الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل العاشر: الدولة الإسلامية في عهد عمر-مقتل عمر
مدخل
…
الفصل العاشر: تنظيم الدولة الإسلامية في عهد عمر-مقتل عمر
نظام الحكم:
كان عهد عمر بن الخطاب عهد فتوح، كما رأينا، حالف النصر فيه المسلمين، فامتدت رقعة دولتهم حتى جاورت أفغانستان، والصين شرقًا والأناضول، وبحر قزوين شمالًا وتونس غربًا، وبلاد النوبة جنوبًا، وكان لا بد لهذه الدولة المترامية الأطراف من تنظيم حتى تستمر، وقدر لعمر بن الخطاب أن يكون رائد هذا التنظيم بما استوحى من نهج من سبقه، النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر الصديق، وربما طرأ على أوضاع المسلمين السياسية، والاجتماعية والاقتصادية بفعل احتكاكهم الحضاري بشعوب البلاد المفتوحة، ونمو الدولة بسرعة مذهلة، فكان على حاكمها أن يتابع هذا التطور في النمو.
التفت عمر، في بادئ الأمر، إلى تنظيم مركز القوة الدافعة في بلاد العرب، ثم عمل على توثيق الروابط بين أجزاء الدولة، وتأكيد تضامنها، فإن التطور الذي طرأ على أجهزة الحكم في عهده يعد نقلة نوعية في إطار بناء الدولة بما يتجاوز مفهوم العرب لها.
كانت الدلالة المباشرة للخلافة، أن الخليفة هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينتهج نهجه، ويسلك مسلكه، ولعل الماوردي كان الأكثر دقة في تحديد المفهوم الإسلامي لهذا الاصطلاح الذي تم التداول به بين المسلمين بشكل عفوي:"الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حرساة الدين، وسياسة الدنيا وعقدها لمن يقوم في الأمة واجب الإجماع"1.
لم يحدد النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل وفاته ماهية الخلافة لا في الشكل، ولا في
1 الأحكام السلطانية: ص5.
المضمون، وهو الذي تولى هذا المنصب كرجل دولة بالإضافة إلى سلطته كنبي. وهذا التغيير العملي الذي طبقه، والذي يختلف عن الأطر الجاهلية المعروفة عبر الانسجام المطلق في الصلاحيات؛ هو الذي حدد الإطار العام لمؤسسة الدولة الإسلامية، وتعد هذه الممارسة المزدوجة من جانبه أول ظاهرة في التاريخ1.
وحافظ أبو بكر الصديق على روحية هذا الإطار العام، إلا أنه أعطى الخلافة دورًا محددًا، ومضمونًا خاصًا اتضح في العهود اللاحقة، على الرغم من أنه لم يتمكن من أن يعطي منصب الخلافة شخصية، أكثر تفصيلًا، وذلك بفعل ولايته القصيرة، وانهماكه في إخضاع المرتدين بالإضافة إلى الفتوح التي ابتدأت في عهده، وقد وقع عبء هذه المهمة بالضرورة على عاتق عمر بن الخطاب الذي وجد نفسه أمام ظروف مستجدة لا يمكن تجاوزها، لا سيما في مجال حالات خاصة ليست لها سابقة لا في عصر الرسالة، ولا في عهد سلفه، وقد دفعته إلى أن يتخذ صفة تشريعية، كذلك، لمعالجة المواقف الطارئة التي واجهت الحكم.
شكلت هذه الازدواجية، بين فكرة الخلافة بمفهومها الروحي، وبين مؤسسة الدولة كنظام سياسي، الخطوة الأولى في مسيرة الدولة الإسلامية منذ عهد عمر بن الخطاب2، والمعروف أن النظام السياسي يشمل: الفكر السياسي، والنظم السياسية بما فيها الدستور والحكومة المركزية، والحكومات الإقليمية، والمحلية والإدارة العامة، والوظائف الاقتصادية، والاجتماعية للحكومة، والنظم السياسية المقارنة، والأحزاب والجماعات والهيئات، ودور الفرد في الحكومة والرأي العام3.
وبعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وظهور نواة الدولة الإسلامية، تمثلت المبادئ الخاصة بها بمضمون الوثيقة التي حددت قواعد السلوك الداخلي، والتعايش بين فئات المجتمع المدني، ووضعت الأسس للعلاقات الخارجية، وعالجت شئون الحرب.
لكن هذا النظام على الرغم من أنه لبى حاجة ماسة إليه في ذلك الوقت، وأحدث انقلابًا في قوانين التعامل الاجتماعي، والعلاقات السياسية، فإنه ظل لمدة في النطاق الحجازي دونما حاجة إلى تطوير، وذلك في عصر الرسالة، وعهد أبي بكر الذي لم يكن بوسعه أن ينصرف عن إخضاع المرتدين، ومواجهة الفرس والبيزنطيين، إلى
1 بيضون: ص86.
2 المرجع نفسه: ص87.
3 عيسى، محمد خيري؛ وغالي، بطرس بطرس: المدخل في علم السياسة ص4- 8.
تفصيل النظام الملائم للوضع لاجديد في ظل عدم تجانس المجتمع الإسلامي الجديد، حيث لم تكن وحدة الدولة قد استقرت بعد.
وبعد الانتشار الإسلامي السريع في عهد عمر، والاحتكاك بشعوب البلاد المفتوحة التي تمتلك تجربة في شئون الحكم والعلاقات السياسية؛ أضحى هذا النظام بحاجة إلى تطوير ليتماشى مع الظروف البيئية، والاجتماعية والسياسية الجديدة، وهي في مضمونها استجابة حتمية لتحديات ما أفرزته الفتوح.
والواقع أن نظام الحكم في عهد عمر هو استمرار للأساس الذي قام عليه في عهد النبي، وعهد أبي بكر من بعده، وهو أن الخليفة يجمع في يده، من حيث المبدأ، السلطة المطلقة وفقًا لشروط، وأعراف غير مكتوبة، غير أن القرارات لم تأخذ طابعها الفردي المحض، بل كان هناك ثلاثة أنواع من المجالس الاستشارية غير الرسمية، ولم تكن هذه المجالس يومئذ نطاقًا غايته الحد من سلطان الخليفة، كما لم يكن لأصحاب الرأي الذين يستشارون حقوق يفرضونها عليه، بل كان الخليفة مطلق الصلاحية، وهو الذي يختار من يستشيرهم، ثم كان يفاضل بين آرائهم، فيأخذ منها ما يشاء، ويدع ما يشاء.
كان المهاجرون والأنصار هم أهل الرأي، والمشورة في عهد النبي يلتفون من حوله، ويستمعون منه ويشيرون عليه، ويسيرون معه، فلما كان عهد أبي بكر انساح كثير منهم في العراق، وفي بلاد الشام، وبقي بعض كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار إلى جانبه، واستمروا في عهد عمر.
أما المجالس الاستشارية الثلاثة، فهي:
1-
مجلس المهاجرين والأنصار:
يتشكل هذا المجلس من كبار الصحابة من المهاجرين، والأنصار من ذوي الخبرة والتجربة، فكانوا يزودون الخليفة بالنصيحة، ويتناقشون معه في القضايا الهامة، فإذا طرأ أمر يحتاج إلى التدبير كان أعضاء هذا المجلس يجتمعون، والمعروف أن عامة المسلمين اعترفوا بتقدم المهاجرين والأنصار وأسبقيتهم، فكان اشتراك أعضاء من كلا الجماعتين أمرًا حتميًا، ومن أعضاء هذا المجلس: العباس بن عبد المطلب، عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، عبد الرحمن بن عوف، معاذ بن جبل، أبي بن كعب وزيد بن ثابت، وتعد أحكام هذا المجالس كافية في شئون الحياة اليومية العادية.
2-
مجلس العامة:
يتألف هذا المجلس من عامة المسلمين، المهاجرين والأنصار، وزعماء البدو
الوافدين على المدينة، فتعرض عليهم القضايا الهامة على مستوى الأمة الإسلامية، ويناقشونها، أما طريقة انعقاد المجلس، فكان ينادي الصلاة جامعة، وعندما يجتمع الناس يذهب عمر إلى المسجد النبوي، وهو المكان المخصص لانعقاد المجلس، فيصلي ركعتين، ويصعد بعد الصلاة على المنبر، ويلقي خطبة، ثم يقدم القضية التي تحتاج إلى النقاش والبحث.
نذكر من بين القضايا التي ناقشها هذاا لمجلس، قضية توزيع أراضي البلاد المفتوحة كإقطاع على أفراد الجيش، وقد افتتح عم الجلسة بقوله:"إني لم أزعجكم إلا، لأن تشتركوا في أمانتي فيما حملت من أموركم، فإني واحد كأحدكم، ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هواي"، استمرت جلسات المناقشة عدة أيام كان الناس يدلون برأيهم بحرية وجرأة1، وناقش هذا المجلس كذلك، الوضع على الجبهة العراقية بعد مقتل أبي عبيد الثقفي، إذ هم الخليفة أن يذهب بنفسه2، فقال العامة:"سر وسر بنا معك"، وأجمع الخاصة على أن يبعث رجلًا من أصحاب رسول الله على رأس الجيش إلى العراق، ويبقى هو في المدينة يمد هذا الرجل، عند ذلك جمع الناس، وقال لهم:"يحق للمسلمين أن يكونوا وأمرهم شورى بينهم، وإني إنما كنت كرجل منكم حتى صرفني ذوو الرأي منكم على الخروج، فقد رأيت أن أقيم، وأن أبعث رجلًا".
وعندما أراد عمر أن يذهب إلى بلاد الشام مع اشتداد وباء طاعون عمواس خرج من المدينة حتى إذا نزل بسرغ2 لقيه أمراء الجند، فأخبروه بأن الأرض سقيمة، وأن فتك الطاعون شديد، فجمع المهاجرين الأولين، واستشارهم في ما يفعل، أيتابع طريقه أم يعود أدراجه؟. فاختلفوا عليه فمنهم من أشار بالخروج، ومنهم من نصحه بالعودة، فجمع عند ذلك الأنصار واستشارهم، فسلكوا طريق المهاجرين، ثم جمع مهاجرة الفتح من قريش فنصحوه بالعودة، وقالوا له:"ارجع بالناس، فإنه بلاء وفناء"، فقرر عندئذ العودة، وأمر عبد الله بن عباس أن يجمع الناس ليعرض عليهم قراره3.
وهكذا كان الأمر في ما يتعلق بمرتبات الجند، وترتيب الدواوين وتعيين العمال وحرية التجارة للأجانب، وتحديد الضرائب عليها، وكثير من القضايا من هذا النوع، عرضت على
1 أبو يوسف: كتاب الخراج ص21-26.
2 الطبري: ج4 ص123، 124.
3 المصدر نفسه: ص58، 59، وسرغ هو أول الحجاز، وآخر الشام بين المغيثة، وتبوك من منازل حاج الشام، الحموي: ج3 ص211-212.