف، ولم يحفلوا بكثرة من قتل منهم، فأدرك خالد عندئذ أن الحرب لا تخف وطأتها ما بقي مسيلمة بين بني حنيفة، وأن العدو لا ينهزم إلا إذا قتل، ولن تنتهي بالمعركة إلا بموته، لذلك شدد ضغطه القتالي، فاضطر مسيلمة إلى التراجع، ودخل حديقته مع عدد كبير من أتباعه، وأغلق بابها لتخفيف الضغط، حاصر المسلمون الحديقة، واقتحموها وجرى بداخلها قتال ضار، ولاحت لوحشي، مولى المطعم بن عدي، وقاتل حمزة في معركة أحد، وكان قد أسلم بعدها، فرصة انكشف مسيلمة خلالها أمامه، فضربه بحربته، فأصابه ووقع أرضًا، فانقض عليه سماك بن خرشة بسيفه وأجهز عليه2.
شكل مقتل مسيلمة بداية النهاية لهذه المعركة الضارية، ووضع حدًا لذلك القتال الشديد، إذا تزعزعت قوة العدو وانهارت، واشتدت في المقابل قوة المسلمين، ففتكوا بجنود مسيلمة فتكًا ذريعًا لم يترك لمجاعة من مرارة الحنفي، الذي تولى القيادة بعد مقتل مسيلمة، الخيار، فأعلن استسلامه، وطلب الصلح3، تكبد بنو حنيفة واحدًا وعشرين ألف قتيل، فيحين تكبد المسلمون ألفًا ومائتي قتيل4، وتقرر الصلح على البندين التاليين:
- يسلم بنو حنيفة نصف ما عندهم من الذهب، والفضة والسلاح، والخيل، وربع السبي، وحائطًا من كل قرية ومزرعة.
- يعصم المسلمون دماءهم على أن يدخلوا في الإسلام5.
والواقع أنه لم تعرف الجزيرة العربية في تلك العصور موقعة كان فيها ما كان في معركة عقرباء من دماء، لذلك أطلق المسلمون على حديقة مسيلمة، وهي حديقة الرحمن، اسم حديقة الموت، كما عرف هذا اليوم بيوم اليمامة6.
1 الطبري: ج3 ص293، سويد: ص188.
2 الطبري: المصدر نفسه ص293-295، تاريخ خليفة بن خياط: ص57.
3 الطبري: المصدر نفسه.
4 المصدر نفسه: ص297، البلاذري: ص102.
5 المصدران نفساهما: ص297، 298، ص100.
6 الطبري: المصدر نفسه، ص294-297.
ظهور اتجاه معارض للصلح:
لقي صلح خالد -مجاعة، معارضة من الجانبين الإسلامي والحنفي، فقد عارضه فريق من الأنصار بزعامة أسيد بن حضير، وأبي نائلة اللذين تمسكا بوصية أبي بكر إلى خالد عندما أرسله لقتال بني حنيفة:"إن أظفرك الله ببني حنيفة، فلا تبق عليهم"، لذلك، أشارا عليه برفض الصلح، والإجهاز على القوم، لكن خالدًا أبى الانصياع لهذه المشورة، وبخاصة أن المسلمين أنهكتهم الحرب، وأنه أبرم صلحًا مع القوم لا يجوز نقضه، فاقتنع الأنصار، وكتب خالد إلى أبي بكر بالصلح الذي أبرمه، فأجازه1.
وعارض سلمة بن عمير الحنفي، وهو أحد قادة بني حنيفة، الصلح وراح يحرض قومه على القتال، لكنهم رفضوا الاستجابة له، وبخاصة أن القتال كان قد أجهدهم، وتكبدوا خسائر فادحة في الأرواح بحيث لم يبق سوى النساء والأطفال، والشيوخ، والضعفاء من الرجال2.
عودة بني حنيفة إلى الإسلام:
وحشر بنو حنيفة للبيعة والبراء مما كانوا فيه، وجيء بهم إلى خالد في معسكره، فبايعوا وأعلنوا توبتهم منن الردة، وعودتهم إلى الإسلام، ثم فتحت الحصون وأخرج ما فيها من السلاح، والحلقة والكراع، والذهب والفضة، فقسمه خالد على الجند وعزل الخمس، فأرسله إلى أبي بكر مع وفد من بني حنيفة تدليلًا على توبتهم، فجددوا إسلامهم أمامه3.
زواج خالد من ابنة مجاعة:
بعد أن اطمأن خالد إلى النصر، وأتم الصلح، وتسلم زمام الأمر؛ طلب من مجاعة أن يزوجه ابنته، فوافئق بعد تردد، وتعرض خالد للنقد من جانب الخليفة، لكنه دافع عن نفسه، وبين وجهة نظره في هذا الزواج4.
إن قراءة متأنية لكتاب أبي بكر إلى قائده ورد خالد عليه، توضح لنا موقف كل منهما من هذه التطور الحدثي.
ففيما يتعلق بموقئف أبي بكر، فقد عاب على خالد أنه:
- فارغ النفس من الهموم، لا يشغله ما كان حريًا أن يشغل غيره من المسلمين ممن يقف في موقفه.
1 ابن أعثم: ج1 ص38.
2 الطبري: ج3 ص296.
3 المصدر نفسه: ص300.
4 انظر نص كتاب الخليفة إلى قائده ورد خالد عليه في المصدر نفسه، ابن أعثم: ج1 ص39، 40.
- لم يحزن على قتلى المسلمين، ودماؤهم لم تجف بعد، ولم يصرفه هذا الحزن عن التفكير في الزواج، والتعريس بالنساء استجابة لعواطفه.
- خدع عن رأيه حين صالح القوم بعد أن أمكنه الله منهم، وكان باستطاعته أن يستأصل شأفتهم، وبخاصة أنه يخطب إلى الرجل الذي خدعه1، فيرتبط معه برباط المصاهرة بعد الذي بدر منه2.
وفيما يتعلق بموقف خالد:
- جاء دفاع خالد عن نفسه حازمًا في لين، صريحًا في صدق، قويًا في هدوء.
- إن النصر ولو مع التضحية لا يبقي في النفوس الكبيرة آثار الآلم، ولواعج الأحزان، ولقد تم للقائد السرور بالنصر المؤزر، وفرت به الدار ببسط سلطانه على أعدائه.
- يؤكد خالد ما يبرر خطبته إلى هذا الرجل الذي خدعه حتى لا تندفع الأوهام الضعيفة في التظنن بالقائد الفذ، كما وقع التظنن في زواجه بامرأة مالك بن نويرة من قبل، فهو يعلن أنه قد خطب إلى رجل هو سيد قومه، فيما يمنعه من أن يجعل الخطبة إليه وسيلة من وسائل الاستقرار، وتطييب النفوس، على أن الخطبة سعت إليه دون تخطيط مسبق، ولو عمل إليها من المدينة قصدًا لها ما كان عليه في ذلك من عتاب.
- أبدى خالد حزنه على قتلى المسلمين، بشكل واضح، وأن هذا الحزن كان كفيلًا أن يرد الحياة إليهم، لو كان حزن يرد الحياة إلى ميت، وكان كفيلًا أن يخلد من كان من المسلمين باقيًا، لو كان الله كتب البقاء، والخلود لأحد من الأحياء3.
ولا بد أن نشير في هذا المقام إلى النتائج العامة لمعركة اليمامة الشهيرة، فقد:
- أعادت الموازين إلى حجمها في الجزيرة العربية.
- أنهت أسطورة مسيلمة.
- أوقعت الرعب في قلوب بقية المرتدين في الجزيرة العربية، وبخاصة في تهامة التي تجمعت فيها فلول ممن انضوى تحت قيادة مسيلمة، من مدلج وخزاعة، وكنانة بقيادة جندب بن سلمى المدلجي، وراحوا يجوبون المنطقة بين صنعاء ونجران.
1 إشارة إلى الخدعة التي نفذها مجاعة بعد انتهاء المعركة، لإنقاذ ما تبقى من بني حنيفة، فقد ألبس النساء والذراري، والعبيد السلاح، وعرضهم للشمس فوق الحصون موهمًا خالدًا أنها مملوءة رجالًا.
انظر: البلاذري ص102، الطبري: ج3 ص296.
2 عرجون: ص201.
3 المرجع نفسه: ص202.
فأرسل إليهم عتاب بن أسيد، عامل أبي بكر على مكة، أخاه فاصطدم بهم في الأبارق وانتصر عليهم، وفر جندب من أرض المعركة"1.
- أظهرت الألمعية القيادية التي اتصف بها خالد، والتي ستتجلى في حروب الفتوح.
القضاء على الردة في البحرين:
استمرت الردة مشتعلة في البحرين، وعمان ومهرة واليمن، وحضرموت وكندة، وهي ممالك تقع كلها على شاطء الخليجين العربي، والعماني والبحر الأحمر، وهي بعيدة عن الحجاز، وشمالي الجزيرة العربية، وتفصلها عنها صحراء الربع الخالي، وبحكم موقعها الجغرافي، كان لفارس عليها سلطان ونفوذ، وهو أكثر وضوحًا في البحرين وعمان، وقد استوطنتهما جاليات فارسية، كانت فارس تمدها بنفوذها، وتدعمها بقواتها في أوقات الشدة، وبحكم واقعها هذا لم يتجذر الإسلام في نفوس سكانها، فكانوا آخر من دان بالإسلام في عصر الرسالة، كما كانوا أول من ارتد بعد وفاة النبي، ثم سيكونون آخر من يعود إلى الإسلام بعد حروف طاحنة تختم حروف الردة.
بدأ المسلمون بالبحرين؛ لأنها تجاور اليمامة، وقد استوطنتها بنو بكر بن وائل، وبنو عبد القيس من ربيعة، وأقامت جماعة من التجار الهنود، والفرس في الثغور من مصب الفرات إلى عدن، كان ملك هذه الأنحاء، المنذر بن ساوى العبدي زعيم عبد القيس، وكان نصرانيًا، لكنه اعتنق الإسلام حين دعاه العلاء بن الحضرمي مبعوث النبي إلى البحرني في السنة التاسعة للهجرة، واقتدى قومه به. وتوفي المنذر في السنة التي توفي فيها النبي، فارتد بنو بكر بزعامة الحطم بن ضبيعة، وملكوا عليهم المنذر بن النعمان بن المنذر بن سويد، وكان يسمى الغرور، وهو من سلالة المناذرة الذين حكموا الحيرة يومًا، واستمر بنو عبد القيس على إسلامهم توجيه من زعيمهم الجارود بن المعلى، وحاصر المرتدون بني عبد القيس في جواثا2، فأرسل إليهم أبو بكر قوة عسكرية بقيادة العلاء بن الحضرمي، وعسكر الطرفان في مواجهة بعضهما، وخندقا على أنفسهما، ثم جرى اشتباك بينهما أدى إلى انتصار المسلمين، وقتل الحطم في المعركة وأسر الغرور، وفر من نجا إلى جزيرة دارين3 واعتصموا
1 الطبري: ج3 ص318- 320.
2 جواثا: حصن لعبد القيس بالبحرين، الحموي: ج2 ص174، 175.
3 دارين: فرضة بالبحرين يجلب إليها المسك من الهند، المصدر نفسه: ص432.
بها، فلحقهم المسلمون، وجرى بين الطرفين قتال شديد دارت الدائرة فيه على المرتدين الذين قتلوا عن آخرهم، وكتب العلاء إلى أبي بكر بخبره بما فتح الله عليه، واستقر المسلمون في البحرين1.
القضاء على ردة أهل عمان، ومهرة وعك والأشعريين:
كانت عمان تابعة لفارس، وعليها أمير يدعى جيفر بن عبد الله بن مالك من بني سليم، وقد أرسل إليه النبي عمرو بن العاص، فأسلم على يديه، أقام عمرو بين القوم حتى وفاة النبي حيث عاد إلى المدينة بعد أن ارتد أهل عمان، وفر جيفر إلى الجبال، ولم يرتد مع المرتدين2.
تزعم ذو التاج لقيط بن مالك الأزدي حركة الارتداد، وادعى النبوة مقتديًا بغيره، وكان يعرف بالجلندي، وعندما بلغت أخبار الردة مسامع أبي بكر أرسل ثلاث فرق عسكرية إلى المنطقة، الأولى بقيادة حذيفة بن محصن الغلفاني الحميري، والثانية بقيادة عرفجة بن هرثمة البارقي الأزدي، والثالثة بقيادة عكرمة بن أبي جهل3.
والتقى الطرفان في دبا، وأسفر عن انتصار المسلمين، أقام حذيفة بعمان يوطد الأمور، ويسكن الناس، وعاد عرفجة إلى المدينة، ومعه خمس الغنائم، وتوجه عكرمة غربًا إلى مهرة، فأخضع سكانها من المرتدين بقيادة المصيح، أحد بني محارب4.
وارتدت قبائل عك والأشعريين بتهامة، وانضم إليهم الأوزاع، فتمركزوا في الأعلاب5، وقطعوا المواصلات بين مكة والساحل، فتعطل الأمن على الطريق المؤدي إلى اليمن6.
كانت الطائفة أقرب المدن الإسلامية إلى هذا الطريق، فكتب عاملها طاهر بن أبي هالة إلى أبي بكر يشرح له الوضع المتدهور، ويستأذنه بإخضاع المرتدين، فإذن له، فاصطدم بهم في الأعلاب وهزمهم7.
القضاء على الردة في اليمن:
تعرض اليمن بعد وفاة النبي لانقسامات سياسية حادة نتج عنها اضطراب في
1 الطبري: ج3 ص308- 311.
2 المصدر نفسه: ص314.
3 المصدر نفسه: ص314، 315.
4 المصدر نفسه: ص315، 316.
5 الأعلاب: أرض لبني عك بن عدنان بين مكة والساحل.
6 الطبري: ج3 ص320.
7 المصدر نفسه: ص320، 321.
أوضاعه، وقد تضافرت عدة عوامل، أججت الوضع الداخلي لعل أهمها عاملان:
الأول: تنافس الزعامات القبلية، وتسابقها لاستعادة نفوذها السابق، متأثرة بانتشار الردة في مختلف أرجاء الجزيرة العربية.
الثاني: عامل العصبية
لقد أجرى أبو بكر تعديلات في السلطة في اليمن، فعين فيروزًا على صنعاء، وداذويه، وجشيشًا مساعدين له، وقيس بن هبيرة على الجند، كان الثلاثة الأوائل من الفرس في حين كان قيس عربيًا من حمير، وراودته أحلام السيطرة على كامل مخاليف اليمن، لذلك غضب من تدابير أبي بكر.
والواقع أن قيسًا خشي من تصاعد نفوذ الأبناء، الذي يهدد النفوذ العربي في اليمن، فحاول استقطاب عرب اليمن جميعًا للقضاء عليهم، وبخاصة ذي القلاع الحميري1، ولعله أدرك قيمة حمير في أحداث اليمن، غير أن "ذا القلاع" لم يستجب له كما لم ينصر الأبناء، واكتفى بالرد عليه "لسنا مما ها هنا في شيء، أنت صاحبهم، وهم أصحابك"2.
ويبدو أن موقف الحميريين من هذا النزاع حتمه واقع الظروف الدينية، ذلك أن الأبناء كانوا مسلمين، ويتمتعون بحماية المدينة، وكل نزاع معهم قد تكون نتائجه سلبية على الوضع العام في اليمن، وبخاصة بعد ارتداد جماعات من اليمنيين، بحيث أضحى هذا البلد معرضًا لهجمات المسلمين من الشمال مما لا سبيل لليمنيين إلى مواجهته.
حاول قيس، بعد فشله في استقطاب الحميريين، إقناع أتباع الأسود العنسي، فطلب منهم أن ينضموا إليه بفعل الأهداف المشتركة، وهي العداء للأبناء وطردهم من اليمن، فاستجابوا له، وهاجمت قوى التحالف صنعاء ودخلتها، وقتلت داذويه، وتربع قيس على دست الحكم، وفر فيروز وجشيش إلى جبل خولان، ملتجئين عند أخوال الأول، وانضمت إليهما جماعات من حمير في ظل استمرار إحجام الزعماء3.
وأقدم قيس على إجلاء أسر الأبناء عن اليمن، وحاز رضى أهل اليمن من مختلف القبائل، مما أثار فيروز، فاستقطب القبائل التي استمرت على إسلامها، وشكل منهم قوة عسكرية، واصطدم بقيس وأجلاه عن صنعاء، وعاد أميرًا عليها، ووافقه الخليفة على ذلك، وأمده بقوة عسكرية مساندة بقيادة طاهر بن أبي هالة4.
1 الطبري: ج3 ص323.
2 المصدر نفسه.
3 المصدر نفسه: ص324، 325.
4 المصدر نفسه: ص325، 326.
والواقع أن عودة فيروز إلى الحكم، لم تحقق الأمن والسلم في ربوع اليمن، إذ استمر الثائرون على ردتهم، ويبدو أن الخصومة القديمة بين الحجاز، واليمن كانت حائلًا دون التوصل إلى تفاهم، وقاد عمرو بن معدي كرب جموع اليمنيين في حركة معادية للوجود الإسلامي، وسانده قيس، وحافظ أهل نجران على عهودهم مع المسلمين، فلم ينضووا تحت لوائه1.
واجه أبو بكر هذه الثورة بحزم، فأرسل جيشين إلى اليمن أحدهما بقيادة عكرمة بن أبي جهل، والآخر بقيادة المهاجر بن أبي أمية لإخضاع اليمنيين، ويبدو أن الثائرين هالهم زحف المسلمين باتجاه بلادهم، وشعروا بعجزهم عن التصدي لهم، وبخاصة بعد أن دب الخلاف بين عمرو وقيس، وقبض الثاني على الأول وسلمه إلى المهاجر، فقبض هذا الأخير على الاثنين، وأرسلهما إلى أبي بكر الذي عفا عنهما2، ودخل المهاجر صنعاء وتعقب فلول المتمردين، وعسكر عكرمة في الجنوب بعد أن استبرأ النخع وحمير، فانتهت بذلك الردة في اليمن، وعاد هذا البلد إلى حظيرة الإسلام3.
القضاء على الردة في كندة وحضرموت:
كان النبي قد أمر بأن توزع بعض صدقات كندة في حضرموت، وبعض صدقات حضرموت في كندة، ويبدو أنه حدث خلاف بين سكان البلدين بشأن هذا التوزيع، والتبادل في الصدقات، وتوفي النبي في هذا الأثناء مما دفع سكان البلدين إلى الارتداد، واستجابت كندة لدعوة الأسود العنسي4.
كان زياد بن لبيد البياضي الأنصاري عامل النبي على حضرموت، والمهاجر بن أبي أمية عامله على كندة، لكنه لم يتسلم منصبه حتى توفي النبي، وأناب عنه زيادًا بن لبيد، ويبدو أن هذا الوالي اشتد في جباية الصدقات، مما أثار الناس، وشكل دافعًا آخر للجنوح نحو الارتداد، ولما حاول قمع الثورة بالقوة، تعرض للهزيمة على يد الأشعث بن قيس الكندي، وتوسعت الثورة، فشملت كندة وحضرموت5.
خشي الوالي من استفحال الأمر، فاستنجد بالمهاجر في صنعاء فأنجده، كما أنجده عكرمة، وانضمت قواته إلى قوات المهاجر، وهاجمتا الأشعث بمحجر الزرقان وتغلبتا عليه، وفر الأشعث من ساحة المعركة، والتجأ إلى حصن النجير،
1 الطبري: ج3 ص326، 327.
2 المصدر نفسه: ص327-330.
3 المصدر نفسه.
4 المصدر نفسه: ص331.
5 المصدر نفسه: ص331، 332.
فحاصره المسلمون، وأرسل المهاجر في الوقت نفسه قوة عسكرية طهرت المنطقة حتى الساحل، أما عكرمة فقد تمركز في مأرب وفقًا لاتفاق القادة1.
ويبدو أن المتحصنين في النجير أزعجهم توغل المسلمين في بلادهم، كما خشوا من عواقب إطالة الحصار، لذلك قرروا الخروج، والتصدي للمحاصرين، وهكذا حديث الصدام الذي أسفر عن انتصار المسلمين، وأسقط في يد الأشعث الذي اتصف بالتقلبات السياسية، فهو مع الجانب القوي دائمًا ليحافظ على حياته ونفوذه، فبدا له أن يسلم الحصن للمسلمين وينجو بنفسه. فذهب إلى عكرمة ليستأنس له من المهاجر على نفسه، وعلى تسعة من أتباعه، فطلب منه عكرمة أن يدون أسماءهم، فدونها، ونسى أن يدون اسمه معهم، وعندما دخل المهاجر إلى الحصن أطلق سراح التسعة، ولما لم يكن اسم الأشعث من بينهم قبض عليه، وأرسله إلى المدينة، وجرى حوار بينه وبين الخليفة، هو أقرب إلى المعاتبة، والتهديد بالقتل من جانب الخليفة، وانتهى بالعفو عن الأشعث بعد أن عاد إلى الإسلام، وأقام المهاجر وعكرمة في حضرموت، وكندة حتى استتبت الأمور تمامًا للمسلمين وتحقق الأمن، فكان ذلك آخر حروب الردة2.
نتائج حروب الردة 3:
انتهت حروب الردة في الجزيرة العربية، وقد شكلت حدثًا ترك آثارًا على أوضاع العرب المسلمين بعامة لعل أهمها:
- شملت حروب الردة كافة أنحاء الجزيرة العربية كرقعة جغرافية، وأصابت كل شخص في المجتمع العربي حيث كان، إما مرتدًا أو ثابتًا على الإسلام، فهي إذن حروب أهلية من الصعوبة أن تمحى آثارها من ذاكرة العربي في مجتمع يقوم على الثأر، وبخاصة أن العرب كانوا حديثي عهد بالإسلام، إذ إن القتل أصاب مختلف القبائل التي ارتدت، فكان من الضروري فتح جبهات جديدة تحول اهتمام الناس عن الشأن الداخلي، فكانت الفتوح خارج نطاق الجزيرة العربية، مع الملاحظة بأن العامل الديني كان السبب الأبرز، والدافع الأول الذي دفع الجيوش العربية الإسلامية إلى الفتوح.
- كانت الوحدة السياسية بعد الوحدة الدينية ضرورية لدفع العرب إلى جزيرتهم
1 الطبري: ج3 ص335.
2 المصدر نفسه: ص335- 339.
3 انظر: كمال، أحمد عادل: الطريق إلى المدائن ص181- 185.
التي تعد قاعدة الفتوح، فإذا كانت هذه القاعدة مضطربة، فكيف يمكن للفتوح أن تبدأ وتنجح وتستمر، وقد أناحت حروب الردة تحقيق هذه الوحدة، وتعبئة كل طاقات العرب، وحشدها للأعمال العسكرية التي تلت.
- هناك صلة بين حركة الردة والفتوح، ذلك أن حجم واتساع حروب الردة كانت أول تدريب عسكري عملاني على الأرض لكافة العرب المسلمين في الجزيرة العربية، على مستوى الجيوش الكبيرة، ابتداء من الحشد، والتعبئة العامة إلى التحركات والسير والالتحام، إلى أعمال الدوريات، والحصار والجاسوسية والتدابير اللوجستية، ويذكر أن الحروب بين العرب في الجاهلية، وحتى عصر الرسالة كانت على مستويات أقل، فكانت حروب الردة أول حرب أشعلت كل الجزيرة العربية، واشترك في معاركها عشرات الآلاف من المقاتلين، وعليه يمكن وصف هذه الحروب بمثابة جسر عبر المسلمون العرب عليه إلى خارج الجزيرة العربية بهدف الفتح.
- كانت حروب الردة فرصة موآتية لبروز قيادات عسكرية اكتسبت خبرة في القتال، وتدرجت من قيادة عمليات صغيرة محدودة الإمكانات إلى قيادة عمليات على نطاق أوسع، نذكر من بين هذه القيادات: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وسعد بن أبي وقاص، والقعقاع بن عمرو، وأخاه عاصمًا وجرير بن عبد الله، والمثنى بن حارثة الشيباني وعدي بن حاتم، والنعمان بن مقرن وإخوته، وغيرهم كثير.
- كانت حروب الردة مرحلة وسيطة من حيث الحجم بين غزوات النبي، وبين المعارك الكبرى للفتوح التي غيرت مجتمعات فارسية، وبيزنطية مثل اليرموك والقادسية وما بعدهما.
- كانت حروب الردة ذات قيمة فنية لا تقدر، إنها أعطت المسلمين الثقة بالنفس، وبالنظام الذي اختاروه، وبالقدرة على الانتصار، وهي ثقة هامة وضرورية في مواجهة قوى كبرى تتمتع بقدرات مادية وكثرة عددية، هذا إلى جانب الإيمان بالهدف.