الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القضاء:
تطور القضاء حتى عهد عمر:
للقضاء في اللغة عدة معان، لكن أهل اللغة متفقون بأن كلمة قضى تأتي بمعنى حكم، والقضاء هو الحكم1، أما المعنى الاصطلاحي، فهو "إظهار لحكم الله تعالى وإخبار عنه"، وهو أيضًا "إلزام من له الإلزام بحكم الشرع"، وهو "الحكم بين الناس بالحق، والحكم بما أنزل الله عز وجل"2.
ارتبط القضاء بالحاكم الأعلى للدولة، أو نائبة في الولايات في عصر الرسالة، وفي عهد أبي بكر، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول قاض في الإسلام، فكان يحكم بين الناس بما أنزل الله إليه، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، ما داموا يعيشون ضمن إطار الدولة الإسلامية، وما جاءه من أمر ليس فيه حكم واضح يشاور فيه ويجتهد، أما خارج المدينة، فإن الأمر كان يختلف، فالقبائل القريبة من المدينة كانت تتبع المدينة مباشرة، فيأتي المتقاضون إليها ليقضي النبي بينهم، وإن كان الأمر يقتضي الذهاب إلى مكان حصول الخلاف، فيبعث النبي أحد أصحابه نيابة عنه ليستكمل التحقيق في القضية، وأما المناطق البعيدة عن المدينة، فقد كان الأمراء الذين يعينهم النبي يقومون بأمر القضاء، واشتهر علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل كولاة يتولون القضاء في عهد النبي.
وكان عهد أبي بكر شبيهًا بعهد النبي من حيث وضع القضاء والقضاة، وبخاصة في الأمصار البعيدة، فالوالي هو القاضي، أما في المدينة فقد ابتكر أسلوبًا جديدًا حين أسند مهمة القضاء إلى عمر بن الخطاب، فيما يمكن أن نطلق عليه "فصل القضاء جزئيًا"؛ لأن أبا بكر كان يقضي بنفسه، ولم يترك القضاء بالكلية، كما أنه لم ير حاجة لفصل القضاء عن الولاية في الولايات الأخرى خارج المدينة.
1 ابن منظور: ج15 ص186-189.
2 القريشي: ج1 ص86-88.
القضاء في عهد عمر:
تمهيد:
كانت اختصاصات العمال في ولاياتهم ما يليه عمر في المدينة، فيجمعون بين القضاء والتنفيذ، وإمارة الجند، على أن الخليفة ألفى نفسه بعد قليل من ولايته قد شغلته شئون الدولة العامة، وسياستها العليان وكانت أنباء جنده في العراق، وبلاد الشام تستغرق منه الكثير من الوقت والجهد، كما كانت تصرفات عماله موضع عنايته
وتفكيره، وازدادت مصالح الناس في المدينة تعقيدًا، وتشابكًا بازدياد عدد سكانها، وكثرة المال الذي يرد عليها، وكان تقدم الفتوح وما تقتضيه من تنظيم لشئون البلاد المفتوحة، يدعوه إلى أن يكتب إلى أمراء جنده بآرائه في هذا التنظيم، لذلك كان لا بد من أن يولي أعوانًا له يقضون مصالح الأفراد، فيما لا تتأثر به مصلحة الدولة.
وكان أول ما فعله أن فصل القضاء عن الولاية، فجعل بجانب الوالي قاضيًا ينظر في أمور القضاء لا عمل له غيره، وقد يجمع لبعض القضاة التعليم، أو القيام بشئون بيت المال إلى جانب عمل القضاء، وقد نفذ هذه الخطة في الولايات الجديدة التي فتحت في عهده، في العراق، وبلاد الشام ومصر، ولعل سبب ذلك ما تمتاز به تلك الأمصار من كثافة السكان من أهل تلك البلدان، بالإضافة إلى المسلمين الفاتحين، وما ينتج عن ذلك من كثرة القضايا والمشكلات، وثقل القيام بأعباء الولاية على الوالي، لكن عمل عمر لم يكن فصلًا كاملًا للقضاء عن سلطة الخليفة، ونوابه في الولايات بحيث أضحى القضاء سلطة مستقلة، وإنما كان علمه بداية لذلك، وكان هو الذي يعين القضاة، ويعزلهم ويحاكمهم، ويكتب لنوابه باختيار الصالحين للقضاء فيولوهم، ويكتب لقضاته بالتعليمات والآداب1.
أشهر قضاة عمر:
لعل أبرز من اشتهر في أيامه من القضاة: زيد بن ثابت الأنصاري، زيد بن سعيد بن ثمامة المعروف بابن أخت النمر، علي بن أبي طالب، لكن لم يعينه قاضيًا متفرغًا، وإنما كان يكلفه النظر ببعض القضايا، ويستشيره في الأمور الهامة، فإنه كان لا يستغني عنه، ولذلك لم يوله قيادة ولا إمارة بعيدة، عامر بن مالك بن قيس المعروف بأبي الدرداء، وقد ولاه القضاء في المدينة، إياس بن صبيح بن محرش الحنفي المعروف بأبي مريم، أول قاض على البصرة، كعب بن سور الكندي من أشهر ولاة الكوفة، عبد الله بن مسعود أحد قضاة الكوفة المشهورين، عبادة بن الصامت في بلاد الشام، ويذكر بأن التاريخ لم يحفظ لنا أسماء قضاة مشهورين في عهد عمر في بلاد الشام، أما في مصر فقد كلف عامله عمرو بن العاص باختيار القضاة، نذكر من بين قضاة مصر قيس بن أبي العاص السهمي، وكعب بن يسار بن ضبة العبسي.
حكم هؤلاء القضاء مستقلين برأيهم في حدود كتاب الله وسنة نبيه، وتعد توليتهم أول خطوة في تنظيم، وفصل السلطات بعضها عن بعض، على أنها كانت خطوة أدت إليها الحاجة، وقضت بها ضرورات التطور في أوضاع الدولة.
1 القريشي: ج2 ص575.
تعاليم عمر في نظام القضاء:
كان عمر يختبر قضائه قبل أن يوليهم مهمة القضاء، ويحدد لهم النهج الذي يسيرون عليه، وذلك بما أرساه من تعاليم في نظام القضاء، وآداب القضاة، ولا تزال كتبه، وأقواله تشهد بسعة علمه في القضاء، وأصوله، وأحكامه، وأهم ما كتبه في ذلك كتابه الشهير إلى أبي موسى الأشعري حين ولاه القضاء، الذي يعد قطعة من أدب القضاة لا تزال خالدة، وقد اهتم به العلماء اهتمامًا عظيمًا بالشرح، فهو يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، سلام عليك! أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فأفهم إذا أدلي إليك، وأنفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. وآس بين الناس في وجهك، وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف في عدلك، البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس، فراجعت اليوم فيه عقلك، وهديت فيه إلى رشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم أعرف نفسك الأشباه والأمثال، وقس الأمور عند ذلك بنظائرها، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق، واجعل لمن أدعى حقًا غائبًا، أو بينة أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينه أخذت له بحقه، وإلا وجهت القضاء عليه؛ فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى، المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودًا في حد، أو مجربًا عليه شهادة زور، أو طنينًا في ولاء أو نسب؛ فإن الله سبحانه تولى منكم السرائر ودرأ بالبينات والإيمان، وإياكم والقلق، والضجر والتأذي بالخصوم، والتنكير عند الخصومات؛ فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر، ويحسن به الذكر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شأنه الله، فما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه، وخزائن رحمته! والسلام1.
إن قراءة متأنية لمضمون الكتاب توضح لنا أهم المبادئ القضائية التالية2:
- على القاضي أن يعلم أن ما يحكم به نوعان: أحدهما فرض محكم غير منسوخ،
1 انظر النص عند: الماوردي ص91، سنن الدارقطني: ج4 ص206، 207.
2 القريشي: ج2 ص630، 631.
مثل الأحكام الكلية التي أحكمها الله في كتابه، والآخر أحكام سنها النبي.
- إن صحة الفهم والفقه في القضية من أهم ما يساعد على القضاء.
- لا يكفي أن ينطق القاضي بالحكم العادل، بل عليه أن ينفذه، وذلك بإعلان الحكم والإلزام، به، ثم أخذ الحق لصاحبه إذا رفض المدعى عليه تسليمه.
- المساواة بين الخصوم في المجلس، وفي نظر القاضي وفي القضاء، فإذا اختل أحدها تسرب الطمع إلى القوى بحيف القاضي، واليأس إلى الضعيف من العدل.
- على القاضي أن يسمع الدعوى، والرد من المدعى عليه، ثم يطلب من المدعي البينة على دعوه، وعند فقدان البينة عليه أن يحلف اليمين.
- إذا رأى القاضي محاولة الصلح بين الخصوم، فذلك جائز على أن يتوافق مع الكتاب والسنة، أما الصلح الذي يحل الحرام ويحرم الحلال، فغير جائز.
- من ادعى حقًا غائبًا، وكانت له بينة ولكنها غائبة، فيؤجل وقتًا كافيًا لإحضار بينته ما لم يكن متهربًا من الحق، وإذا أحضر البينة في حدود الأجل المضروب أعطي حقه؛ لأنه قد أظهر حقه ببينته، وإن عجز المدعي عن إحضار البينة التي زعمها في الأجل المحدد له، فلا حق له في دعواه، هذا ما لم يكن قد حصل له عذر منعه من إحضار بينته، فإن اتبع القاضي هذه الطرق في سماع الدعوى والبينة، وأجل ما يستحق التأجيل يكون قد أبلغ في العذر، وجلى العمى في القضية، فلا يبقى إشكال، ولا عذر لمعتذر.
- إذا قضى القاضي في قضية، ونفذ الحكم فيها فلا رجوع فيما قضى فيه، وإذا قضى في قضية وجاءته بعدها قضية مماثلة فبان له أنه أخطأ في القضاء في الأولى، وبان له الحق، فإنه يقضي بما ظهر له، ولا يتابع الخطأ، فيقضي كما قضى بالأمس، وهذا لا يعني الرجوع عن القضاء في القضية الأولى.
- الحق أقدم من اجتهاد القاضي فيه، فإنه قضى عليه ثم ظهر، فعليه الرجوع، واجتهاده الخاطئ لا يبطل الحق.
- الأصل في جميع المسلمين العدالة، ما لم يثبت ما يخدش تلك العدالة.
- الأخذ بما ورد في الكتاب أو السنة، وتحري الحق على ضوئهما، وذلك في القضايا التي فيها حكم ظاهر، أما القضايا التي ترد على القاضي، وليس فيها حكم ظاهر في الكتاب أو السنة، فإنها تحتاج إلى فهم وعلم ونظر دقيق، ثم إن العمل في مثل هذه القضايا النظر في أشباهها من القضايا القريبة منها التي لها مستند من الدليل، فينظر القاضي ويحمل الجديد على أقرب، وأشبه قضية بها، ولا يكون ذلك إلا بعد
النظر الموصل إلى قناعته بأن ما توصل إليه أحب الطرق إلى الله، فيما يعلم القاضي.
- لا بد أن يبتعد القاضي عما يثير غضبه وقلقه، وضجره أثناء القضاء، ولا ينبغي له أن يضيق بالناس وقت الخصومة، ويتنكر للخصوم عند ذلك، ثم إن الصبر على القضاء، والعدل يكسبه الأجر وحسن الذكر.
- إن النية الخالصة في مهنة القضاء التي تؤدي إلى قول الحق، ولو على النفس والأقربين، تحمي القضاء مما يضمره له الناس من عداء، وشر بسبب قول الحق وإظهاره، بكفاية الله.
- إخلاص النية في جميع الأعمال، وتحذير للقضاة بخاصة، وللناس بعامة من التزين بما ليس في النفس من قول أو فضل.
تعيين راتب للقاضي:
من الأمور التي لا يمكن لقاض أن ينهض بعمله دونها الراتب المنتظم الذي يعينه، وعياله على استمرار الحياة، وأن النفقة عليه من بيت مال المسلمين تضمن استمرار مصلحته للأمة، وتفرغه لعمله، إذ لو تعاطى القاضي عملًا آخر ليؤمن رزقه، ورزق عياله لما استطاع أن يقوم بواجب وظيفة القضاء، فلا بد للقاضي إذن من التفرغ من الحاجة، وقد فرض عمر رواتب للقضاة الذين فرغهم للعمل في ميدان القضاء، نذكر منهم زيد بن ثابت، شريح الكندي، سلمان بن ربيعة الباهلي قاضي الكوفة، وعبد الله بن مسعود.
علاقة الخليفة بالمجتمع الإسلامي:
لا يمكن استيعاب الطابع التاريخي للخلافة أثناء الفتوح الأولى إلا من واقع ارتباطها، وعلاقاتها المتبادلة مع الهيكلية الاجتماعية السائدة؛ لأن القيادة السياسية المركزية كانت جزءًا لا يتجزأ من النظام الاجتماعي السائد.
لقد قدم عمر نموذجًا سياسيًا وأخلاقيًا، ربط من خلاله بين القيم الإسلامية المستمدة من القرآن والسنة، وبين حركة النظام الاجتماعي القبلي في مرحلة توسعه، وانتشاره نحو الخارج، من خلال تنظيمه المركزي للغزوات، وتقسيم فيئها، بحيث نشأت مساواة تامة بين وحدة القبائل، ووحدة الدين الجديد واستقرار الفتوح1.
رأى عمر في وظيفة إمارة المسلمين على أنها تفويض من الجماعة الإسلامية لا
1 إبراهيم: ص216.
يستقيم حالها إلا برقابة الأمة عليها، لقد وصف مهمته في قوله:"إني حريص على ألا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجز ذلك عنا تآسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف، ولوددت أنكم علمتم من نفسي مثل الذي وقع فيها لكم، ولست معلمكم إلا بالعمل، وإني والله ما أنا بملك فأستعبدكم، وإنما أنا عبد الله عرض علي الأمانة، فإن أبيتها ورددتها عليكم، وأتبعتكم حتى تشبعوا في بيوتكم، وترووا سعدت، وإن أنا حملتها واستتبعتكم إلى بيتي شقيت، ففرحت قليلًا، وحزنت طويلًا، وبقيت لا أقال، ولا أرد فأستعتب"1.
انسجامًا مع هذا الموقف رفض عمر أن يتخذ حاجبًا؛ لأن الحجابة تقيم حاجزًا بينه وبين الناس فينفصل عنهم2، والواقع أن عمر لم يبتغ من الخلافة شيئًا لنفسه، بل كان يعد نفسه الحارس الأمين على مال المسلمين، وأرواحهم وحريتهم ووحدتهم، ويرى أن الخلافة أبوة تلقي على الخليفة، واجبات نحو المسلمين هي واجبات الأب نحو أبنائه، لذلك كان اشد الناس قربًا بالناس والتصاقًا بهم، خطب يومًا في الناس، فقال:"إني امرؤ مسلم وعبد ضعيف، إلا كما أعان الله عز وجل، ولن يغير الذي وليت من خلافتكم من خلقي شيئًا إن شاء الله، إنما العظمة لله عز وجل، وليس للعباد منها شيء، فلا يقولن أحد منكم: إن عمر تغير منذ ولي، أعقل الحق من نفسي وأتقدم، وأبين لكم أمري، فأيما رجل كانت له حاجة، أو ظلم مظلمة، أو عتب علينا في خلق، فليؤذني، فإنما أنا رجل منكم، فعليكم بتقوى الله في سركم وعلانتيكم، وحرماتكم وأعراضكم، وأعطوا الحق من أنفسكم، ولا يحمل بعضكم بعضًا على أن تحاكموا إلي، فإنه ليس بيني وبين أحد من الناس هوادة"3.
لعل أجلي تجسيد لهذه السياسة نجده في تعامل عمر مع عماله على الأمصار. قال يومًا مخاطبًا الناس: "إني والله ما أرسل إليكم عمالًا ليضربوا أبشاكرم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكني أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه منه، فوثب عمرو بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين أرأيتك إن كان رجل من أمراء المسلمين على رعية، فأدب بعض رعيته، إنك لتقصه منه! قال: إي والذي نفس عمر بيده إذًا لأقصنه منه، وكيف لا أقصنه منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه! "4.
وكتب إلى أمراء الأجناد: "ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم
1 الطبري: ج3 ص584.
2 المصدر نفسه: ج4 ص202.
3 المصدر نفسه: ص215.
4 الطبري: ج4 ص204.