الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: تفشي ظاهرة التنبؤ في المجتمع العربي
تمهيد: لم يكد نبأ وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ينتشر في بلاد العرب حتى اشتعلت الفتنة في كل أنحاء الجزيرة العربية بأشكال مختلفة، ولأسباب متباينة، وبرزت ظاهرة التنبؤ كإحدى الانعكاسات للنجاح الإسلامي في الحجاز، وإن كان بعض المتنبئين قد أعلنوا دعوتهم في أواخر حياة النبي.
فتنبأ الأسود العنسي في اليمن، ومسيلمة الكذاب في بني حنيفة في اليمامة، وطليحة في بني أسد، وسجاح التميمية، ولقيط في عمان، وكانت ثورة اليمن أعنف مظاهر الانتفاض على الدين الجديد في الجزيرة العربية في أواخر حياة النبي، لكن قبائل اليمامة وما جاور الخليج العربي، كانت تتهيأ للثورة على الدين الجديد، ومع أن النبي لم يغفل هذا التطور السلبي في أواخر حياته، إلا أن اهتمامه السياسي انحصر في الالتفات نحو الشمال من خلال تجهيزه حملة أسامة بن زيد، إذ أمره أن يتوجه إلى تخوم البلقاء1، والداروم من أرض فلسطين، واعتقد بأنه إذا استطاع تحقيق الانتصار هناك، فإن ذلك من شأنه تقوية موقفه داخل الجزيرة العربية، وبين قبائلها، وبخاصة أن الدعوة الإسلامية انتشرت آنذاك في مختلف أنحاء الجزيرة العربية من الشمال إلى الجنوب، ثم إن خروج أسامة إلى وجهته يعبر عن الإقلال من شأن هؤلاء الخارجين والمرتدين، وخطرهم، ولا شك بأن هذه السياسة تعطي المسلمين دفعًا معنويًا لمواجهة الخارجين، والمرتدين في اليمن واليمامة، وغيرهما من أنحاء الجزيرة العربية.
كان المتنبئون آنذاك يتهيأون للجهر بدعواتهم آملين بأن تحل بالمسلمين نكبة ما، وأخذوا يبشرون بها، كل في ناحيته بهدوء وأناة، دون أن يطعن أحد منهم بصحة نبوة
1 البلقاء: كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى، قصبتها عمان. الحموي: ج1 ص489.
محمد، وإنما ساووا أنفسهم به، فهو نبي وهم أنبياء مثله بعثوا في أقوامهم، كما بعث هو في قومه، لكن أحدًا منهم لم يقدم خصائص لدعوته تضاهي خصائص الدعوة الإسلامية.
وتستوقفنا في هذا المقام بعض الدوافع التي أدت إلى بروز هذه الظاهرة نذكر منها ما يلي:
- إن المناطق التي انطلق منها المتنبئون، كانت أكثر مناطق الجزيرة العربية تحضرا وأضخمها ثروة، كما كانت مجاورة لأراضي الفرس، أو كان للفرس فيها نفوذ.
- اعتمد المتنبئون على الناحية العصبية، وبخاصة ما كان بين اليمنية، والمضرية من عداوة راسخة الجذور، بالإضافة إلى التنافس بين ربيعة ومضر، وإذا تغلغلنا في صميم هذه الظاهرة نلمس شواهد واضحة على أثر العصبية القبلية.
ويرتبط بالعصبية القبلية ما ينتج عنها من تحاسد، وتنافس بين القبائل العربية والتسابق في إدعاء النبوة، ذلك أن المظاهر الأساسية لحركة الردة لم تقتصر على رفض بعض أركان الإسلام، أو عدم الاعتراف بسلطة المدينة، وإنما جاءت مصحوبة بإدعاء بعض الأشخاص النبوة، إذ إن النجاح الذي حققه النبي في حياته، والمكانة التي وصلت إليها قريش في الجزيرة العربية، عند وفاته، غدت مثار حسد كافة القبائل العربية، ولم تلبث أن أضحت سيرة النبي مثلًا يحتذى لتحقيق نوع من الأهمية، والزعامة في مجتمع يمجد الأبطال.
والواضح أن كثيرًا من الأفراد في المجتمع العربي كانوا طلاب زعامة ورئاسة، فأرادوا الاقتداء بالنبي لتحقيق تطلعاتهم، فحاولوا التشبه به في ما أوحي إليه من القرآن الكريم، فأتوا بعبارات مسجوعة مفككة المعاني، ركيكة المضمون، لا روح فيها، تتصف معانيها بالسذاجة، وسجعها بالتكلف.
وتمادى المتنبئون حين امتدت أيديهم إلى التشريع، من ذلك أن مسيلمة الكذاب شرع لأصحابه أن من أصاب ولدًا واحدًا عقبًا لا يأتي امرأة إلى أن يموت ذلك الابن، فيطلب الولد حتى يصيب ابنًا ثم يمسك، فحرم بذلك النساء على من له ولد ذكر1، كما ادعوا بأن الوحي ينزل عليهم من السماء.
والحقيقة أنه لم يكن عند هؤلاء شيء من أدب النبوة، وأن بعضهم كان لا يبالي أن يطلع الناس على قبيح، ولعل في علاقة مسيلمة الكذاب مع سجاح، والتي
1 عاشور: ص71.
سنبحثها في موضعها ما، يثير الاشمئزاز، فضلًا عن خروجها على الآداب العامة.
ومن مظاهر التشبه بالإسلام أن بعض المتنبئين عمد إلى اتخاذ بيت حرام ينافسون به البيت الحرام في مكة، من ذلك أن مسيلمة الكذاب ضرب حرمًا في اليمامة نهى الناس عنه، وأخذ الناس به، فكان محرمًا1.
- تفجرت ظاهرة التنبؤ في بلاد وعلى أيدي أفراد عرفوا النصرانية، وسمعوا بها أو اشتهروا بالكهانة، لقد ساد الجزيرة العربية آنذاك باستثناء الحجاز، اضطراب ديني بفعل عدم استقرار العقيدة في النفوس، فالنصرانية واليهودية، والمجوسية والوثنية، تجاورت كلها في ظل نقاش جدلي في أي منها تحقق السعادة لأتباعها، مما مهد الطريق أمام المتنبئين للظهور، واستقطاب الناس بكلام منمق، وبمظاهر يتخذونها آيات صدقهم، واستطاعوا بهذه الوسيلة أن يحققوا نجاحًا مبدئيًا، ذلك أن النصرانية انتشرت في الجزيرة العربية قبل الإسلام عن طريق الأحباش في الجنوب، والأنباط في الشمال، وكان ملك اليمامة هوذة بن علي نصرانيًا أرسل إليه النبي سليط بن عمرو يدعوه إلى الإسلام2، ثم إن العرب شأنهم في ذلك شأن معظم الشعوب الوثنية عرفوا الكهانة، وبخاصة عرب الجنوب، حمير، مثل طريفة الخبر التي تنبأت بأخبار سد مأرب، وسطيح الغساني وغيرهما، فادعى بعض الكهان أن نفوسهم قد صفت، واطلعت على أسرار الطبيعة، وادعى آخرون أن الأرواح المنفردة، وهي الجن، تخبرهم بالأشياء قبل حصولها، وحصل تقارب بين النصرانية، والكهانة عند العرب في الجاهلية، هذا على الرغم من أن أدعياء النبوة اختلفوا على الطرفين في أتباعهم أسلوب التي في سيرته، وأقواله وأفعاله، فادعوا أنهم أنبياء، وأن الوحي ينزل عليهم، وشرعوا لأتباعهم، وطالبوا لأنفسهم بسيادة وزعامة عليهم3.
- اعتمد المتنبئون على العامل الإقليمي، فقد استغل الأسود العنسي استياء اليمنيين من الفرس، ونفورهم من الحجازيين.
- تشكل ظاهرة التنبؤ إحدى الانعكاسات التي أحدثها فتح مكة، وانتشار الإسلام في أجزاء واسعة في الجزيرة العربية، وتوسيع نفوذ الحكومة المركزية في المدينة، ذلك أن هذا التطور الإسلامي أثار عمليات مشابهة، متوازية ومتزامنة في أنحاء متفرقة، حيث بدأت تنشأ تحالفت قبلية واسعة يتزعمها أناس يدعون النبوة، اقتداء
1 الطبري: ج3 ص283.
2 ابن الأثير: ج2 ص95.
3 عاشور: ص73.
بالنجاح الذي حققه النبي محمد، أدى فيها التطور الإسلامي دور الباعث والمحرك1.
- شجعت ثورة الأسود العنسي قبائل اليمامة، وبني أسد على الاقتداء به إثر وفاة النبي محمد، فقد كان كل من مسيلمة، وطليحة يخشى قوة المسلمين المتنامية، ويرى أنه لا قبل له بمقاومتها، لذلك لم يعلن ثورته مبكرًا، ولما تجرأ الأسود العنسي على إعلان دعوته، ورفع راية العصيان، وحاز من النجاح ما أثار مخاوف المسلمين، اقتدت قبائل اليمامة به، وشجعها على ذلك أن النبي محمد توفي في ذلك الوقت2.
عبهلة بن كعب: الأسود العنسي:
إن إحدى المهمات الكبرى التي واجهت النبي محمد في السنتين الأخيرتين من حياته، كانت ضرورة محاربة المتنبئين الذين أخذوا بالظهور في أنحاء متفرقة من الجزيرة العربية؛ بحزم شديد وحكمة بالغة، وتذكر المصادر أن المتنبئ، الأول ظهر ودعا إلى نفسه، كان في قببيلة مذحج في اليمن في عام "10هـ/ 631م"، وهو ذو الخمار عيهلة بن كعب المعروف بالأسود العنسي من قبيلة عنس3.
والواضح أن اليمن لم يكن موحدًا سياسيًا عند ظهور الإسلام، ولم تكن فيه سلطة عليا يتعامل معها النبي، تدلنا على ذلك كتبه التي كتبها إلى عدة أفراد وجماعات، ذكرتها المصادر، وتعدد الوفود التي قدمت إلى المدينة لإعلان اعتناق الإسلام4.
وكان للفرس نفوذ واسع في حكم اليمن، وهم من بقايا التطورات الأخيرة التي مرت بها هذه البلاد، ولكنهم لم يشكلوا سلطة مركزية، وإنما تمركزوا في صنعاء5، وفي بعض مناطق اليمن ذات النشاط الاقتصادي كعدن6، وذمار7 بينما كان لسادات القبائل من حضر، وبدو سلطاتهم المحلية، وقد شاء بعضهم أن يظهر بمظهر الملوك المنفردين بالحكم والسلطان والجاه، فلقبوا أنفسهم بلقب ملك، وقد نعتت
1 إبراهيم: ص105، 106.
2 هيكل: ص96، 97.
3 البلاذري، فتوح البلدان ص113، الطبري: ج3 ص147- 185، لقب بذي الخمار؛ لأنه كان يلقي خمارًا رقيقًا على وجهه، ويهمهم فيه.
4 الطبري: المصدر نفسه ص115- 125، 130- 146.
5 صنعاء: قصبة اليمن، وأحسن بلادها، الحموي: ج3 ص426.
6 عدن: مدينة مشهورة على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن، الحموي: ج4 ص89.
7 ذمار: اسم قرية باليمن على مرحلتين من صنعاء، المصدر نفسه: ج3 ص7.
كتب التاريخ والسير سادات حمير في أيام النبي بملوك حمير1، ولم تكن العلاقات القبلية جيدة، وظهرت القبائل البدوية من خلال الأحداث كقوة مؤثرة، وكانت تضغط على اليمن من أطرافه.
ومن أبرز الكتل التي شكلها الأعراب في اليمن هي الكتلة التي نشأت عن تحالف القبائل المنتسبة إلى مذحج مثل زبيد، والحارث بن كعب، وبني عبد الودان، خولان، واجتمعوا في مذاب بالجوف2.
واحتفظ الجيل الجديد من الفرس، الذي ظهر في اليمن بنتيجة تزاوج الجنود الفرس باليمانيات، وهو الجيل الذي عرف بالأبناء؛ بنفوذ كبير في اليمن عامة، ويبدو أن التغييرات الإدارية المستجدة في الجزيرة العربية لم تصب كثيرًا الطبقة الإدراية، وعمادها الأبناء، فظلت في مواقعها كطبقة متفوقة، يستعين بها أهل اليمن.
اصطدمت قوى التحالف بالسلطة الفارسية في مأرب3، والجوف ونجران4 حيث كانت معظم قبائل هذا التحالف تقيم على التخوم الشمالية الشرقية لليمن، كما تستوطنها قبائل همدان، وهي من المناطق الصحراوية الفقيرة إجمالًا بإنتاجها الاقتصادي، ولا تساعد على نشوء الاستقرار البشري، وبخاصة منطقة مذحج بين حضرموت ونجران، وللفرس فيها استثمارات في منطقة سبأ5، والرضراض حيث مناجم الذهب والفضة.
واشتد تهديد هذه القوى للسيطرة الفارسية في عهد باذان العامل الفارسي، حيث كانت فارس تعاني من اضطراب الأوضاع الداخلية، وظهرت تكتلات معادية للفرس تمثلت في غارات قبائل تميم على طريق التجارة الشرقي في منطقة اليمامة6، يضاف إلى ذلك، أن قوة الأذواء، سادات القبائل الحميرين، تطورت وازداد نفوذهم.
حدث ذلك، في الوقت الذي كان فيه سكان القرى اليمنية يعانون من كثرة الضرائب7، واستغلال طبقة المرابين الذين كانوا يشترون المحاصيل قبل نضجها
1 الطبري: ج3 ص120.
2 الجوف: من أرض مراد في سبأ، كما أن الجوف أرض بعمان، الحموي: ج2 ص187، 188.
3 مأرب: بلاد الأزذ باليمن، المصدر نفسه: ج5 ص34.
4 نجران: في مخاليف اليمن من ناحية مكة، المصدر نفسه: ص266.
5 سبأ: أرض باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، الحموي: ج3 ص181.
6 الحديثي، نزار عبد اللطيف: أهل اليمن في صدر الإسلام ص71.
7 النويري، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب: نهاية الأرب في فنون الأدب ج6 ص373.
بأسعار متدنية، فاستاءوا من هذا الوضع الاقتصادي السيئ، ومن المحتمل أن بعض القوى استغلت وضعهم هذا، ووجهتهم ضد السيطرة الفارسية.
وتحرك الفرس في اليمن للحفاظ على مكتسباتهم، فتحالفوا مع همدان التي كانت تمر بمرحلة تفكك، وقد جمعت الطرفين مصلحة مشتركة، ذلك أن الفرس أرادوا أن يعوضوا عن انقطاعهم عن الدولة الساسانية، وفي المقابل، أرادت همدان الاعتماد على قوة موالية لها لمواجهة قوة حمير المتزايدة، حيث إن توحيد همدان قد ينتزع من حمير ما كان معها من بطون همدان، بالإضافة إلى الأراضي التي خسرتها أمامها.
اجتمع باذان مع عمرو بن الحارث بن الحصين الشاكري البكيلي، وعمرو بن يزيد بن الربيع الحاشدي، واتفقوا على عقد حلف موجه ضد القبائل المحتشدة في مذاب بالجوف، والتي كانت تسعى لاستقطاب أطراف أخرى إلى جانبها. ومع أن نتيجة الاصطدام غير معروفة، إلا أن حالة التوتر قد استمرت بين همدان ومذحج، وانضمت مراد إلى هذه الأخيرة، وكانت بقيادة قيس بن هبيرة الذي يعرف أحيانًا بقيس بن عبد يغوت، وأحيانًا بقيس بن المكشوح1، ويعد هذا التوسع دليل نضج في تطور الأوضاع السياسية، وتعزيز موقف المعارضة اليمنية ضد الوجود الفارسي.
وطرأ في هذه الأثناء، تطور آخر على أوضاع اليمن، تمثل بامتداد الدولة الإسلامية باتجاه الجنوب بعد فتح مكة في عام "8هـ/ 630م"، فجاورت اليمن، وبدأ عمال النبي محمد يصلون إلى اليمن، يبشرون بالدين الجديد، كما أن وفودًا من أهل اليمن بدأت تتوجه نحو المدينة، لتعلن دخولها في الإسلام لتعود، ومعها عمال النبي2.
كان لهذا التطور تأثيره على أوضاع اليمن السياسية والدينية، ذلك أن باذان اعتنق الإسلام بعد حادثة مقتل الإمبراطور الفارسي كسرى الثاني أبروبز على يد ابنه قباذ الثاني شيرويه، وتسلم هذا الأخير الحكم، وبخاصة أنه علم بهذه الأحداث، عن طريق النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن تصل إليه من فارس، فاتجه إلى الاستفادة من الطرف الإسلامي في مقاومة قوى التحالف، واستمر في منصبه كعامل للنبي على اليمن بعد أن كان عامل الفرس عليها3.
1 البلاذري: ص114، الطبري: ج3 ص185-230.
2 الطبري: المصدر نفسه ص147.
3 الطبري: ج2 ص655، 656، ج3 ص227.
ولما مات باذان عين النبي ابنه شهر واليًا على صنعاء وما والاها، كما عين ولاة من أهل اليمن، وآخرين من أصحابه على الأقاليم المختلفة، فكان عمرو بن حزم على نجران، وخالد بن سعيد بن العاص على ما بين نجران ورفع وزبيد1، وعامر بن شهر على همدان، وطاهر بن أبي هالة على عك والأشعريين، وأبو موسى الأشعري على مأرب، ويعلى بن أمية على الجند2، ومعاذ بن جبل معلمًا يتنقل في عمالة كل عامل باليمن، واستقر في الجند، كما عهد إليه بمهمة القضاء، وقبض جميع الصدقات.
ويبدو أن الوجود الإسلامي، وجمع الزكاة، واجها معارضة من قبل بعض زعماء القبائل، وأشارات الروايات إلى وجود تحرك معارض في منطقة حمير، وأن معاذًا قائلهم، وانتصر عليهم.
وفي الوقت الذي كان فيه العمال المسلمون ينظمون شئون ولاياتهم، ويجمعون الصدقات، جاءتهم كتب الأسود العنسي ينذرهم فيها أن يردوا ما بأيديهم، فهو أولى به "أيها المتوردون علينا أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفروا ما جمعتم، فنحن أولى به، وأنتم ما أنتم عليه"3، وأعلن حركته الانفصالية، وكانت تلك أول ظاهرة لفتنته4، ومعنى هذا أن الحركات الانفصالية انطلقت من بلاد اليمن، وأن خروج الأسود العنسي يمثل الشرارة الأولى لتلك الحركات.
تتضمن محتويات كتب الأسود العنسي اتجاهين:
الأول: سياسي إقليمي "أيها المتوردون علينا"، فعد عمال النبي دخلاء على اليمن، مغتصبين لأرضهم، وكان معاذ بن جبل عامل النبي على اليمن قد نفذ سياسة تخدم السلطة المركزية التي كان النبي قد حدد قواعدها في المدينة، ويبدو أن هذه السياسة كانت تتعارض مع النزعات الاستقلالية التي تتحكم بأهل اليمن.
الثاني: اقتصادي "أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا"، ذلك أن النبي حدد السياسة الاقتصادية الإسلامية العامة في اليمن من خلال المباحثات التي أجراها مع رسل ملوك حمير، إذ على المسلمين أن يؤتوا الزكاة، ويعطوا خمس الله من المغانم، وسهم نبيه وصفيه5، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار6 عشر ما سقت العين
1 زبيد: مدينة مشهورة في اليمن، الحموي: ج3 ص131.
2 الطبري: ج3 ص228، 229، والجند من أرض السكاسك في اليمن بينها، وبين صنعاء ثمانية وخمسون فرسخًا، الحموي: ج2 ص169.
3 الطبري: المصدر نفسه ص229.
4 هيكل: ص82.
5 الصفي: نصيب الرئيس من الغنيمة.
6 العقار: الأرض التي تزرع.
وما سقت السماء، وكل ما سقي بالغرب1 نصف العشر، وفي الأربعين من الإبل ابنة لبون، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفي كل خمس من الإبل شاة، وفي كل عشر من الإبل شاتان، وفي كل أربعين من البقر بقرة، وفي كلا ثلاثين من البقر تبيع، جذع أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم سائحة وحدها شاة، وأنها فريضة الله التي فرضها على المؤمنين في الصدقة2.
ويبدو أن هذه السياسة الاقتصادية ضايقت بعض الفئات اليمنية، وبخاصة الأعراب الذين شعروا بعدم قدرتهم على تحملها، ولذلك تكتلوا وراء الأسود العنسي.
كان الأسود العنسي كاهنًا، مشعوذًا، قوي الشخصية، يقيم في جنوب اليمن في كهف خبان من بلاد مذحج، بري الناس الأعاجيب بفنون من الحيل، ويستهوي الناس بعباراته، فتنبأ ولقب نفسه "رحمان اليمامة"3، وكان يزعم أن سحيقًا، وشقيقًا ملكين يأتيناه بالوحي، ولم ينكر نبوة محمد4.
وحظيت حركته بتأييد واسع، وبخاصة أنها نحت اتجاهًا قوميًا بتصديها للنفوذ الفارسي، وللمسلمين الذين ليسوا من أصول يمنية، وذلك بعد انتشار الإسلام في ربوع اليمن، واستمدت قوتها من الحلف القديم بين مذحج، وبعض قبائل خولان والأزد، وانضم إليه بعض المقاتلين من حمير، وأيدته نجران.
هاجم الأسود العنسي بعد أن وثق من قوته، مدينة نجران واستولى عليها، وطرد منها عمرو بن حزم عامل المسلمين عليها، وانضم أهل نجران إليه، ثم سار إلى صنعاء، واصطدم فيها بشهر بن باذان، وانتصر عليه وقتله واستولى على المدينة، وفر المسلمون منها، ومن بينهم معاذ بن جبل5.
وأخذ الأسود العنسي يدعو إلى نفسه، بعد هذه الانتصارات، وسرعان ما قوي أمره، واشتد ساعده بمن التف حوله من الأتباع، وسيطر على منطقة واسعة تمتد من حضرموت جنوبًا حتى حدود الطائف بما فيها قبيلة عك في تهامة غربي الحجاز، ومن الشواطي اليمنية على البحر الأحمر غربًا، وحتى الخليج شرقًا، وكانت جميع المدن
1 الغرب: الدلو.
2 الطبري: ج3 ص121، ورواه أبو داود في الزكاة.
3 البلاذري: فتوح البلدان ص113.
4 البلخي، أبو زيد أحمد بن سهل: كتاب البدء والتاريخ ج2 ص192.
5 الطبري: ج3 ص229، 230.
الكبري في هذه المنطقة كعدن، وصنعاء وغيرهما واقعة تحت حكمه، ثم أخذ بعين الولاة ليحكموا باسمه، ويسمى قادة فرقه العسكرية، فعين قيسًا بن هبيرة المرادي قائدًا لعسكره، وفيروز وداذويه الفارسيين وزيرين، وتزوج من امرأة شهر بن باذان1.
كانت مذحج السند القبلي الأساسي الذي اعتمد عليه وانطلق منه، وبمساعدتها تمكن من إخضاع اليمن لسلطته، والتحق به عشرات البطون، والوحدات القبلية التي كانت قبل مدة وجيزة قد أرسلت وفودها إلى المدينة.
ويبدو أن معارضي الوجود الإسلامي من مختلف القبائل أبدوا حركته، ورأوا فيه ممثلًا لمصالحهم، ومع ذلك فقد واجه معارضة تمثلت في الجماعات المسلمة من مذجح التي انسحبت مع فروة بن مسيك المرادي إلى الأحسية2، أما في منطقة حمير، فقد كان لجهود ذي الكلاع، وآل ذي لعوة الهمدانيين، دور في الاحتفاظ بالنفوذ الإسلامي، وقد وقفوا ضد عك بتهامة.
ظل الأسود العنسي مدعيًا النبوية مدة ثلاثة أشهر، وفي رواية أربعة أشهر، ارتكب خلالها الحماقات، وفضح النساء وأنزل الرعب، والخوف في قلوب اليمنيين، وبخاصة الأبناء3.
لم يركن النبي محمد إلى الهدوء، وهو يرى جهوده الرامية إلى نشر الإسلام في اليمن وتوحيد قبائله، تتعرض للنكسة، وكان يتجهز لغزو البيزنطيين لانتقام من هزيمة مؤتة، فواجه حركة الأسود العنسي بالحزم، ولم يشغله ما كان فيه من الوجع عن أمر الله، والدفاع عن دينه، فأرسل الرسل إلى اليمن يأمر اليمنيين بالقضاء على الأسود العنسي، ويستنهضهم للمواجهة الذاتية معه، ومعنى هذا أنه لم يرسل جيوشًا من المدينة للقضاء عليه، وإنما اعتمد على القوى المحلية. كما أرسل إلى عماله في تلك الجهات يحثهم على الاستعانة بالثابتين على الإسلام، والصمود أمام المنشقين، والقضاء على رءوس الفتنة، وكتب إلى زعماء اليمن أمثال ذي الكلاع الحميري، وذي عمرو، وذي ظليم، مع جرير بن عبد الله البجلي، وأرسل الأقرع بن عبد الله الحميري إلى ذي زود، وذي مران، فاستجاب هؤلاء لدعوته، وأعلنوا ثباتهم على
1 الطبري: ج3 ص230، لم ترد إشارة إلى أن فيروز، وداذويه قد اعتنقا الإسلام في هذه المرحلة، كما ظل كثير من الأبناء على ديانتهم المجوسية، وأن استعانة عيهلة بهما حتمها واقع الظروف السياسية والإدارية.
2 الحموي: ج1 ص112، والأحسية موضع باليمن.
3 البلاذري: ص114، والطبري: ج3 ص239، 240.
الإسلام، كما كتب إلى أهل نجران، وإلى عربهم وساكني الأرض من غير العرب -الأبناء- فانضم جماعة منهم إلى دعوته، وأرسل الحارث بن عبد الله الجهني إلى اليمن بمهمة تتعلق بأحداثه1.
لكن جهود هؤلاء لم تثمر في وضع حد لانتفاضة الأسود العنسي، ولا تعطي المصادر صورة واضحة عن جهودهم، ومحاولاتهم للقضاء عليه، وكان آخر من أرسله النبي هو وبر بن يحنس الأزذي، ومعه كتاب إلى المسلمين في اليمن يأمرهم فيه بالقيام على دينهم، والنهوض في الحرب، والقضاء على الأسود العنسي، إما غيلة أو مصادمة، وأن يستعينوا على ذلك بمن يرون عنده نجدة ودينًا2، واكتفى من أمر اليمن بهذا، ووجه معظم اهتمامه لتنظيم جيش أسامة، وإرساله إلى بلاد الشام.
وسرعان ما ضايقت تحركات المسلمين الأسود العنسي فشعر بالهلاك، على أن الخطر الذي عصف به، وقضى عليه جاء من الداخل، فقد اتصل وبر بن يحنس، فور وصوله إلى اليمن، بالأبناء ليبلغهم طلب النبي محمد، ولم يتوجه إلى المسلمين من حمير وغيرها، علمًا بأن معظم هؤلاء الأبناء كانوا لا يزالون على المجوسية، ولم ترد إشارة إلى إسلامهم قبل هذا التاريخ، حتى إن الروايات التاريخية تذكر بأنه نزل عند داذويه، وكان من حاشية الأسود العنسي، يضاف إلى ذلك، لم يكن الأبناء مؤهلين لأن يؤدوا دورًا فاعلًا ضد الأسود العنسي. بعد أن فقدوا قوتهم عندما فشلوا في الدفاع عن صنعاء، ويحدد ابن سعد تاريخ إرسال وبر بن يحنس في عام "10هـ/ 630م"، أما الطبري فيذكر أنه أرسل في عام "11هـ/ 632م"3.
والراجح أن هذا المنحى الذي انتهجه وبر بن يحنس للتخلص من الأسود العنسي مرده إلى عدة أسباب لعل أهمها:
- أراد أن يحيك مؤامرة للتخلص منه بوساطة مستشاريه، وأعوانه المقربين منه.
- استبعد الخيار العسكري بعد أن خشي نتيجة الصدام المسلح نظرًا لعدم توازن القوتين، إذ كان الأسود العنسي متفوقًا عسكريًا.
- لقد حصل في ذلك الوقت نفور بين الأسود العنسي، ومستشاريه بفعل اعتداده بنفسه، واستخفافه بقيس بن هبيرة، وفيروز وداذويه، كما شك في ولائهم له، ورأى في سائر الفرس أنهم أعداؤه، ويأتمرون لقتله، فاستغر وبر بن يحنس هذا التطور للقضاء عليه.
1 الطبري: ج3 ص187.
2 المصدر نفسه: ص231.
3 المصدر نفسه، طبقات ابن سعد: ج5 ص388.
ولأن الجيش كان أشد ما يحذر ويخاف، دعا الأسود العنسي قائد جيشه قيس بن هبيرة، وأخبره بأن شيطانه أوحى إليه، يقول:"عمدت إلى قيس فأكرمته حتى إذا دخل منك كل مدخل، وصار في العز مثلك، مال ميل عدوك، وحاول ملكك، وأضمر على الغدر"، وأجاب قيس:"كذب وذي الخمار، لأنت أعظم في نفسي، وأجل عندي من أن أحدث بك نفسي"، وأجال الأسود العنسي نظرة في قيس، وقال له:"ما أجفاك! أتكذب الملك، قد صدق الملك، وعرفت الآن أنك تائب مما اطلع عليه منك"1.
وخرج قيس من عنده مرتابًا في ما يضمر له، واجتمع بفيروز وداذويه، وذكر لهما ما جرى بينه وبين الأسود العنسي، وسألهما رأيهما، فقالا:"نحن في حذر"، ويبدو أن الأسود العنسي علم بهذا الاجتماع، فأرسل إليهما يحذرهما مما يأتمران به، فخرجا من عنده، ولقيا قيسًا وهم جميعًا في ارتياب وخطر2.
وعلم المسلمون في اليمن بما يجري في بلاد الأسود العنسي، كما وقفوا على فحوى رسالة النبي لهم، فأرسلوا إلى قيس وأصحابه يشجعونهم على التخلص من الأسود العنسي.
واستطاع وبر بن يحنس أن يستقطب عددًا من زعماء الأبناء، أمثال فيروز وداذويه، وجشيش وغيرهم، وقرر الجميع اغتيال الأسود العنسي، فاستعانوا بامرأته أذاد التي كانت تحقد عليه؛ لأنه قتل زوجها شهر بن باذان من قبل، ثم تزوجها بعد ذلك3.
وحانت فرصة التحرك لتنفيذ المؤامرة عندما أرسل الأسود العنسي قواته في مهمة عسكرية بين صنعاء ونجران، فدخل المتآمرون حجرة نومه بعد أن مهدت لهم آذاد الطريق، فقتله فيروز واحتز قيس رأسه، وألقاه في باحة القصر، وتنادى الناس في المدينة فخرجوا صباحًا، واضطرب الوضع ثم استقر على أن يتولى الأمر معاذ بن جبل4.
ولا بد لنا من الإشارة أخيرًا إلى التاريخ الذي قتل فيه الأسود العنسي، فهل جرت حادثة القتل قبل وفاة النبي أما بعد وفاته؟ يذكر اليعقوبي أن الأسود العنسي تنبأ في عهد رسول الله، فلما بويع أبو بكر ظهر أمره، واتبعه على ذلك قوم، فقتله قيس بن هبيرة المرادي، وفيروز الديلمي، دخلًا منزله وهو سكران فقتلاه5، أما الطبري فيروي، قنلًا عن سيف، أنه قتل قبل وفاة النبي، وأنه صلى الله عليه وسلم أوحي ذلك إليه ليلة حدوثه
1 الطبري: ج3 ص231، 232.
2 المصدر نفسه: ص232.
3 البلاذري: ص114.
4 الطبري: ج3 ص235.
5 تاريخ اليعقوبي: ج2 ص15.
فقال: "قتل العنسي، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين" قيل: من قتله؟ قال: "فيروز، فاز فيروز"1، وفي رواية أخرى نقلًا عن عمر بن شبة أن خبر موت العنسي وصل إلى المدينة بعد أن قبض رسول الله، فأمضى أبو بكر جيش أسامة بن زيد في آخر ربيع الأول، وأتى مقتل العنسي في آخر ربيع الأول بعد مخرج أسامة؛ وكان أول فتح أتى أبا بكر، وهو في المدينة2.
والراجح أن مقتل الأسود العنسي تم قبل وفاة النبي بيوم أو بليلة، وورد الخبر من السماء بذلك، وأعلم أصحابه به، ولكن الرسل وصلت في خلافة أبي بكر في "آخر شهر ربيع الأول عام 11هـ/ شهر حزيران عام 632م"3.
ومهما يكن من أمر، فقد استقر الوضع الداخلي في اليمن بعد مقتل الأسود العنسي، وتراضى المسلمون على معاذ بن جبل، فصلى بهم في صنعاء، حتى إذا جاء خبر موت النبي عم الاضطراب مجددًا ربوع اليمن، وسنتناول أسباب ذلك، ونتائجه في موضعه من جهاد أبي بكر أهل الردة؛ لأنها تتخطى الأسود العنسي وثورته ومقتله.
مسيلمة بن حبيب الحنفي، مسيلمة الكذاب 4:
لم يكن الأسود العنسي الوحيد الذي ادعى النبوة، فقد تكرر مثل هذا الادعاء في اليمامة بين اليمن، ونجد قرب البحرين في قبائل بني حنيفة على يد مسيلمة بن ثمامة بن كثير بن حبيب، وذلك في السنة العاشرة للهجرة، وقد عد من أشهر المتنبئين وأخطرهم، وكانت اليمامة تشبه المدينة في تركيبتها إلى حد بعيد.
كان مسيلمة قبل ادعائه النبوة يتجول في الطرقات، يطوف في الأسواق التي كانت بين دور العجم، والعرب مثل الأبلة5 وبقة6، والأنبار7 والحيرة8، يلتمس
1 تاريخ الطبري: ج3 ص236.
2 المصدر نفسه: ص240.
3 المصدر نفسه: ص187.
4 كان اسمه مسلمة، وصغره المسلمون تحقيرًا له.
5 الأبلة: بلدة على شاطئ دجلة البصرة العظمى، في زاوية الخليج الذي يدخل إلى مدينة البصرة، وهي أقدم من البصرة، الحموي: ج1 ص77.
6 بقة: اسم موضع قريب من الحيرة، المصدر نفسه ص473.
7 الأنبار: مدينة على الفرات غربي بغداد بينهما عشرة فراسخ، وكانت الفرس تسميها فيروز سابور، المصدر نفسه:257.
8 الحيرة: مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة على موضع يقال له النجف، وكانت مسكن ملوك العرب في الجاهلية من عهد نصر، ثم من لخم النعمان وآبائه، وكان عمرو بن عدي بن نصر اللخمي أول من اتخذها منزلًا، من الملوك، وهو أول ملوك اللخميين من آل نصر، المصدر نفسه: ج2 ص328- 331.
تعلم الحيل والنيرنجات، واحتيالات أصحاب الرقى والنجوم، ويتابع أخبار المتنبئين1.
ويبدو أنه كان على قدر من قوة البيان والشخصية، على عكس ما تصفه المصادر بأنه كان "رويجلا، أصيفر، أخينس"2، إذ ترك تأثيرًا ملموسًا في أوساط بني حنيفة، والقبائل المجاورة، اشتهر بالخلابة، والقدرة على استهواء النفوس من الرجال والنساء، وخليق بهذا أن يظن به السحر، وتنتظر منه الخوارق بين الجهلاء؛ لأنهم يرون سلطانه ولا يعلمون مأتاه، فيخيل إليهم أنه سر من الغيب، أو معونة من الجنة والشياطين، وهو على هذا كان يعين حيلته بما استطاع من صناعة الشعوذة، والألاعيب التي كان يحذقها بعض الكهان في بلاد العرب والعجم، ولم يكن في طبيعته بمعزل عن طبائع السحرة، وأدعياء الغيب3، وتسمى بالرحمن، فقيل له: رحمن اليمامة4.
وعندما كتب النبي محمد إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام، كتب إلى هوذة بن علي الحنفي النصراني وأهل اليمامة، وأرسل كتابه مع سليط بن قيس بن عمرو الأنصاري، فاشترط هوذة أن يجعل الأمر له من بعده، فرفض النبي وقال:"لا ولا كرامة اللهم أكفنيه"، فمات بعد قليل5.
وقدم مسيلمة إلى المدينة في بضعة عشر رجلًا من قومه بني حنيفة برئاسة سلمى بن حنظلة، وفيهم الرجال بن عنفوة أحد وجهاء القبيلة، لإجراء مباحثات مع النبي، وإعلان إسلامهم، ويبدو أنهم أملوا، مقابل دخلوهم في الإسلام، الحصول على موافقة من النبي لخلافته، ويذكر أن بني حنيفة تعد من أضخم القبائل العربية، وأوفرهم حظًا بالمنعة والجاه، وقد دفعوا أولا بمسيلمة
للوقوف على رأي النبي، فاجتمع به منفردًا، وطلب منه أن يجعل الأمر له من بعده، فرفض النبي وقال له:"لو سألتني هذا القضيب -وكان بيده- ما أعطيتكه، وإني لأراك الذي رأيت فيه ما رأيت" 6، ثم اجتمع أعضاء الوفد بالنبي في المسجد بدون مسيلمة، والواقع أن ذلك كان متعمدًا، ولم تذكر المصادر ما دار في هذا الاجتماع، إنما روت خروج أعضاء الوفد، وقد اعتنقوا الإسلام، وأعطاهم النبي جوائزهم، غير أنه استنادًا إلى تطور الأحداث بعد ذلك يحملنا على
1 الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر: كتاب الحيوان ج4 ص369 وما بعدها.
2 الطبري: ج3 ص295، البلخي: ج2 ص197.
3 العقاد، عباس محمود: عبقرية خالد ص97.
4 البلخي: ج2 ص195، 196.
5 البلاذري: ص97.
6 ابن كثير، الحافظ عماد الدين أبو الفداء: البداية والنهاية، ج5 ص50.
الاعتقاد بأنهم كرروا طلب مسيلمة بأن يكون الأمر لهم بعد النبي، وأن النبي رفض طلبهم، ولما قرروا العودة خاطبوا رسول الله قائلين:"إنا خلفنا صاحبًا لنا في رحالنا يبصرها لنا، وفي ركابنا يحفظها علينا"، وهذا دليل على أن تخلف مسيلمة كان متعمدًا وفق خطة مبيتة علهم ينتزعون من النبي وعدًا، أو ما يشبه الوعد، بتحقيق هدفهم، ولا شك بأن النبي أدرك فورًا هدفهم بأن صاحبهم هذا هو مسيلمة، فلم يميزه، وساواه بأصحابه، وقال:"ليس بشركم مكانًا يحفظ ضيعة أصحابه"، فقيل ذلك لمسيلمة، فقال:"عرف أن الأمر إلي من بعده"1، فلما عادوا إلى ديارهم أدعى النبوة متخذًا من حديث رسول الله مع وفد قومه، وإخباره أنه ليس بشرهم مكانًا؛ دليلًا على دعواه، وهذا تفسير أحادي الجانب يتناقض مع قول النبي محمد الصريح بشأن وضعه.
ومهما يكن من أمر، فقد أدرك النبي، من خلال ما جرى مع وفد بني حنيفة، أن هؤلاء القوم سوف يغدرون به، ويرتدون عن الإسلام، وأن صاحبهم سيقودهم إلى شر عاقبة يهلكهم بها، فهم وهو في شر سواء2.
واستغل نهار الرجال بن عنفوة وجوده في المدينة، فتعلم القرآن وتفقه في الدين، ووقف على تعاليم الإسلام، وكان هذا الرجل ذا بصيرة، وذكاء فعينه النبي معلمًا لأهل اليمامة يفقههم في الدين، ويرد من اتبع منهم مسيلمة، ويشغب معهم عليه، ويشد من عزائم المسلمين.
لكن نهارًا كان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، وما كان تفقهه إلا رياء، فهو لم يلبث أن انضم إليه، وأقر بنبوته، وشهد بأن محمدًا أشركه معه في الرسالة، فالتف بنو حنيفة حوله، ومن جهته فقد وضع مسيلمة كل ثقته بنهار يستشيره في كل أمر يقلد فيه محمدًا3.
وبعد أن عاد مسيلمة إلى قومه، وأظهر دعوته، كتب إلى النبي كتابًا يدعي فيه مشاركته في الرسالة، ويساومه في اقتسام الملك والسيادة في جزيرة العرب، فقال:"من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا يعتدون"4.
وأبى النبي أن يترك الفرصة لمثل هؤلاء الكذابين للتشكيك في أمر الدين، فكتب إليه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام
1 الطبري: ج3 ص137، 138.
2 السهيلي: ج4 ص225، ابن كثير: ج5 ص50-52.
3 الطبري: ج3 ص282-287.
4 المصدر نفسه: ص146.
على من أتبع الهدى، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين"1.
واتخذ مسيلمة حرمًا باليمامة، كما أشرنا، فأخذ الناس به، فكان محرمًا، ونظم ونظم كلامًا مضاهاة للقرآن، وقصده الناس ليتسمعوا منه بعد أن اشتهر أمره، وتمكن من التأثير في بعضهم، وكان ممن قصده المتشمس بن معاوية، عم الأحنف بن قيس، فلما خرج من عنده قال عنه: إنه كذاب، وقال عنه الأحنف بن قيس وكان قد رآه أيضًا: ما هو بنبي صادق، ولا بمتنبئ حاذق2.
عرف مسيلمة بين أتباعه برسول الله، وكانوا يتعصبون له، ويؤمنون بدعوته إيمانًا شديدًا، وكانت المنافسة بين قبائل مضر وربيعة على أشدها، والأخيرة تتععصب لنسبها، وتأنف أن تعلوها قريش بفضل النبوة والرئاسة، وليس أدل على ذلك من طلب هوذة الذي أشرنا إليه، بالإضافة إلى رأي طلحة النميري الذي قدم إلى اليمامة للاجتماع بمسيلمة، والوقوف على حقيقة دعوته، واختبار نبوته، إذ عندما طلب الاجتماع به وسماه باسمه، مسيلمة، رد عليه قومه: مه يا رسول الله، فقال: لا حتى أراه، فلما جاءه قال: أنت مسيلمة؟ قال: نعم، قال: من يأتيك؟ قال: رحمن، قال: أفي نور أو في ظلمة؟ فقال: في ظلمة، فقال: أشهد أنك لكذاب وأن محمدًا صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر"3.
والراجح أن مسيلمة كان يتوق إلى استعادة مركز قبيلته بني حنيفة، التي كانت تضارع قريشًا في الجاهلية، ويطمع في أن يكون لها السيطرة على جزء من بلاد العرب، وأنكر أهل اليمامة أن يكون محمد رسول الله إليهم، وكانوا يرون لأنفسهم ما لقريش من حق، فلهم نبي ورسول، ولقريش نبي ورسول، فلجأ إلى إدعاء النبوة كذبًا ليتمكن من تحقيق أغراضه، وتطلعات قبيلته، فحركته سياسية عصبية اتخذت من الدين قناعًا زائفًا، هذا ولا تشير الأخبار التي تتحدث عنه، عندما قدم مع وفد قومه إلى المدينة، ولا التي تتحتدث عنه وهو في اليمامة؛ إلى قبوله الإسلام، بل نجد فيها كلها أنه ظل يرى نفسه نبيًا مرسلًا من الرحمن وصاحب رسالة، لذلك ليس من الصواب أن نقول: ردة مسيلمة أو ارتداد مسيلمة، أو نحو ذلك؛ لأنه لم يعتنق الإسلام، ثم ارتد عنه حتى ننعته بالمرتد! 4.
1 البلخي: ج3 ص196.
2 الطبري: ج3 ص283، الجاحظ: ج5 ص530.
3 الطبري: ج3 ص286.
4 علي، جواد: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج6 ص97.
وتعاون مسيلمة في إحدى مراحل ادعائه النبوة مع سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية، التي أدعت هي الأخرى النبوة، والتف حولها قومها بنو تميم، وأخوالها من تغلب وغيرهم من قبائل ربيعة، وتزوجها مسيلمة، وانضم أتباعها إليه، فتقوى بهم، وتحدى حكومة أبي بكر في المدينة.
طليحة بن خويلد الأسدي:
كان طليحة أحد كهنة بني أسد، وقد ادعى النبوة هو الآخر في أواخر حياة النبي، شأنه في ذلك شأن الأسود العنسي ومسيلمة، واستقر في بزاخة، وهي ماء لبني أسد، وظهر أمره بعد وفاة النبي، فتبعه قومه، واستقطبوا حلفاءهم من طيء والغوث ومن إليهم، وانضمت إليه غطفان، والتف حوله عوام طيء، والغوث وبني أسد.
وكانت منازل بني أسد في نجد، وتقع إلى الشرق من ديار طيء، وإلى الجنوب من منازل بكر، وإلى الشمال من ديار هوازن وغطفان، وتتاخم قبائل عبد القيس وتميم من الغرب، وبحكم هذا التجاور تحالفت هذه القبائل، أو تخاصمت وفقًا لتطور أوضاعها، والظروف المحيطة بها.
قدم وفد بني أسد إلى المدينة، لمبايعة النبي والدخول في الإسلام، وقد تألف من عشرة أشخاص منهم ضرار بن الأزور، ووابصة بن مبعد، وطليحة بن خويلد وغيرهم، ويبدو أنهم كانوا في حال عداء مع جيرانهم بني طيء، ففصل النبي في هذا النزاع، وكتب لهم كتابًا، كتبه له خالد بن سعيد، ورد فيه:"ألا يقربن مياه طيء وأرضهم، فإنه لا تحل لهم مياههم، ولا يلحن أرضهم من أولجوا"، وأقر عليهم قضاعي بن عمرو وهو من بني عذرة، وجعله عاملًا عليهم1، كما كتب إلى حصين بن نضلة الأسدي "أن له أرامًا وكسة لا يحاقه فيها أحد"2، أي أن له أصلًا، وشرفًا لا ينازعه فيهما أحد.
وكانت أسد وغطفان وطيء قد تحالفت في الجاهلية قبل البعثة النبوية، ثم حدث خلاف بينهم، فخرجت طيء من الحلف، فأجلاها بنو أسد وغطفان عن ديارها، وانقطع بذلك ما بينها وبينهما، وهذا الذي دفع النبي إلى إصلاح ذات البين، ومنع أسدًا من التعدي على مياه طيء وأرضهم، ثم حصل تباعد بين الحليفين، أسد وغطفان، ولما أدعي طليحة النبوة، وظهر أمره بعد وفاة النبي، ساندته غطفان؛ لأنها كانت على عداء مع قريش، وقال عيينة بن حصن الفزاري: "ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بني أسد، وإني لمجدد الحلف الذي كان بيننا في القديم، ومتابع طليحة،
1 ابن سعد: ج1 ص270- 292.
2 المصدر نفسه: ص274.
والله لأن اتبع نبيًا من الحليفين أحب إلينا من أن نتبع قريشًا، وقد مات محمد وطليحة حي"1، والواقع أن هذه القبائل المضرية كانت تكره سيادة قريش.
ليس واضحًا ما دفع طليحة إلى التنبؤ، وربما كان للتنافس القبلي دور في ذلك بدليل قول عيينة بن حصن الذي أشرنا إليه، بالإضافة إلى انتشار ظاهرة التنبؤ في بلاد العرب.
لم يدع طليحة العرب إلى العودة لعبادة الأصنام، كما لم يدع غيره من المتنبئين إلى العودة لعبادتها، والراجح أن مرد ذلك بأن النبي محمد قضى على الوثنية في الجزيرة العربية قضاء مبرمًا، واستقرت عقيدة التوحيد في النفوس بشكل جعل التفكير في العودة إلى عبادة الأصنام ضربًا من الهذيان، فدعا إلى أفكار لم يحفظ لنا التاريخ منها شيئًا يذكر2، وكل ما وصل إلينا، أنه أنكر الركوع والسجود في الصلاة، وقال:"إن الله لم يأمر أن تمرغوا وجوهكم في التراب، أو أن تقوسوا ظهوركم في الصلاة"، وقال أيضًا:"إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم، وقبح أدباركم شيئًا، فاذكروا الله أعفة قيامًا، فإن الرغوة فوق الصريح"3، وهذا تأثير نصراني، الراجح أن السبب في ندرة المعلومات يعود إلى أن المسلمين الأوائل لم يدونوا إلا ما كان يتوافق مع أحكام الدين الإسلامي، وأهملوا ما دون ذلك.
لقد حارب النبي انتشار ظاهرة التنبؤ في حياته، فكما أوعز إلى مقاومة الأسود العنسي، والتخلص منه إما غيلة وإما مصادمة، فقد وجه ضرار بن الأزور إلى عماله على بني أسد يأمرهم بالقيام على كل من ارتد، ونزل المسلمون واردات4، ونزل طليحة ومن معه سميراء5، وكانت كفة المسلمين هي الرجحة بفعل تواتر الأنباء على انتصاراتهم في غير منطقة، حتى هم ضرار بالسير إلى طليحة ومقابلته، ولقد سبقه أحد المسلمين يريد أن يتخلص من هذا المتنبئ، فضربه بالسلاح فأخطأه، وأسرع المحيطون به باستغلال هذه الحادثة، وأذاعوها بين الناس مدعين بأن السلاح لا يؤثر في نبيهم، وفي الوقت الذي كان فيه المسلمون يستعدون لمواجهة هذا الموقف، إذ جاءهم نعي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فاضطربوا وتناقص عددهم، وهرع الكثيرون منهم إلى طليحة يتابعونه ويؤيدونه6.
1 الطبري: ج3 ص257.
2 هيكل: ص130.
3 البلاذري: ص106.
4 واردات: موضع عن يسار طريق مكة، وأنت قاصدها، الحموي: ج5 ص347.
5 سميراء: منزل بطريق مكة، المصدر نفسه: ج3 ص255، 256.
6 الطبري: ج3 ص257.
سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية:
كانت سجاح متنبئة وعرافة، وهي واحدة من طائفة المتنبئين، وزعماء القبائل الذين ظهروا في الجزيرة العربية قبل الردة أو خلالها، ونستدل من نسبها الذي اتضح من تاريخها بأنه صحيح، أنها كانت من بني يربوع أحد بطون تميم، وأمها من بني تغلب في العراق، وهي قبيلة اعتنق معظم أفرادها النصرانية نتيجة احتكاكهم بسكان إقليم الفرات، أقامت سجاح بينهم، وتزوجت فيهم، وتنصرت مع من تنصر منهم1.
تقع منازل بني تميم على مقربة من بني عامر إلى الجنوب، وتجاور المدينة من الشرق، وتمتد نحو الخليج العربي، وتتصل بمصب نهر الفرات من ناحية الشمال. وكانت فروع من القبيلة تتمتع بحقول الرعي في أنحاء تمتد إلى الفرات الأوسط.
ولبني تميم مكانة كبيرة بين قبائل العرب في الجاهلية، وفي عصر النبوة، واشتهر التميميون بالشجاعة، والكرم، ونبغ من بينهم شعراء، وأبطال تلقبوا بلقب الملوك2.
والواضح أن هذا الامتداد الجغرافي للقبيلة أدى إلى:
- تنقل بطونها بين الجزيرة العربية والعراق، في ميدان واسع يشيع فيه التوتر بين كلا المركزين الكبيرين الحيرة ومكة، لكنهم اتخذوا موقف الحياد في علاقاتهم السياسية مع كليهما، وكان من الواضح أن العلاقات المنظمة، والمنضبطة بين بني تميم، كانت تبلغ الأهمية عند أمراء الحيرة، وبالتالي الفرس من واقع ضمان مرور القوافل التجارية دونما عائق، والمعروف أن تجارة فارس كانت تنطلق من المدائن3 حتى تصل إلى الحيرة حيث يتولى النعمان بن المنذر حراستها بقوى من بني ربيعة، ثم يتسلمها هوذة بن علي الحنفي، فيسير بها في أرض تهامة إلى أن تبلغ اليمن، وذلك لقاء أجر، وعليه كانت العلاقات جيدة بين الفرس، وبين البطون الضاربة على هذا الطريق التجاري، وحاولت فارس ربطهم بها عن طريق منح يربوع وظيفة الردافة، ومن جهة أخرى، أقامت بطون متفرقة من تميم، علاقات مكثفة مع مكة في العصر الجاهلي من واقع تنظيم الخمس، وعهود الإيلاف، والحصول على السلطة، والتقدم في الأسواق، وفي أداء شعائر الحج، ومنهم من ارتبط في الفضائل العسكرية التي كانت تقدمها القبائل لحراسة مكة.
1الطبري: ج3 ص272.
2 المصدر نفسه: ص116.
3 المدائن: عاصمة ملوك بني ساسان الأكاسرة، بناها كسرى أنوشروان بن قباذ، وأقام بها هو ومن أتى بعده من ملوك بني ساسان إلى أيام عمر بن الخطاب، واسم المدائن بالفراسية طيغون، وإنما سمتها العرب المدائن؛ لأنها تتألف من سبع مدن، الحموي: ج5 ص74، 75.
- انتشار النصرانية في ربوع بني تميم بتأثير ما كان سائدًا من مذاهب
نصرانية في الجزيرة الفراتية، وشمالي بلاد الشام.
- تعدد الولاءات في صفوف القبيلة، سياسيًا بين الاستقلالية، وبين الهيمنة الفارسية أو البيزنطية، ودينًا بين الوثنية والنصرانية.
- ظل المركز الممتاز لبني تميم محفوظًا حتى السنين الأخيرة من العصر الجاهلي، بدليل أن التميمي الأخير الذي كان يمارس وظيفة القاضي الفخرية، في سوق عكاظ، هو الأقرع بن حابس.
في ظل هذه الظروف، ونتيجة لانتشار الإسلام في ربوع الجزيرة العربية، قدم وفد بني تميم إلى المدينة، في عام "9هـ/ 630م" لتقديم الطاعة، والولاء وإعلان دخول التميميين في الإسلام، وضم الوفد بعض أشرافهم مثل عطارد بن حاجب بن زرارة، والأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، ولم يكن مالك بن نويرة ضمن أعضاء الوفد، والإشارات التي تذكر أنه توجه بمفرده إلى النبي لاعتناق الإسلام قد تكون صحيحة؛ لأن النبي عينه عاملًا على صدقات عشيرته بني يربوع، وردهم النبي إلى قومهم راضية نفوسهم1.
واختلف بنو يربوع بعد وفاةو النبي حول أداء الزكاة إلى أبي بكر، أو قسمتها بين الناس، وفاجأتهم سجاح في هذا الوقت، مقبلة من أرض الجزيرة بالعراق يحيط بها رهطها من بني تغلب على رأس جيش من ربيعة، والنمر وأياد وشيبان،
تريد غزو المدينة، مما أدى إلى ازدياد الانقسام فيما بينهم.
وكانت سجاح قد تنبأت بعد وفاة النبي أسوة بغيرها من المتنبئين، بدافع العصبية أو بحب الظهور، فاستجاب لها الهذيل بن عمران في بني تغلب، وترك التنصر، ولم تجد إلا القليل من التجاوب عند قومها.
ولما وصلت إلى الحزن2 راسلت بطون تميم، ودعتهم إلى الموادعة والمعاضدة، واستقطبت، بما بشرت به من ادعاءات، بني مالك برئاسة وكيع بن مالك، وبني يربوع بزعامة مالك بن نويرة3.
استغل مالك بن نويرة هذه القوة للقضاء على خصومه من عشائر بني تميم، فصرفها عن مهاجمة المدينة، وأقنعها بمهاجمة بني الرباب، غير أنها منيت بهزيمة
1 ابن سعد: ج1 ص293، 294، الطبري: ج3 ص115.
2 الحزن: بلاد يربوع من جهة الكوفة، وهي أطيب البادية مرعي، الحموي: ج2 ص254، 255.
3 الطبري: ج3 صس115.
قاسية، وتكبد الطرفان خسائر فادحة مما دفعهما إلى التفاهم، وتبادل الأسرى1 ونتيجة لهذا الفضل انفصل مالك بن نويرة عنها.
سمعت سجاح بعد فشلها في إخضاع الرباب إلى مهاجمة المدينة، ودعت قومها بني يربوع إلى مساندتها، فطلبوا منها أن تؤلف بطون تميم إلى دينها قبل الزحف نحو الحجاز لمحاربة المسلمين، فلم يتفق بنو تميم على رأي واحد، عندئذ خرجت بجندها حتى بلغت النباج2، فتصدى لها أوس بن خزيمة الهجيمي وهزمها، ومنع جندها من المرور في أراضيه، ثم تحاجز الفريقان، واتفقا على تبادل الأسرى على أن تنصرف عنهم، ولا تتخذ طريقًا إلى المدينة إلا من ورائهم3.
ولما رأيت إحجامًا من قومها، التفت نحو اليمامة حيث كان مسيلمة الكذاب يتخفز كذلك للخروج على الإسلام، وانتشرت أخبار دعوته في الجزيرة العربية، إلا أنه وجد نفسه في وضع حرج، فقد خشي أن تشغله سجاح عن قتال أبي بكر في الوقت الذي كان يترقب فيه زحف المسلمين إليه، كما كان يتعرض لضغط القبائل المجاورة، لذلك عرض عليها التفاهم، والتعاضد ما دام هدفهما واحدًا، وهو الزحف نحو المحجاز، وأسفرت المفاوضات التي جرت بينهما عن النتائج التالية:
- التقارب الأسري بالزواج.
- دمج قدراتهما لمواجهة المسلمين، والسيطرة على الجزيرة العربية.
- يؤدي مسيلمة لسجاح نصف غلات اليمامة4.
وفعلًا ثم الزواج بينهما، وأقامت سجاح مع مسيلمة مدة ثلاثة أيام5 عادت بعدها إلى قومها في أرض الجزيرة دون سبب ظاهر، حاملة معها شطر النصف مما اتفقا عليه، وتركت وراءها ممثليها مع مسيلة ممن سيحملون لها النصف الآخر، وأقبلت في غضون ذلك الجيوش الإسلامية، فاجتاحت اليمامة، وقتلت مسيلمة.
وظلت سجاح في بني تغلب تعيش مغمورة بين أهلها، ثم دخلت في الإسلام عندما انتهى رأي أسرتها إلى الاستقرار في البصرة التي غدت المركز الأول لبني تميم في عهد بني أمية، وعاشت مسلمة، وماتت في سنة "55هـ/ 675م"6.
قد يبدو للوهلة الأولى أن سجاح كانت مدفوعة بحميتها الدينية لمحاربة المسلمين،
1 الطبري: ج3 ص115، 270، 271.
2 النباج: موضع بين البصرة ومكة، الحموي: ج5 ص255، 256.
3 الطبري: ج3 ص271.
4 المصدر نفسه: ص273- 275.
5 البلخي: ج2 ص198.
6 الطبري: ج3 ص275.
فهي بحكم عقيدتها النصرانية نقمت على محمد وأتباعه، أو للتبشير بدين جديد على أثر انتشار ظاهر التنبؤ في الجزيرة العربية، لكن هذين الدافعين كانا غطاء لدافع سياسي بعد الدافع الرئيسي لحركتها، فقد كان بنو يربوع أقرب بطون تميم إلى نفوذ الفرس، يعزز ذلك أنها اجتمعت أثناء رحلتها بعملاء لفارس من أبناء البوادي العراقية، والنجدية1، كما كان مسرح عملياتها المناطق التي كانت فارس تحرص على تجديد نفوذها القديم فيها، وعليه تكون مهمة هذه المتنبئة قد توضحت على هذه الصورة، فقد قضت وقعة ذي قار2 على هيبة فارس في الجزيرة العربية، وساء ظن الأكاسرة حكام فارس، بالمناذرة ملوك الحيرة الذين كانوا صنائعهم، ويعتدون عليهم في إخضاع القبائل العربية القريبة والبعيدة، وتأمين تجارتهم إلى اليمن، فنكلوا بهم، وقضوا على دولتهم قبيل ذلك بقليل، فأرسلوا امرأة تغلبية لتخلف المناذرة في هذه المهمة القديمة، فانحدرت مدفوعة من الفرس، وعمالهم في العراق كي تؤجج الثورة في الجزيرة العربية على الحكم الإسلامي المتنامي، وتمهد الطريق لفارس لاستعادة ما كان لها من نفوذ، وسلطان في كثير من أرجائها، وقد يرجح ذلك أنها كانت الامرأة الوحيدة التي أدعت النبوة، وأنها لم تمكث في الجزيرة العربية إلا بقدر ما تشجع الانتقاض على الحكم الإسلامي، ثم عادت إلى العراق بعد أن تأكدت من تهيؤ القبائل للثورة على هذا الحكم، وكان طبيعيًا أن تنزل في بادئ الأمر بين قومها بني تميم، وقد اختارت أن تتعاون مع بني تغلب؛ لأن هؤلاء أعداء بني بكر الذين خاضوا معركة ذي قار ضد الفرس، وانتصروا عليهم، وكان تردد بني تميم وانقسامهم، في التعامل الجدي معها، بالإضافة إلى بني حنيفة، مرده إلى صداقتهم للمناذرة منذ زمن قديم، وحتى يتجنبوا غضب فارس، كانت الطريقة الفضلى في صرفها راضية، وإقناعها بأن الثورة على الإسلام حاصلة، ولم يتحقق أكثر من ذلك عن رسالتها وسيرتها3.
ذو التاج لقيط:
ذو التاج لقيط بن مالك الأزدي، أدعى النبوة وغلب على أهل عمان4، وطرد منها عمال الخليفة أبي بكر، كان الغالب على عمان، الأزد فلما كانت سنة "8هـ/ 629م".
1 العقاد، عباس محمود: عبقرية خالد، ص77.
2 ذي قار: اسم مجرى من الماء في منازل بكر بن وائل بين واسط والكوفة، وقد نسب إليه يوم من أيام العرب وقع بين هذه القبيلة والفرس، وكانت الغلبة فيه لبكر، وهو بعد من أشهر أيام العرب وأمجدها، انظر دائرة المعارف الإسلامية ج9 ص398.
3 العقاد: ص77.
4 عمان: اسم كورة عربية على ساحل بحر اليمن، الهند، الحموي: ج4 ص150.
بعث النبي أبا زيد الأنصاري، وعمرو بن العاص إلى عبيد، وجيفر بمن بني جلندي حكام عمان، ومعهما كتاب يدعوهما فيه إلى الإسلام، وقال:"إن أجاب القوم إلى شهادة الحق، وأطاعوا الله ورسوله، فعمرو الأمير، وأبو زيد على الصلاة"، فأسلم عبيد وجيفر، ودخل أهل عمان في الإسلام، ولم يزل عمرو وأبو زيد في عمان حتى توفي رسول الله، فارتدت الأزد عليها لقيط بن مالك ذو التاج، وانحازت إلى دبا1، والتجأ عبيد وجيفر إلى الجبال والبحر هربًا منه، وكاتبًا أبا بكر الصديق بخبر ما حدث2.
كانت عمان في عصر الرسالة تابعة لفارس، فهي بحكم موقعها الجغرافي في الجزء الجنوبي الشرقي من جزيرة العرب، أقرب إلى فارس منها إلى المناطق الشمالية الغربية في الجزيرة العربية التي يفصلها عن الربع الخالي، وكانت فارس حريصة على إخضاع القبائل الضاربة في شرقي الجزيرة العربية على الخليج العربي؛ لتتحكم بهذه الخليج وبمداخله الجنوبي، مضيق عمان "هرمز"، ومن جهتها اعتمدت هذه القبائل على فارس، فكان طبيعيًا أن تعادي الدعوة الإسلامية، وكما دفع الفرس بسجاح لإثارة المشكلات في وجه الدعوة الإسلامية، ومحاربة المسلمين، فادعت النوبة لتستقطب القبائل، كذلك دفع هؤلاء ذا التاج لقيط بن مالك الأزذي، فادعى النبوي، وحمل قومه على الإيمان به، وحارب المسلمين.
1 دبا: سوق من أسواق العرب بعمان، المصدر نفسه: ج2 ص435.
2 البلاذري: ص87.