المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فتوح بلاد الشام: - تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية

[محمد سهيل طقوش]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة:

- ‌الباب الأول: أبو بكر الصديق 11-13هـ-632-634م

- ‌الفصل الأول: الأوضاع السياسية في الجزيرة العربية عقب وفاة النبي

- ‌الأوضاع السياسية في المدينة

- ‌اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة

- ‌الأوضاع السياسية خارج المدينة:

- ‌الفصل الثاني: تفشي ظاهرة التنبؤ في المجتمع العربي

- ‌الفصل الثالث: حروب الردة

- ‌مدخل

- ‌ملابسات حوادث بني تميم:

- ‌القضاء على ردة بني حنيفة:

- ‌الفصل الرابع: أوضاع الدولتين الفارسية، والبيزنطية عشية الفتوح الإسلامية:

- ‌أوضاع الدولة الفارسية

- ‌تراجع النفوذ البيزنطي من بلاد الشام عشية الفتوح الإسلامية:

- ‌الفصل الخامس: الفتوح في عهد أبي بكر

- ‌فتوح العراق:

- ‌فتوح بلاد الشام:

- ‌الفصل السادس: استئناف الفتوح في عهد عمر:

- ‌فتوح العراق:

- ‌معركة القادسية:

- ‌الفصل السابع:‌‌ استكمال فتوح العراق-فتوح فارس "إيران

- ‌ استكمال فتوح العراق

- ‌فتوح فارس "إيران

- ‌الفصل الثامن: استكمال فتوح بلاد الشام-فتوح الجزيرة وأرمينية والباب

- ‌مدخل

- ‌معركة اليرموك

- ‌فتح بيت المقدس

- ‌الفصل التاسع: فتوح مصر

- ‌مدخل

- ‌أثر الفتح الإسلامي على أوضاع الأقباط:

- ‌التوسع نحو الغرب:

- ‌الفصل العاشر: الدولة الإسلامية في عهد عمر-مقتل عمر

- ‌مدخل

- ‌الإدارة في عهد عمر:

- ‌الموظفون الإداريون:

- ‌الوالي:

- ‌الدواوين:

- ‌القضاء:

- ‌القضاء في عهد عمر:

- ‌إدارة البلاد المفتوحة من خلال عقود الصلح:

- ‌الفصل الحادي عشر: الفتوح في عهد عثمان

- ‌الفصل الثاني عشر: الفتنة الكبرى ومقتل عثمان

- ‌الباب الرابع: علي بن أبي طالب 35-40هـ/ 656-661م

- ‌الصراع بين علي وأصحاب الجمل:

- ‌المواجهة المسلحة الأولى بين المسلمين:

- ‌وقعة الجمل:

- ‌الصراع بين علي، ومعاوية، والخوارج

- ‌معركة صفين:

- ‌مرحلة التجهيز، والاستعداد:

- ‌معركة النهروان:

- ‌الخاتمة:

- ‌المصادر والمراجع:

- ‌محتوى الكتاب:

الفصل: ‌فتوح بلاد الشام:

يحكمها البيزنطيون مما أثار هؤلاء، كما حقد الفرس، والعرب الموالون لهم على المسلمين، فتنادوا للثأر مما حل بهم، وبخاصة تغلب وإياد والنمر، وزحفوا نحو الفراض، وجرى بين الجانبين قتال دموي رهيب في "15 ذي القعدة 12هـ/ 21 كانون الثاني 634م"، انتهى بهزيمة الحلفاء1.

1 الطبري: ج3 ص383، 384.

ص: 145

‌فتوح بلاد الشام:

تمهيد:

يكاد يتفق الباحثون في تاريخ الفتوح الإسلامية على أن بلاد الشام كانت في مقدمة اهتمامات الخليفة أبي بكر الهادفة إلى التوسع عبر المناطق المألوفة للعرب جغرافيًا2، وكانت هذه البلاد أكثرها التصاقًا بذاكرة العربي التاجر، حيث سعى إليها في رحلة الصيف، أو سمع الكثير عنها من رجال القوافل، ورواة الأخبار.

وتعود بدايات السياسية التوسعية في تلك المنطقة إلى عصر الرسالة، كما ذكرنا من قبل، وكانت هذه الرؤية حاضرة في ذهن أبي بكر الحريص على انتهاج سياسة النبي التوسعية، منذ بداية عهده، وإذا كانت ملامح هذه السياسة قد ظهرت أولًا في العراق، فإن الجبهة الشامية قد استقطبت الجانب الأكبر من اهتمامات أبي بكر3، وبخاصة بعد انتصارات المسلمين في العراق.

وتمت خطة التحرك نحو بلاد الشام في السنة الثانية عشرة للهجرة، بعد مشاورات أجراها أبو بكر مع كبار الصحابة من أهل الحل والعقد، ثم قام بتعبئة المسلمين لغزو هذه البلاد.

كان رد فعل عامة المسلمين الفوري الصمت، وذلك بفعل هيبة غزو البيزنطيين، حتى قام خالد بن سعيد بن العاص الأموي، فتقبل الفكرة، فكان أول من خرج إلى بلاد الشام بعد أن عقد له أبو بكر لواء، هو أول لواء عقده لحرب الشام.

تحمست بعض القبائل، في سياق هذه الحملة التعبوية، للمشاركة في عملية فتوح بلاد الشام، وأرسلت مقاتليها إلى المدينة، ومع ذلك ظلت الاستجابة بالمشاركة ضعيفة، مما دفع أبا بكر إلى استنفار قبائل اليمن، فجاءه المتطوعون من حمير ومذحج.

1 الطبري: ج3 ص383، 384.

2 المصدر نفسه: ص387، ابن عساكر، أبو القاسم علي بن الحسن: تاريخ مدينة دمشق ج2 ص61، 62.

3 بيضون، إبراهيم: ملامح التيارات السياسية في القرن الأول الهجري ص59، 60.

ص: 145

منازل القبائل العربية في وسط وشمالي الجزيرة العربية وبلاد الشام في العصر النبوي

ص: 146

خريطة فتوح الشام

ص: 147

يخبرنا البلاذري أن أبا بكر سارع فور انتهائه من قمع قبائل الردة بتعبئة قبائل نجد، والحجاز، واليمن لغزو بلاد الشام، وسعى لتشجيعها بالغنائم العظيمة، "فسارع الناس إليه بين محتسب وطامع"1، وهذا يعني أن بعض القبائل كانت تدفعهم غريزة العزو والغنيمة، وفق تقاليد الغزو المعروفة في المجتمع العربي، وأن أبا بكر لجأ إلى هذه الوسيلة التشجيعية بعد أن لمس ضعف الاستجابة العربية لمشروعه، مما يدل على أن بعض العرب كان الإسلام لا يزال ضعيفًا في قلوبهم، كما أن منع أبي بكر، المرتدين من المشاركة في حرب الفتوح، وهم أكثر العرب، قد أثر على ذلك.

ومهما يكن من أمر، فإن حركة الفتوح الإسلامية لبلاد الشام، نوقشت بين أهل الحل والعقد، ثم عرضت على عامة المسلمين، ووضعت الخطوط العريضة لها أثناء انعقاد اجتماع كبار الصحابة.

جيوش الفتوح:

بعد أن استكملت التجهيزات وتمت الاستعدادات، عين أبو بكر قادة الجيوش التي قرر أن يرسلها إلى بلاد الشام، وهي على الشكل التالي:

الجيش الأول:

عقد أبو بكر قيادة هذا الجيش إلى خالد بن سعيد بن العاص الأموي، وحدد له دمشق كهدف، ويتراوح عديده بين ثلاثة وأربعة آلاف مقاتل، وقد أبدى عمر بن الخطاب تحفظًا على قيادة خالد، لموقف اتخذه من بيعة أبي بكر2، فأعفاه الخليفة بعد أن اقتنع برأي عمر، واسترد منه اللواء، وعين مكانه يزيد بن أبي سفيان، وهو أموي أيضًا3، وربما أراد أبو بكر من ذلك، حظ التوازن في توزيع المسؤوليات بين الأسر القرشية، إنما حفظ لخالد مكانته، وعينه قائدًا لقوات احتياطية تتمركز في تيماء، ويكون تابعًا لأبي عبيدة، وذلك قبل أن ينطلق هذا الأخير إلى بلاد الشام4، وأردف أبو بكر ربيعة بن الأسود بن عامر مددًا ليزيد، فأضحى عدد قواته سبعة آلاف مقاتل، وحدد لقائده طريق زحفه وهو: وادي القرى -تبوك- الجابية5- دمشق، وزوده

1 فتوح البلدان: ص115.

2 انظر موقف خالد بن سعيد بن العاص من بيعة أبي بكر عند الطبري: ج3 ص387، 388.

3 المصدر نفسه: ص387.

4 المصدر نفسه: ص388.

5 الجابية: قرية من أعمال دمشق من ناحية الجولان قرب مرج الصفر في شمالي حوران، الحموي: ج2 ص91.

ص: 148

خريطة توزيع الجيوش على القطاعات

ص: 149

بتعليمات مهمة1 تشكل مخططًا واضحًا للتعبئة، وتحدد السياسة الإسلامية العامة لقادة جيوش الفتوح، وتوضح المعطيات التالية:

- عدم إلزام القائد، نفسه وأصحابه، بما يؤثر على مسيره، وإعطاء كل جندي حقه مع الراحة الضرورية لأفراد الجيش للمحافظة على قدرتهم القتالية، على أن يشاورهم في الأمر للوصول إلى قرار سليم؛ لأن ذلك يرفع من روحهم المعنوية، كما أن عليه ألا يكون شديدًا على مرءوسيه حتى لا يضعف روحهم المعنوية.

- تأمين العدل لمرءوسيه، وإبعاد الشر والظلم عنهم فيوقت السلم حتى يلازموه في وقت الحرب.

- تنفيذ المبادرة وإعادة تجميع القوات، وعدم الفرار عند لقاء العدو؛ لأن ذلك يغضب الله.

- تجنب قتل الأولاد والشيوخ، والأطفال ونقض العهود والعذر؛ في حال الانتصار؛ لأن ذلك يؤدي إلى بث الطمأنينة في نفوس سكان المناطق المفتوحة، ويدفعهم إلى الالتزام بما عاهدوا عليه، وفي ذلك كسب كبير للمسلمين.

- عدم التعرض لرجال الدين في الأديرة على أن يخير الأعداء المشركون الموالون للشيطان، بين القتل أو الدخول في الإسلام أو الجزية، وفي ذلك كسب معنوي ومادي.

انطلق هذا الجيش في "23 رجب 12هـ/ 3 تشرين الأول 633م" سالكًا الطريق المحدد له2.

الجيش الثاني:

عين أبو بكر شرحبيل بن حسنة قائدًا للجيش الثاني، وهدفه بصرى عاصمة حوران، ويتراوح عديده بين ثلاثة وأربعة آلاف مقاتل على أن يسلك طريق معان -الكرك3- مأدبًا- البلقاء- بصرى، وأوصاه بمثل ما أوصى به يزيد، وزاد

عليها خصالًا هي: "أوصيك بالصلاة في وقتها، وبالصبر يوم البأس حتى تظفر أو تقتل، وبعيادة المرضى، وبحضور الجنائز، وذكر الله كثيرًا على كل حال".

1 انظر هذه التعليمات عند الواقدي: ج1 ص8، ابن عساكر: ج2 ص75- 77.

2 كمال: الطريق إلى دمشق ص176.

3 الكرك: اسم لقلعة حصينة جدًا في طرف الشام من نواحي البلقاء في جبالها، بين أيلة وبحر القلزم وبيت المقدس، وهي على سن جبل عال تحيط بها أودية إلا من جهة الربض، وهي الآن في شرق الأردن، الحموي: ج4 ص453.

ص: 150

خرج هذا الجيش من المدينة في "27 رجب/ 7 تشرين الأول"1، سالكًا الطريق المحدد له، وشكل الجناح الأيسر للجيش الثالث، والجناح الأيمن للجيش الرابع، ولم يصادف أثناء زحفه مقاومة تذكر، وعندما وصل إلى بصرى ضرب عليها حصارًا مركزًا، استمر حتى قدوم خالد بن الوليد من العراق.

الجيش الثالث:

بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، وهدفه حمص، ويتراوح عديده بين ثلاثة وأربعة آلاف مقاتل، على أن يسلك طريق وادي القرى -الحجر- ذات المنار2 -زيزاء3- مآب4- الجابية- حمص، وأوصى أبو بكر قائده بمثل ما أوصى به عمرو بن العاص، وأضاف قائلًا له:"فإنه ليس يأتيهم مدد إلا أمددناك بمثلهم أو ضعفهم، وليس بكم والحمد لله قلة ولا ذلة، فلا أعرفن من جبنتم عنهم ولا ما خفتم منهم"5.

يتضمن هذا النص مفهومًا واضحًا للتعبئة العسكرية بما حدده الخليفة من قدرة على الإمداد الصحيح في الوقت المناسب بما يزيد على إمداد العدو، وأضاف إلى التعبئة المادية، تعبئة معنوية عندما أكد لأفراد الجيش أنهم في عدة وعدد حسن، وهم فرسان ذوو بصيرة، وقدرة على القتال، وما بهم خوف ولا جبن، مما يدفعهم إلى ملاقاة عدوهم بقلوب قاسية لا تعرف المسالمة ولا اللين.

وأضاف أبو بكر "فبث خيلك في القرى والسواد، ولا تحاصر مدينة من مدنهم حتى يأتيك أمري"5، والواضح أن في هذا الأمر علاقة بالتوزيع السكاني في بلاد الشام، وأن أبا بكر أراد أن يجنب قادته صدامًا كبيرًا مع العدو في المرحلة الأولى من الفتوح، ويدل ذلك على:

- أن غالبية سكان مدن بلاد الشام كانوا متحالفين مع البيزنطيين، ويعارضون الانتشار الإسلامي في ربوع بلادهم.

- أن سكان القرى والوساد كانوا أقرب إلى صداقة المسلمين وأقل عداوة، وذلك بفعل طبيعتهم البدوية التي تنسجم مع طبيعة العربي المسلم.

- إدراك أبي بكر لطبيعة التوزع السكاني في بلاد الشام، وتوجهات سكانها.

1 كمال: ص185.

2 ذات المنار: موضع في أول أرض الشام من جهة الحجاز، الحموي: ج3 ص3.

3 زيزاء: من قرى البلقاء، المصدر نفسه: ص163.

4 مآب: مدينة في طرف الشام من نواحي البلقاء، المصدر نفسه: ج5 ص31.

5 الأزدي: ص16.

ص: 151

- نية أبي بكر بمد سلطانه على القبائل العربية التي كان بعضها يعيش في مناطق التخوم الشامية مع الجزيرة العربية، أو في القرى المنتشرة بين الحجاز والشام، وينسجم هذا التوجه مع الهدف الأساسي للفتوح ألا وهو نشر الإسلام بين العرب أولًا، وسواهم من الأمم بعد ذلك.

ويذكر في هذا المقام أن سكان بلاد الشام كانوا على نوعين من الناحية القومية، عربًا وغير عرب، أما العرب فهم بدو القبائل الرحل، وأنصاف الرحل الذين استقروا في القرى، والسواد المتاخمة للجزيرة العربية، وهؤلاء هم الذين أشار إليهم أبو بكر، وأما غير العرب، وأعني بهم سكان المدن، فقد كانوا يتكلمون خليطًا من اللغات، وإن توزع بعض العرب بينهم.

خرج الجيش الثالث إلى وجهته في "7 شعبان/ 17 تشرين الأول"1، وصادف أثناء زحفه قوة للعدو في بلدة مآب، فقاتلها وهزمها، وسيطر على الجابية، ورابط فيها استعدادًا للزحف نحو حمص.

الجيش الرابع:

كان الجيش الرابع بقيادة عمرو بن العاص، وهدفه فلسطين، ويتراوح عديده بين ستة وسبعة آلاف مقاتل، على أن يسلك طريق ساحل البحر الأحمر حتى العقبة، فوادي القرى فالبحر الميت وصولًا بيت المقدس، وأعطاه توجيهات دينية وسيساية، وعكسرية تعد نموذجًا في التفكير لرجل الدولة: "لا تسلك الطريق الذي سار عليه يزيد، وشرحبيل بن حسنة، بل طريق إيلياء2 حتى تصل إلى فلسطين، ابعث العيون ليأتوك بالأخبار عن أبي عبيدة لمساعدته إذا كان يريد ذلك، وإلا فأنت لقتال فلسطين، قدم الفرسان لأبي عبيدة، والجيش إثر الجيش، إذا طلب منك ذلك، أكرم من معك ولا تتعال عليهم وانصحهم، شاور أولي الأمر

اعمل على حراسة القوات وحمايتها، أوصيك بالمعاملة الحسنة لمن معك"3، واستعمله على القبائل العربية الضارية على طريقه، وهي بلي وعذرة وسائر قضاعة، ومن سقط هناك من العرب، وأمره بندبهم إلى الجهاد.

خرج الجيش الرابع من المدينة في "3 محرم 13هـ/ 10 آذار 634م"4، واصطدم أثناء تقدمه بقوات بيزنطية منتشرة في المنطقة، فهزمها وفتح جانبًا من فلسطين الشرقية والجنوبية، ثم توجه إلى بيت المقدس.

1 كمال: ص186.

2 إيلياء: اسم مدينة بيت المقدس.

3 الواقدي: ج1 ص15، 16.

4 كمال: ص221.

ص: 152

خريطة مسارات الجيوش إلى الشام

ص: 153

الجيش الخامس:

بقيادة عكرمة بن أبي جهل، أبقاه في المدينة كاحتياط، ويبلغ عديده نحو ستة آلاف مقاتل.

تعقيب على خطة أبي بكر:

الواضح أنه لم تكن مهمة هذه الجيوش القيام بعمليات عسكرية واسعة ضد البيزنطيين، بل كانت أبسط من ذلك إلى حد بعيد، وهي محاولة إدخال السكان العرب في شمال الجزيرة العربية في المجال الإسلامي، ومن أجل ذلك أرسلت جيوش منفصلة، لكن عليها أن تعمل متساندة بناء لأوامر الخليفة، بحيث إذا اجتمع جيشان، أو أكثر في منطقة واحدة، فإنها تنضوي تحت إمرة قائد واحد.

إن قراءة متأنية لخطة أبي بكر على الجبهة الشامية تطلعنا على الأمور التالية:

- استحالة تعيين قائد عام لهذه الجيوش نظرًا لصعوبة الاتصال فيما بينها، إذ كانت تعمل مستقلة بعضها عن بعض، وكانت المسافة الفاصلة بين مناطق عملياتها لا تدع مجالًا للتفكير في أعمال مشتركة، ولم يكن في وسع المرء أن يتنبأ بالضرورة بأن المسألة ستنتهي باصطدامات كبرى مع الجيوش البيزنطية النظامية.

- إن عدد أفراد الجيش الواحد كان قليلًا جدًا بالمقارنة مع عدد

أفراد كل جيش من جيوش العدو، على الرغم من أن الجيوش الإسلامية لم تكن ثابتة فيما يتصل بحجمها وتركيبها، بل كانت تتلقى تعزيزات على نحو متواصل.

- إن الجيوش البيزنطية كانت مجهزة بأحدث معدات القتال ووسائله، ومهيأة للحرب بأحدث أساليبها، وكانت تقاتل على أرض تحتلها، وبالقرب من خطوط تموينها، ومركز قيادتها.

- تقضي الضرورة العسكرية على المسلمين المقاتلين على أرض بلاد الشام، بألا يتوغلوا فيها قبل أن تتمكن القوة الزاحفة إلى فلسطين من تثبيت أقدامها هناك.

- إن الخطة المضادة من قبل البيزنطيين الذين ردوا على التهديد بتعبئة الجيوش التي كانت تزداد حجمًا في نمو مطرد؛ وهي وحدها التي فرضت التنسيق على قوات المسلمين، وطرحت مسألة القيثادة العامة في حال العمليات المشتركة.

- إن تخصيص قادة الجيوش الإسلامية بالكور، أو الأجناد يتضمن الإشارة إلى تقسيم بلاد الشام الإداري في حاضرة البيزنطي، ومستقبله الإسلامي، فدل بذلك على أن هذه البلاد عندما كانت تحت الحكم البيزنطي كانت منقسمة إلى هذه الأجناد الأربعة، ويمكن أن نميز في وقائع فتوح الشام نمطين من المواجهات العسكرية:

ص: 154

اصطدامات متفرقة خاضها الأمراء منفردين مع جندهم حتى وطئوا أرض بلاد الشام، أو حين توغلوا فيها، ومعارك كبرى خاضتها الجيوش الإسلامية مجتمعة في مواقع فاصلة، انتهت إلى سيطرة المسلمين على هذه البلاد كما سنرى.

رد الفعل البيزنطي:

انطلقت الجيوش الإسلامية من قاعدتها في المدينة باتجاه أهدافها المحددة، في أوقات مختلفة كما أشرنا، وقد شعرت القبائل العربية المتنصرة، والمتحالفة مع بيزنطية بهذا الزحف، فخشيت من اجتياح إسلامي لقراها وأراضيها، كما خشي سكان المدي من توغل إسلامي في عمق بلاد الشام مما يشكل تهديدًا لهم، فكتبوا إلى الإمبراطور البيزنطي هرقل يعلمونه بالأوضاع المستجدة، ويطلبون منه مساعدة عاجلة لصد الزحف الإسلامي.

كان هرقل آنذاك في فلسطين أو في دمشق، فدعا إلى عقد اجتماع مع مستشاريه، وأركان حربه للتشاور، وأدرك في الوقت نفسه مدى جدية المسلمين في تقدمهم باتجاه بلاد الشام في هذه المرحلة التي تختلف في التخطيط، والأداء عن الحملات السابقة، لذلك عرض على المجتمعين تجنب القتال، وعقد صلح معهم، إذ إن إعطاءهم نصف خراج البلاد، والاحتفاظ بالنصف الآخر، أفضل من خسارة خراج البلاد بكامله، غير أن المجتمعين عارضوا هذا الرأي، فنزل عندئذ على رأيهم1، على الرغم من أنه كان أكثرهم تقديرًا لخطر المسلمين على ملكه ودولته، كما كان أكثرهم ذعرًا وخوفًا، حتى أنه رجل عن فلسطين، واستقر بعيدًا في أنطاكية في أقصى طرف بلاد الشام الشمالي، ليوجه الجيوش منها، ويبعث بتعليماته إلى قادته، ويدير العمليات العسكرية.

كان للبيزنطيين في بلاد الشام جيشان كبيران، يتمركز الأول في فلسطين، ويبلغ عديده سبعين ألف مقاتل، ويتمركز الثاني في أنطاكية، ويبلغ عديده مائتي ألف مقاتل معظمهم من الأرمن والروم.

معركة مؤاب 2:

وصل يزيد بن أبي سفيان إلى تبوك في أواخر عام 12هـ، في الوقت الذي نزل فيه شرحبيل بن حسنة في بصرى، وأبو عبيدة في الجابية، وكان هرقل قد جهز قوة

1 الأزدي: ص27، ابن أعثم: ج1 ص84.

2 كانت مؤاب تشكل نقطة تجمع، وشكلت في الماضي خط الدفاع الروماني المتأخر في أطراف فلسطين الرومانية.

ص: 155

عسكرية قوامها ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة سرجيوس قائد منطقة غزة، وأرسلها إلى وادي عربة في فلسطين لحصار المسلمين المتقدمين باتجاه الشمال، من الخلف، وقطع خطوط إمداداتهم مع المدينة.

كان من المفروض أن يتصدى خالد بن سعيد لهذه القوة، وقد أمره أبو بكر بأن يتقدم في تيماء دون أن يقتحم حتى لا يؤتى من خلفه، غير أن خالدًا توغل أكثر مما سمح له حتى إنه سبق جيش أبي عبيدة المرابط في الجابية، فبلغ مرج الصفر في ضواحي دمشق.

علم يزيد بتقدم جيش سرجيوس، وهو في البلقاء، في مكان يقع شرقي البحر الميت، ثم شاهد طلائعه، فاصطدم به في مؤاب وتغلب عليه، وانسحب البيزنطيون في جو الهزيمة القاتم إلى داثن، إحدى قرى غزة حيث أعاد سرجيوس تنظيم صفوف قواته ليستأنف القتال1.

كانت مؤاب أول مدينة بيزنطية في بلاد الشام تسط في أيدي المسلمين، والواضح أنه كان من المجازفة أن يقوم هؤلاء بنشاطات عسكرية كبرى إلى الغرب من وادي عربة دون فتح هذه المدينة، إذ أمن هذا الفتح المركز المسيطر عسكريًا على المنطقة الواقعة جنوبي وادي الموجب، أو نهر أرنون، وسمح للمسلمين القيام بنشاطات عسكرية في وادي عربة، ثم في داثن، بعد أن أضحى جناحهم الشمالي محميًا، وأزاح كل الحواجز العسكرية الجدية من طريقهم حيث أضحى الانتشار في ربوع فلسطين يتم وفق إرادتهم.

وقد أدى بذل الحد الأدنى من الضغط، في اللحظة الحرجة والمكان الصحيح إلى انتصار المسلمين مع تكبدهم الحد الأدنى من الخسائر، ويتحمل سرجيوس الذي ربما استخف بقوة المسلمين، المسئولية حيث كان استعداده العسكري غير واضح، ودخل المعركة بشكل عشوائي، وبدا واضحًا بعد اختراق المسلمين لجنوبي فلسطين أنه لم يكن ثمة خطة بيزنطية مدروسة، ومتماسكة للدفاع عن بلاد الشام، وما اتخذه هرقل، بعد ذلك، من إجراءات لتجنب الكارثة، جاءت متسرعة، ولم تحل دون وقوعها.

معركة داثن:

تحصن سرجيوس في داثن، وخاض المعركة الثانية ضد المسلمين فخسرها،

1 الأزدي: ص52، البلاذري: ص117، الطبري: ج3 ص406.

ص: 156

وخسر حياته حيث قتل في المبارزة التي جرت بينه، وبين ربيعة بن عامر، وذلك في "24 ذي الحجة 12هـ/ 1 آذار 634م"1.

عززت معركة داثن النجاح الذي حققه المسلمون إلى مدى أبعد شرقًا، وفي منطقة مختلفة، وخلفت الخسارة البيزنطية صدى قويًا تراوح بين الفرح الذي عم السكان اليهود بخاصة الذين عدوا انتصار المسلمين فاتحة زوال السيطرة البيزنطية، وبين الأسى الذي عم الدوائر الحاكمة في القسطنطينية، وبعض القبائل

العربية في بلاد الشام، وتمثل هذه المعركة إلى جانب الهدف الديني الأسمى للمسلمين، المقاومة الإسلامية للمحاولات البيزنطية لتضييق الخناق الاقتصادي عليهم، من واقع فرض السيطرة على المناطق الحدودية، والتحكم بمرور القوافل التجارية، بعد أن استعاد هؤلاء سيطرتهم على سواحل البحر الأحمر.

وتابع يزيد زحفه بعد انتصاره، فاجتاز حوران، وغوطة دمشق حتى وصل إلى أبواب مدينة دمشق، وتمركز حولها، ومنع حاميتها من الاتصال بالقيادة المركزية في أنطاكية، ثم اتصل ببقية الجيوش الإسلامية.

معركة مرج الصفر:

رأى هرقل أن يضرب أولًا جيش خالد بن يزيد الزاحف باتجاه مرج الصفر، فاستنفر العرب المتنصرة مثل بهراء، وكلب وسليح، وتنوخ ولخم وجذام وغسان، فتوافدوا وعسكروا في مكان قريب من آبل2، وزيزاء والقسطل3 بقيادة باهان، فاصطدم بهم خالد بن يزيد بعد أن استأذن أبا بكر، وانتصر عليهم، وفر باهان مع من تبقى من جنوده من ساحة المعركة4.

كتب خالد بن سعيد بأنباء الانتصار إلى أبي بكر، وطلب منه إرسال المزيد من الإمدادات، فاستجاب لطلبه، ثم تسرع -خالد- فشق طريقه إلى مرج الصفر متجاوزًا القواعد العسكرية الضرورية للزحف، وبخاصة إرسال الطلائع لاستكشاف المنطقة، ورصد وجود تحركات العدو، مما أعطى الفرصة لباهان الذي كان يراقب تحركاته، لمهاجمته، وعندما وصل إلى مرج الصفر بين الواقوصة ودمشق، قطع عليه خط الرجعة دون أن يشعر، ثم التف حول الجيش الإسلامي وفاجأه، فلاذ خالد بن سعيد

1 الأزدي: ص52، البلاذري: ص117، الطبري: ج3 ص406.

2 آبل: موضع بالأردن من مشارف الشام، الحموي: ج1 ص50.

3 القسطل: موضع قرب البلقاء من أرض الشام في طريق المدينة، المصدر نفسه: ج4 ص347.

4 الطبري: ج3 ص388-391.

ص: 157

بالفرار تاركًا جيشه تحت رحمة البيزنطيين، لكن عكرمة بن أبي جهل نجح في إعادة تنظيم صفوفه، وانسحب من ميدان المعركة، وعسكر على مقربة من الشام، وجرت المعركة في "4 محرم 13هـ/ 11آذار 634م"1.

وصلت أنباء هذه الهزيمة إلى مسامع أبي بكر، فكتب إلى خالد بن سعيد، الذي وصف بأنه قائد غير كفوء، يعنفه، ويتهمه بالجبن، والفرار طلبًا للنجاة، وأمره بأن يظل في مكانه.

الخطة البيزنطية لوقف الزحف الإسلامي:

وضع هرقل خطة عسكرية لمواجهة المسلمين على أثر انتشارهم في أجزاء من بلاد الشام، تقوم على الأسس التالية:

- ضرب الجيوش الإسلامية منفردة.

- يتراجع البيزنطيون وفق خطة تكتيكية، ويتخلون للمسلمين عن مناطق الحدود الشمالية للجزيرة العربية.

- تتجمع وحدات الجيش الأول في فلسطين، بعد تعزيزها، بقيادة تيودور أخي هرقل لمواجهة جيش عمرو بن العاص.

- تتجمع وحدات الجيش الثاني في أنطاكية بقيادة وردان أمير حمص.

- يزحف الجيش الثاني من أنطاكية إلى حمص، ويباشر القتال مع كل جيش من الجيوش الإسلامية الثلاثة الأول، والثاني والثالث، بكشل منفرد بحيث يستدرج كل جيش منها إلى القتال على حدة، فيهزمه ثم يميل إلى الآخر، وهكذا إلى أن ينتهي منها جميعًا، مستخدمًا أسلوب "المناورة بالخطوط الداخلية"2.

وبناء على ذلك، تراجع البيزنطيون بسرعة من أمام المسلمين متخلين عن الأراضي المتاخمة لحدود الجزيرة العربية، ثم استجمعوا قواهم في أنطاكية، وفلسطين استعدادًا للتصدي للمسلمين3، وهكذا نشأت أمام المسلمين حالة جديدة لم يكونوا يتوقعونها.

الخطة الإسلامية المقابلة:

ازداد الموقف العسكري وضوحًا بعد استعدادات البيزنطيين، وحشدهم الجند.

1 الطبري: ج3 ص390، 391، ابن عساكر: ج2 ص104، كمال: ص229.

2 سويد: ص261.

3 المرجع نفسه.

ص: 158

ووقف القادة المسلمون في بلاد الشام على هذه التعبئة البيزنطية، فتشاوروا فيما بينهم، واستقر الرأي على اقتراح قدمه عمرو بن العاص ويقضي باجتماع الجيوش الإسلامية في مكان واحد1، وقضت الخطة:

- بالجلاء بأقصى سرعة ممكنة عن المناطق التي فتحوها في الداخل، إذ المهم في الحرب ليس السيطرة على العواصم والبلدان، بل القضاء على جيوش العدو وسحق مقاومتها.

- بالتراجع حتى جوار بصرى، مع تجنب الاشتباك بالعدو، والدخول معه في معركة غير متكافئة، على أن يتم تنظيم المرحلة التالية من العمليات فيما بعد2.

تنفيذًا لهذه الخطة سار أبو عبيدة باتجاه بصرى، وجلا يزيد عن الغوطة، ورفع الحصار عن دمشق، ثم جلا شرحبيل رافعًا الحصار عن بصرى، واجتمعت الجيوش الثلاثة في جوار بصرى في حين أخذ عمرو بن العاص ينسحب تدريجيًا بمحاذاة الضفة الغربية لنهر الأردن ليتصل بزملائه3.

بعد تنفيذ إجراءات التراجع والتجمع في جوار بصرى، كتب أبو عبيدة رسالة إلى أبي بكر يعلمه بقرار القادة ويطلب موافقته عليه، وفعلًا وافق أبو بكر على هذا القرار، وأدرك في الوقت نفسه حرج موقف المسلمين على الجبهة الشامية، وأنهم بحاجة إلى قيادة عسكرية فذة تخرجهم من هذا الوضع الحرج، وجدها في خالد بن الوليد الذي انتشرت أخبار انتصاراته على الفرس في العراق، فاستشار أصحابه، فوافقوه4.

والواقع أن المسلمين في العراق حققوا هدفهم الآني، وهو السيطرة على إقليم الحيرة وغربي الفرات، وأزاحوا وأزاحوا نفوذ القبائل النصرانية عن الفرات الأوسط، وبفعل ضعف رد الفعل الفارسي تجاه هذا التوسع بسبب النزاعات الداخلية، كان لا بد من تفعيل جبهة بلاد الشام، وبخاصة أن الجيوش الإسلامية هناك لم تحرز تقدمًا يذكر، وظلت تتمركز في مواقعها الأساسية عند حافة الصحراء على الرغم من أن التهديد الخطير الذي يمكن أن تشكله الفرق العسكرية البيزنطية في المنطقة لم يكن يتسم بالرجحان الشديد، واحتاج المسلمون إلى قوات إضافية للتوسع في مناطق المدن، وتمثل هذه الأفكار الخلفية لاستدعاء خالد بشطر الجيش، انطلاقًا من النظرة الصحيحة.

1 الطبري: ج3 ص392.

2 سويد: ص261، 262.

3 المرجع نفسه: ص262.

4 الواقدي: ج1 ص24.

ص: 159

خريطة عبور السماوة

ص: 160

استدعاء خالد بن الوليد إلى الجبهة الشامية:

كتب أبو بكر رسالة إلى خالد بن الوليد، وهو في العراق يأمره بالتوجه إلى بلاد الشام، جاء فيها:"بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عتيق بن أبي قحافة إلى خالد بن الوليد، سلام عليك، أما بعد، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، أما بعد، فإذا جاءك كتابي هذا فدع العراق، وخلف فيه أهله الذين قدمت عليهم وهم فيه، وامض متخففًا في أهل القوة من أصحابك الذين قدموا العراق معك من اليمامة، وصحبوك في الطريق، وقدموا عليك من الحجاز، حتى تأتي الشام فتلقى أبا عبيدة بن الجراح، ومن معه من المسلمين، فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة، والسلام عليك"1، وفي رواية:"إني قد وليتك على جيوش المسلمين، وأمرتك بقتال الروم، وأن تسارع إلى مرضاة الله عز وجل وقتال أعداء الله، وكن ممن يجاهد في الله حق جهاده"2.

يتضمن الكتاب توجيهات الخليفة بوصفه القائد العام للجيوش الإسلامية، فقد حدد لقائده الهدف، وبين له العناصر الضرورية للوصول إليه، ومنها: المكان الجغرافي، الإمكانات والموارد التي يمكن توفيرها، التحرك السريع، تولي قيادة الجيوش الإسلامية في بلاد الشام، محاربة البيزنطيين حتى النصر، إلا أنه ترك له حرية اختيار الطريق الذي سيسلكه، وأسلوب قتال عدوه؛ مبرهنًا عن بعد نظر في الشئون العسكرية.

انتقال خالد بن الوليد من العراق إلى بلاد الشام:

كان خالد في الحيرة عندما تلقى أمر الخليفة بالتوجه إلى بلاد الشام، لنجدة الجيوش الإسلامية المرابطة هناك، وكان قد أنشأ لنفسه موقعًا ثابتًا موطد الأركان، نسبيًا، في غربي الفرات، لكنه لم يكن ينطوي منذ البداية على الرغبة في فتح إقليم لنفسه، والاستقرار فيه، ولا بد للعمليات العسكرية المتوقعة في بلاد الشام أن تكون موضع ترحيب منه، من واقع كونها تحديًا لكفاءته العسكرية؛ لذلك أطاع الأمر فورًا3.

قسم خالد، قبل مغادرته العراق، جيشه إلى قسمين، اصطحب معه تسعة آلاف، وهم الذين قدموا معه يوم جاء إلى العراق، وترك ثمانية آلاف بقيادة المثنى، وهم

1 الواقدي: ص24، 25، ابن أعثم: ج1 ص107.

2 الأزدي: ص54.

3 كلير: ص231.

ص: 161

الذين كانوا معه في العراق1، وكان عليه أن يتحرك بسرعة ليقطع المسافة بين الحيرة في العراق، وبصرى في بلاد الشام بأقل مما يمكن من الوقت، والمعروف أن المسافة بينهما لا تقل عن ستمائة ميل، واختار طريق عين التمر -قراقر2- سوى3 -أرك4 -تدمر- القريتين -الغوطة- بصرى، ويتميز هذا الطريق بأنه خال من قلاع الفرس، والبيزنطيين ومسالحهم، ويصل بسالكه إلى بصرى دون أن يتعرض لهجمات العدو، لكنه يمر بمفازة قاحلة طويلة تحتاج إلى مسيرة خمسة أيام بلياليها، لا ماء فيها ولا كلأ، وتنتشر عليها بعد "سوى" قبائل متحالفة مع البيزنطيين، وبعد اجتيازها مغامرة قد تكون مميتة إن لم ينتصر من يغامر فيها على سراب رمال الصحراء، وعلى عطشها، ولهيب شمسها خمسة أيام متتالية، إنه طريق خطر على الرغم من قصر مسافته.

خرج خالد من الحيرة في "8 صفر 13هـ/ 14 نيسان 634م"، وأرسل رسالة عامة إلى المسلمين في بلاد الشام يخبرهم بأمر الخليفة بنجدتهم، ورسالة خاصة إلى أبي عبيدة يخبره بأمر الخليفة تعيينه قائدًا عامًا لجيوش المسلمين في هذه البلاد5.

كان أبو عبيدة في الجابية حين أتاه عمرو بن الطفيل مبعوث خالد بالرسالتين، فقرأ على المسلمين الرسالة الأولى، واحتفظ لنفسه بالرسالة الثانية، وعلق عليها قائلًا:"بارك الله خليفة رسول الله فيما رأى، وحيا خالدًا بالسلام"6.

اجتاز خالد مع قواته المفازة بمعاونة الدليل رافع بن عميرة الطائي، فكان يسير في الليل مهتديًا بكوكب الصبح ويستريح في النهار، ولتأمين الماء للحملة، خصص خالد، بناء على اقتراح رافع، عددًا من الإبل السمان، فأعطشها أيامًا، ثم أوردها الماء حتى امتلأت أجوافها، ثم قطع مشافرها حتى لا تجتر، كما اصطحب كل جندي معه معدات المياه المنفردة، فكان كلما نزل مكانًا للراحة ينحر عشرًا من تلك الإبل، ثم

1 يذكر الطبري أن خالدًا قدم على المسلمين في تسعة آلاف، ج3 ص394، وقارن بالبلاذري الذي يذكر ثلاثة أرقام هي ثمانمائة وستمائة وخمسمائة، ص118، كلير: المرجع نفسه ص223، 224، كمال: ص323، 324.

2 قراقر: واد لكلب بالسماوة من ناحية العراق، الحموي: ج4 ص317.

3 سوى: اسم ماء لبهراء من ناحية السماوة، المصدر نفسه: ج3 ص271.

4 أرك: مدينة صغيرة في طرف برية حلب قرب تدمر، وهي ذات نخل وزيتون، المصدر نفسه: ج1 ص153.

5 الأزدي: ص71، الواقدي: ج1 ص25.

6 المصدران نفساهما.

ص: 162

يشق بطونها، ويأخذ ما فيها من الماء فيروي الخيل منه، ويطعم أفراد الجيش من لحومها، ويرتوي هؤلاء مما حملوا من الماء على ظهور الإبل، ثم يتابع سيره إلى أن أشرفت المفازة على نهايتها، وأشرفت الإبل على النفاذ، كما نفذ الماء المحمول على ظهورها، وأحضى الجيش عرضة للهلاك عطشًا، وكان فجر اليوم الخامس حين بلغ الجيش موقع سوى، فخشي خالد أن يهلك أفراده عطشًا، فنادى رافعًا، وسأله عن الماء فطمأنه قائلًا:"خير، أدركتم الري، وأنتم على الماء"، ودلهم على بئر ماء مطمور، فحفروا ونبع الماء، فشرب الجند والإبل والخيل1، واستراح أفراد الجيش برهة في سوى، ثم تابعوا سيرهم حتى وصلوا إلى تدمر، وصالح أهل مصيخ بهراء وأرك، خالدًا بعد أن اصطدم بهم2.

تجنب خالد حين حاذى إقليم الجزيرة الفراتية أن يصطدم بالبيزنطيين الذين كانوا يحتلونه، واجتهد، حين أشرف على بلاد الاشم، وأراد أن يتوغل فيها؛ ألا يترك خلفه مواقع قائمة للبيزنطيين، أو لحلفائهم من العرب، فإن الشام غير الجزيرة.

فتح تدمر:

كانت تدمر من المراكز العسكرية المحصنة، فحاصرها المسلمون من كل جانب، وقد تحصن بها أهلها، فهددهم خالد، وقد أصر على فتحها، ويبدو أنهم أدركوا حرج موقفهم في ظل غياب الدعم البيزنطي، فمالوا إلى طلب الصلح، وفتحوا أبواب مدينتهم للمسلمين3.

فتح القريتين 4 وحوارين 5:

واصل المسلمون سيرهم حتى وصلوا إلى القريتين، فاعترضهم أهلها، وجرى اشتباك بين الطرفين أسفر عن انتصار المسلمين، ثم مروا بحوارين، فتحصن أهلها وراء أسوارهم، وطلبوا مساعدة عاجلة من المدن والقرى المجاورة، فجاءهم جيشان الأول من بعلبك، والثاني من بصرى، يبلغ عديدهما أكثر من أربعة آلاف مقاتل، لكن المسلمين اصطدموا بهما قبل أن

يصلا وشتتوهما، واضطر أهالي حوارين إلى قبول الصلح6.

1 البلاذري: ص118، الطبري: ج3 ص409، 410، ابن عساكر: ج2 ص87، 88.

2 الأزدي: ص76، البلاذري: المصدر نفسه ص119.

3 المصدران نفساهما، ص77، ص119.

4 القريتين: قرية كبيرة من أعمال حمص في طريق البرية، وأهلها كلهم نصارى، الحموي: ج4 ص336.

5 حوارين: من قرى حلب، المصدر نفسه: ج2 ص315.

6 الأزدي: ص78، 79، البلاذري: ص119.

ص: 163

خريطة معسكرات المسلمين بالشام

ص: 164

خريطة أجنادين

ص: 165

خريطة حصار دمشق

ص: 166

توجه المسلمون بعد حوارين باتجاه الجنوب قاصدين غوطة

دمشق، فاعترضتهم قبيلة غسان بقيادة الحارث بن الأيهم، وجرى اشتباك بين الطرفين أسفر عن انتصار المسلمين، وتراجعت غسان إلى حصون دمشق، وواصل المسلمون تقدمهم حتى بلغوا الثنية، ووقفوا على التل المعروف بهذا الاسم، ونشروا عليه الراية السوداء المسماة بالعقاب وهي راية النبي، ولهذا سمي المكان بثنية العقاب1، وأغاروا على بعض قرى الغوطة، وعسكروا أمام الباب الشرقي لدمشق على دير صليبا، وفي رواية أن خالدًا عسكر على باب الجابية الغربي، وأجرى مباحثات مع أسقف المدينة، وعامل هرقل منصور بن سرجون أسفرت عن معاهدة صلح، وكتب خالد كتاب الصلح "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطي خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها، أعطاهم أمانًا على أنفسهم، وأموالهم وكنائسهم، وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم، لهم بذلك عهد الله، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء والمؤمنين، لا يفرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية"2، والواضح أن دمشق لم تكن هدف خالد الآني، إنما أراد أن يحمي مؤخرة جيشه عندما يستأنف

الزحف باتجاه الجنوب.

واجتاز المسلمون الغوطة من الشمال إلى الجنوب حتى وصلوا إلى قناة بصرى، وكانت لا تزال بأيدي البيزنطيين، وعليها أبو عبيدة وشرحبيل ويزيد3، فاجتمعت الجيوش الإسلامية الأربعة أمامها، ويذكر بأن خالدًا قطع المسافة بين الحيرة، وبصرى في ثمانية عشر يومًا.

فتح بصرى:

في ظل هذه الظروف، ومع تنامي خطر الاصطدام مع البيزنطيين، حاول خالد أن يأخذ زمام المبادرة في الوقت الذي كان فيه عمرو بن العاص يتراجع بمحاذاة الضفة الغربية لنهر الأردن، يرهقه جيش تيودور، ووجد نفسه

أمام خيارين:

الأول: تجميع الجيوش الإسلامية الأربعة في بصرى بعد الإيعاز إلى عمرو بن العاص بالإسراع نحوهم، والانضمام إليهم، ثم انتظار جيش أنطاكية البيزنطي الزاحف باتجاه الجنوب بقيادة وردان حاكم حمص، والاشتباك معه في ذلك المكان.

الثاني: الإسراع لنجدة عمرو بن العاص، والاشتباك مع جيش تيودور، حتى إذا

1 البلاذري: المصدر نفسه، الطبري: ج3 ص410، 411، كان يزيد قد فك الحصار عن دمشق، وعاد إلى بصرى لمساندة أبي عبيدة وشرحبيل.

2 البلاذري: المصدر نفسه: الأزدي: ص83.

3 الطبري: ج3 ص417.

ص: 167

فرغوا منه عادوا ليقاتلوا جيش أنطاكية، بعد أن يكونوا قد ضمنوا مؤخرتهم، ووطدوا أقدامهم في فلسطين1.

وتقرر اعتماد الخيار الثاني، وهو الأخطر والأصعب، وترتب على هذا الاختيار فتح بصرى أولًا للانطلاق منها نحو الهدف، لذلك شدد المسلمون الحصار عليها، وأجبروا أهلها على طلب الصلح، فكانت أول مدينة فتحت صلحًا في بلاد الشام، وأول جزية وقعت في هذا البلد في عهد أبي بكر، وفقًا لرواية البلاذري2.

معركة أجنادين:

ارتد عمرو بن العاص نحو أجنادين الواقعة بين الرملة، وبيت جبرين، وتوقف فيها ينتظر وصول جيش تيودور الذي كان يتقدم نحوه متمهلًا،

وهو مطمئن إلى قوته وضعف عدوه، فوصل أيضًا إلى هذه البلدة، وانضم إليه نصارى العرب، وأهل الشام آملين أن ينالوا نهائيًا من المسلمين، ويخرجوهم من فلسطين، وكان مثل هذا العمل سيؤدي إلى إحراج المسلمين المنتشرين في المناطق الواقعة شرقي البحر الميت ونهر الأردن، ووضعهم في موضع مكشوف على نحو ينذر بالخطر، إذ كانت القوى الإسلامية بعيدة عنهم، ولعل وردان الذي تشير إليه بعض الروايات على أنه كان القائد العسكري في حمص، كان أيضًا في القيادة.

عقد خالد بن الوليد مجلسًا عسكريًا عندما علم بزحف البيزنطيين تقرر فيه تجميع القوى الإسلامية، والصمود في أجنادين، وجرى اللقاء في هذه البلدة يوم السبت في "27 جمادى الأول 13هـ/ 30 تموز 634م"، دارت فيه الدائرة على القوات البيزنطية3.

كانت معركة أجنادين مكشوفة، وأدت إلى جعل البيزنطيين أقل حماسة عما كانوا عليه من قبل لمجابهة المسلمين في الأماكن المكشوفة، والواقع أن الخوف كان يسبق القتال المكشوف، وقد نال المسلمون حرية نسبية مكنتهم من فتح معظم المدن دون مقاومة، وشل حركة المواصلات بين المدن.

واضطرت القيادة البيزنطية إلى تغيير خططها العسكرية، بالاعتماد على المدن

1 سويد: ص271، 272.

2 فتوح البلدان: ص120، الأزدي: ص81.

3 الطبري: ج3 ص418، وقارن بالبلاذري ص121، يذكر الواقدي أن عدد جنود الروم بأجنادين كان تسعين ألفًا، ج1 ص66، ابن عساكر: ج2 ص98، 99.

ص: 168

المحصنة كقواعد حماية لجنودها، والانطلاق لمناوشة المسلمين مع تجنب خوض معارك مكشوفة، مما قلص حركية القوى البيزنطية، وجعل المبادرة بيد المسلمين، إذ إن توزيع القوى في مدن مستقلة حال دون التعاون فيما بينها حيث شغلت كل مدينة بالدفاع عن نفسها، وأضعف قدرتها على مجابهة خصومها، وخلقت في نفوس سكانها عقلية دفاعية، ومع ذلك فقد كانت هزيلة مما يسر للمسلمين فتحها كما سنرى، وكان هرقل قد جمع سكان دمشق، وأمرهم أن يقفلوا الأبواب إقفالًا وثيقًا، وأن يأتمروا بأمر القائد الذي سيعينه عليهم، وشجعهم على الاهتمام بالدفاع عن أنفسهم.

بعد أجنادين:

اختلف الرواة والمؤرخون حول ما حصل بعد أجنادين، ويقول الطبري في ذلك:"ومن الأمور التي تستنكر وقوع مثل هذا الاختلاف الذي ذكرته في وقته لقرب بعض ذلك من بعض"1، ويمثل التاريخ الحولي للأحداث التي سوف أتحدث عنها إحدى المشكلات، التي لم يجر التوصل إلى حل لها في تاريخ صدر الإسلام، والروايات الواردة عند المؤرخين المسلمين متناقضة فيما بينها، وسوف انتهج خلال هذا البحث الترتيب الذي أراه أقرب إلى الصحة، والواقع من خلال النقد التاريخي للمصادر كلما أمكن ذلك.

يروي الأزدي أن خالدًا سار بالمسلمين بعد أجنادين إلى دمشق2، وذكر المدائني وسيف أنه بعد أجنادين كانت اليرموك، ثم دمشق وفحل معًا3، في حين تذكر روايات كثيرة أخرىأنه بعد أجنادين كانت فحل بالأردن4، غير أن منطق الأحداث من خلال ترجيح الروايات التي أوردها الأزدي بفعل أنها أوثق بصفة عامة، كما أنها مقبولة، يحملنا على الاعتقاد بأن المسلمين قصدوا دمشق بعد أن انتهوا من معركة أجنادين.

الاصطدام في مرج الصفر:

توجه المسلمون إلى دمشق بعد أن فرغوا من أجنادين، عبر الجولان، ولما وصلوا إليها ضربوا عليها حصارًا مركزًا، فعكسر خالد تجاه دير صليبا، والذي عرف فيما بعد بدير خالد، وهو على مسافة ميل من الباب الشرقي، وعسكر أبو عبيدة على باب الجابية في حين نزل يزيد على جانب آخر من دمشق5، ولم يشترك جيش

1 تاريخ الرسل والملوك: ج3 ص442.

2 فتوح الشام: ص94.

3 الطبري: ج3 ص434، 435.

4 المصدر نفسه.

5 الأزدي: ص94-97.

ص: 169

شرحبيل في الحصار، ويبدو أنه بقي في الجنوب لحماية مؤخرة المسلمين.

كان هرقل لا يزال يحشد قواته، ويدفعها لقتال المسلمين، فأرسل جيشًا بلغ تعداده خمسة آلاف مقاتل بقيادة درنجار1 لمساعدة أهل دمشق، وانضم إليه عدد كبير من حامية خمص، فاضطر المسلمون أن يخففوا الضغط عن دمشق، وساروا نحو مرج الصفر لاعتراض القوة البيزنطية التي لا بد وأن تمر من هذا المكان للوصول إلى المدينة، وجرى قتال بين الطرفين في "17 جمادى الآخرة 13هـ/ 18 آب 634م"، أسفر عن انتصار المسلمين، فقتلوا عددًا كبيرًا من البيزنطيين، وفر من نجا من المعركة في كل اتجاه2.

عاد المسلمون بعد انتهاء المعركة إلى دمشق، فنزل خالد على الباب الشرقي، وأبو عبيدة أمام باب الجابية، ويزيد على بعض أبوابها، وعمرو بن العاص على باب آخر، وجاءهم، وهم على هذا الحال، نعي الخليفة أبي بكر الذي توفي مساء الثلاثة في "21 جمادى الآخرة 13هـ/ 22 آب 634م"، وعزل خالد عن قيادة جيوش الشام، وتعيين أبي عبيدة بدلًا منه3، لكن هذا الأخير أخر إشاعة نبأ العزل؛ لأن المسلمين كانوا في صدد تحضير فتح دمشق، ولم يشأ أن يحدث هذا التبديل أي بلبلة في صفوف الجيش الإسلامي، ولهذا كان هناك نوع من الأزدواجية في الإمارة على الجيش لدى محاولة فتح دمشق.

1 درنجار: رتبة عسكرية لقائد خمسة آلاف، وليست اسمًا لشخص.

2 الأزدي: ص95، 106، وقارن بالبلاذري: ص125.

3 المصدران نفساهما: ص98، ص122، تاريخ خليفة بن خياط: ص65، الطبري: ج3 ص419، 420، ص434، 435.

ص: 170