الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العوام وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله1.
كان إيمان أبي بكر بالنبي شديدًا، صدقه في صباه، ورافقه عندما هاجر إلى المدينة، فهو المقصود بقوله تعالى:{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوب: 40] .
وعندما استقر النبي في المدينة كان أبو بكر ساعده الأيمن، وقد خصه بمزايا لم يخص أحدًا بها، وقدر له منزلته، وأشاد بذكره كثيرًا:"ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه إلا أبا بكر، فإن له عندنا يدًا يكافئه الله عز وجل بها يوم القيامة"2، "ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له فيه كبوة، غير أبي بكر، فإنه ما عكم"3.
روى أبو بكر مائة واثنين وأربعين حديثًا عن النبي، معظمها في حق الأنصار. وعندما قال النبي في آخر خطبة له:"إن عبدًا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار الله"، فهمها أبو بكر وعلم أن النبي إنما يريد نفسه، وأن وفاته قد حانت؟ بكى وقال:"نفديك بأنفسنا وأبنائنا"، فقال:"على رسلك يا أبا بكر، انظروا هذه الأبواب الشوارع اللافظة في المسجد، فسدوها، إلا ما كان من بيت أبي بكر، فإني لا أعلم أحدًا كان أفضل عندي في الصحبة يدًا منه"، وفي رواية أنه قال:"إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن إخوة الإسلام؛ لا تبقى خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر"4.
1 ابن هشام: ج1: ص288، 289، ج2 ص67، 68.
2 فنسك: المعجم المفهرس لألفاظ الحديث ج7 ص354.
3 عكم: تردد.
4 الطبري: ج3 ص190، 191.
اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة
1
دوافع الاجتماع:
توفي النبي محمد صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الاثنين "في 12 ربيع الأول 11هـ/ 7 حزيران 632م" في المدينة2، وأحدثت وفاته صدمة عنيفة، فاجأت المسلمين عامة، وخلقت
1 سقيفة بني ساعدة في المدينة، وهي ظلة كانوا يجلسون تحتها، وأما بنو ساعدة الذين نسبت إليهم السقيفة، فهم حي من الأنصار، وهو بو ساعدة بن كعب بن الخزرج، الحموي، ياقوت: معجم البلدان ج3 ص228، 229.
2 الطبري: ج3 ص200.
وضعية خاصة ذات ملامح منفردة ومصيرية، وبرزت فورًا مسألة الحفاظ على أنجازاته من دين ودولة، وبالتالي مسألة خلافته.
وساهمت غيبته في إبراز الطابع الدنيوي لأحداث، حيث أخذت المصالح الاجتماعية للقبائل المختلفة، التي ما زالت ضمن الحظيرة الإسلامية، تعبر عن نفسها بأشكال مباشرة، وصريحة تتلاءم مباشرة مع محتواها.
والواضح أن مسألة قيادة المسلمين بعد وفاة النبي، كانت المسألة الرئيسية والحماسة التي ارتبطت بها كل المسائل الأخرى على أن تتلازم مع الأسس التي وضعها لإقامة دولة، ولا يستطيع المؤرخ لتاريخ صدر الإسلام السياسي، والاجتماعي أن يتجاهل التناقضات، والصراعات التي تفجرت بعد وفاته.
ففي الوقت الذي أعلن فيه خبر الوفاة، برزت لدى كبار الصحابة من الأنصار، الأوس والخزرج، قضية اختيار خليفة للنبي، ذلك أنه لم يرد في القرآن الكريم نص صريح يحدد أسس انتخاب خليفة لرسول الله، لكنه دعا إلى الشورى، يقول الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ، وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 37، 38]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] .
الواضح أن كلمة الشورى قرآنية كما يتضح من الآيتين السالفتين، أما الأولى، فتحدد للأمة الإسلامية خصائص من بينها أن "أمرهم شورى بينهم"، وأما الثانية، فقد نزلت بعد هزية أحد، ومن المعروف أن النبي شاور أصحابه قبل الخروج إلى أحد، وهي التي أدت إلى هذا الخروج للقاء المشركين في ميدان مكشون، وكان رأي النبي التحصن بالمدينة، وعدم الخروج.
وهكذا فإن القرآن الكريم يطلب من النبي استشارة الأمة في الأمر حتى تنتفي الشبهة تمامًا في المسألة، وهذا الأمر هو لفظ عام للأفعال، والأقوال والأحوال، ومن ضمنها مسائل الحرب التي أدت الآراء المختلفة فيها إلى الهزيمة1.
وتنفيذًا لهذا التوجه، لم يضع النبي تفاصيل خارجة عن إطار هذه المعاني القرآنية العامة، وبقيت سياسته منسجمة مع الهيكلية القبلية، ولم تمس نهائيًا زعاماتها
1 السيد، رضوان: السلطة في الإسلام، دراسة في نشوء الخلافة، بحيث في كتاب: بلاد الشام في صدر الإسلام ص407، 408، المؤتمر الدولي الرابع لتاريخ بلاد الشام 1987.
ورئاستها القائمة، بالإضافة إلى ذلك، فإن لم يتصرف كسياسي باسم قريش، أو باسم قبيلة ما، بل اكتفى في عمله السياسي بشخصه وحده، وكانت هيبته الدنيوية لا تنفصل عن سلطانه النبوي الروحي، فهو لم يقم بجمع القبائل من حوله كشريف قريشي، وإنما كنبي ورسول فحسب، وقبيلته قريش كانت آخر من يمكن أن يدعي أنها قد ساهمت مساهمة جدية في مساعدته ونصرته.
وكأن النبي أراد بذلك أن يترك الأمر شورى بين المسلمين ليختاروا من يصلح لخلافته من بينهم جريًا على عادة النظام القبلي الذي ألفه العرب، وبخاصة أنه لم يكن له ولد ذكر يستخلفه من بعده.
لا يمكن لهذه الإشكالية، أن تجد حلًا معقولًا، ومقبولًا إلا على أرضية النظام القبلي السائد، وإن المؤرخ لهذه الحقبة، لا بد أن يرى جملة من التناقضات والصراعات التي تفجرت بعد وفاة النبي على أنها جزء لا يتجزأ من تركيبة الأمة نفسها1، وهو ما يفسر لنا تسابق القبائل، والبطون على أن يكون الأمر لها دون غيرها، وتجلت النفس العربية والطبيعة القبلية إذ ذاك، فالنصار يخافون قريشًا والمهارجون إن استأثروا بالأمر دونهم، وهم جميعًا فيما بينهم يتوجسون، وتخشى كل من الأوس والخزرج صاحبتها، ولم يكن الوضع في مكة بأقل منه في المدينة، فقد دب التنافس في هذا الأمر بين بطون قريش، فسعى أبو سفيان بن حرب في إيغار صدر علي على أبي بكر، ونعت عليًا والعباس بـ"الأذلين المستضعفين"2.
ومن جهة أخرى، تضمنت روايات المصادر نية النبي، وهو على فراش الموت، كتابة وصية للمسلمين لن يضلوا بعدها، غير أنه حصل لغط، واختلاف بين الحاضرين، فمن قال:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجه، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله"، وعلى رأس هؤلاء عمر بن الخطاب، ومن قائل:"قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم"، الأمر الذي ضايق النبي، فقال لهم:"قوموا عني، ما ينبغي أن يكون بين يدي النبي خلاف"، فقال عندئذ، ابن عباس:"الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم"3.
ولعل النبي قد تأثر برأي عمر أكثر مما تأثر برأي غيره نظرًا لصدقه، وإخلاصه وصراحته في رأيه.
1 إبراهيم، أيمن: الإسلام والسلطان والملك ص115.
2 الطبري: ج3 ص209.
3 ابن سعد: ج2 ص242.
توضحت إذن الخطورة التاريخية لمسألة الخلافة على مصير الأمة الإسلامية السياسي بعد وفاة النبي، وكانت مفتوحة وموضع أخذ ورد، ومثار جدل بين قوى مختلفة، وتذكر المصادر أن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة للتباحث فيمن يتولى الأمر بعد وفاة النبي، لكنها لم تذكر من الذي دعا إلى هذا الاجتماع، ولا كيف تمت الدعوة، وإنما روت حصول الاجتماع في السقيفة.
ويبدو أن الدعوة للاجتماع تمت على عجل دون إعلام المهاجرين، وكأن الهدف أخذهم على حين غرة، وخلق واقعة سياسية، أو أن بعض الأنصار تذاكروا في أمر من يخلف النبي خلال مرضه، وأنهم توقعوا وفاته، فلما حصلت الوفاة دعوا إلى هذا الاجتماع فاجتمعوا.
يقول الطبري: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: نولي هذا الأمر بعد محمد صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة"1، والراجح أن تغلب الخزرج على الأوس هو الذي دفع الخزرج إلى ترشيح رئيسهم سعد بن عبادة، والجدير بالذكر أن سيد الأوس سعد بن معاذ كان قد توفي قبل ذلك، ويبدو أن الأوس لم يكونوا راضين في قراره أنفسهم عن تولية سيد الخزرج، ولا ندري أكانوا جميعًا حاضرين في اجتماع السقيفة، أنهم كانوا يراقبون الموقف من بعيد، وينتظرون تطوراته.
والراجح أن الأنصار كانوا مدفوعين بعدة عوامل للاجتماع على عجل لعل أهمها:
- شعورهم بأنهم بحاجة ماسة إلى اختيار خليفة يتولى شئون المدينة، وأمر المسلمين، فمدينتهم مهددة بعد وفاة النبي من الإعراب، ورجال القبائل بوصفها العاصمة الإسلامية، كما أن كثيرًا من الإعراب، ومعظم رجال القبائل لم يؤمنوا، وإنما أسلموا بلسانهم خوفًا من قوة المسلمين المتنامية.
- إدراكهم بأنهم مهددون قبل غيرهم من أولئك؛ لأنهم كانوا السند لرسول الله، وهم الذين ناصروه، واستطاعوا مع المهاجرين أن يضعوا نواة الدولة الإسلامية الأولى، التي تمكنت من إخضاعهم، والسيطرة على ديارهم2.
- رأوا أنهم أصحاب المدينة، وأصحاب الغلبة والنفوذ فيها، وأنهم ما زالوا أصحاب الضرع والزرع، وأن الحكم حق لهم دون غيرهم، ويرغبون في التصرف
1 تاريخ الرسل والملوك: ج3 ص201- 218.
2 شاكر، محمود: تاريخ الإسلام ج3 ص49.
كأسياد واسترداد سيادتهم التي تنازلوا عنها للنبي في حياته، ولا يجوز لغيرهم أن يحكمهم في بلدهم، بدليل أن الحباب بنا لمنذر الأنصاري طلب من الأنصار، في إحدى مراحل النقاش مع أبي بكر، وأصحابه من المهاجرين، بإجلاء هؤلاء عن أرضهم إذا لم يصغوا لما يقول1.
- أحقيتهم بالخلافة من المهاجرين نظرًا لسابقتهم في الإسلام، ونصرتهم لرسول الله وأصحابه، وإيوائهم له، وإليهم كانت الهجرة2، وما نتج عن ذلك من فضائل لم تتوفر لية قبيلة عربية، وعززوا موقفهم بالإشارة إلى أن النبي استمر مدة طويلة يدعو قومه إلى الدين الجديد، ولم يؤمن به منهم إلا عدد ضئيل لم يكونوا قادرين على الدفاع عنه أو تعزيزه، وهذا ما اختص به الأنصار، فبقوتهم دانت العرب للإسلام، وهو ما دفع سعد بن عبادة إلى أن يخاطبهم بقوله:"استبدوا بهذا الأمر، فإنه لكم دون الناس"3.
- أرادوا تحاشي هيمنة قريش الظاهرة منذ فتح مكة، والتي ارتضوها احترامًا للنبي، وخشوا إن انتخب مرشح قرشي من المهاجرين، أن يستبد بالأمر، فيقعوا تحت سيطرة قريش التي حاربوها ثماني سنوات، مما يهدد باختلال التوازن لغير مصلحتهم في المرحلة القادمة.
والواضح أن هذه الهواجس لم تكن غائبة عن تفكيرهم منذ فتح مكة حيث كانت الراية معقودة لسعد بن عبادة، وقد بلغت به الحماسة، فقال:"اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة"4، فعد النبي هذا القول على أنه موجه ضد قريش، فأخذ الراية منه وأعطاها لقرشي مهاجر هو علي بن أبي طالب5، كما استثناهم النبي من العطاء في أعقاب غزوة الطائف6، مما أثار قلقهم، وقد أدرك النبي هذا الشعور لديهم بعد أن كثرت القالة منهم، فبدده قائلًا:"ألا ترضون يا معشر الأنصار أن تذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا، لسلكت شعب الأنصار" 7، كما أوصى المهارجين بهم في مرضه الأخير حين
1 ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم: الإمامة والسياسة ج1، ص12، الطبري: ج3 ص218- 220.
2 المصدران نفساهما.
3 الطبري: ج3 ص218.
4 ابن هشام: ج4 ص91.
5 المصدر نفسه.
6 المصدر نفسه: ص156.
7 المصدر نفسه: ص156، 157.
قال: "يا معشر المهاجرين استوصوا بالأنصار خيرًا، فإن الناس يزيدون والآنصار على هيئتها لا تزيد، وإنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها، فأحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم"1.
وتدل فكرة الانتخاب على:
- وجود نهج سياسي محصور بالنخبة.
- وإن الوظيفة النبوية كانت تفهم كوظيفة قيادية تستلزم خلفًا2.
موقف الأنصار خلائل المناقشة مع المهاجرين:
مما لا شك فيه أن الروايات التاريخية الكثيرة التي حفظتها لنا المصادر حول ما دار في اجتماع السقيفة، يشوبها الكثير من التضارب، ومع ذلك فهي تشترك في نقاط جوهرية تشكل أرضية صالحة ينظر إليها على أنها ذات محتوى تاريخي يستند إليه في التاريخ لهذه الحقبة، حيث كانت مسألة خلافة النبي مسار جدل اتسم بالحدة أحيانًا، وقد تولى كل من سعد بن عبادة، والحباب بن المنذر، التكلم باسم الأنصار عامة، وقد افتتح الأول المناقشة بخطبة تشير إلى أن الأنصار أعطوا لأنفسهم الحق بالتفرد في تقرير مصير خلافة النبي مع ما لهذه القضية من أهمية وخطورة، دون الوقوف على رأي الطرف الآخر الذي يشكل شطر المجتمع الإسلامي في المدينة، وهم المهاجرون، وقد عللوا موقفهم هذا بأسباب موجبة لا تخرج عن موقفهم المشرف من الدين وصاحبه، ونصرتهم له، وخذلان أكثر العرب له، وعجز المهاجرين عن حمايته، وحماية أنفسهم حتى اضطروا إلى الهجرة إلى مدينة الأنصار، فكان بعد ذلك النصر المؤزر، مما أوضحناه في دوافع الاجتماع3.
ولا شك بأن هذا التصرف هو سلوك انفصالي لا يأخذ بالحسبان مجموع الأمة، ثم إن رئاسة الدولة إنما هو أمر ديني، وسياسي معًا.
ويبدو أن بعض الأنصار أدركوا بعد ذلك، حقيقة وضعهم في أنهم ليسوا وحدهم أصحاب الحق في تقرير أمر الخلافة، وأن لهم منافسًا قويًا سوف يزاحمهم، إنهم المهاجرون، يدل على ذلك، رد الفعل الأولي عند هؤلاء على خطاب سعد بن عبادة، فبعد أن دعموا رأيه، وأيدوا موقفه، استدركوا الواقع التاريخي الذي يعيشون فيه، ورأوا أن المهاجرين لن يسلموا بهذا الأمر، ولا بد أن يعارضوه، وجرت بينهم
1 ابن هشام: ج4: ص257.
2 جعيط، هشام: الفتنة ص34.
3 انظر نص الخطبة في الطبري: ج3 ص218.
مناقشة هادئة انتهت إلى القول بالثنائية في الحكم "منا أمير ومنكم أمير"1.
كان الحباب بن المنذر صاحب هذه النظرية، وجاءت كجواب على الرفض القاطع للمهاجرين في تفرد الأنصار بالإمارة دون سواهم، معللًا رأي هؤلاء بقوله:"منا أمير ومنكم أمير، فإنا والله ما ننفس هذا الأمر عليكم أيها الرهط، ولكنا نخاف أن يليه أقوام قتلنا آباءهم وإخوانهم"2.
حاول الجاحظ أن يشرح موقف الأنصار، وسلوكهم في اجتماع السقيفة وبخاصة في ما يتعلق برأيهم في ازدواجية الإمارة، وهو يفهم كلام الأنصار:"منا أمير ومنكم أمير"، كما لو أنهم أرادوا أن يقولوا:"لا بد لنا معشر الأنصار من أمير على أي حال، وأنتم بعد أعلم بشأنكم، فأقروا عليكم من بدا لكم، وليس في هذا طعن على خاصة أبي بكر، كما أنه ليس فيه تأكيد لإمامته دون غيره"3.
موقف المهاجرين:
كان المهاجرون آنذاك أكثر بعدًا عن هذا المناخ السياسي، بعضهم قد شغل بوفاة النبي وجهازه، ودفنه، وبعضهم ما تزال الصدمة تملأ نفسه، وبعضهم لم يفكر في اختيار خليفة، معتقدًا أن هذا الأمر هو آخر ما يقع الاختلاف فيه، وهم على يقين أن ما من طائفة من المسلمين سوف تنازعهم في هذا الأمر4.
ولما بلغ خبر اجتماع السقيفة أبا بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، مضيًا إلى هناك مسرعين، بفعل أهمية وخطر الموضوع المطروح من مشكلة الحكم، والتقيا في طريقهما أبا عبيدة بن الجراح فأخذاه معهما، وشكل هذا الثلاثي جماعة متماسكة، ربما منذ المرحلة المكية من الدعوة، فهم ينتمون إلى عشائر قرشية صغيرة، وكان هذا سببًا لتقاربهم، وقد واجهوا خصوصية متفردة لم تكن قادرة على خلافة النبي في عمله التوحيدي.
وشق أبو بكر طريقه إلى صدر الاجتماع، وألقى خطبة في المجتمعين بين فيها وجهة نظر المهاجرين عامة من قضية اختيار خليفة لرسول الله5، وهي تختلف في مضمونها عن خطبة سعد بن عبادة.
1 الطبري: ج3 ص318.
2 البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر: أنساب الأشراف ج2 ص260.
3 الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر: العثمانية ص177.
4 شاكر: ج3 ص51.
5 انظر نص الخطبة عند الطبري: ج3 ص219، 220.
لقد فضل أبو بكر وحدة الأمة التي أسسها النبي، والسابقة في الجهاد من أجل الإسلام، وحدد الأولوية بالأقدمية في حياة الإسلام، وبالعذاب في سبيل العقيدة والإيمان، وقدم قاعدة الصحبة كمعيار لاختيار الأفضل، ثم أشاد بمزايا الأنصار، ولم يغمطهم حقهم من التكريم، إلا أن ذلك يأتي في المرتبة الثانية.
وتضمنت الخطبة الأسباب الموجبة ليكون المراء من المهاجرين محصورة في أنهم أول من عبد الله في الأرض، وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، لا ينازعهم في ذلك إلا ظالم.
ويبدو أنها رد على مقالة سعد بن عبادة التي قالها في الأنصار قبل حضور المهارجين، وكررها الحباب بن المنذر، وهي صفة جعلت كثيرًا من المسلمين يتراجعون عن المطالبة بالحكم خشية من أن يكون ظالمًا لا سيما أن توقيت إثارة هذه المطالب لم يكن مناسبًا؛ لأن الوضع كان مفعمًا بالحزن، والألم نتيجة وفاة النبي، ولكن هناك صراعًا خفيًا يكاد يعصف بالأمة الإسلامية يتمثل في اعتقاد أهل النبي، وعشيرته بأحقيتهم بهذا الأمر1.
وهكذا كانت السابقة في جانب المهاجرين من زاوية إسلامية محض، وكان التفوق في جانبهم أيضا من وجهة نظر عربية محض؛ لأنهم ينتمون إلى قبيلة قريش، قبيلة النبي، وبالتالي فإن الوراثة في جانبهم2.
إذن لا انقسام للسلطة، بل وحدة الأمة، وتفوق قريش، وأولوية المهاجرين، ومواصلة العمل النبوي.
وحتى انتهاء أبي بكر من إلقاء كلمته التي وجهها إلى الأنصار، لم يكن المهاجرون قد استقروا على تحديد الشخص الذي سيتولى هذا الأمر، ويدل ذلك على أن اهتمامهم كان بالمبدأ، وليس بالأشخاص، على عكس الأنصار الذين كانت رؤيتهم واضحة، وقدموا مرشحهم سعد بن عبادة.
بيعة أبي بكر:
تطورت المواقف المتباينة التي عرضت في اجتماع السقيفة نحو التأزم، ولم تنفرج إلا بعد أن أيد بشير بن سعد الأنصاري أبو النعمان بن بشير، وهو من الخزرج، موقف المهاجرين3، ويبدو أنه استاء من تولية سعد بن عبادة، ويدل ذلك
1 شنقارو، عواطف العربي: فتنة السلطة ص38.
2 جعيط: ص35.
3 ابن قتيبة: ج1 ص12، 13.
على أن الاعتراضات في اجتماع السقيفة نحت اتجاهًا قبليًا، فقد خشيت الأوس أن يتزعم خزرجي الأمة الإسلامية، وكذلك خشيت الخزرج من أن يترأس أوسي حكم المسلمين، وقد أنهت هذه المفارقة موقف
الأنصار ودورهم، الأمر الذي أدى إلى مبايعة أبي بكر كأمر واقع، أو فلتة1 على حد قول عمر بن الخطاب.
وتحرك أبو بكر في تلك اللحظة مستغلًا تحول الموقف لصالح المهاجرين، فلم ينح لأحد من المتكلمين التعليق على كلام بشير بن سعد، ورأى الفرصة سانحة لإقفال باب المناقشة، فدعا المجتمعين إلى مبايعة عمر بن الخطاب، أو أبي عبيدة بن الجراح، أمين هذه الأمة، ولكن عمر أبى إلا أن يتولاها أبو بكر، أفضل المهاجرين، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة، فطلب منه أن يبسط يده ليبايعه، فسبقه بشير بن سعد، وأسيد بن حضير، ثم أقبل الأوس والخزرج على مبايعته، ووثب بعد ذلك أهل السقيفة يبتدرون البيعة، وكأنهم كانوا يترقبون أن يأخذ أحدهم زمام المبادرة، ولم يبق أحد لم يبايع سوى سعد بن عبادة، وما منعه من ذلك سوى حراجة وضعه كزعيم رشحته الخزرج، وصحة جسمه حيث كان عليلًا، وفي اليوم التالي لهذه البيعة الخاصة، بويع أبو بكر البيعة العامة في المسجد2.
وهكذا تولى المهاجرون السلطة الفعلية في الوقت الذي ابتعد الأنصار عنها كثيرًا دون أن يكون للتسوية التي طرحها أبو بكر في اجتماع السقيفة: "نحن الأمراء وأنتم الوزراء"، أي نصيب من التنفيذ، باستثناء مشاركة تمت لهم في عهد عمر بن الخطاب الذي قرب جماعة منهم على حساب قريش، ومشاركة أكثر فعالية في عهد علي بن أبي طالب الذي اعتمد عليهم في إدراته وحروبه.
جرت هذه الوقائع في الوقت الذي كان فيه علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، ونفر من بني هاشم، وطلحة بن عبيد الله، مشغولين بجهاز النبي، ودفنه، فغابوا عن اجتماع السقيفة، وعليه، لم يكن لعلي رأي مباشر في النقاش إلا أنه بايع أبا بكر، واتفق مع جماعة المسلمين بغض النظر عن المدة التي قضاها بدون بيعة3.
وربما يكون من المفيد استعراض الكيفية التي حدثت بها مبايعة أبي بكر من قبل القرشيين، فقد ذكر ابن قتيبة: "وإن بني هاشم اجتمعت عند بيعة الأنصار، إلى علي بن أبي طالب، ومعهم الزبير بن العوام رضي الله عنه، وكانت أمه صفية بنت عبد
1 فلتة: بغتة وفجأة.
2 الطبري: ج3 ص221، 222.
3 البلاذري: ج2 ص262، 263.
المطلب، وإنما كان يعد نفسه من بني هاشم، واجتمعت بنو أمية إلى عثمان، واجتمعت بنو زهرة إلى سعد وعبد الرحمن بن عوف، فكانوا في المسجد الشريف مجتمعين، فلما أقبل عليهم أبو بكر وأبو عبيدة، وقد بايع الناس أبا بكر قال لهم عمر:"ما لي أراكم مجتمعين حلقًا شتى، قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعته الأنصار، فقام عثمان بن عفان، ومن معه من بني أمية فبايعوه، وقام سعد وعبد الرحمن بن عوف، ومن معهما من بني زهرة فبايعوا"1.
كما غابت عن المنافسة المباشرة في اجتماع السقيفة الفئة "الأرستقراطية"، بزعامة أبي سفيان بن حرب، إلا أنه تبنى المرشح الأوفر حظًا بهدف استمرارية مصالحه على الرغم من أنه حرض عليًا، ودعاه إلى البيعة لنفسه، فزجره علي، غير أن خالد بن سعيد بن العاص، وهو أحد أشراف مكة ووجهًا من وجوه بني أمية، وكان النبي قد أرسله عاملًا على صدقات مذحج، كان له موقف متميز، فبعد أن قدم إلى المدينة، وكانت البيعة قد تمت، توجه إلى علي وعثمان، وخاطبهما قائلًا:"إنما الشعار دون الدثار، أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي أمركم عليكم غيركم؟ فقال علي: "أوغلبة تراها؟ إنما هو أمر الله يضعه حيث يشاء، قال: فلم يحتملها عليه أبو بكر واضطغنها عمر"، وبقي هذا الصحابي ممتنعًا عن بيعة أبي بكر مدة ستة أشهر2.
التعقيب على اجتماع السقيفة:
- يعد اجتماع السقيفة بمثابة مؤتمر سياسي، عالج فيه المسلمون مشكلة لم يكن لهم بمثلها عهد من قبل، ودارت فيه المناقشات وفق الأساليب الحديثة.
- إن حدة الحوار في اجتماع السقيفة، وقسوة العبارات المتبادلة أحيانًا، وروعة العبارات البليغة أحيانًا أخرى، تجعلنا نقف في هذا الاجتماع على حقيقتين:
الأولى: التعرف على الدوافع التي تحرك المتحاورين وتوجههم.
الثانية: حجم الحرية الذي أوصل الحوار إلى هذا المستوى الراقي3.
-لقد تمت بيعة أبي بكر وفقًا للعادات المتعارف عليها في تصنيف، وانتخاب الزعامات القبلية، لكن ضمن إطار الدين4؛ لأن المسلمين افتقدوا في ذلك الوقت، وتلك المرحلة من تطور أوضاعهم السياسية والاجتماعية، إلى أسس تحدد كيفةد
1 الإمامة والسياسة: ج1 ص17.
2 الطبري: ج3 ص388.
3 عبد المجيد، أحمد فؤاد عبد الجواد: البيعة عند مفكري أهل السنة ص38.
4 الدوري، عبد العزيز: مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي ص15، 16.
انتخاب خليفة، ويؤكد الاختلاف القوي بين الصحابة في بداية الاجتماع على أن ما حدث لم يتحقق عن طريق الشورى كما روت المصادر، إذ المعروف أن الشورى في عهد النبي هي التي كانت تتم في المسجد، حيث يجتمع المسلمون بالنبي، ويتناقشون في أمور دينهم، ودنياهم دون تمييز، ويأخذ برأيهم ومشورتهم، وبالتالي كان يسمح بإعطاء الرأي لأكبر عدد منهم، اهتداء بما دعا إليه القرآن الكريم، كمبدأ عام ونهج كلي، وترك التفصيل فيه والتحديد له لاجتهاد الأمة وفق مصالحها المتجدة، وحاجتها المتطورة1.
- إن غيبة النبي وما نجم عنها من فراغ معنوي، خلقت توافقًا تامًا في المحتوى، والشكل في سلوك الجماعات الإسلامية المختلفة، وما كان للرابط الديني أن يطغى في هذه المرحلة، على المعايير الاجتماعية السائدة، وأخلاقياتها، وسلوكها، القائلة على القبلية، لهذا كان السجال في اجتماع السقيفة أقرب إلى السجال
القبلي بين القبائل المسلمة2.
- لم يكن أحد أكثر تعبيرًا عن الواقع القبلي كما كان أبو بكر حين خاطب الأنصار، فبدأ الانقسام بين تجمعين، أو وحدتين قبليتين "أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تدين العرب إلا لهذا الحي من قريش، هو أوسط العرب نسبًا ودارًا"3، ثم إن الاعتراضات التي ظهرت من كلا الفريقين لم تكن شخصية، أو دينية بقدر ما كانت ذات طابع قبلي.
- احتوت الخلافة في طورها الأول، على الأقل، على مبدأين:
الأول: الفضل والمنزلة في الإسلام.
الثاني: النسب والشرف.
ولم يكن النقاش الذي دار بين المهاجرين، والأنصار سوى انعكاس لهذين المبدأين.
- اقتنع الأنصار بما قاله أبو بكر من أن العرب لن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، وأن المهاجرين سوف لا يستبدون بالأمر، وسيشاورونهم في الشئون العامة، ولا يتفردون باتخاذ القرارات مكتفين بالعيش إلى جانبهم، وفي كنفهم، مطمئنين إلى وصية النبي في مرضه الأخير.
1 شنقارو: ص40، 41.
2 إبراهيم: ص120.
3 البلاذري: ج2 ص262، 263.
- بغض النظر عن المناقشات التي دارت حول هذا الموضوع الحساس، عبر فريق الأنصار عن أول اتجاه سياسي في الإسلام بعد وفاة النبي، إلا أنه كان أوهى الاتجاهات، وأقلها خطورة، وبخاصة أنه اصطدم بوحدة غير منتظرة من جانب قريش مما أعاق حركته منذ بدايتها، كما أنه لم يكن بقادر على أن يقنع فريق المهاجرين بوجهه نظره في خلافة النبي، وبالتالي أن يكون سيد الموقف، والواقع أنه افتقر إلى الانسجام وإلى الزعامة، وكلتاهما من ركائز الطموح إلى السلطة، ومن شروطها المبدأية1، فمن حيث فقدان الانسجام، لم يكن الأنصار يشكلون جبهة موحدة، وإن مثلوا جبهة مشتركة لم تتأخر في التصدع أمام مقاومة المهاجرين، ولم يتفقوا على المرشح سعد بن عبادة، كان هناك الأوس من جهة والخزرج من جهة أخرى، وكان يفصل بينهما في الماضي نزاعات قبلية، فوحدهم الإسلام داخل قضية مشتركة، فقد ترددت قبيلة الأوس في منحه التأييد لكونه خزرجيًا، إذ عز عليهم أن يتفرد على زعامة المسلمين بعامة، والأنصار بخاصة، بدليل قول أسيد بن حضير، سيد الأوس، لعشيرته:"لا والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبًا أبدًا"2، كما ساد التنافس الداخلي بين الخزرج، إذ عندما ساند بشير بن سعد الخزرجي موقف المهاجرين، وطلب من الأنصار ألا ينازعوهم في هذا الأمر؛ لأن النبي من قريش، وقومه أحق به وأولى، ثم قام فبايع أبا بكر؛ قال له الحباب بن المنذر:"أنفست الإمارة على ابن عمك؟ "3.
ومن حيث الافتقار إلى الزعامة السياسية، فقد كان سعد بن عبادة مريضًا، ولم يكن بحجم المنصب الكبير، أما الأوس فقد تراجعت قوتهم السياسية بعد وفاة زعيمهم سعد بن معاذ، فالزعامة السياسية إذن كانت غائبة عن تكتل الأنصار الذي طالب بالسلطة4، غير أن هؤلاء قدموا الخدمة بتفجيرهم المشكلة لفريق المهاجرين المعتدل الذي قاده أبو بكر، وعمر وأبو عبيدة، حيث كان الأقدر على التحرك بما يملكه من خلفيات نضالية، فضلًا عن التقدير لزعامته5، كما لم يثيروا غضب التيار المتشدد الذي التف حول علي، ولا تيار المحافظين بزعامة أبي سفيان بن حرب صاحب النفوذ القوي قبل الإسلام.
1 بيضون، إبراهيم: ملامح التيارات السياسية في القرن الأول الهجري، ص13.
2 الطبري: ج3 ص221.
3 المصدر نفسه.
4 بيضون: ص13، 14.
5 المرجع نفسه: ص14.
- أدى عمر دورًا بارزًا في إيصال أبي بكر إلى منصب الخلافة من واقع قوة شخصيته، ونتيجة لتفكيره السياسي المستنير الذي جعله أحد مستشاري النبي الأكثر حظوة وإصغاء، لقد أدرك أن الأمر قد يتطور إلى نزاع مسلح حيث اعتقدت كل فئة بأحقيتها بهذا الأمر، فكانت السرعة في التحرك، وفي الاختيار، وفي الأسباب التي أدت إلى نجاحه في اختيار أبي بكر، ولئن كان صحيحًا أن هذا الأخير قد فرض نفسه بنفسه من واقع شخصيته الهادئة، والمعتدلة والمقبولة من الجمع بالإضافة إلى حب النبي له، وقربه منه، وأسبقيته في الإسلام، فمن الصحيح أيضًا أن عمر قد ساعده كثيرًا، حيث قام بالحركة الأولى للاعتراف به، وشكل معه ثنائيًا لا يقبل الانفكاك، كما ارتبطا مع الأنصار برباط المصاهرة، ويبدو أن انتماءهما لعشائر قرشية صغيرة، طمأن الأنصار إلى كونهما لا يحكمان بالاعتماد، أكثر، على عشائر قريش القوية، وأن سياستهما ستكون إسلامية قائمة على السابقة في الإيمان والعقيدة، أكثر مما تقوم على روابط الدم1.
- إن ما أوردته روايات المصادر في أن الإمامة في قريش، تستند إلى رواية أبي بكر حين قال:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الأئمة من قريش"، فهي مقولة استغلتها جميع الفرق الإسلامية وفسرت بها الإمامة، كل حسب رؤيتها ومصالحها، ولو سلمنا جدلًا أن النبي قد قالها، فإننا نرى أنه قصد إمامة الصلاة، والنظر في الشئون الدينية، ولم يقصد الجانب السياسي، فكلمة الإمامة لم تكن معروفة بالمفهوم السياسي إلا بعد ظهور الشيعة، والغلاة ثم الخوارج، وتحديدًا في عهد عثمان بن عفان حيث أصبح الإمام في نظرهم هو من يتولى الشئون السياسية والدينية، وخصوا بها شيعة علي، وأولاده من بعده، أما في عهد النبي فكانت الإمامة تعني الصلاة بدليل أن النبي طلب من أبي بكر أثناء مرضه أن يؤم المسلمين في الصلاة، ولهذا السبب أخذها المسلمون عن طريق القياس، في حين نجد أن النبي يستعمل لفظ أمير للقائد الذي يقود السرايا التي كان يرسلها في مهمات عسكرية، وهي ذات دلالة سياسية أكثر؛ لأنها تعني
الزعامة، وبالتالي لو أن النبي كان يقصد الزعامة، لقال لهم مثلًا:"الأمراء من قريش"، ولكنه قال:"الأئمة"2.
1 جعيط: ص36، 37.
2 شنقارو: ص41، 42.
- الواقع أن اختيار أبي بكر كان صائبًا، وملائمًا لمتطلبات المرحلة بفعل ما تمتع به من خصال حميدة، وقبول واسع في أوساط المهاجرين، والأنصار الذين وجدوا فيه الرجل القادر على جمع الصفوف، وتوفير حد مقبول من الاتفاق والإجماع، كما كان ذا شرف، وهيبة في عيون القبائل.
-ارتبط مصير المسلمين بعامة ارتباطًا وثيقًا بمسألة الخلافة، وبالتالي بمسألة تسوية الأوضاع الداخلية للمسلمين، لذلك كان الانتهاء من هذه القضية الشرط اللازم، والضروري لعملية البدء بإعادة ترميم التصدعات الكبرى في الكيان السياسي الإسلامي، وارتبطت هذه بوحدة قريش التي مثلت السند القوي لأبي بكر تجاه القبائل.
- حددت الظروف الموضوعية التي تمت فيها مبايعة أبي بكر، الإطار العام للسياسة التي وجب عليه اتباعها، وهي المحافظة على ما حققه النبي من إنجازات فعمد، بعد مبايعته، إلى التعريف بسياسته في منصبه الجديد، وشرح مهمات الخلافة، وعلاقتها بعامة المسلمين، وذلك في الخطبة التي ألقاها في المسجد حيث قال: أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقوي ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، إن شاء الله تعالى، لا يدع أحد منكم الجهاد، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله"1.
إن قراءة متأنية لهذه الخطبة نلاحظ أنها تضمنت النقاط التالية:
- خليفة المسلمين هو واحد منهم وليس بخيرهم، له ما لهم وعليه ما عليهم.
- لا يجوز أن تتعدى صلاحيات الخليفة صلاحات المخلوف، وطاعة المسلمين له مقرونة ومرهونة بذلك، فعلى الخليفة أن يقود الأمة كما كان النبي قد قادها من قبله.
- إصلاح الخليفة إذا شذ عن النهج النبوي، ورقابته واجب على المسلمين2.
وقد بقي أبو بكر مخلصًا لهذه التصورات السياسية محافظًا عليها طوال حياته.
1 سيرة ابن هشام: ج4 ص262.
2 إبراهيم: ص125، 125.
النتائج السياسية لاجتماع السقيفة:
كان لاجتماع السقيفة أثر كبير في الحياة السياسية للدولة الإسلامية في العصر الراشدي، فقد:
- مثلت مسألة الإمارة، واختيار خليفة للنبي قادر على لم شمل المسلمين، البعد الداخلي لهذه الأزمة التي عصفت بالمسلمين بعد وفاة النبي.
- أقر مبدأ الشورى كما جاء في القرآن الكريم، على الرغم من أن عملية انتخاب أبي بكر كانت أقرب إلى الواقع السياسي منها إلى إجراء انتخابي، لكن سرعان ما خرجت البيعة عن إطار الشورى إلى إطار التعيين "خلافة عمر بن الخطاب"، أو إلى ما يشبه التعيين "خلافة عثمان بن عفان"، ثم إلى إطار الاختيار كأمر واقع من قبل بعض المسلمين في ظل ظروف قاهرة "خلافة علي بن أبي طالب"، وستتطور في عهد دولة الخلافة الأموية، وما يليه من عهود أخرى باتجاه التعيين، وفقًا لتطور الظروف السياسية التي يمر بها كل عهد.
- انبثق نظام الخلافة في الدولة الإسلامية، ويقوم هذا النظام على مبدأ الانتخاب المباشر لاختيار أصلح الموجودين من كبار رجال الصحابة في العصر الراشدي على الأقل، وأصبحت البيعة شرطًا من شروطه.
- ترتب على مبدأ الانتخاب مبدأ آخر هو البيعة، وكانت على ضربين: خاصة وعامة، فالبيعة الخاصة جرت في اجتماع السقيفة، ولم ير فيها المسلمون البيعة المشروعة، فعقدوا في الغداة اجتماعًا آخر في المسجد الجامع حيث بايع عامة المسلمين أبا بكر خليفة.
كانت البيعة تتم في أول الأمر بالمصافحة، أو بضرب كف المبايع على كف الخليفة، ثم تطورت في العصور اللاحقة لعصر الراشدين، واتخذت عدة طرق منها: تقبيل طرف رداء الأمير، أو تقبيل الأرض بين يديه، وهذه محاكاة لما كان يجري في بلاد الفرس1.
- استنت البيعة الخطبة التي يلقيها الخليفة، ويعلن فيها برنامجه في الحكم، واستمرت هذه الخطبة بمفهومها حتى يومنا هذا، وأصبحت تعرف بخطاب العرش، أو البيان الوزاري، والجدير بالذكر أن هذا المبدأ لم يكن من ابتكار أبي بكر، ولكنه كان معروفًا في فارس وبيزنطية، فاستحسنها العرب بعد أن بدأ بها أبو بكر، وساروا عليها2.
- استقر الوضع السياسي على أربع فئات هي:
1 مقدمة ابن خلدون: ص174، 175.
2 الشامي، أحمد: الخلفاء الراشدون ص30- 32.