المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ استكمال فتوح العراق - تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية

[محمد سهيل طقوش]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة:

- ‌الباب الأول: أبو بكر الصديق 11-13هـ-632-634م

- ‌الفصل الأول: الأوضاع السياسية في الجزيرة العربية عقب وفاة النبي

- ‌الأوضاع السياسية في المدينة

- ‌اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة

- ‌الأوضاع السياسية خارج المدينة:

- ‌الفصل الثاني: تفشي ظاهرة التنبؤ في المجتمع العربي

- ‌الفصل الثالث: حروب الردة

- ‌مدخل

- ‌ملابسات حوادث بني تميم:

- ‌القضاء على ردة بني حنيفة:

- ‌الفصل الرابع: أوضاع الدولتين الفارسية، والبيزنطية عشية الفتوح الإسلامية:

- ‌أوضاع الدولة الفارسية

- ‌تراجع النفوذ البيزنطي من بلاد الشام عشية الفتوح الإسلامية:

- ‌الفصل الخامس: الفتوح في عهد أبي بكر

- ‌فتوح العراق:

- ‌فتوح بلاد الشام:

- ‌الفصل السادس: استئناف الفتوح في عهد عمر:

- ‌فتوح العراق:

- ‌معركة القادسية:

- ‌الفصل السابع:‌‌ استكمال فتوح العراق-فتوح فارس "إيران

- ‌ استكمال فتوح العراق

- ‌فتوح فارس "إيران

- ‌الفصل الثامن: استكمال فتوح بلاد الشام-فتوح الجزيرة وأرمينية والباب

- ‌مدخل

- ‌معركة اليرموك

- ‌فتح بيت المقدس

- ‌الفصل التاسع: فتوح مصر

- ‌مدخل

- ‌أثر الفتح الإسلامي على أوضاع الأقباط:

- ‌التوسع نحو الغرب:

- ‌الفصل العاشر: الدولة الإسلامية في عهد عمر-مقتل عمر

- ‌مدخل

- ‌الإدارة في عهد عمر:

- ‌الموظفون الإداريون:

- ‌الوالي:

- ‌الدواوين:

- ‌القضاء:

- ‌القضاء في عهد عمر:

- ‌إدارة البلاد المفتوحة من خلال عقود الصلح:

- ‌الفصل الحادي عشر: الفتوح في عهد عثمان

- ‌الفصل الثاني عشر: الفتنة الكبرى ومقتل عثمان

- ‌الباب الرابع: علي بن أبي طالب 35-40هـ/ 656-661م

- ‌الصراع بين علي وأصحاب الجمل:

- ‌المواجهة المسلحة الأولى بين المسلمين:

- ‌وقعة الجمل:

- ‌الصراع بين علي، ومعاوية، والخوارج

- ‌معركة صفين:

- ‌مرحلة التجهيز، والاستعداد:

- ‌معركة النهروان:

- ‌الخاتمة:

- ‌المصادر والمراجع:

- ‌محتوى الكتاب:

الفصل: ‌ استكمال فتوح العراق

‌الفصل السابع:‌

‌ استكمال فتوح العراق

-فتوح فارس "إيران

"

استكمال فتوح العراق:

الطريق إلى المدائن:

أقام سعد مدة شهرين في القادسية أراح خلالها جنده ودوابه، وشفي هو من مرضه، وتبادل الرسائل مع عمر فيما ينبغي أن يتصرف به، فجاء أمر عمر بأن يسير إلى المدائن، فاستعد للزحف، وأرسل عدة قادة كطليعة لتمهيد الطريق أمام الجيش الرئيسي، اصطدم هؤلاء بجيوب فارسية على امتداد الطريق المؤدي إلى المدائن، في اللسان1 وبرس2 التي كانت مخزنًا لعتاد حرب الفرس بفعل حصانتها، وبابل وكوثي3 وتغلبوا عليها، وصالحهم أهل ساباط4، ووصلت إحدى هذه الطلائع إلى بهرسير إحدى ضواحي المدائن بقايدة هاشم بن عتبة، ثم خرج سعد وراءهم، ولما وصل إلى بهرسير في شهر "ذي الحجة 15هـ/ كانون الثاني 636م"، ضرب عليها الحصار، وبث خيله في المناطق المجاورة، فأغارت على من ليس له عهد بين دجلة والفرات5، واستعمل سعد لأول مرة في حرب العراق، والأسلحة الثقيلة كالمجانيق وغيرها، استمر الحصار بضعة أشهر، ودافعت خلالها الحامية عن المدينة بشكل ملفت؛ لأنها تعد معبرًا إلى العاصمة، فإذا سقطت انكشفت المدائن، وأمدها يزدجرد بالإمدادات عبر جسر يصلها بها6.

1 اللسان: لسان البر الذي أدلعه في الريف، عليه الكوفة اليوم

والحيرة من قبل، وظهر الكوفة يقال له: اللسان وهو فيما بين النهرين إلى العين، الحموي: ج5 ص16.

2 برس: موضع بأرض بابل، المصدر نفسه: ج1 ص384.

3 كوثي: بسواد العراق في أرض بابل، المصدر نفسه: ج4 ص487.

4 ساباط كسرى بالمدائن.

5 البلاذري: ص262، الطبري: ج3 ص623.

6 البلاذري: ص262، الطبري: ج3 ص623، ج4 ص5، 6.

ص: 205

كانت أنباء الحصار، والقتال تصل إلى مسامع يزدجرد يوميًا، فيغنم، وقدر أن بهرسير سوف تسقط في أيدي المسلمين وسوف تتبعها المدائن، وذلك بفعل عدم توازن القوى الذي مال لصالح هؤلاء، وحتى يحافظ على ما تبقى عرض الصلح على سعد على أن يكون نهر دجلة حدًا فاصلًا بين الأملاك الإسلامية، والأملاك الفارسية، لكن سعدًا رفض عرض الصلح1، وأصر على القتال في ظل تعليمات الخليفة الواضحة بفتح المدائن؛ وفي ظل تراجع قوة الفرس الميدانية على الأرض، وبخاصة أنه يوشك أن يقتحم بهرسير.

وأخيرًا اقتحم المسلمون، ودخلوها في شهر "صفر 16هـ/ آذار 637م" بعد أن تخلت حاميتها عنها وتوجهت إلى المدائن، وقد دمر أفرادها الجسور التي أقامواها من قبل، وحطموا السفن التي تجري في نهر دجلة على مسافة مائة وثمانين كيلو مترًا جنوبي المدائن، ومائة وثلاثين كيلو مترًا شمالها فيما بين البطائح وتكريت، حتى لا يستعملها المسلمون في العبور2، ويبقى النهر بتياره الجارف خط دفاع يصدهم عن العاصمة.

ووقف المسلمون على شاطء النهر، فلاح لهم إيوان كسرى بقبته البيضاء الشامخة، وجدرانه البيضاء، فبهتوا من روعته، وضخامة بنائه وارتفاعه، واتخذ سعد من بهرسير قاعدة عسكرية استعدادًا لمهاجمة المدائن.

فتح المدائن:

كان نهر دجلة هو الحائل بين بهرسير والمدائن، ولم يكن هناك جسر، ولا قارب يحمل الجيش، وسعد حريص على العبور، حتى جاءه رجل فارسي، فدله على مخاضة يعبر عليها دجلة إلى قلب الوادي، فأمر سعد عاصمًا بن عمرو التميمي بالعبور، والتمركز على الضفة الأخرى للنهر ليحمي المسلمين أثناء العبور، ووضع تحت إمرته ستمائة جندي، فاشتبك مع قوة فارسية في مكان يسمى الفراض، وهزمها وولى أفرادها الأدبار، وسيطر على الضفة الأخرى للنهر وسط ذهول الفرس3.

وصمد خرزاد، قائد حرس السواحل، مع عدد قليل من الجند، لتأخير زحف المسلمين حتى يتسنى لأهل الحكم مغادرة المدائن، وعين كتائب من الرماة على المناهل، وأنزل فرقة عسكرية في النهر لتسد طريق عبور المسلمين، وجرت معركة

1 الطبري: ج4 ص7.

2 المصدر نفسه: ص8.

3 المصدر نفسه: ص8-11.

ص: 206

غير متكافئة خاضتها طليعة الجيش الإسلامي، فأجلت حرس الشواطئ الذين انسحبوا إلى الداخل الفارسي تاركين المدائن خالية ممن يدافع عنها، ويحميها1.

وشرع يزدجرد، فور تبلغه بسقوط بهرسير، بنقل أفراد الأسرة المالكة إلى حلوان2، وكنوزه وأمواله إلى النهروان3، وعندما علم بعبور المسلمين إلى المدائن غادر المدينة إلى حلوان4، مرتكبًا خطًا عسكريًا فادحًا في الدفاع عن عاصمته، إذ كان عليه أن يصمد، والواقع أنه لم يعد يملك القوة الضرورية للدفاع عن المدائن، وفضل النجاة بنفسه.

عبر سعد بعد ذلك بهدوء، ولما دخل المدائن وجدها خالية، والصمت سائد في جميع نواحيها، ثم دخل إيوان كسرى، ونصب المنبر مكان العرش الملكي وصلى بالمسلمين صلاة الجمعة، وغنم المسلمون ما يحويه الإيوان من كنوز، وأموال ونفائس، وأمتعة وآنية مذهبة، وآلاف القطع التذكارية منذ عهد الأكاسرة، كان من بينها سيوف، ودروع بهرام جوبين، وسياوش والنعمان بن المنذر، وقيصر الروم وراجا داهر خاقان الصين، وخناجر كيقباد وهرمز، وكسرى وتاج أنوشروان المرصع، والثياب الملكية وغيرها، والواقع أن يزدجرد لم يتمكن من نقل كل أمواله ومتاعه، كما كان مطمئنًا بعدم قدرة المسلمين على عبور النهر إلا بعد وقت طويل، وصالح من بقى من سكان المدينة المسلمين على أداء الجزية، وأمر سعد زهرة بمطاردة فلول الجيش الفارسي المنسحب إلى النهروان، والمعروف أن مهران، أحد قادة الجيش، انسحب إلى هذه الناحية وعسكر بها، ثم انتقل إلى جلولاء5.

فتح جلولاء:

تحصن مهران في جلولاء وخندق على نفسه، وفرش الأشواك وحسك الحديد في الطرق، والممرات التي سيسلكها الجيش الإسلامي، وأعد نفسه ورجاله لقتال

1 الطبري: ج4 ص15.

2 حلوان: آخر حدود السواد مما يلي الجبال من بغداد، الحموي: ج2 ص290.

3 النهروان: هي ثلاثة نهروانات: الأعلى والأوسط والأسفل، وهي كورة واسعة بين بغداد، وواسط من الجانب الشرقي، حدها الأعلى متصل ببغداد، وفيها عدة بلاد متوسطة، المصدر نفسه: ج5 ص324، 325.

4 الطبري: ج4 ص13، 14، البلخي، أبو زيد أحمد بن سهل: كتاب البدء والتاريخ ج2 ص204.

5 الطبري: ج4 ص14- 20، البلاذري: ص262، 263، البلخي: المصدر نفسه.

ص: 207

طويل ومرير، وأمده يزدجرد بالرجال من شتى أنحاء المملكة1، والواضح أن الفرس أرادوا إغلاق طريق المدائن -حلوان أمام زحف المسلمين، فاختاروا جلولاء مكانًا لجولة أخرى.

تناهت أنباء الحشود الفارسية إلى مسامع سعد، فكتب إلى عمر يستطلع رأيه. فكتب إليه بأن يرسل هاشم بن عتبة إلى جلولاء على رأس اثني عشر ألفًا، وأن يجعل القعقاع بن عمرو على مقدمته، وسعدًا بن مالك على ميمنته، وعمرو بن مالك على ميسرته، وعمرو بن مرة الجهني على الساقة2.

ويبدو أن منطقة عمليات مهران كانت أوسع من منطقة جلولاء، ولعلها شملت جميع القوات الفارسية المتواجدة بين حلوان والمدائن3.

خرج هاشم من المدائن على رأس الجيش الإسلامي وهو على تعبئة، ووصل إلى جلولاء بعد أربعة أيام، وضرب عليها حصارًا مركزًا استمر الحصار مدة ثمانين يومًا تخلله مناوشات، وكر وفر من كلا الجانبين قبل أن يشتبكا في قتال ضار "لم يقاتل المسلمون مثله في موطن من المواطن حتى نفذ منهم النبل والنشاب، وتطاعنوا بالرماح حتى كسروها، ثم فضوا إلى السيوف والطبرزينات"4.

وانقض عقد الفرس وتراجعوا، فاقتحم المسلمون المدينة، وكبدوا العدو آلاف القتلى، فجللوا المجال وما أمامه وما خلفه، ولذلك سميت جلولاء بما يجللها من قتلاهم، وتم فتح المدينة في "أول ذي القعدة 16هـ/ 24 تشرين الثاني 637م"5.

وأصاب المسلمون من الفيء، والمغانم أفضل مما أصابوا في القادسية.

فتح حلوان:

بعد أن تمت هزيمة الفرس في جلولاء، أرسل سعد القعقاع بن عمرو إلى حلوان بناء على تعليمات عمر، وأمده بأكثر من ثلاثة آلاف مقاتل إضافة إلى من اصطحبهم معه، فانطلق في آثار الفرس إلى خانقين6، وسانده الجنود الفرس الذين أسلموا، فأدرك سبيًا كثيرًا عرف في التاريخ بـ"سبي جلولاء"، وقتل من

1 الطبري: ج4 ص24، 25، البلاذري: ص264.

2 الطبري: ج4 ص24، البلاذري: ص264.

3 كمال: ص73.

4 الطبري: ج4 ص27، البلاذري: ص264.

5 الطبري: ج4 ص26، 27، 32، البلاذري: ص264، 265.

6 خانقين: بلدة من نواحي السواد في طريق همذان من بغداد بينها، وبين قصر شيرين ستة فراسخ لمن يريد الجبال، الحموي: ج2 ص340.

ص: 208

أدرك من مقاتليهم، وكان مهران نفسه من بين القتلى؛ وفر القائد فيرزان باتجاه الشرق1.

بلغت أنباء هذه التطورات السلبية مسامع يزدجرد وهو بحلوان، فأدرك أن المسلمين في الطريق إليه، فخرج منها نحو الري2، وترك فيها حامية عسكرية بقيادة خسروشنوم للدفاع عنها، وتأخير تقدم المسلمين، وقد وصل هؤلاء إلى قصر شيرين الواقع على بعد ثلاثة أميال من حلوان3.

والتقى الجمعان على بعد فرسخ من حلوان، وجرت بينهما معركة قاسية، هزم فيها الفرس، وقتل زينبدي، دهقان حلوان وقائد المقدمة، وهرب خسروشنوم. ودخل القعقاع حلوان صلحًا، فكف عن أهلها وأمنهم على دمائهم، وجعل لمن أحب منهم الخروج أن لا يتعرض له، ثم عين جريرًا بن عبد الله البجلي حاكمًا على المدينة، ومضى نحو الدينور4 فلم يفتحها، وفتح قرميسين5.

تطهير العراق من بقايا الوجود الفارسي:

كان فتح حلوان خاتمة فتوح العراق، لكن الوضع العسكري تطلب القيام بعمليات تطهير شاملة لبقايا الوجود الفارسي، وإخضاع القرى وبخاصة في السواد الشرقي لدجلة، فنفذ هاشم هذه العمليات بنجاح، فصالحه دهقان مهرومز على جريب من دراهم على ألا يقتل أحدًا منهم، ولكن دهقان دسكرة6 اتهم بغش المسلمين فقتله هاشم، ثم توجه نحو بندنيجين7، فصالحه سكانها على أداء الجزية مقابل الأمان، ولم يبق من سواد دجلة ناحية إلا غلب عليها المسلمون، وأقبل أمراء الثغور عليهم لطلب الأمام مقابل دفع الجزية8.

1 الطبري: ج4 ص28.

2 الري: مدينة مشهورة، وهي محط الحاج على طريق السابلة، وقصبة بلاد الجبال، وهي طهران الحالية، الحموي: ج3 ص116.

3 الطبري: ج4 ص34.

4 الدينور: مدينة من أعمال الجبل قرب قرميسين، الحموي: ج5 ص545.

5 قرميسين: بلد معروف بينه، وبين همذان ثلاثون فرسخًا قرب الدينور، وهي بين همذان، وحلوان على جادة الحاج، المصدر نفسه: ج4 ص330، الطبري: ج3 ص34، 35.

6 دسكرة: قرية كبيرة بنواحي نهر الملك من غربي بغداد الحموي: المصدر نفسه: ج2 ص455.

7 بندنيجين: بلدة مشهورة في طرف النهروان من ناحية الجبل من أعمال بغداد، المصدر نفسه: ج1 ص499.

8 البلاذري: ص264.

ص: 209

كان لهذه الانتصارات الإسلامية أثرها الإيجابي على الوضع العام للسكان، فأقبل مزيد من الفرس على اعتناق الإسلام دين الفاتحين الجدد، وأرسل سعد هاشمًا بن عتبة، ومعه الأشعث بن قيس إلى الشمال، فمر بالراذانات1، وأتى دقوقاء2، وخانيجار3، فغلب عليها، وفتح كورباجرمي، ثم نفذ إلى سن بارما4، والبوازيج5 حتى حدود شهرزور6.

وهكذا سيطر المسلمون على جنوبي العراق، ووسطه وتطلعوا لاستئناف التوسع باتجاه الشرق والشمال، وبخاصة أن القوة الميدانية للفرس قد انهارت، وأضحت كافة الطرق مفتوحة أمامهم للتوغل داخل الأراضي الفارسية بأمان، وهذه فرصة لا يجب أن يفوتها، وطلب سعد موافقة المدينة، لكن عمر رفض التقدم شرقًا، والتوغل في أرض مجهولة، والانسياج وراء الفرس خشية على جند المسلمين، وجعل سلسلة جبال فارس الحدود التي تفصل بين المسلمين والفرس7.

والواقع أن موقف عمر يدل على بعد نظر وتفكير سليم، إنه حرص على سلامة المسلمين، وفضلها على الأنفال، وبخاصة أنهم لم يكونوا قد أمنوا العراق، واطمأنوا إلى حياة الاستقرار فيه، فقد كان شماله لا يزال على الحرب، والوضع في الجنوب لا يزال غير مستقر، فليس من سداد الرأي في هذه الظروف، أن يندفع المسلمون إلى جبال إيران، ويتوغلوا شرقًا وراءهم جبهة غير صلبة، ومن الخير أن يتخذوا جبال إيران حدًا فاصلًا بينهم وبين الفرس، وأن يفرغوا من القضاء على حركات التمرد بالعراق، يضاف إلى ذلك، فقد تطلع عمر إلى ضم الجنس العربي، وصهره في بوتقة الإسلام، وفي وحدة يكون السلطان فيها للمدينة، ويكون بين المسلمين وبين الفرس، والروم من حسن الجوار ما يذهب عن العرب والمسلمين الروع8.

1 الراذانات: راذان الأسفل وراذان الأعلى، كورتان بسواد بغداد تشتمل على قرى كثيرة، الحموي: ج3 ص12.

2 دقوقاء: مدينة بين إربل وبغداد، المصدر نفسه: ج2 ص459.

3 خانيجار: بليدة بين بغداد، وإربل قرب دقوقاء، المصدر نفسه: ص341.

4 سن بارما: بارما: جبل بين تكريت والموصل، يشقه دجلة عند السن، والسن في شرقي دجلة، المصدر نفسه: ج1 ص320.

5 البوازيج: بلد قرب تكريت على فم الزاب الأسفل حيث يصب في دجلة. وهي الآن من أعمال الموصل: المصدر نفسه: ص503.

6 شهرزور: كورة واسعة في الجبال بين إربل وهمذان، المصدر نفسه: ج3 ص375، البلاذري: ص265.

7 الطبري: ج4 ص28.

8 هيكل، محمد حسين: الفاروق عمر ج1 ص209، 210.

ص: 210

فتح تكريت:

احتشدت جموع من البيزنطيين من أهل الموصل بقيادة الأنطاق، وانضمت إليهم بعض قبائل العرب المتنصرة، مثل إياد وتغلب، والنمر والشهارجة، وعسكروا في تكريت على نهر دجلة شمالي المدائن، وتحصنوا بها، وحفروا حولها خندقًا واستعدوا لصد هجوم إسلامي مرتقب1، والواضح أن المسلمين تطلعوا إلى فتح شمالي العراق بعد أن سيطروا على جنوبه ووسطه.

أرسل سعد إلى عمر يخبره بأمر هذه الحشود، فجاءت تعليماته بأن يرسل فرقة عسكرية بقيادة عبد الله بن المعتم، ويجعل على مقدمته ربعيًا بن الأفكل العنزي، وعلى ميمنته الحارث بن حسان الذهلي، وعلى ميسرته فراتًا بن حسان العجلي وعلى ساقته هانئًا بن قيس، وعلى الخيل عرفجة بن هرثمة، فإن هزموا عدوهم يسرح عبد الله بن المعتم، وابن الأفكل إلى الحصنين2.

نفذ سعد تعليمات عمر، فأرسل هؤلاء النفر في خمسة آلاف مقاتل، فخرجوا من المدائن، ووصلوا إلى تكريت بعد أربعة أيام، وضربوا عليها حصارًا مركزًا استمر مدة أربعين يومًا، تخلله مناوشات متبادلة، ولجأ عبد الله بن المعتم إلى السياسة لإضعاف قوة خصمه، فاستقطب العرب المتنصرة، ودعاهم إلى الدخول في الإسلام، وحدث ما شجع هؤلاء على قبول الدعوة، وذلك أن البيزنطيين الذين نفذوا عدة عمليات عسكرية ضد المسلمين، خسروها جميعًا، فتخاذلوا وراحوا ينسحبون من المدينة، عندئذ قبل العرب دعوة عبد الله مقابل الأمان، وطلب منهم القائد المسلم أن يهاجموا البيزنطيين من ناحيتهم عندما يسمعون صيحات التكبير، في محاولة لاختيبار صدقهم، وجرى قتال بين الطرفين الإسلامي، والبيزنطي أمام الخندق، ووفت القبائل العربية بوعدها، فهاجمت البيزنطيين من الخلف، وفوجئ هؤلاء بالهجوم يشن عليهم من أمامهم ومن خلفهم، فأسقط في أيديهم، ولم ينج أحد منهم غير أولئك الذين أسلموا. وسقطت تكريت بيد المسلمين في "جمادى الأول 16هـ/ حزيران 637م"3.

فتح نينوى والموصل:

وعملًا بتعليمات عمر، أرسل عبد الله بن المعتم ربعيًا بن الأفكل العنوي إلى نينوى، والموصل على رأس أربعة آلاف مقاتل، بالإضافة إلى من انضم إليه من العرب الذين أسلموا حديثًا4.

1 الطبري: ج4 ص35.

2 المصدر نفسه: ص35، 36.

3 المصدر نفسه: ص36.

4 المصدر نفسه.

ص: 211

اتبع عبد الله أسلوب السرعة، والسبق حتى يفاجئ حامية الحصنين، وفعلًا فوجئت حاميتا الحصنين بوصول المسلمين الذين بدأوا فورًا عملية اقتحام منظمة، فاضطرتا إلى الاستسلام وطلب الصلح، فأجابهما عبد الله، وذلك في "أواخر عام 16هـ/ أواخر 637م"1.

فتح قرقيسياء 2 وهيت 3:

بلغت أنباء انتصار المسلمين في تكريت، والموصل مسامع البيزنطيين في بلاد الشام، وكانوا في قتال مع جيوش المسملين هناك، فخشوا أن يصل المسلمون في العراق إلى المناطق الحدودية مع بلاد الشام، فيقعوا بين فكي الكماشة، لذلك شجعوا سكان الجزيرة القرآنية الموالين لهم على مقاومتهم، فاحتشدت جموع منهم استعدادًا لذلك.

وأرسل سعد عمر بن مالك بن عتبة على رأس فرقة عسكرية إلى هبت بناء على تعليمات عمر بن الخطاب، فلما وصل إليها حاصرها، وفصل قسمًا من جيشه لحصار قرقسياء، فاستلمت المدينتان4.

فتح ماسبذان 5:

احتشدت قوة عسكرية، ممن فر من الفرس من جلولاء، في ماسبذان على الحدود الفاصلة بين العراق من الغرب، وفارس من الشرق، بقيادة آذين بن الهرمزان، فأرسل إليهم سعد ضرارًا بن الخطاب على رأس قوة عسكرية بناء على أوامر عمر، وانتهى المسلمون إلى سهل ماسبذان، والتقوا بالقوة الفارسية في بهندف، وجرت بينهما معركة أسفرت عن انتصار المسلمين، وتشتت الفرس وأسر آذين فقتله ضرار، ودخل المنتصرون المدينة وفر سكانها إلى الجبال، فدعاهم ضرار إلى العودة لقاء الأمان، ودفع الجزية فعادوا6.

1 الطبري: ج4 ص36.

2 قرقيسياء: بلد على نهر الخابور، قرب رحبة مالك بن طوق على ستة فراسخ، وعندها مصب الخابور في الفرات، الحموي: ج4 ص328.

3 هيت: بلدة على الفرات من نواحي بغداد فوق الأنبار، المصدر نفسه: ج5 ص421.

4 الطبري: ج4 ص37، 38.

5 ماسبذان: مدينة كبيرة عامرة كثيرة الخير، يتصل بها رستاق في الجبال عمل واسع في طريق صعب، المقدسي المعروف بالبشاري: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ص302.

6 الطبري: ج4 ص37.

ص: 212

فتح الأبلة والبصرة:

شكل قطاع الأبلة والبصرة، والأهواز جبهة قتالية مساندة تزامنت أحداثها مع فتح المدائن، وما تفرع عنه، لقد أراد عمر أن يفتح جبهة ثانية ضد يزدجرد الذي كان يقاتل انطلاقًا من المدائن لتخفيف الضغط عن هذه الجبهة، فأرسل عتبة بن غزوان المازني إلى البصرة في "أواخر ذي القعدة 15هـ/ أواخر كانون الول 636م"، وحدد له هدفين:

الأول: حجز القوات الفارسية في هذه المنطقة، ومنعها من التحرك شمالًا لمساعدة جبهة المدائن.

الثاني: فتح الأبلة؛ لأن سقوطها سوف يربك الفرس، ويزيد الوضع الفارسي سوءًا.

وأمره أن يدعو القوم إلى الإسلام، فمن أجابه قبل منه، ومن أبى فالجزية عن صغار وذلة، وإلا فالسيف في غير هوادة1.

وصل عتبة إلى الخريبة2 في شهر "ربيع الآخر 16هـ/ نيسان 637م" على رأس ثمانمائة مقاتل، وعسكر في أقصى البر من أرض العرب، وأدنى أرض الريف من أرض العجم على مقربة من البصرة اليوم، وبها حامية فارسية مهمتها منع غارات المسلمين على الأبلة مرفأ التجارة، وقصبة الهند3.

أقام عتبة بضعة أشهر لا يغزو، ولا يقاتل ولا يخرج إليه أحد، والواقع أن الفرس رصدوا تحركات المسلمين على هذه الجبهة الجنوية لكن لم يكونوا يملكون القوى الكافية للتصدي لهم، فقبعوا في أماكنهم بانتظار تطورات القتال في الشمال، فأرسل من أبلغ قائد الحامية:"إن ها هنا قومًا معهم راية، وهم يريدونك"4.

وهكذا اضطرت الحامية إلى الخروج من أماكن تمركزها، واصطدمت بالقوة الإسلامية، ولم يمض مقدار "جزر جزور" إلا وانتصر المسلمون، وولى الفرس منهزمين إلى داخل المدينة، واحتموا وراء أسوارها، وعاد عتبة إلى معسكره5.

ويبدو أن الحامية شعرت بضغط القتال، وأدركت عدم جدوى الاستمرار في المقاومة، وبخاصة أن الاتصالات مقطوعة مع الشمال مما يحرمها من طلب

1 الطبري: ج3 ص590-592.

2 الخريبة: موضع بالبصرة، الحموي: ج2 ص363.

3 الطبري: ج3 ص591-594.

4 المصدر نفسه: ص594.

5 المصدر نفسه.

ص: 213

الإمدادات، فانسحبت شمالًا نحو الفرات وعبرته دون قتال، ودخل عنه الأبلة وكتب إلى عمر يخبره بالفتح، وكان ذلك في شهر "رجب 16هـ/ آب 637م"1.

آثار سقوط الأبلة بيد المسلمين قادة النواحي، ومنهم مرزبان دست ميسان2، فحشد قوة صغيرة، واصطدم بهم، إلا أنه هزم وولى الأدبار، واستغل عتبة الوضع

السيئ للحاميات الفارسية القليلة العدد بأسفل دجلة والفرات، لمهاجمتها، وطردها من المنطقة، فتقدم نحو ميسان واشتبك مع الفرس في نواحي المذار وأبرقباذ، وهزمهم، وعاد إلى البصرة3.

تمصير البصرة:

بالقدر الذي تحولت فيه عمليات الفتوح في العراق، وفي الأقطار الأخرى، بعد ذلك، إلى حالة دائمة ومستقرة؛ أخذت تتوضح بذات القدر ملامح تنظيم جديد يحل محل أشكال الاستقرار الطارئة، والعفوية والمحلية التي كانت سائدة في البداية، فمن البديهي أن العرب وقد غادروا الجزيرة العربية كمحاربين، فإن التجمعات السكانية في المدن، والقرى المفتوحة ظلت كالسابق مقتصرة على سكانها الأصليين دون اختلاط بين هؤلاء وبين العرب، فقد كان الخليفة حريصًا على أن يكون العنصر المقاتل في الدولة من العرب وحدهم، وهذا أمر طبيعي في وقت لم يكن فيه إسلام الشعوب الخاضعة لهم قد طرح جديًا في تلك المرحلة المبكرة، وبهدف الاحتفاظ بشدة الروح القتالية لدى العرب، عمد الخليفة إلى إبعاد هؤلاء عن المراكز الحضارية، خارج الجزيرة العربية، وتجميعهم في قواعد عسكرية يتم اختيارها عادة على شواطء الأنهار، وهي قريبة الشبه بالقواعد العسكرية من حيث المهمات المنوطة بها، ودورها في خطط الفتوح4.

كانت قاعدة البصرة في جنوبي العراق من أقدم هذه الأمصار، وكان عمر، لكي يحمي البلاد من الهجمات الفارسية الارتداية، قد كلف عتبة بن غزوان بإقامة مدينة قريبة من ميناء الأبلة، حيث كانت ترسو سفن فارس والهند، وقد وصف له طبيعة الأرض وموقعها: "أجمع أصحابك في موضع واحد، ولكن قريبًا من الماء والمرعى، واكتب إلي بصفته، فاختار موضع البصرة، وكتب إلى الخليفة بصفته، فاستحسنه

1 الطبري: ج3 ص594.

2 دست ميسان: كورة جليلة بين واسط والبصرة والأهواز، وهي إلى الأهواز أقرب، الحموي: ج2 ص455.

3 الطبري: ج3 ص595.

4 بيضون: ص96.

ص: 214

واطمأن إلى موقعه"1، والواقع أن هذا المكان كان ميدانًا قفرًا به حصى وحجارة، محاطًا بالماء والكلأ، فهو مناسب تمامًا لطبيعة العربي.

وضع عتبة أساس المدينة، وبنى المسجد الجامع من القصب، وكذلك بنى الناس منازلهم، وكلف عاصمًا بن دلف لينزل القبائل في مواضعها، وتم بناء المباني الخاصة بدوائر الحكومة والإدارة، وفي عام "17هـ/ 638م" اندلعت النار في المكان، فاحترق أكثر البيوت، فأرسل سعد إلى الخليفة يستأذنه في بناء مبان من اللبن تكون أكثر ثباتًا، فوافق عمر لكنه أكد على ألا يبني الفرد أكثر من ثلاث حجرات في المنزل2، كما أمر بشق قناة تصل المدينة بدجلة، وأضحت البصرة بعد ذلك، ثغر العراق على الخليج العربي.

استأذن عتبة الخليفة في أن يقدم عليه في المدينة، فأذن له، فاستخلف المغيرة بن شعبة على البصرة، وأقر عمر إمارته، فظل بها حتى شهر "ربيع الأول 17هـ/ نيسان 638م"، عندما استبدله بأبي موسى الأشعري، فاختط البصرة من جديد، وأقام البناء باللبن، والطين ووسع المسجد الجامع، وجدد دار الإمارة3.

تمصير الكوفة:

استقر المسلمون في المدائن بعد فتحها، ويبدو أن البنية الجغرافية لهذا الإقليم لم تتناسب مع ما ألفه العرب من جو صحراوي مفتوح، فشحب لونهم، فلما وقف الخليفة على ذلك كتب إلى سعد يأمره بأن يتخذ للمسلمين دار هجرة يقيمون فيها، وأن يختار مكانًا مناسبًا بحيث لا يكون بينهم، وبينه بحر ولا جسر4، وإنما أراد عمر بهذا أن يحقق عدة أهداف لعل أهمها:

- أن يكون المكان المختار لمقام هؤلاء العرب جافًا كالبادية، وتجري فيه، مع ذلك، المياه الصالحة.

- أن تكون المدينة الجديدة قاعدة متقدمة لإمداد بشري للفاتحين بحيث لا يحول بحر، ولا جسر دون إرسال المدد إلى الجند المقيمين في هذه المنطقة إذا احتاجوا يومًا إليه.

- أن يشكل الموضع مركز انطلاق عسكري يساعد على تثبيت أقدام المسلمين في البلدان المفتوحة

1 الطبري: ج3 ص590-595.

2 المصدر نفسه: ص590-592، البلاذري: ص341، 342.

3 الطبري: ج3 ص595-597، البلاذري: ص342.

4 الطبري: ج4 ص40، 41.

ص: 215