المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني عشر: الفتنة الكبرى ومقتل عثمان - تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية

[محمد سهيل طقوش]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة:

- ‌الباب الأول: أبو بكر الصديق 11-13هـ-632-634م

- ‌الفصل الأول: الأوضاع السياسية في الجزيرة العربية عقب وفاة النبي

- ‌الأوضاع السياسية في المدينة

- ‌اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة

- ‌الأوضاع السياسية خارج المدينة:

- ‌الفصل الثاني: تفشي ظاهرة التنبؤ في المجتمع العربي

- ‌الفصل الثالث: حروب الردة

- ‌مدخل

- ‌ملابسات حوادث بني تميم:

- ‌القضاء على ردة بني حنيفة:

- ‌الفصل الرابع: أوضاع الدولتين الفارسية، والبيزنطية عشية الفتوح الإسلامية:

- ‌أوضاع الدولة الفارسية

- ‌تراجع النفوذ البيزنطي من بلاد الشام عشية الفتوح الإسلامية:

- ‌الفصل الخامس: الفتوح في عهد أبي بكر

- ‌فتوح العراق:

- ‌فتوح بلاد الشام:

- ‌الفصل السادس: استئناف الفتوح في عهد عمر:

- ‌فتوح العراق:

- ‌معركة القادسية:

- ‌الفصل السابع:‌‌ استكمال فتوح العراق-فتوح فارس "إيران

- ‌ استكمال فتوح العراق

- ‌فتوح فارس "إيران

- ‌الفصل الثامن: استكمال فتوح بلاد الشام-فتوح الجزيرة وأرمينية والباب

- ‌مدخل

- ‌معركة اليرموك

- ‌فتح بيت المقدس

- ‌الفصل التاسع: فتوح مصر

- ‌مدخل

- ‌أثر الفتح الإسلامي على أوضاع الأقباط:

- ‌التوسع نحو الغرب:

- ‌الفصل العاشر: الدولة الإسلامية في عهد عمر-مقتل عمر

- ‌مدخل

- ‌الإدارة في عهد عمر:

- ‌الموظفون الإداريون:

- ‌الوالي:

- ‌الدواوين:

- ‌القضاء:

- ‌القضاء في عهد عمر:

- ‌إدارة البلاد المفتوحة من خلال عقود الصلح:

- ‌الفصل الحادي عشر: الفتوح في عهد عثمان

- ‌الفصل الثاني عشر: الفتنة الكبرى ومقتل عثمان

- ‌الباب الرابع: علي بن أبي طالب 35-40هـ/ 656-661م

- ‌الصراع بين علي وأصحاب الجمل:

- ‌المواجهة المسلحة الأولى بين المسلمين:

- ‌وقعة الجمل:

- ‌الصراع بين علي، ومعاوية، والخوارج

- ‌معركة صفين:

- ‌مرحلة التجهيز، والاستعداد:

- ‌معركة النهروان:

- ‌الخاتمة:

- ‌المصادر والمراجع:

- ‌محتوى الكتاب:

الفصل: ‌الفصل الثاني عشر: الفتنة الكبرى ومقتل عثمان

البيزنطيين، بذلك الإمدادت عنها1، فاضطر سكانها إلى الانتقال إلى الحصن الغربي عند رأس الميناء وتحصنوا به، وراحوا يفكرون جديًا بالنجاة بأنفسهم، وقد يئسوا من طول مدة الحصار التي امتدت أشهرًا، وبخاصة أن المؤن قد نفذت منهم، كما عجزوا عن الخروج للتصدي للقوات الإسلامية، ولم ينقذهم من هذا الوضع الحرج سوى وصول بواخر بيزنطية نقلتهم ليلًا، وخفية إلى الجزر القريبة الواقعة تحت السيطرة البيزنطية2، وهكذا أضحت المدينة خالية ممن يحميها أو يدافع عنها، فدخلها المسلمون وسيطروا عليها3.

تعمير طرابلس:

اهتم معاوية بن أبي سفيان بتعمير طرابلس بعد فرار سكانها، فأرسل إليها جماعة من يهود الأردن4، وأسكنهم في حصنها، ولم يسكنها غيرهم ليضع سنوات5.

ويبدو أنه أدرك أن اليهوم قوم لا هم لهم إلا تأمين مصالحهم الخاصة، وأن كثيرًا منهم خانوا البيزنطيين وعملوا عيونًا للمسلمين مقابل إعفائهم من الجزية، ومنحهم الأراضي6، كما أنهم اشتهروا بالأعمال التجارية، التي كان معاوية يعمل على تنشيطها مع بلدان البحر المتوسط، لذلك أسكنهم في مدينة طرابلس، ثم استقدم الفرس من الداخل، وأنزلهم فيها أيضًا.

وكان عثمان قد أمر معاوية "بتحصين السواحل وشحنها، وإقطاع من ينزله إياها قطائع ففعل"7، والمعروف أن المسلمين كانوا يخشون الإقامة في الثغور الساحلية المعرضة دائمًا لغارات البيزنطيين، لذلك واجه معاوية صعابًا في إغراء المسلمين على الرغم من أنه وزع الأراضي عليهم، واضطر أخيرًا إلى إسكانها بخليط غير مسلم، كما أذن لبعض البيزنطيين بالإقامة فيها بعد أن استأمنهم8. وكان يشحنها في كل عام، بفرق من الجند المسلمين ليدافعوا عنها ضد غارات البيزنطيين، وولى عليها عاملًا من قبله.

فتح جزيرة قبرص:

كانت قبرص ولاية بيزنطية عاصمتها قنسطنطيا "سلاميس القديمة"، ويدين سكانها

1 البلاذري: ص133.

2 المصدر نفسه.

3 المصدر نفسه.

4 المصدر نفسه: ابن عساكر: ج16 ص77.

5 المصدران نفساهما.

6 سالم، سيد عبد العزيز: طرابلس الشام في التاريخ الإسلامي ص36.

7 البلاذري: ص134.

8 تدمري: تاريخ طرابلس ص96.

ص: 378

بالعقيدة النصرانية الأرثوذكسية منذ عام 431م، وقد صهرت الكنيسة شعب الجزيرة، وجعلت منه وحدة اجتماعية ودينية وثقافية، كما أن الروابط القديمة القوية بين رجال الدين، والسكان خلقت نوعًا من الشعور بالتضامن الاجتماعي في ظل سمة قائمة على مدار العصور المتتالية، التي خضعت فيها الجزيرة للسيادة الأجنبية1.

وعندما فتح المسلمون الثغور البحرية، أضحت هذه عرضة لهجمات البيزنطيين المنطلقين من الجزر القريبة، ونظرًا؛ لأن الصراع العسكري بين المسلمين، والبيزنطيين كان بأحد وجهيه بحريًا، أدرك معاوية أهمية بناء أسطور إسلامي بهدف:

- الدفاع عن السواحل.

- غزو الجزر البحرية المواجهة لساحل بلاد الشام.

- الدفاع عن المناطق الداخلية المفتوحة.

- استمرار العلاقات التجارية الخارجية مع دول البحر المتوسط، وبخاصة أن هذا البحر كان لا يزال تحت قبضة البيزنطيين2.

وتنفيذًا لهذا المخطط كتب إلى عمر بن الخطاب يطلب منه السماح بركوب البحر، وغزو الجزر القريبة من ساحل بلاد الشام، لكن الخليفة لم يأذن له إذ "كان يكره أن يحمل المسلمين غزاة فيه"، وكتب إليه بترميم حصون الثغور البحرية، وترتيب المقاتلة فيها، وإقامة الحرس على مناظرها، واتخاذ المواقيد لها، لحمايتها من غارات البيزنطيين3.

وحدث في أواخر أيام عمر وأوائل عهد عثمان أن استعاد البيزنطيون بعض المدن الساحلية، كما استردوا مدينة الإسكندرية، فأدرك معاوية أنه لا بد من إنشاء أسطول إسلامي للتصدي للخطر البيزنطي، وفتح الجزر البحرية التي ينطلق منها العدو، واتخاذها قواعد انطلاق لغزو القسطنطينية، وهو الهدف الأسمى للمسلمين، ونجح في إقناع عثمان بركوب البحر، وسمح له بغزو قبرص على أن يحمل معه امرأته فاختة بنت قرظة وولده، حتى يعلم أن البحر هين كما صوره، له، وأمره بعدم إجبار الناس على الركوب معه إلا من اختار الغزو طائعًا4.

وفور الحصول على موافقة الخليفة، قرر معاوية إصلاح المراكب التي استولى

1 دائرة المعارف الإسلامية: ج26 ص8068، مركز الشارقة للإبداع الفكري 1998.

2 أرشيبالد، لويس: القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط ص89.

3 البلاذري: ص134.

4 المصدر نفسه: ص157، 158، الطبري: ج4 ص260.

ص: 379

عليها المسلمون من البيزنطيين، وتقريبها إلى ساحل حصن عكا الذي أمر بترميمه، كما رمم ثغر صور1، وكتب إلى أهل السواحل بالاستعداد لغزو قبرص التي اختارها هدفًا عسكريًا لنشاط الأسطول الإسلامي، بفضل وضعها الجغرافي المتميز آنذاك، كقاعدة لغزو القسطنطينية.

وخرج معاوية على رأس حملته الأولى على الجزيرة في عام "28هـ/ 649م"2، وتألف الأسطول الإسلامي من مائة وعشرين مركبًا بقيادة عبد الله بن قيس3، وخرج معه جمع من الصحابة منهم أبو ذر الغفاري، وعبادة بن الصامت، وزوجته أم حرام، والمقداد بن الأسود وغيرهم4.

وصادف الأسطول الإسلامي، وهو في طريقه إلى قبرص، بعض المراكب البيزنطية المحملة بالهدايا، وقد بعث بها ملك قبرص إلى الإمبراطور قنسطانز الثاني، فاستولى المسلمون عليها، وعندما وصل الأسطول الإسلامي إلى قبرص رسا على ساحلها، وأغار الجنود المسلمون على نواحيها، وغنموا الكثير من أهلها، واضطر ملك قبرص في ظل عجزه عن المقاومة إلى طلب الصلح، فصالحه معاوية على أن:

- يؤدي أهل الجزيرة جزية سنوية مقدارها سبعة آلاف دينار، كما يؤدون للبيزنطيين مثلها، وليس للمسلمين أن يحولوا بينهم، وبين ذلك.

- يمتنع المسلمون عن غزو الجزيرة، ولا يقاتلون عن أهلها من أرادهم من ورائهم.

- يعلم أهل الجزويرة المسلمين بتحركات البيزنطيين المعادية لهم.

- يعين المسلمون على أهل الجزيرة بطريقًا منهم5.

الواقع أن هذه الشروط التي فرضها معاوية على مالك قبرص، متواضعة، ويبدو أنه رأى أن الظروف الضرورية للاستقرار في الجزيرة لم تتوفر بعد، وأن الحملة لم تكن أكثر من حملة استكشافية، واختبار قوة البحرية الإسلامية، لكن الدواعي العسكرية دفعته إلى تغيير تفكيره، وذلك في عام "32هـ/ 653م"، حين ساعد أهل الجزيرة البيزنطيين، في حربهم ضد المسلمين، وأعطوهم بعض المراكب من أجل ذلك، فنقضوا الصلح المبرم بينهم وبين المسلمين، مما حمل معاوية على غزو الجزيرة

1 البلاذري: ص157، 158.

2 الطبري: ج4 ص258.

3 المصدر نفسه: ص260.

4 المصدر نفسه: ص258.

5 المصدر نفسه: ص262، البلاذري: ص158، 159، اليعقوبي: ج2 ص166.

ص: 380

للمرة الثانية في عام "33هـ/ 654م" ففتحها عنوة، وأخذ السبي منها وأقر أهلها على صلحهم، وعمد إلى تمصيرها، واستقرار المسلمين فيها، فبعث إليها اثني عشر ألفًا من أهل الديوان المكتتبين، فبنوا بها المساجد، كما نقل إليها جماعة من أهل بعلبك، وبنى بها مدينة، وأقاموا يعطون الأعطيات إلى أن توفي1.

غزو الجزر البحرية:

تتابعت الغارات الإسلامية على جزر البحر المتوسط، مثل أرواد وكوس ورودس، وهي التي تتحكم في المضائق البحرية، وبدأ المسلمون بجزيرة أرواد قرب ساحل بلاد الشام بين طرابلس وجبلة، أمام مدينة أنطرطوس، وقد هاجمتها الحملة الأولى العائدة من قبرص، ونزل الجنود المسلمون على أرض الجزيرة، لكن أهلها اعتصموا بالقلعة، فلم تفتح إلا في عام "29هـ/ 650م" في الوقت نفسه التي فتحت فيه جزيرة كوس2، غير أن البلاذري يذكر أن جزيرة أرواد فتحت في عام "54هـ/ 674م" على على يد جنادة بن أبي أمية، وأسكنها معاوية المسلمين3، والواقع أن الحملات البحرية كانت تتوالى على هذه الجزر، ولم يتسن للمسلمين إخضاعها في حملة واحدة، أو عام واحد.

غزوة إفريقية:

كان عمرو بن العاص قد أمن حدود مصر الغربية بفتح برقة صلحًا في عام "22هـ/ 643م"، وفتح طرابلس الغرب عنوة في العام التالي، وفي عام "27هـ/ 648م"، ولي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فاستأنف عمليات الفتوح، وكان البيزنطيون يسيطرون على إفريقية، فأرسل سراياه إلى أطراف هذه البلاد، ثم استأذن عثمان بغزوها، فأذن له، وأرسل إليه مددًا بقيادة الحارث بن الحكم4، وخرج عبد الله بن سعد بن أبي سرح على رأس جيش كثيف قاصدًا قرطاجنة5، وهي مركز تجمعات الجيوش البيزنطية بقيادة جرجيوس، فلما علم القائد البيزنطي بزحف المسلمين حشد جيشًا مؤلفًا من مائة وعشرين ألف مقاتل6، واصطدم بهم في مكان يبعد عن سبيطلة7 يومًا وليلة، وتبادل الطرفان النصر والهزيمة، ولم يحقق أي منهما انتصارًا واضحًا، ولم يتغير الموقف العسكري لصالح المسلمين إلا عندما أرسل الخليفة عثمان مددًا بقيادة عبد الله بن الزبير، وقتل القائد البيزنطي في المعركة، وفر من نجا من

1 البلاذري: ص158.

2 ابن أعثم: ج2 ص145، 146.

3 فتوح البلدان: ص237.

4 الطبري: ج4 ص253، 254.

5 قرطاجنة: تقع بالقرب من تونس الحالية.

6 ابن كثير: ج7 ص152.

7 سبيطلة: مدينة من مدن إفريقية، بينها وبين القيروان سبعون ميلًا، الحموي: ج3 ص187.

ص: 381

جنوده في كل اتجاه، ودخل عبد الله بن سعد بن أبي سرح مدينة سبيطلة، وبث جنوده في البلاد، وبلغ قفصة1، وفتح حصن الأجم جنوبي القيروان، ويبدو أنه اكتفى بهذه الفتوح القليلة، فعقد صلحًا مع زعماء البلاد من البربر، وعاد إلى مصر دون أن يترك أثرًا يذكر، إلا أن غزواته التي تمت على هذا النحو كانت تجربة مفيدة للمسلمين إذ أوقفتهم على حال هذه البلاد، وعلى مدى أهميتها إليهم.

غزو بلاد النوبة:

بعد عودة عبد الله بن سعد بن أبي سرح من إفريقية قام بغزو بلاد النوبة، فبلغ عاصمتها دنقلة، وذلك في عام "31هـ/ 652م"، واصطدم بأهلها في قتال شديد إلا أنه لم يتمكن من فتحها، فهادنهم وعقد صلحًا معهم، وهو أشبه بمعاهدة اقتصادية بين مصر وبلاد النوبة، فتمد مصر هذه البلاد بالحبوب والعدس، ويرسل النوبيون الدقيق إلى مصر2.

معركة ذات الصواري 3:

نتيجة لانتصارات المسلمين في البحر المتوسط خشي الإمبراطور البيزنطي من تعاظم القوة البحرية الإسلامية، والتي سوف تشكل خطرًا مباشرًا على الوجود البيزنطي في الحوض الشرقي لهذا البحر، بالإضافة إلى تهديد القسطنطينية، كما ترامت إلى مسامعه أخبار الاستعدادات الضخمة، البرية والبحرية، التي يقوم بها معاوية لغزو القسطنطينية، لذلك كان لا بد من مواجهة الموقف بتحطيم هذه القوة الإسلامية النامية في مهدها، وعندما علم عثمان بنوايا البيزنطيين المعادية، أمر معاوية بن أبي سفيان بإعداد أسطول ضخم من السفن، ويحشد الجنود، والعتاد إلى جانب حشد بري ضخم، تمهيدًا لتسيير حملة برية -بحرية، لمهاجمتهم، وتشير روايات المصادر إلى أن معاوية خرج من دمشق مع أهل الشام في عام "34هـ/ 654م" على رأس الحملة البرية، وأبحرت في الوقت نفسه السفن من ميناء طرابلس بقيادة بسر بن أبي أرطأة، وانضمت إلى الأسطول القادم من مصر بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، واجتمع الأسطولان بساحل مدينة عكا، وانطلقا باتجاه الشمال، وبلغ تعداد الأسطول الإسلامي مائتي سفينة ونيف4.

1 قفصة: بلدة صغيرة في طرف إفريقية من ناحية المغرب من عمل الزاب الكبير، بينها وبين القيروان ثلاثة أيام، المصدر نفسه: ج4 ص382.

2 البلاذري: ص239، حسن، إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام ج1 ص262.

3 الصواري: جمع صارية، وهي الخشبة المعترضة وسط السفينة.

4 ابن عبد الحكم: ص321. الطبري: ج4 ص290.

ص: 382

وصل معاوية بقواته إلى قيصرية في كبادوكيا بآسيا الصغرى، في حين كانت السفن الإسلامية تقترب من مياه الدولة البيزنطية، عند الساحل الجنوبي لآسيا الصغرى، ومن جهته خرج الإمبراطور البيزنطي من عاصمته على رأس أسطوله الذي تراوح عدد سفنه بين خمسمائة وألف، بحيث "لم يجتمع للروم مثله قط منذ كان الإسلام"1.

والتقى الأسطولان قرب شاطئ ليكيا عند ميناء فوينكس في "شهر محرم عام 34هـ/ شهر تموز عام 654م"، وخشي المسلمون من أن تكون الغلبة لعدوهم، إذا هالهم الأسطول البيزنطي، ولم يكن قد سبق لهم أن خاضوا معركة بحرية ضد أسطول ضخم كهذا، وقد عبر أحد المقاتلين المسلمين، وهو مالك بن أوس بن الحدثان، عندما شاهد ضخامة الأسطول البيزنطي بقوله:"فالتقينا في البحر، فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط"2.

أجرى المسلمون اتصالًا مع البيزنطيين قبل بدء القتال، وعرضوا عليهم أن يكون القتال على الساحل، وإن شاءوا فالبحر، ففضلوا القتال في الماء لثقتهم بقدرتهم القتالية في البحر من جهة، ونظرتهم إلى المسلمين على أنهم بدو يجيدون ركوب الجمال، والقتال في البر، من جهة أخرى3.

ونفذ الإمبراطور البيزنطي الذي قاد المعركة بنفسه خطة ذكية، لإنهاك المسملين بأن دفعهم لرمي البيزنطيين بالسهام، والقسي حتى نفدت ذخيرتهم، ولم يحاول الاقتراب بسفنه من السفن الإسلامية، فاضطر المسلمون بقذفهم بالرماح والحجارة، عند هذه المرحلة من أحداث المعركة اطمأن الإمبراطور البيزنطي على سلامة وضعه العسكري، وظن أن الانتصار بات من نصيبه، وأن البيزنطيين لن يحتاجوا إلا إلى هجمة واحدة حتى يحطموا الأسطول الإسلامي، وردد قوله:"غلبت الروم"، لكن المسلمين غيروا خطة القتال عندما نفدت ذخيرتهم، فربطوا سفنهم إلى بعضها، واصطفوا على ظهورها متسلحين بالسيوف والخناجر، وقذفوا السفن البيزنطية بالخطاطيف، والكلاليب وجذبوها إليهم، وبذلك تحولت ظهور السفن إلى ميدان قتال، فحولوا بذلك المعركة البحرية إلى معركة أقرب ما تكون إلى المعارك البرية، وأمام هذا التغيير السريع والمفاجئ في سير المعركة، ارتبكت القيادة البيزنطية، وفقدت السيطرة على عوامل الانتصار، بل أيقن الإمبراطور حينئذ

1 الطبري: المصدر نفسه.

2 المصدر نفسه: ص291.

3 المصدر نفسه: ص290.

ص: 383

بأن الهزيمة ستحل بقواته من واقع أن المسلمين أكثر ثباتًا في قتال من هذا النوع، استغل المسلمون تضعضع القوة الميدانية للبحرية البيزنطية، والفوضى التي بدت في صفوف البيزنطيين حيث كانوا "يقاتلون على غير صفوف"، فوثبوا إلى السفن البيزنطية، وقاتلوا البيزنطيين قتالًا شديدًا، وانتصروا عليهم، وأصيب الإمبراطور بجراح، وفر من مكان المعركة1.

أما تسمية المعركة بذات الصواري، فتعود على الأرجح إلى كثرة عدد صواري السفن التي اشتركت في المعركة، على الرغم مما يستدل من رواية الطبري بأن ذات الصواري اسم للمكان الذي جرت فيه المعركة2.

نتائج معركة ذات الصواري:

- أكد هذا الانتصار قوة المسلمين البحرية النامية، وقارن المؤرخون بينها وبين معركة اليرموك البرية.

- تعد هذه المعركة من المعارك الحاسمة في التاريخ الوسيط؛ لأنها حولت العلاقات الإسلامية -البيزنطية نحو اتجاه جديد في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، إذ إنها عدت المدخل الذي أطل منه المسلمون على العالم الوسيط كقوة بحرية منافسة في المنطقة.

- تخلي الإمبراطور البيزنطي قنسطانز، ومن جاء بعده من الأباطرة، عن فكرة طرد المسلمين من الأراضي التي فتحوها في شرقي البحر المتوسط، والاكتفاء بتأمين الدفاع عن الأراضي البيزنطية في الجبهة الجنوبية من آسيا الصغرى.

- أفاد هذا التغيير في الخطط العسكرية البيزنطية الدولة الإسلامية في وقت دخلت فيه في دور من القلق، والنزاع الداخلي بسبب مقتل عثمان، والحرب الأهلية بين علي ومعاوية، حيث ساد الهدوء العلاقات العسكرية بين الجانبين.

- أضاعت هذه المعركة آخر فرص البيزنطيين لاستعادة مواقعهم في بلاد الشام، ومصر حيث كان اعتمادهم على التفوق البحري.

1 الطبري: ج4 ص291، 292.

2 تدمري: تاريخ لبنان ص69.

ص: 384

الفصل الثاني عشر: الفتنة الكبرى ومقتل عثمان

تمهيد:

أدى استقرار الموجة الأولى من الفاتحين المسلمين في الأقطار المفتوحة، إلى نشوء بيئة اجتماعية جديدة تعيش فيها مختلف شرائح المجتمع الفاتح، وجسد تخطيط المدن الإسلامية، وبخاصة الكوفة والبصرة، استقرار القبائل التي حملت عبء الفتوح، في الأراضي المفتوحة، وترسيخ سيطرتها بشكل مثير للانتباه، وساهم تدفق الأموال، وتكديس الثروات في المدينة، والأمصار نتيجة الفتوح؛ في خلق طبقة اجتماعية جديدة أخذت في النمو بحيث أضحى من الضروري إعادة تنظيم هيكل الحياة الاجتماعية، فهناك الأمصار بما تحويه من المقاتلين المتفرغين للجهاد، وهناك أيضًا السلطة المركزية في المدينة مع بيت مالها، وولاتها وعمالها، تتابع دورها الرئيس كمشرفة على نشاط المقاتلين، وعلاقتهم بالأرض التي يفتحونها، والشعوب التي ينتصرون عليها.

والواقع أن تدفق الأموال على بيت المال، وتكديس الثروات في أيدي الطبقات الاجتماعية، ترك آثارًا على مختلف نواحي الحياة، فقد تدفقت الأموال على المدينة، وتركزت فيها حيث كانت تنقل إلى هناك في ظل قلة النفقات، فالعطاء لا يطال سوى بضع مئات، أو آلاف من الناس لا يمكن مقارنتهم مع التجمعات الضخمة في العراق وبلاد الشام، كما أن المدينة لم تكن تشارك في النفقات الإدارية، والعسكرية التي كانت تجبى محليًا في الأمصار، كما وجدت الثروات طرائقها إلى المقاتلين، والقادة والتجار وحتى المواطنين العاديين، فتركزت القوة المالية والعسكرية في الأمصار، فأغرت أصحابها بالاستمتاع بها، ودفعت بعضهم إلى حياة البذخ والترف.

كان من الطبيعي أن تفرز هذه الحياة الجديدة علاقات أخرى أكثر ملاءمة بين الحكم في المدينة، وجمهور القبائل تتناسب مع التوجهات المفرزة، وتفتح آفاقًا جديدة للتطور الاجتماعي والسياسي، كان لا بد أن يصطدم مع سيادة المدينة

ص: 385

وهيمنتها على القرار السياسي من واقع إعادة هيكلية، وتحديد وظيفة الخلافة وصلاحيات الخليفة على حساب دور القبائل ومنزلتها.

ويبدو أن أول ما وقع الاختلاف بين المعارضة، وعثمان حين خطأ بعضهم بعضًا في أشياء نقموها عليه، وكان المسلمون بعامة، قبل ذلك يختلفون في الفقه ولا يخطئ بعضهم بعضًا1.

والواضح أن هذه الظاهرة تعكس النوعية السياسية الجديدة التي حاول عثمان إحداثها في تاريخ الأمة الإسلامية، إذ إن الخلافات والمناقشات قبل أن يتسلم الخلافة، كانت تحدث في إطار واحد مشترك، وضمن هيكل اجتماعي متفق عليه من قبل جميع الأطراف، تمثل في الفقه فقط، أي في القضايا التنفيذية الإجرائية2.

أما سياسة عثمان الإدارية والمالية، فعلى الرغم من أنها حافظت على النبي الاجتماعية التوزيعية، والتراتبية المنبثقة عن الفتوح3، إلا أنها مست أمورًا رئيسية في النظام السياسي، وإن حافظت على القضايا الجوهرية مثل الفتوح، والموقف من المشروع الأساسي للمجتمع الإسلامي، وطرحت قضايا جديدة كانت موضوعًا للمناقشة، وخالفت سياسة عمر بن الخطاب في طريقة ترتيب الأمور، كما تبلورت في سياق استقرار الموجة الأولى للفتوح فارضة قضايا جوهرية، مثل الموقف من بيت المال، وتعيين الولاة واختيار قادة الأمة وغيرها، الأمر الذي أثار نفاشًا حادًا، وعلنيًا بين كبار الصحابة.

كانت النتيجة الحتمية لهذا التطور نشوء معارضة سياسية ضد الخليفة في ظاهرة لم تشهدها الأمة الإسلامية من قبل، وانزلق المسلمون في متاهة الفتنة، التي أدت إلى مقتل الخليفة.

والواقع أن قسمًا من الانتقادات التي ستوجه إلى عثمان، والتي سيجري التذكير بها لتعبئة الرأي العام، رد فعل لهيمنة الأمويين على مقدرات الخلافة، واستثارهم بالنفوذ، والسلطان مع تباطؤ الخليفة في العمل على الحد من اندفاعهم، أو محاسبتهم، وقد ظهرت الانتقادات في وسط الصحابة مبدئيًا، وهم الذين شعروا بأنهم المعنيون سياسيًا، ودينيًا أكثر من غيرهم بمصير الأمة الإسلامية، إلا أنهم تكتموا في البداية تجاه تجاوزات الأسرة الأموية، وسكوت الخليفة عنها، أما الذين

1 السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن: تاريخ الخلفاء ص127.

2 إبراهيم: ص238.

3 جعيط: ص60.

ص: 386

إله إلا الله"1، كما أن هذا القرار يعد خطوة خطيرة، وتجاوزًا لمبادئ الإسلام، وتشجيعًا للقاتل على جريمته، ومخالفة لرغبة عمر بمعاقبة ابنه، مع الإشارة إلى أن اليعقوبي انفرد بقوله: "إن عمر أوصى أن يقاد عبيد الله بالهرمزان"2 إلا أن هؤلاء لم يتسرعوا في الحكم على عثمان بسبب هذه القضية نظرا لانقسامهم تجاهها، ثم لمكانة عمر بن الخطاب في نفوسهم، ولما كانوا يرونه من رعاية حقه في أهل بيته، إلا أن ذلك أعطى جمهور الصحابة، وعامة المسلمين مؤشرًا واضحًا على أنهم أمام سياسة جديدة لخليفة جديد، على الرغم من تأكيداته المتكررة بأنه يسير على النهج نفسه الذي سار عليه من سبقه من الخلفاء3.

والواقع أن حجج المعارضين واهية لا تثبت أمام النقد البناء، إذ إن حقيقة إسلام الهرمزان مشكوك فيها "لما عضه السيف قال: لا إله إلا الله"، الأمر الذي يعني دفاعًا غير مباشر عن عبيد الله بن عمر الذي قتل رجلًا أسلم بعد أن طعنه وليس قبل ذلك، والفارق بين الأمرين كبيرًا جدًا4، ثم إن قرار الخليفة بدفع دية القتلى من ماله الخاص، بوصفه ولي القتلى، ثم بعد مشاورة الصحابة، وجمهور المسلمين الذين رفضوا قتل عبيد الله بن عمر5.

السماح للقرشيين الانسياح في الأمصار:

الواضح أن الظروف السياسية، والاجتماعية التي ترك عليها عمر بن الخطاب المسلمين بعامة وقريشًا بخاصة، من واقع شدته وقسوته، فرضت اتجاهًا قرشيًا يطالب باستبدال هذه القسوة باللين، وبفك القيود والحصار عنها، وإنهاء التقليد الذي فرضه، وذلك لحرص القرشيين على جمع الأموال، والوصول إلى السلطة، وهو ما أثبتته التطورات اللاحقة.

ويبدو أن هذه العلاقة الحذرة بين عمر، وقريش ليست جديدة، بل كانت موجودة من قبل، فقد خشي أهل الشام، وأعني وجوه الناس من قريش الذين استقروا في هذا البلد، حين سمعوا بمرض أبي بكر، أن يستخلف عمر؛ لأن عمر ليس لهم بصاحب وهو يرون خلعه، فأرسلوا رسولًا لاستطلاع الأمر6.

والواقع أن عمر كان له رأي خاص في انتشار قريش في الأمصار، وتكديس

1 البلاذري: ج10 ص432.

2 تاريخ اليعقوبي: ج2 ص54.

3 ملحم: ص108.

4 المرجع نفسه.

5 البلاذري: ج10 ص433.

6 ابن قتيبة: ج1 ص23.

ص: 388

القرشيين للأموال، وذلك من خلال أن هذا التطور سوف يبعد هؤلاء عن الأجواء الأولى لظهور الإسلام1، لذلك ضيق على المهاجرين بخاصة، وعلى قريش بعامة وحصرهم في المدينة، ومنعهم من التنعم بثمار الفتوح، مما دفع القرشيين إلى بذل جهود حثيثة بعد وفاته كي يصل إلى منصب الخلافة شخص مغاير لتفكير عمر، وقد نجحوا في ذلك، فكان اختيار عثمان الذي انتهج سياسة حياتية، واجتماعية استهدفت النزوع نحو الانفراج من واقع البيئة الجديدة التي أفرزتها الفتوح، ولهذا كان نهجه المرن، والمتحرر متوافقًا مع تطلعات القرشيين، ومقرونًا بها2.

إذن لم تكن القضية تعديلًا جزئيًا ناتجًا عن اجتهاد عثمان، بل كانت قضية نموذج سياسي وقيادي، قدمه الخليفة لإعادة صياغة وظيفة الخلافة، ومحاولة فك ارتهانها بسلوك القبائل، وذلك بالارتباط الوثيق مع اتجاهات التطور الاجتماعي داخل الأمة الإسلامية التي أوصلته عمليًا للخلافة3.

فلما ولي عثمان أذن لكبار الصحابة بالخروج إلى أي مكان يريدون، فانتشروا في الأمصار، واتصلوا بالقوى العسكرية، وبأهل البلاد الوطنيين، وجمعوا الثروات، وكدسوا الأموال من خلال امتلاكهم الضياع، وأشادوا القصور، وشكلوا طبقة غنية مترفهة، والتف المسلمون حولهم بوصفهم زعامات دينية ساعدت النبي ونصرته، وأنشأوا لأنفسهم عصابات بما كانوا يضفونه على أتباعهم من هبات وأعطيات، فعظمت مراكزهم، وكثر أتباعهم والموالون لهم حتى أضحى كل فريق منهم يتمنى أن تصير الخلافة في يد صاحبه لتكون لهم الحظوة عنده4.

واتخذ عثمان قرارًا في عام "30هـ/ 650م" يتوافق مع توجهاته سمح بموجبه بحرية تبادل، وبيع الأراضي بصورة شخصية5، والواضح أنه رأى أن أهل المدينة الذين شاركوا في المعارك الكبرى كالقادسية كان لهم الحق بنصيب من تلك الأراضي المفتوحة، وبما أنهم كانوا يقيمون في الحجاز، فقد أجاز لهؤلاء ممن كانت لهم أرض في الجزيرة العربية، أي في الحجاز، واليمن وحضرموت، بمقايضتها بنصيب أهل المدينة من أراضي الفيء في العراق كما أجاز بيع الأسهم من الفتوح.

وهكذا سيكون لهؤلاء مقابل اشتراكهم في حروب الفتوح أراض تقع في الجزيرة العربية، وبالمقابل سيحصل آخرون على أرض في سواد العراق بدلًا من ممتلكاتهم

1 إبراهيم: ص232.

2 المرجع نفسه: ص233.

3 المرجع نفسه: ص233، 234.

4 الطبري: ج4 ص398.

5 المصدر نفسه: ص280، 281.

ص: 389

في الجزيرة العربية التي يريدون مقايضتها، مع فارق قيمة الأرض الزراعية بين المنطقتين.

وقد هدف عثمان إلى تعزيز مواقع المهاجرين، والأنصار في الأمصار حيث كانت الكلمة العليا للقبائل أي للمتأخرين في الإسلام، وطمح في تثبيت أملاك، وتحسين أوضاع أهل الفضل، والقدم والسابقة في الفتوح.

وهكذا جرت حركة واسعة من البيع، والتبادل أدت عمليًا إلى تركيز أراضٍ واسعة في الأمصار في أيدي الأغنياء من القرشيين، وبعض زعماء القبائل الذين كانوا يملكون شيئًا في الجزيرة العربية، أو حتى أولئك الذين كانوا يملكون المال، وتمت هذه الاستفادة على حساب الكثير من العامة من الجمهور القبلي الذي حمل عبء الفتوح بسيوفه1.

والواقع أن قرار عثمان لاقى قبل تنفيذه تأييد الصحابة، وموافقتهم؛ لأنه خفف أعباء إدارة أملاكهم، كما شجع الناس على الإقامة في أمصارهم، وحال دون انتقالهم منها، لذلك فإن أي نتائج سلبية نتيجة تطبيق هذا القرار يجب أن لا توجه إلى الخليفة وحده، ومن جانب آخر إن حجم ممتلكات الصحابة الكبير نما باطراد خلال الأعوام التي سبقت عهد عثمان، ومع ذلك، فإن ما قام به الخليفة أثار نتائج خطيرة، أبرزها أنه خلق فجوات اقتصادية كبيرة في الأمصار بخاصة، وتحديدًا في الكوفة بين المهاجرين القدامى من أله الأيام والقادسية، وبين المهاجرين الجدد "الروادف" مما أدى إلى تنكر القبائل لاحقًا لهذا القرار مشيرة إلى دوافعه وعواقبه، وقد خلق تمييزًا بين وضعية أراضي الخراج، وأراضي الصوافي من الفيء، كما كرهه المستفيدون منه؛ لأنه يخرج الأمور من التباس تمكن الإفادة منه، وكرهه أهل الأيام أيضًا الذين رأوا أن تبادل الأراضي أدى إلى تقلص أراضي الصوافي، واتهموا القرشيين برغبة الاستيلاء على أراضيهم، وكان أحد أسباب تمرد أهل الكوفة على ولاتهم في عام "33هـ/ 653- 654م"2.

نذكر من بين الشخصيات التي أثرت، واغتنت نتيجة تطبيق هذا القرار، الزبير بن العوام الذي بنى دارًا له في كل من البصرة، والكوفة والإسكندرية، كما امتلك الدور والضياع3، والواضح أن هذا الصحابي لم يكن حالة فردية، بل مثل القسم الأكبر

1 إبراهيم: ص248.

2 جعيط: ص65.

3 المسعودي: ج4 ص253.

ص: 390

من نخبة قريش الذين أخذوا يجمعون الثروات بشكل ملفت، بالاستناد إلى مراكزهم، ومواقعهم المميزة في المجتمع من خلال تدبر شئون الأمة الإسلامية، وتنظيم حياتها في الأمصار المفتوحة، وكان كل من طلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن العاص، وزيد بن ثابت على هذا النمط.

دعم عثمان سياسته هذا بإقطاع الصوافي، وهو أول من تصرف بها، وأقطع الأراضي في الإسلام، ويشير البلاذري إلى هذا التوجه بقوله:"أول من أقطع العراق عثمان بن عفان، أقطع القطائع من صوافي كسرى، وما كان من أرض الجالية"، وسمى الذين أقطعهم1.

والمعروف أن سواد العراق اشتهر بخصوبته، وهو ينقسم إلى قسمين: أراضي الخراج التي كانت تضم القسم الأكبر، وتستخدم في تمويل العطاء العراقي، وربما عطاء المدينة، وأراضي الصوافي أو الفيء العائدة لمقاتلة القادسية وجلولاء، والتي كان يديرها ممثلوهم من أهل الأيام، ويزودونهم بالمكاسب والأرباح الإضافية2، وتعد هذه أراضٍ يمكن التصرف بها.

جاءت خطوة عثمان هذه كنتيجة لتقديره الصائب لتطورات أوضاع المسلمين في الأمصار، لقد أدت الفتوح إلى نزوح أعداد سكانية هائلة من الجزيرة العربية إلى الأمصار المفتوحة، وبالتحديد إلى الكوفة والبصرة، وطغت على نواة الأمة الإسلامية من المهاجرين والأنصار، وأهل الفضل والسابقة التي أضحت تشكل أقلية عددية، وقد أدرك عثمان ذلك، وكان يرفض أن يميل ميزان القوى السياسي لصالح القبائل على حساب هؤلاء، لذلك أراد دعمهم، وتقوية سيطرتهم على المراكز القيادية بنقل الفيء إلى أيديهم مباشرة حتى تترسخ أموالهم وأملاكهم، من هنا جاءت دوافع الأقطاع العثماني، والتصرف بأراضي الصوافي، ونقل ملكيتها إلى قدماء المسلمين، كان فحوى هذا النظام، التكريس المالي، والأخلاقي لرئاسة قريش على القبائل، ومن الواضح أن سياسة كهذه ما كان لها أن تمر دون معارضة جدية من قبل القبائل في مواقعها الأساسية في الكوفة، والبصرة، ومصر3.

والواضح أن توقف الفتوحن، وزوال وأردت الغنائم دفع أهل الأمصار إلى الاعتراض على إعطاء أهل المدينة من فيئهم، ودعوا إلى توزيع وارد كل مصر على

1 فتوح البلدان: ص273.

2 جعيط: ص64، وانظر هامش رقم "1".

3 إبراهيم: ص249.

ص: 391

من فيه من المقاتلة بوصفه مال المسلمين، في حين الخليفة يعده مال الله، أي مال الدولة، فضجوا بالشكوى من عثمان وعماله1، ولعل في مطالبة وفود مصر التي استقرت في المدينة دليلًا واضحًا على ذلك "نريد ألا يأخذ أهل المدينة عطاء، فإنما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم2".

موقف عثمان من بيت المال:

تتباين روايات المصادر حول تصرف عثمان في أموال بيت مال المسلمين، وذلك من خلال ميول أصحابها المذهبية والسياسية، وتقييمهم لنهج عثمان على ضوء ذلك، فقد انتقد اليعقوبي أعمال عثمان ونهجه، في حين أبرز البلاذري الانتقادات التي وجهت إلى عثمان، ونحا الطبري منحى آخر دافع فيه أحيانًا عن أعمال عثمان.

والراجح أن عثمان بوصفه خليفة للمسلمين، وإمامًا لهم، كانت له وجهة نظر خاصة، من واقع وظيفته القيادية، تعطيه الحق في حرية التصرف في بيت المال ضمن حدود المصلحة العامة.

يروي البلاذري أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أخا عثمان في الرضاعة وعامله على المغرب، غزا إفريقية في عام "27هـ/ 648م"، ففتحها وأصاب فيها غنائم كثيرة، وكان معه مروان بن الحكم، فكتب إليه يأمره بتقديم خمس غنائم إفريقية إلى مروان، وكانت قيمتها مائة إلى مائتي ألف دينار، فوهبها له فأنكر الناس ذلك على عثمان3.

ويستنتج من رواية الطبري لهذا الحدث أن والي مصر عمرو بن العاص هو الذي منح أمير جيشه عبد الله بن سعد بن أبي سرح خمس خمس غنائم إفريقية تنفيذًا لوعد قطعه، الأمر الذي أثار سخط المسلمين، فأرسلوا إلى عمرو بن العاص وفدًا طالبه بعزل أميرهم، واسترجاع ما استولى عليه من أموال، فوافق على ذلك4.

وأثار الطبري الشك في صحة رواية الواقدي التي تحدثت عن تقديم عثمان إلى مروان بن الحكم ثلاثمائة قنطار ذهب، كان قد صالح عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح زعماء إفريقية، "فأمر بها عثمان لآل الحكم، قلت: أو لمروان؟ قال: لا أدري"5.

1 الدوري: ص55.

2 الطبري: ج4 ص355، ابن قتيبة: ج1 ص34.

3 أنساب الأشراف: ج6 ص133، لقد صالح حاكم إفريقية عبد الله بن سعد بن أبي سرح على ألفي ألف دينار، وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار. الطبري: ج4 ص256.

4 تاريخ الرسل والملوك: المصدر نفسه: ص253، 254.

5 المصدر نفسه: ص256.

ص: 392

وتحدث الطبري عن إعادة عثمان إلى بيت مال المسلمين مبلغ خمسة عشر ألف دينار كان قد وهبها إلى مروان بن الحكم، تلبية لمطالب الصحابة له باستعادتها1.

وفي عام "30هـ/ 651م" زوج عثمان ابنته من عبد الله بن خالد بن أسيد، وأمر له بستمائة ألف درهم، وكتب إلى عبد الله بن عامر أن يدفعهما إليه من بيت مال البصرة2، ويشير الطبري إلى أنه أعادها إلى بيت المال3، والحقيقة أن عثمان الذي اشتهر بالثراء، قسم ماله وأرضه في بني أمية4، وكان يمنح أقاربه هبات مالية إضافية من بيت مال المسلمين لقضاء حاجة طارئة، أو ضرورية، ثم يستردها، على الرغم من أن بعض رواة المصادر يسكتون عن عملية الاسترداد لإثارة الرأي العام ضده.

لم يركن عثمان إلى السكوت، بل دافع عن نفسه في وجه الانتقادات المالية التي وجهت إليه، واعترض صراحة بأن ما يمنحه لأقاربه من هبات هي من ماله الخاص، فقال:"إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي فإنه لم يمل معهم على جور، بل أحمل الحقوق علهيم، وأما إعطاؤهم فإن ما أعطيهم من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي، ولا لأحد من الناس"5.

ومهما يكن من أمر، فإنه لا بد من تقدير هذه الأحداث المتعلقة بخاصية التطورات التاريخية التي عاشتها الأمة الإسلامية في عهد عثمان، وتكمن أهميتها في أنها غيرت قاعدة السلوك المتبعة منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب، ففي حين كان ديوان الخليفة الثاني يقوم على مبدأ ثابت، وهو أن الفيء مال المسلمين لا يحق لأحد أن يتصرف به، نشأت في عهد عثمان مصطلحات فقهية جديدة من واقع رؤية هذه الخليفة لماهية، ووظيفة الخلافة، وربط بشكل طبيعي بين تحمل المسئولية السياسية، والقيادية للمسلمين، وبين حرية التصرف في بيت مال المسلمين، إنما ضمن حدود المصلحة العامة لتسيير شئون الحكم، وعلى أن لا ينفق مال المسملين في مصاريف خاصة، وقد أثارت هذه القضية مناقشات علنية بين الصحابة، من واقع تباطؤ بعض المدينين بإعادة الدين إلى بيت مال المسلمين، أو تعمدهم بعدم تسديد ما استلفوه.

ولعل لأبي ذر دورًا محوريًا في تلك المناقشات من خلال رؤيته لماهية المال العام. إذ عندما اجتمع بمعاوية في دمشق سأله: "ما يدعوك أن تسمي مال المسلمين

1 تاريخ الرسل والملوك: ج4 ص345.

2 اليعقوبي: ج2 ص64.

3 تاريخ الرسل والملوك: ج4 ص345.

4 المصدر نفسه: ص348.

5 المصدر نفسه: ص347، 348.

ص: 393

مال الله؟ قال: يرحمك الله أبا ذر، ألسنا عباد الله والمال ماله، والخلق خلقه، والأمر أمره؟ قال: فلا تقله، قال: فإني لا أقول: إنه ليس مال الله، ولكن سأقول: مال المسلمين"1.

وحين أعاد معاوية أبا ذر إلى عثمان قال له: "يا أبا ذر ما لأهل الشام يشكون ذربك؟! فأخبره أنه لا ينبغي أن يقال: مال الله، ولا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالًا، فقال: يا أباذر؛ علي أن أقضي ما علي، وآخذ ما على الرعية، ولا أجبرهم على الزهد، وأن أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد"2.

لقد كان لأبي ذر مفهومه الخاص في ماهية المال العام من واقع تغيير المصطلحات المتداولة في عهد عمر، فقد أجاز هذا الخليفة تلقيبه بـ"خليفة الله"، وأكد أنه خليفة المسلمين، كما أكد أن المال مال المسلمين، الأمر الذي لم يكن له إلا تفسير اجتماعي واحد، وهو أنه مال القبائل التي قامت الفتوح الأولى على أكتافها.

والواضح أنه تتباين تفسيرات هذين المصلحين من حيث الممارسة بين ما كان مفهومًا، ومطبقًا في عهد عمر، وبين المفهوم الجديد، والتطبيق العملي في عهد عثمان، وما كان يمارسه هو وعماله، وهو الذي أدى إلى الخلط، فإذا كان المال مال الله، فسيكون للخليفة حق حرية التصرف به، ولا علاقة مباشرة للمسلمين في هذا الأمر؛ لأن الخليفة هو إمام المسلمين أمام الله، وهذه كانت عمليًا الفلسفة السياسية الكامنة وراء تصرفات عثمان، وقراراته بهذا الشأن3، لتسيير شئون الحكم.

والمعروف أن تصرفات عثمان في بيت مال المسلمين لم تكن على حساب عطاءات المقاتلة وأرزاق القبائل، إذ إن الظروف السياسية والاقتصادية، والعسكرية التي رافقت تسلم عثمان لمنصب الخلافة أدت إلى تكديس الثروات، وجرى تداولها، وإنفاقها وتخزينها على مختلف المستويات،

فكان لا يأتي يوم على الناس إلا وهم ينالون خيرًا، والواقع أنه كان يسود عهد عثمان بحبوحة مالية بحيث أن كل مسلم كان يأخذ حقه وفق نظام الديوان دونما حاجة إلى المس ببيت المال4.

تغيير العمال:

ينسجم هذا النهج مع السلوك السياسي للخليفة الخاص بيت المال، لكن الإثارة

1 الطبري: ج4 ص283.

2 المصدر نفسه: ص284.

3 إبراهيم: ص236، 237.

4 انظر وصف الحسن البصري لأوضاع المسلمين المادية في عهد عثمان في: ابن قتيبة ج2 ص28.

ص: 394

التي أحدثتها القرارات التي أصدرها عثمان بشأن تغيير العمال، بين الصحابة، فيها شيء من المبالغة، والحقيقة أن الخليفة انتهج سياسة منسقة، وبشكل تدريجي في تولية أقربائه متجاوزًا شخصيات صحابية كبرى، مثل علي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام وغيرهم من أهل الفضل، والسابقة من المهاجرين والأنصار، متخليًا بذلك عن أسس مجلس الشورى، ونظامه على عهد عمر بن الخطاب الذي كان يفاضل بين المسلمين، وفقًا لمعيار القدم والسابقة، وكان بعضهم حديثي السن، ليس لهم تجربة في الأمور، وليس لهم صحبة برسول الله، وقد تسببت هذه السياسة في انقسام المجتمع الإسلامي في الأمصار، وألبت المصاعب على عثمان، وذلك من واقع سيرة هؤلاء.

ويبدو أن عثمان، بحكم رؤيته الجديدة لصلاحيات الخليفة، وممارسة السيادة، وجد نفسه أنه لا يستطيع التعاون مع الشخصيات القيادية التي أدارت نظام عمر، وساهمت في بنائه، فكان استبدال الأشخاص نقلة نوعية طبيعية لاستبدال المواقف، وارتكب بعض هؤلاء مخالفات مسلكية، وأحيانًا شرعية نفر منها المسلمون، وظنوا أنهم فوق المساءلة، والمحاسبة لقرابتهم من الخليفة.

لقد ثبت عثمان في بداية حياته السياسية عمال عمر سنة أخرى تلبية لطلبه1، إلا أنه عزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة في عام "24هـ/ 645م"، وعين سعدًا بن أبي وقاص بدلًا منه، تلبية لوصية عمر لمن يلي بعده بأن يستعمله خشية أن يلحق به أذى من جراء قرار سابق بعزله عن الكوفة2، إلا أن عثمان أصدر قرارًا بعزله بعد عام من تعيينه بسبب خلافات نشبت بينه، وبين عبد الله بن مسعود، عامل بيت مال المسلمين في الكوفة لإبطاء سعد في رد أموال اقترضها من بيت المال، فارتفع الكلام بينهما، وأدى ذلك إلى انقسام أهل الكوفة، فقد استعان عبد الله بأناس على استخراج المال، واستعان سعد بأناس على استنظاره، فافترقوا وبعضهم يلوم بعض3، الأمر الذي أثار الخليفة عليهما، فعزل سعدًا من منصبه، وعين الوليد بن عقبة بن أبي معيط على الكوفة بدلًا منه، وهو شقيقه لأمه4، والمعروف أن الوليد هذا كان مؤمنًا متأخرًا، وأحد الطلقاء، ويشير البلاذري، من خلال نقده لسياسة عثمان، إلى أن الوليد هو أحد الطلقاء الذين غلبوا، وعفي عنهم بعد فتح مكة، وقد وصفه القرآن شخصيًا بصفة.

1 الطبري: ج4 ص244.

2 المصدر نفسه.

3 المصدر نفسه: ص251.

4 البلاذري: ج6 ص138.

ص: 395

الفاسق أي الرجل الذي لا يوثق بكلامه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] إذ كان النبي قد وجهه على صدقات بني المصطلق، فعاد إليه قائلًا:"إنهم منعوا الصدقة"، ويضيف البلاذري بأن هذا التعيين كان له وقع سيئ1، وهذا التأكيد يضعف إيمان الوليد، وهو في حقيقة الأمر إدانة للدور الأموي، وموقف الأمويين بعامة من الدين الجديد أكثر من وصفه انتقادًا لعثمان لاستعماله له2، وذلك بسبب ما أورده البلاذري نفسه، والطبري، من أن عمر بن الخطاب استعمله على صدقات بني تغلب في الجزيرة الفراتية3.

ظل الوليد عاملًا على الكوفة حتى عام "30هـ/ 650-651م"، حينما عزله عثمان وولى مكانه سعيدًا بن العاص4، ويبدو أن حدثًا جرميًا كان وراء هذا العزل، فقد حصلت عملية سرقة، تلاها قتل، واعتقل القتلة وحاكمهم الوالي وأعدمهم، لكن ذويهم لم يتقبلوا الأمر، ويبدو لنا تفسير ذلك كأنه مؤشر للصعوبة القصوى التي يواجهها العرب المستحضرون ذووو الأصل البدوي في التسليم، والقبول بتدخل السلطة العامة في شئون الدم، وبدور الدولة العدلي5، والمعروف أن المقتولين كانوا من بني الأزد وأسد، وأضحى آباء الذين قتلوا أعداء شخصين للوليد، فترصدوه واقتفوا أثره وكانوا رجالًا معروفين من أهل الأيام، ثم ركزوا على نقاط ضعفه، وأوقعوا به أمام الخليفة الذي اضطر إلى عزله6.

والواضح أن العداوة الشخصية التي ينسبها الطبري في رواية سيف لا تكفي، إذا صح وجودها للإحاطة بكل القضية، فمن المرجح أن أعداء الوليد كانوا ينتمون إلى تلك الفئة الإسلامية، وليس القبلية التي تكن العداوة للدولة بسبب آرائه التحررية والانفتاحية، فقد ذكر الطبري أن الوليد "كان أحب الناس في وأرفقهم بهم، فكان كذلك خمس سنين، وليس على داره باب"7، ويبدو أن الاستنكار الذي أحاط به دينيًا بسبب أخلاقه، وماضيه، واجتماعيا بسبب سياسة التقرب من الفئات الشعبية المنضوية تحت المهاجرين الجدد؛ قامت به فئة اجتماعية نخبوية شعرت

1 أنساب الأشراف: ج6 ص138، 139، وانظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير: ج4 ص208، 209.

2 ملحم: ص111.

3 أنساب الأشراف: ج6 ص140. تاريخ الرسل والملوك: ج4 ص252.

4 الطبري: المصدر نفسه: ص271 وما بعدها.

5 المصدر نفسه: جعيط: ص80، 81.

6 المصدر نفسه: ص271-277.

7 المصدر نفسه: ص271.

ص: 396

بأنها متضررة من جراء سياسة كهذه على الصعيد المعنوي، نظرًا؛ لأن الوليد أدخل هؤلاء المهاجرين الجدد، والعبيد والفقراء إلى لائحة المستحقين من العطاء، على الرغم من أنه لم ينقص عطاءات الأسياد والزعماء، وقد شعرت هذه الطبقة بأنها لا تحظى بالمكانة التي كانت لها لدى الوالي في جهاز الدولة1.

ويشار إلى أن هناك أسبابًا اجتماعية أخرى كانت وراء عدم رضا الخاصة عن الوليد بن عقبة، وهي أن أشراف الكوفة كانوا يتنافسون في الضيافة، فجاء الوليد، واتخذ منزلًا ينزلون فيه2، وقد شكلت هذه الخطوة تحديًا للكوفيين، وخسارة اقتصادية كبرى، حيث ترتبط الضيافة بالميار، وهم الذين يأتون الكوفة ليشتروا الطعام -الميرة- ويبيعون ويربحون، مما يعني أن موضوع الضيافة كان يحمل في ضياته كسبًا ماديًا لمن يستقبلهم3.

وصل سعيد بن العاص إلى الكوفة المضطربة، وبعد دراسة الوضع الميداني، أرسل تقريرًا إلى الإدارة المركزية في المدينة يصف الجو السياسي، والاجتماعي العام وموقف الفئات الاجتماعية فيها:"إن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم، وغلب أهل الشرف منهم، والبيوتات والسابقة والقدمة، والغالب على تلك البلاد، روادف ردفت، وأعراب لحقت؛ حتى ما ينظر إلى ذي شرف، ولا بلاء من نازلتها ولا نابتتها"4.

الواضح أن المجتمع الكوفي كان يعيش، حين غادر الوليد مركز عمله، حالة مضطربة، ويخضع لضغط المهاجرين الجدد من الإعراب غير المندمجين في منظومة العطاء الذين سيطروا على مقدرات الأمور، وربما كانت سياسة الوليد وراء ذلك، وتراجع نفوذ الأشراف القبليين وأهل السابقة في القتال، وشكلوا أقلية عددية بالمقارنة مع الأعراب الوافدين.

كانت الكوفة تشكو من كثرة المهاجرين دون مراعاة وضعها الاجتماعي، بمعنى الهجرة غير المنضبطة، وحدت رد فعل من جانب أهل الأيام، والقادسية للعودة إلى سياسة عمر بن الخطاب، وتأكيد الهرمية وإعادة بناء الحجم الاجتماعي، وإبراز قيمة امتياز المبدأ الإسلامي بدلًا من الشرف القبلي، وأحاط القراء5 بالوالي، فقد جعل

1 جعيط: ص80، 81.

2 الطبري: ج4 ص273.

3 ملحم: ص133.

4 الطبري: ج4، ص279.

5 القراء: هم حملة القرآن وحفظته، إنهم قارئوه ومعلموه، وكانوا يشكلون في مجموعهم جزءًا من المقاتلة الذين كانوا يتلقون العطاء، دون أن يبرزوا كطبقة متخصصة في التلاوة، راجع: جعيط: ص97.

ص: 397

سعيد بطانته من المهاجرين الأوائل في الكوفة، ووجوه أهل الأيام، والقادسية قراء أهل الكوفة والمتسمتين1، وكان الحل بالنسبة للخليفة هو المحافظة على التراتبية الاجتماعية.

وهكذا أضحت السياسة الجديدة في الكوفة تقوم على إعادة بناء الهيكل الاجتماعي، وإبراز قيمة الامتياز الإسلامي بدلًا من الشرف القبلي، واتفق الخليفة مع عامله على تفضيل أهل الأيام، والقادسية والسابقة على سواهم، وكانوا يمثلون النخبة الإسلامية، بحث أضحى سعيد بن العاص لا يجالس إلا نازلة أهل الكوفة، ووجوه أهل الأيام والقادسية والقراء، مما يعني أن هناك انقلابًا إداريًا قد حصل في الكوفة2.

واعتقد عثمان وواليه سعيد أن هذه السياسة هي الحل الأفضل لوضع حد للفوضى؛ لأن تلك الجماعات كانت الأشد نفوذًا والأكثر نشاطًا، وانتسب إليها الأشخاص الذين اتهموا الوليد، ونجحوا في عزله من منصبه، ثم جرى إدخال عدد معين من المهاجرين الجدد في عداد أهل العطاء، أو في عداد تلك النخبة، وطلب منهم أن يكونوا وسطاء بينه، وبين الناس:"أنتم وجوه من ورائكم، والوجه ينبئ عن الجسد، فأبلغونا حاجة ذي الحاجة، وخلة ذي الخلة"3، وذلك لتهدئة الخواطر، وترك الباقي على حاله، الأمر الذي أثار الاستياء، والشائعات بشأن المطاعن على عثمان.

لقد ساعدت هذه الإجراءات على تهدئة الوضع في الكوفة لبعض الوقت، لكنها لم تستطع أن تواجه ضغط التطورات الاقتصادية، والاجتماعية المتلاحقة فيها بعدما أدت سياسة الخليفة تجاه أرضي الصوافي، إلى تعميق الهوة بين أهل الكوفة وبين مركز الخلافة، حيث لم يقبل المهاجرون الجدد بالتفضيل، إذا إن الأوائل المتنفذين من أهل الأيام امتلكوا، أما اللاحقون فشعروا بجفوة، كما أحدثت هذه السياسة فجوة اقتصادية بين السابقين واللاحقين، إضافة إلى الفوارق الكبيرة في الخطوة، وهي مجال العطاء والمنزلة، ويبدو ذلك واضحًا في رواية سيف بن عمر "إن الذين لا سابقة لهم، ولا قدمة لا يبلغون مبلغ أهل السابقة والقدمة في المجالس، والرياسة والحظوة، ثم كانوا يعيبون التفضيل ويجعلونه جفوة"، مما زاد في النقمة، وغلب الشر4.

والواقع أنها كانت نقدًا عامًا للسلطة ضد فكرة التراتبية، وقد أضحى هؤلاء

1 الطبري: ج4 ص317.

2 جعيط: ص82، 83.

3 الطبري: ج4 ص279.

4 المصدر نفسه: ص281، ملحم: ص137.

ص: 398

الروادف غير المندمجين كما ينبغي، كتلة تآمرية يمكن استعمالها بسهولة، ولكن آنيًا لم يكن لهم قادة، ومطالبتهم بالمساواة لم تحظ إلا بعد قليل، وبالتالي لم يكن لهم تأثير فاعل على الساحة السياسية1.

وفي عام "31هـ/ 651-652م" عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن ولاية البصرة، وولى مكانة عبد الله بن عامر وعمره خمس وعشرين سنة، وقد أثار تعيينه جدلًا بين الصحابة، وعامة المسلمين بسبب:

- قرابته من الخليفة.

- صغر سنه.

- افتقاده إلى الخبرة والتجربة في ظل عظم، ومكانه وتجربة سلفه.

دافع عثمان عن وجهة نظره، وبرز تعاونه مع ولاة أحداث بقوله:"إني لم أستعمل إلا مجتمعًا محتملًا مرضيًا، وهؤلاء أهل عملهم، فسلوهم عنه، وهؤلاء أهل بلده، ولقد ولى من قبلي أحدث منهم، وقيل في ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أشد مما قيل لي في استعمال أسامة"2.

وكان على مصر عمرو بن العاص، فأقره عثمان على عمله حتى عام "27هـ/ 648م"، حينما عزل وعين بدلًا منه شقيقه بالرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح3، وقد ذكر البلاذري أنه كان يكتب بين يدي رسول الله، فيملي عليه "الكافرين"، فيجعلها "الظالمين"، ويملي عليه أيضًا "عزيز حكيم"، فيجعلها "عليم حكيم"، وادعى القدرة على الإتيان بآيات محكمات كآيات القرآن، "أنا أقول كما يقول محمد، وآتي بمثل ما يأتي به"، فأنزل الله فيه، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93] ، وهرب إلى مكة مرتدًا فأمر الرسول بقتله، ثم كف عنه بعد توسط عثمان لديه4.

لقد انفرد هذا المؤرخ بذكر هذه الرواية بهدف انتقاد قرارات الخليفة المتعلقة بتعيينه لأقاربه في مراكز السلطة، وذلك بتوضيحه الأدوار السلبية التي قام بها المعنيون مع الإشارة إلى أن الآية التي استشهد بها البلاذري نزلت في مسيلمة الكذاب5، وأشار الطبري إلى انتقادات محمد بن أبي حذيفة، ومحمد بن أبي بكر

1 جعيط: ص82، 83.

2 الطبري: ج4 ص347.

3 المصدر نفسه: ص253، ابن قتيبة: ج1 ص35.

4 أنساب: ج1 ص454.

5 انظر تفسير ابن كثير: ج2 ص157.

ص: 399

لعثمان بعد استقرارهما في مصر "

استعمل عبد الله بن سعد؛ رجلًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح دمه، ونزل القرآن بكفره"1.

الواضح أنهما تأثرا بما كان يسود المجتمع المصري من تذمر بسبب سياسة الوالي الجديد الذي ارتكب أخطاء، وأساء السيرة في أهل مصر، بمعاملته الجافة لهم وزيادة الخراج عليهم، والواقع أنه يتحمل شخصيًا وزر أعماله، لكن يبدو أن سياسته الاقتصادية قد حازت على رضا الخليفة الذي رفض أن يعزله عندما طلب أهل مصر منه ذلك، كما برر عزل سلفه، وهو عمرو بن العاص الذي أبدى امتعاضه، فقال له:"هل تعلم أن تلك اللقاح درت بعدك"2، يقصد بذلك خراج مصر قد زاد في عهد عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فأجابه عمرو بقوله:"إن فصالها هلكت"3، أي أن هذه الزيادة ستكون على حساب أهل مصر وإرهاقهم، وعدم الالتزام بالحدود المعقولة التي رضي بها عمر بن الخطاب من قبل، وقنع بما دخل بيت المال من خراج معقول في سبيل المحافظة على أصحاب الأرض.

وانتقد الصحابة مكانة مروان بن الحكم الخاصة عند عثمان، فقد علق علي بن أبي طالب على هذا الوضع بقوله:"ما يريد عثمان أن ينصحه أحد، اتخذ بطانة أهل غش، ليس منهم أحد إلا قد تسبب بطائفة من الأرض يأكل خراجها، ويستذل أهلها"4، وأضاف معاتبًا الخليفة: "أما رضيت من مروان، ولا رضي منك إلا بتحرفك عن دينك، وعن عقلك

والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه

أذهبت شرفك، وغلبت على أمرك"5.

أدت سياسة عثمان في تعيين الأقارب إلى حمل بني أبي معيط على رقاب الناس، وهو ما أشار إليه عمر بن الخطاب أثناء تعيين أعضاء مجلس الشورى، وهو انحياز شديد منه إلى جانب الأمويين الذين استغلوا هذه الفرصة، بالإضافة إلى تراخي الخليفة، وراحوا يعملون على استعادة مكانتهم السياسية التي فقدوها بظهور الإسلام، وقد رأى الطبري أن الأمر لا يعدو كونه ضغطًا قبليًا منظمًا من قبل الأمويين على عثمان لتحقيق أمانيهم، ويبدو ذلك متوافقًا مع ما عبر عنه مروان بن الحكم نفسه أمام وفود أهل الكوفة، والبصرة ومصر، الذين قدموا إلى المدينة في عام

1 تاريخ الرسل والملوك: ج4 ص292.

2 المصدر نفسه: ص257.

3 المصدر نفسه.

4 المصدر نفسه: ص406.

5 المصدر نفسه: ص362.

ص: 400

"35هـ/ 655-656م" حيث قال لهم: "جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا، اخرجوا عنا، أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم من أمر لا يسركم، ولا تحمدوا غب رأيكم، ارجعوا إلى منازلكم، فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا"1.

هذا وقد لام بنو أمية عليًا على انتقاداته لعثمان، فقالوا:"يا علي أهلكتنا وصنعت هذا الصنيع بأمير المؤمنين، أما والله لئن بلغت الذي تريد لتمرن عليك الدنيا، فقام علي مغضبًا"2.

ودافع عثمان عن سياسته في تولية الأقارب وإيثارهم، فأكد أن أمر التعيين لم يكن مقصورًا عليه حيث أناط النبي، وأبو بكر وعمر بأقاربهم في أعمالهم3، والجدير بالذكر أن عثمان وضع بلاد الشام، والأردن وفلسطين تحت يد معاوية، وذلك في عام "31هـ/ 651-652م"4.

جمع القرآن:

لعل قرار عثمان بجمع القرآن، وتثبيت قراءة واحدة له، من أكثر الخطوات جرأة، وهي خطوة إيجابية في الحفاظ على القرآن، والمعروف أن القرآن كان مفرقًا في العسب واللخاف، والرقاع والأكتاف، والألواح والأقصاب، علاوة على حفظه في الصدور، ولم يجمع في عهد النبي، وقام أبو بكر بمحاولة جمعه في خطوة أولى بتشجيع من عمر بن الخطاب، وذلك إثر معركة اليمامة التي قتل فيها عدد كبير من القراء، وحفظة القرآن، الأمر الذي خشي أن يستمر فقدان هؤلاء، فيذهب كثير من القرآن، وقد اختار أبو بكر زيدًا بن ثابت، وأمره بجمع القرآن، فجمعه في صحف وضعت عند أبي بكر، ولم يهتم هذا الخليفة بنشرها وتعميمها، ثم نقلت بعد وفاته إلى عمر، ولما توفي تم حفظها عند ابنته حفصة5، ويبدو أن كلا من الخليفتين الأولين رأى أن القرآن كان لا يزال حيًا وحاضرًا في ذاكرة كثير من المسملين، ولم يكن من الضروري نشر قراءته، ومعرفته بقرار خاص من جانب الخلافة.

ورأى عثمان، بعد أن تولى الخلافة، اختلاف الناس في قراءة القرآن إلى درجة أن كفر بعضهم بعضًا حتى أوشكت الفتنة أن تنشب بينهم6، والواقع أن القرآن حل محل الشعر في ذلك الوقت، وقام مقام ثقافة العرب المتحدرة من الجاهلية، يضاف

1 الطبري: ج4 ص362.

2 المصدر نفسه: ص365.

3 المصدر نفسه: ص337، 338.

4 المصدر نفسه: ص282-285.

5 اليعقوبي: ج2 ص66، العسقلاني: فتح الباري بشرح صحيح البخاري: ج10 ص384-389.

6 العسقلاني: المصدر نفسه ص392.

ص: 401

إلى ذلك أن حذيفة بن اليمان رأى أثناء الحملة على جرجان، وطبرستان أن المسلمين يتجادلون بحماس شديد حول طرق القراءة المختلفة، فكان يصل بهم الأمر إلى حد لعن بعضهم بعضًا، واتهام بعضهم بالكفر1، وربما أشار حذيفة على عثمان بوضع نسخة واحدة من القرآن خوفًا من نشوب فتنة، ولتعميق الشعور الإسلامي، واجتناب العودة إلى الشعر2، ويدل ذلك على جدية الاهتمام الإسلامي العام بالقرآن، والحماس الذي أبداه المسلمون تجاه، لذلك قرر جمع القرآن، وتثبيته على قراءة واحدة من القراءات السبع التي نزل بها، وهي حرف قريش، وذلك حرصًا منه على توحيد النص، والحفاظ عليه وجمع المسلمين على مصحف واحد وقراءة واحدة، وكلف زيدًا بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيدًا بن العاص، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام؛ القيام بهذه الخطوة3.

الواضح أن هذه القضية على أهيمتها لم تأخذ حيزًا واسعًا في روايات المصادر، إذ لم تتعد الإشارة إليها ببضعة أسطر، وربما يعود ذلك إلى أن هذه الروايات انتقدت الأسلوب الذي اتبعه عثمان للوصول إلى هدفه، وهي تحمل مواقف مسبقة ضد الخليفة تمشيًا مع النزعة الإقليمية للأمصار، والتي تمثلت باستقلالية كل مصر وانحيازه لقارئه، وأبرزت انتقادات بعض الصحابة لهذه الخطوة، وفي مقدمتهم عبدا لله بن مسعود الذي رفض تسليم مصحفه إلى عبد الله بن عامر، عامل عثمان على البصرة4، وعد هذه الخطوة بدعة، وخروجًا على سنة النبي وخليفتيه الأولين، ومحاولة لمحو الكتاب، ويبدو أنه لم يدرك، أو أنه لم يشأ أن يدرك هدف عثمان، فجرى تشويهه5، كما رأى أن زيدًا بن ثابت لم يكن بالشخص الكفؤ للمشاركة في ذلك، وأعرب عن اعتزازه بقراءته ومصحفه.

وكان أبو موسى الأشعري على هذا الضرب من الرأي، إذ عندما أعطى مصحفه إلى حذيفة بن اليمان، قال:"ما وجدتم في مصحفي هذا من زيادة، فلا تنقصوها، وما وجدتم من نقصان، فاكتبوه فيه"6.

ويبدو أن معارضة هذين الصحابيين سببها تثبيت القراءة على حرف واحد هو

1 الطبري: ج4 ص269، السجستاني: عبد الله بن سليمان الأشعث بن إسحاق: المصاحف ص30.

2 السجستاني: المصدر نفسه: ص13، جعيط: ص104.

3 العسقلاني: ج10 ص393، 394.

4 اليعقوبي: ج2 ص66.

5 السجستاني: ص15.

6 ابن شبة، أبو زيد عمر: تاريخ المدينة المنورة ج3 ص998، 999.

ص: 402

حرف قريش، كما أن هذه الخطوة تحد من نفوذ القراء بالاتجاه نحو المركزية، إذ لم يتهم أحد الخليفة بالتحريف، وأن الخلاف الذي نشأ حول هذه القضية هو أبرز مثال للصدام بين الاتجاه القبلي، والاتجاه الإسلامي في سياسة هذا الخليفة1.

والحقيقة أن هذه الخطوة تعد ظاهرة كبرى في تاريخ الإسلام الديني، والثقافي والسياسي، ترتبط ارتباطًا شديدًا ببروز الظاهرة القرآنية2، وهكذا أرسلت ست نسخ إلى مكة، والشام واليمن، والبحرين، والبصرة والكوفة، وبقيت نسخة في المدينة، وأمر الناس باعتمادها في القراءة، وإلغاء النسخ الأخرى. وبذلك حفظ كتاب الله من أن تحرفه لهجات الأعراب، واختلاف القارئين، كما تلافى اختلاف المسلمين في قراءتهم، وقضى على هذا الاختلاف.

توسيع الحمى 3:

انتقد بعض الصحابة وأهل المدينة، والأمصار عثمان على توسيعه الحمى، واستعرضت روايات المصادر هذه الخطوة من خلال معلومات عامة، وغير مباشرة4، والمعروف أن الأرض تحمى في وجهين:

الأول: في سبيل الله، فقد حمى النبي النقيع لخيل المسلمين وركابهم، وهو أول إحماء بالقرب من المدينة، إذ يبعد عنها نحو عشرين فرسخًا5، وحمى عمر نقيع الخضمات6، وخصصه لخيل المسلمين المعدة في سبيل الله.

الثاني: أن تحمى الأرض لنعم الصدقة إلى أن توسع مواضعها، وتفرق في أهلها7، فقد حمى أبو بكر الربذة لإبل الصدقة8، وحمى عمر الشرف9.

ونهج عثمان نهج النبي وخليفتيه، فأبقى حمى النقيع خاصًا لخيل المسلمين، وكان يحمل عليها في كل سنة خمسمائة فرس وألف بعير، كما كانت الإبل ترعى بناحية الربذة في حمى لها10، إلا أنه سرعان ما زاد في إبل الصدقة بسبب زيادتها، إذا بلغت في عهده نحو أربعين ألفًا، ومنح بعض عماله، وعددًا من الصحابة إذنًا بالإفادة منه، مثل مروان بن الحكم، وعبد الله بن مطيع، وعبد الرحمن بن عوف، وعد

1 الدوري: ص54.

2 جعيط: ص104.

3 الحمى هو الموضع فيه كلأ يحمى من الناس أن يرعوه، أي يمنعوه، الحموي: ج2 ص243، 244.

4 ملحم: ص117.

5 الماوردي: ص185، الحموي ج5 ص301.

6 الحموي: المصدر نفسه.

7 ابن سلام: الأموال ص417.

8 الماوردي: ص185.

9 طبقات ابن سعد: ج3 ص305.

10 البلاذري: ج6 ص149.

ص: 403

بعض المؤرخين، ممن يحملون مواقف مسبقة من الخليفة، هذه الخطوة خروجًا على سنة النبي، وسياسة خليفتيه1.

والواقع أن عثمان دافع عن خطوته هذه وبرر عمله، فقال:"وإني والله ما حميت، حمي قبلي، والله ما حموا شيئًا لأحد ما حموا إلا غلب عليه أهل المدينة، ثم لم يمنعوا من رعيه أحدًا، واقتصروا لصدقات المسلمين يحمونها؛ لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، ثم ما منعوا، ولا نحوا منها أحدًا إلا من ساق درهمًا، ومالي من بعير غير راحلتين، ومالي ثاغية ولا راغية، وإني قد وليت، وإني أكثر العرب بعيرًا وشاءً، فمالي اليوم شاة، ولا بعير غير بعيرين لحجي،"2.

وهناك إشارة إلى دفاع عثمان، وندم من اتهمه في هذه القضية، وردت في سياق المحاورة بينه، وبين الوفد المصري الذي قدم إلى المدينة في عام "35هـ/ 655-656م":"فقالوا له: ادع بالمصحف، قال: فدعا بالمصحف، قال: فقالوا له: افتح التاسعة -قال: "وكانوا يسمون سورة يونس التاسعة- قال: فقرأها حتى أتى على هذه الآية: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، قال: قالوا له: قف، فقالوا له: أرأيت ما حميت من الحمى؟ الله أذن لكل أم على الله تفتري! قال: فقال: امضه، نزلت في كذا وكذا، قال: وأما الحمى فإن عمر حمى الحمى قبلي لإبل الصدقة، فلما وليت زادت إبل الصدقة، فزدت في الحمى لما زاد في إبل الصدقة

"3.

الصلاة في منى أربع ركعات:

أثارت صلاة عثمان في منى عام "29هـ/ 650م" الانتقادات الحادة ضده من قبل بعض الصحابة، وقد روت المصادر حيثيات هذه القضية حين صلى بالناس أربع ركعات: خلافًا لما سنه النبي وسار عليها الخليفتان من بعده الذين صلوا ركعتين اثنتين، بسبب أن صلاتهم في منى صلاة مسافر، وليست صلاة مقيم، وكان عثمان نفسه قد صلى صدرًا من خلافته ركعتين4.

وقد برر عثمان إقدامه على ذلك بقوله: "إني أخبرت أن بعض من حج من أهل اليمن وجفاة الناس، قد قالوا في عامنا الماضي: إن الصلاة للمقيم ركعتان، هذا إمامكم يصلي ركعتين، وقد اتخذت بمكة أهلًا، فرأيت أن أصلي أربعًا لخوف ما

1 اليعقوبي: ج2 ص70، البلاذري: ص149.

2 الطبري: ج4 ص347.

3 المصدر نفسه: ص354، ابن سلام: ص418.

4 الطبري: المصدر نفسه: ص267، 268.

ص: 404

أخاف على الناس، وأخرى قد اتخذت بها زوجة، ولي بالطائف مال، فربما أطلعته، فأقمت فيه بعض الصدر"1.

وقد رد عبد الرحمن بن عوف على مبررات الخليفة بقوله: "أما قولك: اتخذت أهلًا، فزوجتك بالمدينة تخرج بها إذا شئت، وتقدم بها إذا شئت، إنما تسكن بسكناك، وأما قولك: ولي مال بالطائف، فإن بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال، وأنت لست من أهل الطائف، وأما قولك: يرجع من حج من أهل اليمن وغيرهم، فيقولون: هذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين وهو مقيم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي، والناس يومئذ الإسلام فيهم قليل، ثم أبو بكر مثل ذلك، ثم عمر، فضرب الإسلام بجرانه، فصلى بهم عمر حتى مات ركعتين"2.

والواقع أن احتجاجات المنتقدين تعبر عن وجهات نظر خاصة، وقد انفرد الطبري بالإشارة إلى ذلك3، وهي لا تحمل في طياتها مظاهر خلاف، أو تمرد ضده، الأمر الذي يفسر قيام عبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف بالصلاة أربع ركعات في منى اقتداء به على الرغم من معارضتهما لهذه الخطوة، وقد هدف الطبري إلى إبراز حرص الصحابة على وحدة المسلمين4، أما البلاذري، فقد أغفل الإشارة إلى ذلك في محاولة منه لإبراز مدى الاحتجاج الذي لاقته سياسة عثمان بين الناس5.

السماح للحكم بن أبي العاص الإقامة في المدينة:

أثار قرار الخليفة السماح لقريبه الحكم بن أبي العاص بن أمية بالإقامة في المدينة، حفيظة عدد من الصحابة، وسخطًا واسعًا في المجتمع الإسلامي، وقد رأوا فيه تجاوزًا لإرادة النبي، والمعروف أن النبي كان قد طرده منها مع ولده إلى الطائف، وحرم عليه الإقامة فيها بفعل إيذائه له، ويبدو أن هذا القرار يعد محاولة من عثمان لإرضاء البعد العصبي؛ لأن إعادة الحكم بن أبي العاص إلى المدينة يعد دعمًا واضحًا لشخصية أموية بارزة، وانتصارًا لبني أمية بعامة، الذين حاولوا خلال عهد أبي بكر، وعمر إعادة الحكم إلى المدينة، وفشلوا في ذلك6. لكن عثمان برر قراره بأنه كلم النبي بشأنهما، ووعده بأن يأذن لهما إلا أن الموت حال دون تنفيذ وعده7، ورد على مننتقديه قائلًا: "رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره بذنبه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم رده بعفوه"8.

1 الطبري: ج4: ص268، 269، 347.

2 المصدر نفسه: ص268.

3 المصدر نفسه.

4 المصدر نفسه: ملحم: ص120.

5 أنساب الأشراف: ج6 ص150.

6 الطبري: ج4 ص398، 399.

7 المصدر نفسه.

8 المصدر نفسه.

ص: 405

انتقادات متفرقة:

لم ينج تاريخ عثمان الشخصي من النقد، فقد عابوا عليه عدم شهوده بدرًا، وبيعة الرضوان وفراره من معركة أحد، فرد مدافعًا عن نفسه أنه لم يحضر بدرًا بسبب تخلفه على تمريض زوجته بنت النبي، فضرب له رسول الله سهمه وأجره، أما بيعة الرضوان فإنه لم يشهدها؛ لأن النبي أرسله إلى مكة، وقد صفق له النبي بيمينه على شماله، أما فراره من معركة أحد، فقد غفر الله له ذلك1.

وهناك انتقادات أخرى لما وصف بتجاوزت عثمان انفرد اليعقوبي بروايتها، وتظهره بمظهر الحريص على الخروج عن سنة النبي، وسيرة خليفتيه2، وهي إشارات لا يمكن الأخذ بها لكونها وضعت بهدف المس بشخصية عثمان، والتقليل من هيبته ومكانته، ودوره في الإسلام، لصالح إبراز مكانة علي بن أبي طالب ودوره3.

مقدمات الفتنة - انتفاضة الكوفة:

يمكن التأكيد أن ميل عثمان إلى أسرته، وانقسام الصحابة حول سياسته العامة، هزت أسس الشرعية التاريخية للخلافة4، وفي ظل الأوضاع المضطربة في الكوفة تأكدت الريبة تجاه القيادة في المدينة.

والواقع أن الكوفة احتضنت فاتحي العراق وفارس، واستوطن فيها أهل الأيام وأهل القادسية، وتعايش فيها، بشكل متناقض، المحاربون العرب الأوائل، وعناصر متعددة من مرتدين سابقين تابوا، واشتركوا في معركة القادسية، ويمثلون كبرى القبائل البدوية من اليمن، ومضر ومذحج، وكندة وتميم وأسد5، وقد أنيط بهم مراقبة المناطق المفتوحة في غرب إيران وشمالها، كما استقر بعضهم في الري وأذربيجان، وكانوا يستبدلون مرة كل أربع سنوات6.

وحاول عثمان أن يوجه طموح القبائل إلى الفتوح، مع تزايد الهجرة وتجمع أعداد كبيرة من المقاتلة في الأمصار، وشهدت السنوات الأولى من حكمه، حركة واسعة في الفتوح رافقها وفرة في الغنائم، وتم استقرار المسلمين في الأماكن المفتوحة، وامتلكوا الأراضي فيها، وعلى الرغم من ذلك، فقد ظلت فتوح أهل الكوفة محدودة

1 اليعقوبي: ج2 ص65، ابن شبة ج3 ص955، 956.

2 اليعقوبي: المصدر نفسه ص67-71.

3 ملحم: ص121.

4 جعيط: ص92، 93.

5 المرجع نفسه: ص78، 79.

6 الطبري: ج4 ص246.

ص: 406

بالمقارنة مع فتوح أهل البصرة التي شملت أقاليم فارس، وكرمان، وسجستان وخراسان1، مما أدى إلى زيادة أعداد أهل العطاء فيها، وتحسين أوضاعهم المادية، الأمر الذي نتج عنه هدوء نسبي فيها2، على عكس الكوفة التي ظلت مشكلاتها المالية قائمة؛ وفشلت الإدارة في مواجهتها خلال ولاية كل من الوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص.

وهكذا مثل عهد عثمان مرحلة حسنة للبصرة، فوضعها في منافسة حقيقية مع الكوفة التي كانت عاجزة عن كسب غنائم وفيرة، وعن توسيع رقعة نفوذها، لكن فتوحاتها السابقة، وماضيها العسكري، كانا لا يزالان يجعلان منها، خلال هذه المرحلة، المركز المتقدم في العراق، وفي الوقت الذي كانت فيه البصرة هادئة ارتفعت في الكوفة حركات الاحتجاج الأولى ضد سياسة عثمان، والتي ارتبطت بشكل خاص بالبنى الاجتماعية فيها3، ذلك أن سكانها كانوا يتمتعون بالعطاء بموجب النظام الذي أقره عمر بن الخطاب، غير أن مقداره كان يختلف من فئة إلى أخرى، فقد كان عطاء أهل الأيام، وأهل القادسية مرتفعًا لأسبقيتهم بالمشاركة في الفتوح، ودورهم الكبير فيها، في حين كان عطاء الروادف منخفضًا، وبخاصة المتأخرين منهم، وقد خلئق هذا التفاوت تباينًا اجتماعيًّا واضحًا انضاف إلى التباين القبلي الناجم عن تركيبة جيش الفتح مما جعل الوضع في هذا المصر يتوتر تدريجيًا4.

تفجر الوضع في عام "33هـ/ 653-654م" في إحدى جلسات سعيد بن العاص العامة، وقد تسبب فيه أهل الأيام والقادسية، والقراء وزعماء العشائر5. فأثناء حديث بينهم عن السواد والجبل، وعن ثراء طلتحة بن عبيد الله، تمنى صاحب شرطة سعيد بن العاص، عبد الرحمن بن خنيس الأسدي، لواليه "والله لوددت أن هذا الملطاط لك -يعني ما كان لآل كسرى على جانب الفرات الذي يلي الكوفة-"6، مما أثار حفيظة الحضور، وحول النقاش إلى خلاف حاد، كاد يفضي إلى صراع بين القبائل، عندما قام الأشتر، ورد عليه "تمن للأمير أفضل منه، ولا تمن له أموالنا، فقال عبد

1 الطبري: ج4 ص300-316.

2 ملحم: ص131.

3 المرجع نفسه: الدوري: ص55.

4 البكاي، لطيفة: حركة الخوراج، نشأتها وتطورها إلى نهاية العهد الأموي، ص13.

5 انظر من كان يحضر الاجتماع عند البلاذري في أنساب الأشراف: ج6 ص151، 152.

6 الطبري: ج4 ص318.

ص: 407

الرحمن: ما يضرك من تمني حتى تزوي ما بين عينيك، فوالله لو شاء كان له، فقال الأشتر: والله لو رام ذلك ما قدر عليه، فغضب سعيد، وقال: إنما السواد بستان لقريش، فقال الأشتر: أتجعل مراكز رماحنا، وما أفاء الله علينا بستانًا لك ولقومك؟ والله لو رامه أحد لقرع قرعًا يتصأصًا1 منه"2، وفي رواية: "أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك، ولقومك! والله ما يزيد أوفاكم فيه نصيبًا إلا أن يكون كأحدنا، وتكلم القوم معه"3، ثم اعتدوا على صاحب الشرطة4، مما دفع أشراف الكوفة، الذين عارضوا سياسة هذه الفئة، إلى أن يرسلوا إلى الخليفة يطلبون منه إخراج هؤلاء النفر الذين خلقوا الفتنة في بلدهم5، كما كتب الوالي إلى عثمان يشرح له الأوضاع الصعبة التي تمر بها الكوفة، والتطورات اللاحقة فيها، وأكد له بأن رهطًا من أهل الكوفة "يؤلبون ويجتمعون على عيبك، وعيبي والطعن في ديننا، وقد خشيت إن ثبت أمرهم أن يكثروا"6، "وإني لا أملك من الكوفة مع الأشتر، وأصحابه الذين يدعون القراء، وهم السفهاء شيئًا"7، فسيرهم الخليفة إلى بلاد الشام.

لقد خلقت سياسة عثمان الإطار الملائم لتكثيف نشاط القراء في الكوفة، واتساع دائرة اهتمامهم لتشمل، بالإضافة إلى القرآن، مسائل أخرى تهم الحياة السياسية، فكون هؤلاء مجموعة متميزة ذات مضمون سياسي يختلف عن المضمون الديني، إذ إن اختراق القرآن لبني الفكر الديني للحركة السياسية هو الذي مكنهم من تجاوز الدولة على أساس امتلاكهم للمرجعية الأولى والأساسية، وهي القرآن8.

ومهما يكن من أمر، فإن الأسماء التي ذكرتها روايات المصدر أثناء استعراضها لمثير الشغب في مجلس سعيد بن العاص، وأسماء المسيرين إلى بلاد الشام9 أن هؤلاء كانوا:

- من أوائل المقاتلة المقيمين قديمًا في الكوفة.

- من ذوي المركز القبلي الثانوي، ولم يكونوا زعماء قبائل، وعلى الأكثر كانوا زعماء عشائر، أو أفخاذًا من عشائر10.

1 يتصأصأ: يخاف ويذل.

2 البلاذري: ج6 ص152.

3 الطبري: ج4 ص323.

4 المصدر نفسه.

5 المصدر نفسه.

6 المصدر نفسه، البلاذري: ج6 ص151.

7 البلاذري: المصدر نفسه.

8 البكاي: ص16.

9 البلاذري: ج6 ص151، 153، 157، الطبري: ج4 ص318-323.

10 جعيط: ص85.

ص: 408

- من الناقمين على قريش1.

- لم يكونوا جميعهم من القراء.

وتبدو رواية سيف بن عمر التي رواها الطبري2، وذكرت بأن معاوية وصف هؤلاء بالشياطين، وبالأقوام التي ليست لهم عقول ولا أديان، وقد اندسوا بين الناس يملون عليهم ما يريدون من آرائهم بهدف تفرقة المسلمين، ونشر بذور الفتنة بينهم، وقد أثقلهم الإسلام وأضجرهم؛ غير واقعية؛ لأنها تعبر عن وجهة نظر معاوية، والأمويين بشأن السلطة، والدين ودور هؤلاء القبلي بعد تسلمهم الحكم، أكثر مما تعبر عن الأفكار السائدة في مرحلة الحدث3.

وفي عام "34هـ/ 654-655م" استدعى عثمان عماله إلى المدينة لبحث الأوضاع المتردية في الأمصار، وازدياد الشكوى، والتذمر بين الناس، فاستغل المعارضون في الكوفة، والمتعاطفون مع المبعدين خروج سعيد بن العاص، واستدعوا هؤلاء للعودة، وتعهدوا لهم بعدم السماح للوالي بالعودة إلى الكوفة، وأعلموهم بأنه لا طاعة لعثمان على ما ينكر منه4.

الواضح أن هذه الحركة التي منعت عودة والي الكوفة إلى عمله، هي مجرد حركة احتجاج عادية، ومحدودة لا تتسم بالإجماع، احترمها الخليفة حتى لا يكون لهؤلاء عليه حجة، فعزل سعيدًا بن العاص عن ولاية الكوفة، وولى مكانه أبا موسى الأشعري تلبية لرغبة المحتجين5، محافظًا بذلك، ظاهريًا على الأقل، على مرجعية المؤسسة الحاكمة، وعلى سلطته الخاصة، والتقليل من أهمية الأمر الواقع عليه، والتسليم به، مما ألحق ضررًا بمؤسسة الخلافة من واقع أنه حمل بذور الثورة العامة التي ستندلع في عام "35هـ/ 565م"، والتي ستنتهي بمقتله6، وقد حذر القعقاع بن عمرو قائد الجيش في الكوفة، وبالتالي صاحب القوة فيها من محاولات كهذه7، إلا أنه لم يكن يملك القوة المادية التي تساعده على مواجهة هذه الحركة، كما غادر الكوفة زعماء القبائل الذين عينوا عمالًا على أعمالها، فانعدم الضغط القبلي الأساسي، والذي كان يشكو أصلًا من خلل آني؛ لأن النفوذ القبلي كان شبه مدمر في الكوفة8.

1 الطبري: ج4 ص319.

2 المصدر نفسه.

3 جعيط: ص90.

4 الطبري: ج4 ص331، 332.

5 المصدر نفسه: ص376.

6 جعيط: ص95.

7 الطبري: ج4 ص331.

8 المصدر نفسه: جعيط: 96.

ص: 409

دوافع أهل الأمصار للثورة على عثمان:

اتسمت السنوات الأخيرة من خلافة عثمان بتنامي موجة الاستياء والاحتجاج، وقد أدت المآخذ التي ذكرت دورًا واضحًا في ذلك، فنشأت حالة من الأزمة الجدية تضاربت فيها لمصالح بين طرفين؛ تمثل الأول بالخليفة وعماله وإدارته، في حين تمثل الثاني بجمهور القبائل وبعض الصحابة، وأبناء الصحابة، وذلك بفعل تطور البنية الاجتماعية، والسياسية للمسلمين بعامة، بحيث لم تعد عملية الإثراء إساءة لاستعمال السلطة كما كان الحال عليه في عهد عمر بن الخطاب، فتحولت المناصب الإدارية إلى مكون أساسي لعملية تطور الهيكل الاجتماعي للمسلمين، وبالتالي إلى منزلة اجتماعة خاصة لها حقوقها، وأعرافها وسلوكياتها المتمايزة عن جمهور المسلمين، وتداخلت اتجاهات الإثراء، والتملك مع اتجاهات استقلالية آلية القرار السياسي عن جمهور القبائل في عملية كانت تقود بالضرورة إلى إنشاء شرعية اجتماعية مستقلة ضمن الأمة الإسلامية1.

وعلى هذا الأساس بنى ابن خلدون نظريته الاجتماعية التي رأى من خلالها سبب الثورة على عثمان، وتتلخص في رغبة القبائل في تعديل، وتغيير ميزان القوى لصالحها، فنفذ إلى جوهر القضية الاجتماعية، داخل الأمة الإسلامية بعامة التي قادتها إلى النزاع السياسي الخطير أيام عثمان، كانت القبائل تنظر إلى أن فضل الفتوح يعود إليها، فإذا كانت قريش قد سادتها في البداية، فهي لم تعد مستعدة الآن، بعد كل هذا الجهاد، الذي جاهدته في سبيل الإسلام، أن تقبل بهذه السيادة، وأضحت ترى ضرورة التساوي معها، وأن محاولات عثمان الحد من تنامي نفوذ القبائل بتقوية قريش، جعلت القبائل غير مستعدة للتعامل معها على أنها الأدنى والأضعف2، "كان أكثر العرب الذين نزلوا الأمصار جفاة لم يستكثروا من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا هذبتهم سيرته وآدابه

مع ما كان فيهم في الجاهلية من الجفاء، والعصبية والتفاخر والبعد عن سكينة الإيمان، وإذا بهم عند استفحال الدولة قد أصبحوا في ملكة المهاجرين والأنصار، من قريش وكنانة وثقيف وهذيل، وأهل الحجاز ويثرب السابقين الأولين إلى الإيمان، فاستنكفوا من ذلك وعضوا به، لما يرون لأنفسهم من التقدم بأنسابهم، وكثرتهم ومصادقة فارس والروم، مثل قبائل بكر بن وائل، وعبد القيس بن ربيعة، وقبائل كندة والأزد من اليمن، وقيس بن مضر، فصاروا إلى الغض

1 إبراهيم: ص251.

2 المرجع نفسه: ص259.

ص: 410

من قريش والأنفة عليهم والتمريض في طاعتهم، والتعلل في ذلك بالتظلم منهم والاستعداء عليهم، والطعن بالعجز عن السرية، والعدل في القسم عن السوية، وفشت القالة بذلك، وانتهت إلى المدينة"1.

إذن المشكلة واضحة، وهي سيطرة قريش من خلال سيطرة الأمويين على مقدرات الشئون العامة، وعود إلى الجاهلية، ونزاع القبائل على السيادة، وأنفة بعضها من سيادة قريش، فأظهروا الطعن في ولاة عثمان بل وفي الخليفة نفسه، واستغل بعض أبناء الصحابة هذه القوى سلبًا، وإيجابا وفقًا للمصلحة العامة، أو لمصلحتهم الشخصية.

وإذا كان تعليل ابن خلدون ينطبق تمامًا على وضع الكوفة الاجتماعي، فإنه لا ينطبق بالضرورة على الوضع الاجتماعي العام في كل من البصرة ومصر، وذلك بفعل اختلاف ظروف دوافعهما للاشتراك بالثورة على عثمان، فقد تعاطف البصريون مع الكوفيين من واقع الأجواء المشحونة بالانتقادات الموجهة لسياسة عثمان في البصرة هي التي تتحدث عن تسيير أحد قرائها، وهو عامر بن عبد القيس، إلى الشام2 بالإضافة إلى بعض البصريين المنتمين إلى السوط نفسه الذي انطلقت منه أحداث الكوفة3، والواضح أنه لم يكن هناك تنسيق مسبق بين البصريين والكوفيين، ولعل وجود علاقة بين قراء المصريين، تلك التي تتحدث عن مشاركة حرقوص بن زهير السعدي البصري إلى جانب ثوار الكوفة الذين اشتركوا في طرد سعيد بن العاص، هذا في الوقت الذي انحصرت دوافع المصريين في اتهام ولاتهم بالانحراف السلوكي، وأحيانًا الشرعي مع رفض الخليفة تغييرهم، لذلك لا يمكن تفسير حماس هؤلاء بالبنى الاجتماعية وحدها، كما لا يمكن تفسيره بالدوافع الدينية ذات الإيحاء القرآني، بفعل أن مقاتليهم يملكون وعيًا سياسيًا، ودينيا أقل حدة4، فقد تأثروا بدعاية كثيفة شنها اثنان من أبناء الصحابة هما محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة، والمعروف أن الأول قبع في المدينة في حين قبع الثاني في مصر، واستولى على السلطة في الفسطاط بعد مغادرة الوالي عبد الله بن سعد بن أبي سرح أثناء حصار عثمان، مما شجع القوة المصرية المحاصرة للخليفة على أداء دور بارز في قتله5.

1 مقدمة ابن خلدون: ص179.

2 الطبري: ج4 ص326-328.

3 البكاي: ص20.

4 جعيط: 115.

5 المرجع نفسه.

ص: 411

لكن يبدو من خلال بعض الإشارات، وتتبع أسماء الثائرين المصريين، أن نقمة المسلمين الأوائل الذين فتحوا مصر واستقروا فيها، كانت أحد أسباب هذه الثورة على سياسة عثمان التي لم تعطهم المكانة التي يستحقونها، وهم في ذلك لم يقصدوا عثمان شخصيًا، وإنما أرادوا زعزعة سيادة قريش من خلاله، إلا أن هذه النقمة قد تطورت بسرعة، وتفاعلت مع الانتقادات العديدة الموجهة ضد الخليفة، وأدت إلى تحرك المصريين في اتجاه المدينة1، وظلت بلاد الشام خارج نطاق الحركة، وحتى يتوحد الجميع تحت هدف واحد هو النيل من عثمان، لخصوا اتهامهم له بعبارة:"بدلت وغيرت".

واشترك بعض الصحابة، وأبناء الصحابة في الثورة على عثمان، وأدى بعضهم الآخر دور الوسيط أو الدفاعي، وآل بهم الأمر أخيرًا إلى ترك الخليفة ليواجه مصيره منفردًا، ومن بين الذين ساندوا الثوار: عمار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر، وطلحة بن عبيد الله، في حين نفى علي بن أبي طالب ما نسب إليه من أنه ساند الثوار، كما نفت عائشة ضلوعها في المؤامرة2.

وهكذا اجتمع في عهد عثمان عاملان شكلًا الأزمة التي عرفت بالفتنة، وقادت المسلمين إلى الاقتتال، لأول مرة، فيما بينهم، وقتل خليفتهم الذي بايعوه جميعًا.

الأول: هو الاتجاه الموضوعي المتعلق بالضرورة مع استقرار الحياة الجديدة في الأمصار، وتنامي "الأرستقراطية" القريشية التقليدية ماليًا وسياسيًا، وتحولها إلى شريحة اختصت بالثروة والقرار، مستقلة بنفسها، متمايزة في وجودها المادي، وبنائها المتعالي عن جمهور القبائل، وعامة المسلمين.

الثاني: هو التنامي التدريجي لقوى القبائل في الأمصار، ولوعيها الذاتي، ولنزوعها إلى أن تتساوى مع قريش، على أرضية الفضل الأكبر لنصرة الإسلام في بلاد الروم والفرس3.

والواقع أن العلاقة بين هذين العاملين كانت تصادمية، إذ لم يكن بالإمكان تحقيق أحدهما إلا على حساب الآخر، وأثبتت الأحداث أن القوة كانت بيد القبائل بدليل قتل الخليفة على يد محاصريه، في الوقت الذي ظل جميع الصحابة في الداخل

1 البكاي: ص20.

2 البلاذري: ج6 ص202، 211، 212، 215، 216، ابن قتيبة: ج1 ص40.

3 إبراهيم: ص259، 260.

ص: 412

وعمال عثمان في الخارج ينتظرون نتيجة الصراع انتظارًا سلبيًا1، على الرغم من المحاولات الخجولة التي قام بها بعضهم للدفاع عن الخليفة لا سيما علي بن أبي طالب الذي أرسل ابنه الحسن من أجل ذلك2، مع الإشارة إلى أن المحاصرين لم يظهروا أي احترام للصحابة، ربما باستثناء علي.

الطريق إلى المأساة:

تتضمن روايات المصادر مادة غنية تصف لنا تفاصيل الثورة على عثمان التي أدت إلى مقتله، بصورة متعاطفة مع الخليفة أو مع الثائرين، لكن النظرة الموضوعية إلى تلك الروايات ومقارنتها ببعضها، على تضاربها، تعطينا صورة واقعية تقارب الحقيقة إلى حد ما.

تتفق الروايات على أن قادة القوى المعارضة خططوا، وتآمروا بصورة مشتركة ومنسقة، إما عن طريق تبادل الرسائل، وإما أثناء اجتماع عقد في الحج في "نهاية 34هـ/ أواسط 655م"، لكنها تختلف بعد ذلك.

يتحدث الطبري، من خلال رواية سيف بن عمر، عن مؤامرة على الأمة الإسلامية حاك خيوطها يهودي يمني، دخل حديثًا في الإسلام؛ هو عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، لسواد أمه، وقد جال في الأمصار قبل أن يستقر في مصر، فنظم الحركة ورافق القوة المصرية إلى المدينة لحصار عثمان، وهو أول من نشر أفكارًا جديدة، ومشوشة حول رجعة النبي وحول الوصية، أي الفكرة القائلة: إن عليًا هو وريث النبي الشرعي، وطعن بعثمان الذي تولى الخلافة بغير حق، وحرض على الثورة، كما أثار قضية ألوهية علي وقداسته3.

لقد صدمت حادثة الاغتيال وجدان المسلم المتتبع لتاريخه السياسي، فكان لا بد أن تلقي مسئوليتها على كاهل أحد، إذ ليس من المعقول أن يتحمل وزر ذلك صحابة كبار حاربوا مع النبي، وشاركوا في وضع أسس الإسلام، فكان ابن سبأ، فهو الذي أثار الفتنة التي أدت إلى مقتل عثمان، كما يتحمل مسئولية انشقاق المسلمين سياسيًا، وعقائديًا من واقع ظهور الحركة الشيعية، ومثل حركة باطنية لهدم العالم الإسلامي، وقد شكلت نواة لانطلاق المعارضة الخارجية والشيعية.

1 إبراهيم: ص259، 260.

2 البلاذري: ج6 ص202، 211، 215، 216، ابن قتيبة: ج1 ص40.

3 الطبري: ج4 ص340، 341، البغدادي: الفرق ص226.

ص: 413

والواضح أن الطبري، هدف من خلال رواية سيف أن يبرز الدور الكبير الذي أداه ابن سبأ في أحداث الفتنة، ويؤكد كل مسئولية جهة خارجية، يهودية بالتحديد، عن مقتل عثمان، ويبرئ الصحابة، وأهل المدينة من تلك المسئولية، واعتمدت المصادر التي أوردت دور ابن سبأ في أحداث الفتنة على ما رواه مؤرخنا.

لم يرد عند أحد من أصحاب المغازي، والإخباريين المتقدمين، وغيرهم من مؤرخي القرنين الثالث والرابع الهجريين، أي ذكر لدور ابن سبأ على الرغم من تناول العديد من المصارد الأدبية، والتاريخية وكتب الفرق والأنساب، إشارات مختلفة، ومتضاربة حول اسمه ونسبه، وعقيدته ومصيره، في حين اكتفى بعضها بإيراد لفظة السبئية دون أن تقدم تفسيرًا واضحًا لها، أو تعطي أي معلومات تذكر عن دور ابن سبأ في الفتنة، ومقتل عثمان وأحداث الجمل بعد ذلك. ومن جانب آخر لم تحفظ كتب التراجم أي معلومات عن رواة السبئية الأمر الذي أدى إلى اختلاف الدراسات الحديثة في درجة تقييمها للدور الذي تنسبه المصادر للسبئية في الفتنة1.

فشكك بعض المؤرخين، ومعظمهم من الشيعة، في وجود شخصية ابن سبأ، وبالتالي في الدور المنسوب إليه من واقع أن أفكاره هي موضوعات للتشيع العقائدي الذي سيتبلور في المستقبل، ومن الصعب التصور بأنه جرى تداولها في تلك المرحلة المبكرة من عمر المجتمع الإسلامي، على الرغم من اختلاف المؤخرين حول بداية تاريخ التشيع الإسلامي، ويظهر النقد الذي أثير حول وجود هذا الشخص أنه استباق للأحداث، وأنه صورة وهمية تخيلها مؤرخو القرن الثاني للهجرة من أوضاعهم، وأفكارهم السائدة حينئذ، وأن مؤامرة مثل هذه، وبهذا التفكير وهذا التنظيم، لا يمكن أن يتصورها العالم الإسلامي المعروف آنذاك بنظامه القبلي، وأنها تعكس أحوال العصر العباسي الأول بجلاء، وأن التشيع، كعقيدة منظمة، لها آراء كلامية لا يمكن أن تصدر إلا بعد أن توالت أحداث هامة مثل مقتل علي ومأساة كربلاء، كما أن رواية سيف محاطة بكثير من المحاذير، والتساؤلات مثل إملاء ابن سبأ مواقفه على أبي ذر وتأثره به، في حين كان هذا الصحابي رجلًا شديد الاعتداد برأيه، فقيهًا عالما بقواعد الإسلام، فهل يعقل أن يأخذ عن ابن سبأ، وهو رجل حديث العهد بالإسلام لم يشتهر بعلم، أو مال أو منصب، ثم إن آراء هذا الصحابي، المتعلقة بكنز الذهب، والفضة والمال، سبقت لقاءه مع ابن سبأ كما ورد عند الطبري، وسبقت.

1 ملحم: ص233-244.

ص: 414

ذهابه إلى دمشق أيضًا، كما أن العنصر الزمني في روايات الطبري، التي تناولت تنقلات ابن سبأ بين الأمصار، تساهم في عدم مصداقية حصول لقاء بين الرجلين في دمشق في عام 30هـ، أما نشاط ابن سبأ في البصرة، والكوفة ومصر فهو محاط بكثير من المحاذير، والتساؤلات أيضًا، مما يحول دون تصديقها، والإجابات عنها متعذرة لعدم توافر المعلومات السكانية عنها، سواء عند الطبري، المصدر الرئيسي الذي استعرض دور ابن سبأ في الفتنة، أو في المصادر الأخرى التي اعتمدت عليه1.

ويختلف الأمر عند ابن إسحاق والواقدي، إذ إن الصحابة الموزعين في الأمصار هم الذين كاتبوا بعضهم بعضًا قائلين: "أن أقدموا، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد

"، "إنكم إنما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عز وجل، تطلبون دين محمد صلى الله عليه وسلم، فإن دين محمد قد أفسد من خلفكم وترك، فهلموا فأقيموا دين محمد صلى الله عليه وسلم2، وبالتالي هم الذين أعطوا الأمر بالانتقال إلى العمل بفعل أنهم يشكلون شبكة كثيفة من العلاقات.

والواقع أنه كانت هناك مؤامرة من واقع تنسيق العمل، وتحديد الأهداف، في الأوساط النشطة لقراء الكوفة، ونظرائهم في البصرة ومصر، يضاف إلى ذلك أن المصادر المصرية تتحدث عن انقلاب في الفسطاط، واستيلاء محمد بن أبي حذيفة على السلطة، ذلك الذي ربما قد بادر إلى إرسال القوة المصرية ضد عثمان، وقد شيعهم لدى خروجهم3.

والراجح أن الخليفة عثمان كان يجهل تلك الحركة في بادئ الأمر؛ لأنها كانت

1 انظر: أبو الحسين الملطي: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع: ص25. زهرة، محمد: المذاهب الإسلامية: ص4، النشار، سامي: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ج1 ص18، أمين أحمد: فجر الإسلام ص110-154، معروف، نايف: الخوارج في العصر الأموي ص48، الطالبي، عمار: آراء الخوارج الكلامية ج1 ص69، 70 القاضي، وداد: الكيسانية في التاريخ والأدب ص118، 119، كاشف، سيدة إسماعيل: مصر في فجر الإسلام ص111، 112. شنقارو، عواطف العربي: فتنة السلطة ص52، 53. البكاي: ص20، 21. حسين، طه: المجموعة الكاملة ج4 ص518، 519 الهلابي، عبد العزيز صالح: عبد الله بن سبأ. دراسة للروايات التاريخية عن دوره في الفتنة، حوليات كلية الآداب جامعة الكويت الحولية الثانية 1987 ص73، بيضون إبراهيم: الإمام علي ص179-195، لويس، برنارد: أصول الإسماعيلية: تعريب خليل جلو وجاسم الرجب ص86، 87. علي، جواد: عبد الله بن سبأ، مجلة المجمع العلمي العراقي مجلد 5 ص66-100.

2 البلاذري: ج6 ص174، 175. الطبري: ج4 ص336-367.

3 الطبري: المصدر نفسه: ص357.

ص: 415

سرية، ويبدو أنها وصلت إلى مسامع الصحابة في المدينة، فأعلموا عثمان بها، وأشاروا عليه بأن يتحرى الأمر، فأرسل رجالًا يثق بهم إلى الأمصار المختلفة، للوقوف على الأوضاع العامة فيها، فبعث محمدًا بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة بن زيد إلى البصرة، وعبد الله بن عمر إلى الشام، وعمارًا بن ياسر إلى مصر، وأرسل غيرهم إلى سائر الجهات، فلما عاد الرسل أخبروه بأن الأوضاع مستتبة وأن المسلمين في الأمصار لا ينكرون شيئًا، وأن أمراءهم يعدلون بينهم، ولكن عمارًا بن ياسر تخلف، ولم يعد إلى المدينة.

وبعد أن اختمرت دوافع الثورة خرجت إلى دور العمل والتنفيذ، ومثل قدوم الثائرين من مختلف الأمصار الإسلامية إلى المدينة عام "35هـ/ 655-656م" تتويجًا للتحركات السابقة، فقد خرجوا كجماعات منتظمة مع رءوس مجموعات، وقائد لكل فرقة بكاملها، وسيكون هؤلاء الفاعلين الرئيسيين الممثلين للاحتدام؛ لأن الروايات حفظت أسماءهم؛ ولأننا سوف نصادفهم لاحقًا، ويدل انتسابهم القبلي على أحوالهم الاجتماعية.

خرجت الجماعة الأولى من مصر، وقد بلغ عدد -أفرادها بين أربعمائة وألف مقاتل بقيادة الغافقي بن حرب العكي، وفي عدادهم أبو عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانية بن بشر التجيبي من كندة، وسودان بن حمران السكوني من كندة أيضًا، وعروة بن شييم الكناني وغيرهم من صغار زعماء العشائر، وادعوا بأنهم يريدون العمرة، فأرسل والي مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح كتابًا إلى الخليفة يعلمه بخروجهم1.

إن الشخص الملفت بينهم هو عبد الرحمن بن عديس البلوي من قبيلة بلي، إحدى القبائل التي أقامت في مصر منذ فتحها، وهو من صحابة النبي والوحيد الحامل لهذه الصفة، وبالتالي فإنه ينتمي إلى جماعة الصحابة ذات الأصل البدوي، والذين تعاظم دورهم مع الوقت، وأدى عروة بن شييم الكناني دورصا كبيرًا في عملية القتل، فهو الفاعل الرئيسي2.

وخرجت الجماعة الثانية من الكوفة، وقد بلغ عديدها مائتي مقاتل بقيادة عمرو بن الأصم، وفي عدادهم زيد بن صوحان العبدي، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم، والصحابي عمرو بن الحمق الخزاعي، وهو من صغار

1 الطبري: ج4 ص348-357.

2 جعيط: ص110.

ص: 416

زعماء العشائر1، والرجل البارز بينهم هو الأشتر، إذا إننا نراه في الصورة إلى الجانب عثمان ينصحه بالتنازل عن منصبه أو محاولًا قتله، لكن دون أن يتمكن من حسن الأمر، إنه الكوفي الوحيد الذي يشعر القارئ بحضوره وفاعليته2، أما عمرو بن الحمق الخزاعي، فقد تردد اسمه أكثر من مرة، وهو أحد المشتركين القلائل في القتل، وتعزى إليه أعمال رهيبة في أثناء دفن عثمان المأساوي والسري3.

وخرجت الجماعة الثالثة من البصرة، وقد بلغ عدد أفرادها مائة وخمسين مقاتلًا بقيادة حرقوص بن زهير السعدي، وفي عدادهم عدد من صغار زعماء العشائر أمثال حكيم بن جبلة العبدي، وذريح بن عباد العبدي، وبشر بن شريح الخطم بن ضبيعة القيسي وغيرهم4، ويسرتعي كل من حرقوص وحكيم الانتباه، فهما أشد مهاجمي البصرة.

انتسبت الأكثرية المطلقة لزعماء الثائرين إلى فئة الزعمات القبلية التقليدية التي لم تؤد دورًا مميزًا في تاريخ الإسلام، لكنها كانت جميعًا من أهل الأيام والقادسية، إذ عندما حاصر الثائرون عثمان، كتب إلى أهل الأمصار يستمدهم ليرسلوا له النجدات على وجه السرعة لمواجهتهم، ويوضح تشخيصه لهوية الثائرين ومحاصريه، أنهم أعراب وقبائل مع مقارنتهم بالأعراب الذين حاصروا المدينة في غزوة الخندق، أو الأحزاب5، "فهم كالأحزاب أيام الأحزاب، أو من غزانا بأحد إلا ما يظهرون6؛ رؤيته لهذه الحركة التي تمثل تمرد الأعراب، والقبائل عليه، وتغذي المعارضة ضده في الأمصار، إنها إذن حركة الأعراب أي حركة القبائل7.

ويبدو أن المصادر التي أمدتنا بأرقام جماعات الأمصار التي توجهت إلى المدينة، وأسماء الشخصيات التي قادتها ورافقتها؛ هدفت إلى التأكيد أن حركة الاحتجاج ضد الخليفة، إنما هي حركة شعبية شاملة شاركت فيها مختلف الأمصار من أجل وضع حد لتجاوزات السلطة المركزية، ويلاحظ أن المصادر المختلفة اعتمدت على رواة

1 يذكر الطبري: من خلال رواية سيف بن عمر، أن عددهم كعدد من خرج من أهل مصر، ج4 ص349، وقارن بالبلاذري ج6 ص174.

2 الطبري: المصدر نفسه ص371، 372.

3 المصدر نفسه: ص393، جعيط: ص110، 111.

4 البلاذري: ج6 ص174، الطبري: ج4 ص349، الذي يذكر، من خلال رواية سيف بن عمر أن عددهم كعدد من خرج من أهل مصر.

5 حدثت غزوة الخندق في عام 5هـ.

6 الطبري: المصدر نفسه: ص351، 352.

7 إبراهيم: ص255.

ص: 417

عراقيين مثل أبي مخنف، وذلك لإعطاء المصريين الحجم الأكبر، وتحميلهم المسئولية عن قتل الخليفة1، وإبراز الدور الثانوي لثوار البصرة، والكوفة بالمقارنة مع الدور الذي أداه المصريون.

وقوع المأساة:

يبدو أن هدف جماعات الثائرين المبدئي لم يكن قتل الخليفة ولا حتى خلعه، بل الضغط عليه من خلال وسائل استعراضية مختلفة لحمه على تعديل نهجه في الحكم، ومحاسبة المسئولين عن الأخطاء والتجاوزات، والدفاع عن مصالحهم المتمثلة بسيادة أعرافهم، وقيمها في إدارة الشئون العامة، في مقابل ما يمثله من نهج جديد يسعى للتقييد من ملكيتهم لفيء الفتوح، وإخضاعهم لإدارة سياسية مركزية مستقلة عنهم، ولعل هذا ما توحي به، على الأقل، ضآلة قوتهم العسكرية، ومن أجل ذلك قدموا مطالبهم التالية إلى الخليفة:

- العمل بكتاب الله وسنة نبيه.

- لا يأخذ أهل المدينة عطاء.

- تخصيص مال الفيء لمن قاتل عليه بالإضافة إلى الصحابة، كما يعطي المحروم منه.

- تأمين الخائف ورد المنفي.

- لا تجمر البعوث.

- رفع الظالم.

- خلع كل والٍ لا ترضى عنه الأمصار2.

تكشف هذه المطالب أن هناك إجراءات اتخذت في السابق، وتسببت في الانفجار، لا سيما تخفيض أو إلغاء العطاء، وإطالة مدة البعوث خارج الأمصار، وهو ما يعرف بالتجمير3، وهكذا تتعلق المطالب بإلغاء تدابير متخذة بحق محرضي الأمصار.

استجاب عثمان لهذه المطالب؛ لأنه أراد أن يعالج الموقف باللين والسياسة، لا بالعنف والشدة، خوفًا من إراقة دماء المسلمين، واشترط عليهم ألا يشقوا عصا الطاعة، وألا يفارقوا الجماعة، وبالتالي حصل الثائرون على الحد الأدنى المقبول

1 ملحم: ص150.

2 الطبري: ج4 ص331، 369، 370.

3 المصدر نفسه: ص333.

ص: 418

لمطالبهم، وانتهت المناقشات بوعد علني قطعه عثمان بالتخلي عن كافة التجاوزات، وهو اعتراف بالأخطاء السابقة، وكتب إلى المسلمين بعامة، وأهل الأمصار بخاصة كتابًا تضمن موافقته، وغادرت وفود الأمصار المدينة عائدة إلى أمصارها، وبدا وكأن الأزمة قد انتهت، وحافظت الأمة الإسلامية على وحدتها، ويعد هذا، إذا ما تحقق، نجاحًا بالغ الأهمية بالمقارنة مع حل أزمة بالغة الخطورة.

ويبدو أن العامل السياسي سرعان ما استرجع دوافعه من واقع التجاوزات التي ذكرت من جهة، والجو المشحون من جهة أخرى، وتبيين أن التفاهم، وتوبة عثمان، كان مرحليًا وآنيًا؛ لأن واقع القضايا المطروحة كان يدفع باتجاه الصدام المسلح، وسرعان ما حدثت الانتكاسة، فمن الممكن أن عثمان أبدى تصلبًا، أو أنه تأثر بتأليب حاشيته التي تسودها شخصية مروان بن الحكم، وشعر الثائرون من جانبهم بالتنكر لهم، ومن المحتمل أن تكون الفئات الحاقدة بين القادة المصريين قد أرادت التخلص من الخليفة، وأنها وجدت لذلك الأمر ذريعة من واقع رسالة عثمان المرسلة إلى والي مصر، بعد الاتفاق مباشرة، وقد تضمنت أمرًا خطبًا منه بمعاقبة قادة المجموعة المصرية إما بالجلد والتعذيب، وإما بالصلب والإعدام، وقد وقعت الرسالة في أيدي المصريين1، ويدل ذلك، إما على تبدل موقف عثمان، أو على تغيير في موقف حاشيته الأموية القوية والفاعلة، التي رأت في موقف الخليفة تنازلًا منه عن حقوق مكتسبة لها، وهو الأرجح، بدليل أن عثمان أقسم بأنه لم يكن يعلم شيئًا، لا عن الرسالة، ولا عن مضمونها2. وتظهر روايات أخرى ترتدد عثمان في تنفيذ وعوده، وتمسكه بقرار الدولة المستقل، وعزمه على عدم إفراغ السلطة من مضمونها3، وإن تطور الأمر حتى الصدام المسلح، ويبدو من ذلك أنه كان المسيطر الفعلي على قراراته، وأنه لم يكن ألعوبة في يد مروان بن الحكم4، لذلك فإن الروايات التي تتحدث عن الرسالة التي تأمر بتعذيب، وصلب قادة المعارضة في مصر، والتي يقال: إنه أرسلها إلى واليه على مصر تستوجب الرد.

والواقع أن الأمور كانت تسير بسرعة نحو الصدام المسلح، نلاحظ ذلك من عودة الثائرين، وتلاحمهم وائتلافهم ضد عثمان، على الرغم من نفيه، وإنكاره وإبداء رغبته في التهدئة.

1 البلاذري: ج6 ص217، الطبري: ج4 ص373-375.

2 الطبري: المصدر نفسه: ص371. جعيط: ص114.

3 جعيط: المرجع نفسه.

4 المرجع نفسه.

ص: 419

وسيطر الثائرون على المدينة، إذ لم تكن هذه في وضع عسكري يحول دون ذلك بفعل توزيع القوى المسلحة في القواعد والأجناد، والثغور، ومن هنا كانت مهمة الثائرين يسيرة بحيث أنهم تنقلوا في عاصمة الخلافة دون أن يعترضهم أحد، ومنعوا الناس من الاجتماع، وابتزوهم، ووضعوا السيف في من تعرض لهم، فتفرق أهل المدينة في حيطانهم، ولزموا بيوتهم، لا يخرج أحد منهم، ولا يجلس إلا وعليه سيف يمتنع به من حصار القوم1.

تجاه هذا التغير في المواقف والتطور السلبي للقضية، انقسم الصحابة الموجودون في المدينة إلى ثلاث فئات:

الفئة الأولى: هي التي بدل أصحابها موقفهم كليًا، فانفضوا من حول الخليفة بعد أن كانوا قد أمدوه بنصائحهم، وتوسطوا بينه وبين الثائرين، وتركوه يواجه مصيره، ذلك أنهم اعتقدوا أنه نكث بالوعد الذي قطعه لإصلاح نفسه2، وقبعوا في بيوتهم بعيدين عن المأساة التي تدور تحت سمعهم وأبصارهم، وإنه موقف حيادي لكن متخاذل سوف يساعد الثائرين المحاصرين لدار عثمان، بصورة غير مباشرة3.

الفئة الثانية: هي التي ساعد أصحابها الثائرين، وشاركوا في الحصار، فقد دفع طلحة بن عبيد الله بعشيرته تيم إلى المشاركة، وهو الطامع علنًا في الخلافة4، كما أظهر البدو وخزاعة من أسلم، وغفار عداء شديدًا تجاه عثمان، وانضموا إلى صفوف الثائرين وشجعوهم، حتى أنهم شاركوا في القتل5، هذا بلا شك بدافع الحقد الطبقي؛ ولأنهم مبعدون عن السلطة.

الفئة الثالثة: وهي التي استمر أصحابها على دعمهم للخليفة، فقد أرسل علي بن أبي طالب ابنه الحسن للدفاع عن دار عثمان في وجه المهاجمين، كما ذكرنا، كما أنه سيرسل قرب الماء إليه، وأرسل الزبير بن العوام ابنه عبد الله أيضًا ليقف إلى جانب الخليفة في مواجهة المحاصرين6.

في هذا الموقف الخطير والحرج استنجد عثمان بمعاوية في دمشق، وطلب منه أن يرسل إليه النجدات على وجه السرعة لمواجهة الثائرين المحاصرين لداره، لكن التعزيزات تأخرت، فقد تربص معاوية، الذي كان يراقب الموقف عن كثب، ربما

1 الطبري: ج4 ص350، 351، 354، 386، 387.

2 المصدر نفسه، ص364.

3 جعيط: ص115، 116.

4 البلاذري: ج6 ص211. ابن أعثم: ج1 ص229.

5 البلاذري: ج6 ص221، 222.

6 الطبري: ج4 ص350، 351، 390.

ص: 420

لحسابات سياسية، في الوقت الذي أدرك فيه أن سقوط الخليفة بات وشيكًا مما يفتح الباب على مصراعيه أمامه لإعلان خلافته في دمشق باسم حق الوراثة في الأسرة الأموية، ومع ذلك لا يمكن تجريده من التفكير العاطفي الطبيعي آنذاك، ومما يملي من روابط وشعور ومساندة، فمن المستحيل أن تعزى إليه حسابات تذهب إلى حد تمني موت ابن عمه، وربما كانت العاقبة الأكثر احتمالًا هي فقدانه لمنصبه، أما التأخر في إرسال التعزيزات فمرده، إما إلى التأخر في طلب النجدة ذاتها من جانب عثمان، وإما إلى طابع الأمر غير المألوف، إذ عندما وصلت القوة الشامية إلى وادي القرى بلغ أفرادها قتل عثمان، فرجعوا1.

سيدوم حصار عثمان أربعين يومًا2، ويدل ذلك على أن الثائرين لم يكونوا حتى هذه المرحلة راغبيين في قتله، بل الضغط عليه من أجل تسليمهم مروان بن الحكم، زعيم بطانته الذي حملوه مسئولية تصعيد الأمة، ووصولها إلى حد الانفجار، ولكنهم منعوه من ممارسة سلطاته مثل إمامة الصلاة، وطرد من المسجد بالحجارة3، لذلك جرى الحفاظ على حياته طيلة تلك المدة التي حفلت بالجدل حول مسألة هدر دمه، واستباحته والبحث عن مبررات شرعية تسمح بقتل الشخص الذي يسبب الفساد في الأرض4، ثم صعدوا إجراءتهم ضده فمنعوا الماء والطعام عنه5، ورجموه بالحجارة وأخذوا يعدون العدة للتخلص منه، ولم يقع مقتله إلا بعد أن يئسوا من قضيتهم مستبقين حملات الدعم التي كانت أخبارها تصل تباعًا إلى المدينة، بالإضافة إلى أنه رفض رفضًا مطلقًا أن يخلع نفسه: "فلا أنزع قميصًا قمصنيه الله عز وجل وأكرمني به، وخصني به على غيري

"، وفي رواية: "أما الخلع، فما كنت لأخلع سربالًا سربلنيه الله

"6، ومعنى ذلك أن الخلافة هبة من الله، ومسئولية صادرة عنه، وأن الإنسان لا يملك حق التهرب من ذلك، وبالتالي لا يمكنه أن يتقبل، ولا يجوز إسقاطه7.

وفي النهاية، كان على المحاصرين أن يتناقشوا في فكرة القتل، وقد حذرهم عثمان من ذلك لمخالفتها التعاليم الإسلامية من جهة؛ ولأنه سوف يترتب عليها نتائج

1 الطبري: ج4، ص368، جعيط: ص118.

2 المصدر نفسه: ص385.

3 المصدر نفسه: ص364.

4 المصدر نفسه: ص396. جعيط: ص116، 117.

5 المصدر نفسه: ص376.

6 المصدر نفسه. البلاذري: ج6 ص213.

7 جعيط: ص117.

ص: 421

بالغة الخطورة على الصعيدين الداخلي، والخارجي من جهة أخرى1، لقد حدث ذلك خلال يوم الدار، دار عثمان، عندما قرروا فجأة الانتقال إلى التنفيذ العملي، وقد استغلوا مقتل أحد عناصرهم نتيجة إصابته بحجر، أو بسهم من قبل أحد المدافعين عنه، فأشعلوا النار بأبواب منزله، وجرت بعض المناوشات بينهم، وبين المدافعين عنه.

ثم حدث أن أحجم عثمان عن الدفاع عن نفسه، وسرح المدافعين عنه، وقدم نفسه كضحية مستعدة للموت، وهو يتلو آيات من القرآن، وفجأة تراجع المهاجمون عن الدار، لكن بعضهم ممن عزم على قتله، وقد تورعوا عن الدخول من الباب، فتسلقوا دارًا مجاورة، فقد فتح عمرو بن حزم الأنصاري، جار الخليفة، باب داره، فدخل منه القتلة، واستقروا في جوف الدار، ودخلوا غرفته وتجاسروا على طعنه عدة طعنات، ثم انكبوا عليه بضراوة، كانوا ثلاثة أو أربعة من القادة المصريين، وكوفي واحد عده بعضهم في عداد المصريين هو عمرو بن الحمق الخزاعي2، حدث ذلك في "18 ذي الحجة 35هـ/ 17 حزيران 656م"3، وجرى دفن عثمان ليلًا، وسرًا بعد ثلاثة أيام في أسوأ الظروف4.

تعقيب على مقتل عثمان:

وهكذا وقع حادث كبير وخطير في تاريخ الإسلام، قاتم ومأساوي لفصل مثير في تاريخ الخلافة الراشدية التي أضحت أمام منعطف خطير سيترتب عليه عواقب وخيمة على الأمة الإسلامية بعامة، من واقع الانشقاقات، والانقسامات النهائية؛ لأن الهدوء سوف لن يدوم طويلًا بعد عثمان، فانطلق داخل الأمة عنف واسع دمر الطاقة الإسلامية الذاتية، وشل نهوض الأمة بما يتماثل والمراحل السابقة في عهدي الخليفتين أبي بكر وعمر، فانقسم المسلمون إلى جماعات، وأحزاب متناحرة تفجرت في الحرب الأهلية، إنها إحدى أخطر المراحل في التاريخ الإسلامي، وقد تفوقت بنتائجها السلبية على حركة الردة التي أمكن حصرها والقضاء عليها، وبرزت قوة الأمصار على حساب قوة المدينة بخاصة والحجاز بعامة، التي سوف تتراجع، وتتوارى في الظل.

1 الطبري: ج4: ص376، 377.

2 المصدر نفسه: ص394، البلاذري: ج6 ص220.

3 المصدران نفساهما: ص416، 417. ص212.

4 الطبري: المصدر نفسه: ص412.

ص: 422

كان مقتل عثمان العنيف تاريخيًا ومأساويًا، تاريخيًا؛ لأنه كان ضاغطًا على التاريخ السياسي طيلة قرنين أو ثلاثة، وتسبب بانشقاقات مذهبية عميقة من واقع انقسام المسلمين إلى سنة وشيعة، وأطلق نزاعات بالغة الخطورة من حروب أهلية، وعنف فتاك داخل الأمة الإسلامية، ولم تلتئم الجراح حتى يومنا هذا.

وارتبطت بالمقتل مباشرة تلك المرحلة من سنوات الفتنة الخمس المتطابقة مع خلافة علي، ثم كان التطور البطيء للحدث، ويستند إلى علي، وليس إلى عثمان، أي سوف يدخل على الخط السياسي لاعبون جدد وراءهم خليفة تاريخية مثقلة بالاحتدام، بحيث أن مقتله لم يكن إلا ذريعة، ومع ذلك تدين الأسرة الأموية بقيامها إليه، ويسترعي الانتباه كل من علي وطلحة، والزبير وعائشة زوجة النبي ومعاوية، وفوق ذلك، شعرت الأمة الإسلامية كلها بأنها معنية بالصراعات، وكان الرهان هو السلطة، والمطامع والمطامح، والمحاسد ورغبة الانتقام، بغض النظر عن الوعي أو عدمه1.

وكانت المأساة حاضرة بدءًا من اللحظة التي قتل فيها خليفة المسلمين الذي واجه الموت وحيدًا، مرورًا بظروف دفنه عندما رفض الثائرون أن يدفن كأحد المسلمين، ولن يتم ذلك إلا عندما هددت إحدى بنات عمه، أم حبيبة زوجة النبي أم المؤمنين، بفضح ستر رسول الله وعرضه أمام الجميع، فجرى دفنه ليلًا وفي الخفاء كما ذكرنا.

وأثبتت الفتنة التي عصفت بالمسلمين، ومقتل عثمان، تضاربًا في المصالح بين بعض كبار الصحابة، والقيمين على الشئون العامة، وقد وصلت إلى مرحلة نزاعية تصادمية، وسببت انقسامًا حادًا بين المسلمين بعامة، وشكل دم عثمان الانطلاقة المباشرة، لذلك كانت خلافة علي، كما سنرى، مثقلة بظلال هذا الحدث الخطير، وبخاصة أن الذين قتلوا عثمان كانوا من أوائل المبايعين لعلي، وعلى هذا الأساس أضحى الموقف من خلافة علي مرتبطًا بشكل مباشر بتحديد الموقف من السؤال: هل قتل عثمان مظلومًا أم لا؟ واتخذت الإجابة على هذا السؤال أحد الأشكال التاريخية الملموسة، والمباشرة التي تم من خلالها التعبير عن قضايا الاختلاف، والصراع السياسي المرتبطة بطبيعة التطور التاريخي2.

1 جعيط: ص125.

2 إبراهيم: ص278، 279.

ص: 423

‌الفصل الثاني عشر: الفتنة الكبرى ومقتل عثمان

تجاوزوا حاجز التكتم هذا فهم صحابة من أصل بدوي، من أهل السابقة، وأحيانًا من موالي قريش، أتاح لهم الإسلام الارتقاء بوضعهم الاجتماعي، والوصول إلى الوظائف الكبرى في عهد عمر، وبلغوا مركزًا معنويًا متقدمًا، وكانوا يعيشون بين المدينة والأمصار، هناك ثلاثة صحابة يسترعون الانتباه بشكل خاص هم: أبو ذر الغفاري، عبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر.

الانتقادات الموجهة إلى عثمان:

قضية عبيد الله بن عمر:

سوف أستعرض القضايا التي أثارت جدلًا في المجتمع الإسلامي، والتي اتخذها المعارضون لسياسة عثمان ذريعة للتعدي على شخصه وقتله، مبينًا وجهات النظر المختلفة فيها.

كان أول ما عرض على عثمان في مستهل حياته السياسية قضية عبيد الله بن عمر الذي أثاره مقتل والده على يدي أبي لؤلؤة، فاندفع للثأر من عدد من الأشخاص الذين اعتقد أنهم اشتركوا في المؤامرة، وساعدوا القاتل في مهمته، فقتل الهرمزان، وجفينة وابنة أبي لؤلؤة1، وقبض على عبيد الله بعد ذلك، وعرض على الخليفة الذي استشار الصحابة في أمره، فأشار عليه بعضهم بقتله، كان من بينهم علي بن أبي طالب في حين عارض بعضهم ذلك، وقال بعض المهاجرين:"قتل عمر أمس، ويقتل ابنه اليوم"2، فتدخل عمرو بن العاص، واقترح على الخليفة حلًا للقضية لإخراجه من الحرج الذي يواجهه، فقال:"يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث كان، ولك على المسملين سلطان؛ إنما كان هذا الحديث ولا سلطان لك، فقال عثمان: أنا وليهم، وقد جعلتها دية، واحتملتها في مالي"3، وعفا عن عبيد الله بن عمر، إلا أنه أخرجه من المدينة إلى الكوفة، وأنزله دارًا بها4.

كان يمكن لهذه القضية أن تقف عند هذا الحد لولا تمادي المعارضين ممن يحملون مواقف مسبقة ضد الخليفة، وقد حملوه مسئولية العفو عن عبيد الله بن عمر، وأكدوا أن مشاورة الصحابة كانت شكلية، وأن قتل الهرمزان جريمة ارتكبت بحق مسلم، والجدير بالذكر أن هذا الرجل عندما شعر بحر السيف أسلم، وقال: "لا

1 البلاذري: ج10 ص432، 433.

2 البطري: ج4 ص239.

3 المصدر نفسه.

4 اليعقوبي: ج2 ص57.

ص: 378