الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم1.
الواضح أن عمر جهد كي لا تنشأ مراكز قوى في الأمصار تؤدي بدورها إلى إنشاء علاقة حكم، وسيادة بين الأمراء وعامة الناس، لهذا كان حريصًا على ألا يستغل الوالي وظيفته أو يستقل بها، وأن يبقى على صلة حقيقية مع أصحاب الشأن، أي مع جمهور المسلمين2.
انسجامًا مع هذه الرؤية للإدارة السياسية انتهج عمر نحو عماله اللامركزية السياسية، حارب من خلالها اتجاهات تركيز السلطة، والثورة في أيديهم، وحافظ على هذا النهج طوال حياته، وقد افتتح هذه السياسة بعزل خالد بن الوليد عن إمارة جيوش المسلمين في بلاد الشام، وتعيين أبي عبيدة بن الجراح مكانه كما ذكرنا سابقًا.
وتروي روايات المصادر أنه أثناء تأسيس الكوفة اقترح دهقان من أهل همذان على سعد بن أبي وقاص أن يبني له قصرًا على غرار قصر كسرى، وغلق بابه، وكثر حديث الناس عن قصر سعد، وبلغ ذلك عمر في المدينة، فأرسل محمدًا بن
مسلمة ليحرق باب القصر، وأرسل معه الكتاب التالي لسعد "بلغني أنك بنيت قصرًا اتخذته حصنًا، ويسمى قصر سعد، وجعلت بينك وبين الناس بابًا، فليس بقصرك، ولكنه قصر الخبال، انزل منزلًا مما يلي بيوت الأموال وأغلقه، ولا
تجعل على القصر بابًا تمنع الناس من دخوله، وتنفيهم به عن حقوقهم ليوافقوا مجلسك، ومخرجك من دارك إذا خرجت"3.
1 المصدر نفسه.
2 إبراهيم: ص218.
3 الطبري: ج4 ص46، 47.
إدارة البلاد المفتوحة من خلال عقود الصلح:
الطابع العام لعقود الصلح:
تميز روايات المصادر بين الفتح صلحًا، والفتح عنوة لدى استعراضها لفتوح البلدان، وهذا يعني أن شروط الصلح كانت تتعلق مباشرة بالشكل الذي تم فيه الفتح، فإذا تم الفتح صلحًا دون قتال من جانب السكان، فقد أقر المسلمون لهؤلاء حريتهم، وأموالهم وأمانهم مقابل دفع جزية سنوية، أما إذا كان الفتح قد تم عنوة، وحدث قتال مع السكان، وأخذت الأراضي بالقوة، فقد يتم سبي الناس ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم، وهذا يعني الاختلاف في الوضعية الحقوقية للسكان، يضاف
إلى ذلك، فقد راعى المسلمون شكل الفتح لدى فرضهم للجزية على الناس حيث كانت جزية من صالح أقل من جزية من قاتل، لكنها تترك مجالًا واسعًا لعقود فتح خاصة، ثم من خلالها تعديل هذا القانون العام، أو حتى إلغائه في بعض الأحيان وفقًا للظروف الملموسة للفتح1.
فبعد تحطيم القوة الميدانية للجيوش المركزية الفارسية، والبيزنطية في المعارك الفاصلة كالقادسية واليرموك، غادرت الأجهزة الحكومية المركزية أماكن تواجدها في المدن والقرى المفتوحة، فبرز الأمراء المحليون ليملأوا الفراغ، وأضحوا الممثلين المباشرين أمام الفاتحين، وقد أخذوا على عاتقهم توقيع عقود الصلح التي تباينت أشكالها وفقًا لشكل الفتح، ففي حين عرضت بعض المدن، والقرى على المسلمين دفع الجزية مقابل الأمان، حاولت مدن وقرى أخرى مقاومة الفاتحين في بادئ الأمر، ثم ما لبثت أن بادرت إلى القبول بدفع الجزية مقابل وقف القتال بعد أن أدركت عدم جدوى الاستمرار فيه، وأقدم المسلمون أحيانًا على فرض عقود الصلح بغض النظر عما إذا كان قد جرى قتال أم لا، كما كان الحال في فتوح الجزيرة، إذ تضمنت عقود الصلح لهذه المنطقة الشروط نفسها على الرغم من أن روايات المصادر تشير إلى أن هذه القرية قد فتحت صلحًا، وتلك قد فتحت عنوة، فرأس العين مثلًا، قاومت المسلمين بشدة، لكن هؤلاء ألحقوها بعد أن استسلمت بغيرها من نواحي الجزيرة التي فتحت صلحًا، وبالشروط نفسها2.
ولا يخلو استعراض البلاذري لفتح مصر من هذا التداخل في شروط الفتح صلحًا، وعنوة من خلال وضعه لمسار الفتوح لمختلف أرجاء الديار المصرية، على الرغم من أن رواياته تشير إلى تشابه، وتطابق عقود الصلح التي عقدها المسلمون مع جميع المدن، والقرى المصرية3، وكذلك تشير روايات الطبري بأن أهل مصر كلهم دخلوا في صلح بابليون وقبلوا بمضمونه، والمعروف أن بعض القرى المصرية قاومت المسلمين وقاتلتهم، وأن حصن بابليون نفسه قد فتح عنوة في قسم منه، لكن المسلمين أجروا ما أخذه عنوه مجرى ما صالحوا عليه، فصار أهل مصر كلهم ذمة4.
وما حصل في بلاد فارس من المقاومة الشديدة بالمقارنة مع ما حصل في بلاد
1 إبراهيم: ص162، 163.
2 البلاذري: ص181.
3 فتوح البلدان: ص214-218.
4 تاريخ الرسل والملوك: ج4 ص108، 109.
الشام حيث كانت معظم الفتوح سلمية؛ لا تميز روايات المصادر بشكل لافت بين عقود الصلح التي عقدها المسلمون في فارس، وبين عقودهم في بلاد الشام، فالقتال الشديد الذي جرى في نهاوند لم يمنع، بعد خسارة الفرس، من إلحاقهم بشروط الصلح للمدن المفتوحكة قبلها على الرغم من أن كثيرًا منها قد تم صلحًا، وبمبادرة من السكان1، وفتح همذان لم يختلف عن فتح نهاوند2، ولو تأملنا مليًا روايات المصادر الخاصة بفتح أذربيجان حيث المرزبان، ملك هذه البلاد، قاتل المسلمين قتالًا ضاربًا وعنيفًا، ثم صالحهم على الجزية3.
الواضح من استعراض روايات الطبري أن مسألة الفتح صلحًا، وعنوة تحولت إلى مسائل فقهية متنازع عليها، وأن المسلمين الفاتحين ساووا في المعاملة بين جميع الأمم والناس، حتى المجوس، أثناء الفتوح على الرغم من طرق مواجهتها، والمعروف أن مؤرخنا كان صاحب مدرسة فقهية، إلا أن مذهبه الفقهي لم يقدر له النجاح والاستمرار4.
لذلك نرى معظم رواياته تصب في هذا الاتجاه على الرغم من الإشارات لمسألة الفتح صلحًا، أو عنوة لدى وصفها لأحداث الفتوح، ففي مسألة السواد، يذكر الطبري أنه فتح عنوة، ولكن مع ذلك عومل أهل السواد كأصحاب عقد، وذمة مثلهم مثل غيرهم من الناس5، ولم ينكر إمكان الربط بين شكل الفتح وشروط الصلح، ولكنه كان يرى أن الصحابة لم يستخدموا هذه الإمكانية، وأنهم صالحوا كل الناس بذات الشروط، لهذا يؤكد تساوي الوضعية الحقوقية لجميع الناس، والأمم والبلدان في دار الإسلام6.
اعتمد المسلمون نموذجًا واحدًا لعقود الصلح، والأمان مع المدن، والقرى المفتوحة، فرضوه على الجميع بغض النظر عما إذا كان قد حدث قتال، وبغض النظر عن سهولته أو عنفه، وتشير روايات البلاذري أن بعض المدن في بلاد الشام مثل عرقة، وصيدا وبيروت وجبيل، فتحت بشكل يسير، وعقدت الصلح مع المسلمين بعد أن رأيت سرعة زحفهم وشدته، وانعدام المقاومة لوقفهم، ومع ذلك
1 البلاذري: ص300-306.
2 المصدر نفسه: ص306، 307.
3 المصدر نفسه: ص321-324، الطبري: ج4 ص153-155.
4 الدوري، عبد العزيز: بحيث في نشأة علم التاريخ عند العرب ص55.
5 تاريخ الرسل والملوك: ج3 ص586، 587.
6 إبراهيم: ص167.
لا تشير هذه الروايات أي إشارة إلى اختلاف شروط الصلح بين هذه المدن، وبين سائر مدن بلاد الشام التي قاتلت قبل التوقيع على هذه الصورة أو تلك1.
الواضح أن مسألة الفتح صلحًا، وعنوة إنما نشأت تاريخية في بادئ الأمر نتيجة الوضعية الفعلية لشكل الفتح، ثم اتخذت بعد ذلك منحى فقهيًا2، وأن النقاش الفقهي ارتبط مع قضية التعديل في نظام الجزية والخراج، وفي نظام الضرائب عمومًا، في العصرين الأموي والعباسي، والتي كانت تطرح باستمرار كلما اشتدت حاجة بيت المال للأموال، والمعروف أن الكثير من عقود الصلح حددت آنذاك كمية الجزية، والخراج تحديدًا عدديًا، وأن تغيير هذا كان يتطلب تبريرًا شرعيًا، وكان تحديد هذه البلاد، أو تلك قد فتحت عنوة يساعد على إطلاق البدء في تعديل، وتغيير الشروط كما يشاء، وأما تحديد الفتح صلحًا، فكان يعني الإقرار بأن أهل البلاد المعنيين أصحاب عقد لا يجوز لمسلم أن يخل به3، يروي الطبري بشأن فتح الإسكندرية "
…
أن ملوك بني أمية كانوا يكتبون إلى أمرءا مصر أن مصر إنما دخلت عنوة، وإنما هم عبيدنا نزيد عليهم كيف شئنا، ونضع ما شئنا"4.
ويؤكد الماوردي ظاهرة تحول شكل الفتح إلى مسألة فقهية، عندما أدخلها في صلب المعالجات الفقهية، من واقع استعراضه بالتفصيل للمواقف الفقهية المختلفة في تحديد الأشكال التاريخية لفتوح البلدان، وبالتالي ما يترتب على تقسيم كهذا من تنوع في مسائل تحديد الجزية والخراج5، ويخصص فصلًا كاملًا حول حكم أرض السواد6، ويبرر أهمية هذه البلاد؛ لأنها "أصل حكم الفقهاء بما يعتبر به نظائرها"7، ويشير إلى أن الفقهاء اختلفوا في حكم السواد وفتحه، فذهب أهل العراق إلى أنه فتح عنوة، ولكن لم يقسمه عمير بين الغانمين، وأقره على سكانه، وضرب الخارج على أرضه، ويقر الشافعي بأن السواد فتح عنوة، واقتسمه الغانمون ملكًا ثم استنزلهم عمر، فنزلوا إلا طائفة استطاب نفوسهم بمال عاوضهم به عن حقوقهم منه، فلما خلص للمسلمين، ضرب عمر عليه خراجًا، فاختلف أصحاب الشافعي، فذهب أكثرهم إلى
1 فتوح البلدان: ص133.
2 قارن بإبراهيم الذي يرى أن قضية الفتح عنوة، وصلحًا إنما نشأت لاحقًا في سياق تأسيس النظام الضريبي للدولة الإسلامية الأموية ثم العباسية، وهي قد نشأت كمشكلة فقهية، ص168.
3 المرجع نفسه: ص167.
4 تاريخ الرسل والملوك: ج4 ص106.
5 الأحكام السلطانية: ص174-176، 181-198.
6 المصدر نفسه: ص217-222.
7 المصدر نفسه: ص217.
أن عمر وقفه على كافة المسلمين، وأقره في أيدي أربابه بخراج ضربه على رقاب الأرضين1.
نستنتج مما قدمنا أن مقولة الارتباط بين أشكال الفتح، وشروطه مقولة تاريخية، وهي منتشرة في كل المصادر، ثم تحولت بعد ذلك إلى مسألة فقهية بفعل تطور النظام الضريبي2، وقد ارتبطت عقود الصلح بعاملين:
الأول: حال الفتح؛ لأن المسلمين كانوا غرباء في بلاد شاسعة لها لغاتها، وأديانها وعاداتها، وكانوا أيضًا غير مستقرين يفتحون ليصالحوا، ثم يتابعون المسير للتوسع.
الثاني: الحالة الاجتماعية للفاتحين، وهذا يعني أن نموذج الصلح مع سكان البلاد المفتوحة كانت تفرضه عقلية الفاتحين أنفسهم، وأعرافهم، وعلاقاتهم فيما بينهم، أي أن الفتح كان الشكل الاجتماعي لحياة القبائل، وعيشها ورزقها، في هذه المرحلة3.
علاقة الفاتحين بسكان البلاد المفتوحة:
بعد القضاء على الإمبراطورية الفارسية، وإخراج البيزنطيين من بلاد الشام ومصر، انتهى عمليًا في هذه البلاد وجود مؤسسة الدولة، وأضحى الولاة المحليون، وأعيان المدن والمقاطعات هم الذين يمثلون الهيئات العامة، والتفاوض مع المسلمين، لهذا حافظت التقسيمات الإدارية لدولتي الفرس، والبيزنطيين على وجودها ووظيفتها سواء من الناحية الشخصية، حيث استقرت طبقة الحكام المحليين في عملها، أو من الناحية الإدارية حيث استمرت الدواوين في أداء وظائفها، وحددت طبيعة مرحلة الفتوح شكل العلاقة بين المسلمين الفاتحين، وأصحاب البلاد المحليين التي بقيت علاقة خارجية، وذلك بفعل تفرغ المسلمين للفتوح، والسكن في معسكرات خاصة، مما لا يسمح بالاندماج، والاختلاط اللذين يتطلبان استقرار الفاتحين، وارتبطت هذه العلاقة الخارجية بثلاثة أمور: الجزية والذمة، والاستقلال الإداري والثقافي4.
شكلت الجزية الأرضية الحقوقية للممارسة السيادة من خلال عقود الصلح، وهي عبارة عن جملة القيم المادية، العينية، والنقدية التي يتوجب على المغلوبين دفعها سنويًا إلى المسلمين الفاتحين، إنها علاقة عقدية بين طرفين لكل منهما حقوق وواجبات، ففي مقابل ضمان الأمان الشامل للسكان، وصونهم والدفاع عنهم تجاه أي عدوان خارجي، كانت الجزية المتوجبة على هؤلاء للمسلمين الذين أدخلوهم في
1 الأحكام السلطانية: ص219.
2 قارن بإبراهيم: ص170.
3 المرجع نفسه.
4 المرجع نفسه: ص197.
ذمتهم، وهذه الحقوق والواجبات تكمل بعضها البعض، وتشترط بعضها البعض، فإذا عجز المسلمون عن تنفيذ وعودهم، لم تعد الجزية حقًا لهم، وإذا امتنع السكان عن دفعها، أو نقضوا العهود وقاتلوا المسلمين مجددًا، سقطت عنهم الذمة، وأضحوا أهل حرب لا أهل صلح1.
أما كل ما تعدى هذه العلاقة، فقد تم النظر إليه على أنه يدخل في الشئون الداخلية للسكان لا علاقة للمسلمين به، وهذا يعني إقرار المسلمين للسكان المحليين بالإدارة الذاتية في المدن، والمقاطعات بما تحويه من دواوين، والإقرار بالاستقلالية الثقافية لهؤلاء، وبالتالي تركهم على أوضاعهم، وعاداتهم وثقافاتهم وأديانهم، وطبقاتهم دون التدخل فيها.
تذكر روايات المصادر أنه بعد توقيع صلح الإسكندرية تقدم أعيانها لعمرو بن العاص، وقالوا له:"نريد أن تولوا علينا رجلًا من أصحابك حتى يجمع المال الذي طلبت منا"، فكان جوابه:"إنا لا نعلم بأمور أصحابكم، ولا نعرف القادر منكم ولا الضعيف، فانظروا في أكابركم ممن تختارونه عليكم لجمع المال، فولوه عليكم، ويكون معه رجل من أصحابنا مساعدًا له على ذلك"2.
لقد تم فتح مدينة بعلبك بعد حصار وقتال، وقيل حاكم المدينة بعقد الصلح شرط ألا يدخل المسلمون إلى المدينة، وأن يبقوا خارجها، تأتيهم الجزية إليهم في وقتها المحدد، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.
اتفق أبو عبيدة مع أعيان حلب أثناء عقد الصلح معهم، على أن تخلي المدينة نصف دورها3، وتعهدت الرها بموجب عقد الصلح مع عياض بن غنم بأن تقوم بصورة دورية بإصلاح الطرق والجسور4، ونصت الكثير من عقود الصلح على حق المسلمين المحتاجين بالنزول ضويفًا على السكان المحليين لمدة ثلاثة أيام، ولما فتح عمرو بن العاص برقة، صالح أهلها على الجزية التي بلغت قيمتها ثلاثة عشر ألف دينار، وسمح لهم أن يبيعوا من أبنائهم من أحبوا بيعه لقاء تأمين هذا المبلغ، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل، ومن بين عقود الصلح التي عقدها المسلمون مع أمراء الولايات الشرقية من بلاد فارس، كان العقد الذي أبرمه سويد بن مقرن مع حاكم
1 إبراهيم: ص178.
2 الأموي، ابن إسحاق: كتاب فتوح مصر وأعمالها ص77.
3 البلاذري: ص152.
4 المصدر نفسه: ص179.
خراسان على منطقة طبرستان: "هذا كتاب من سويد بن مقرن للفرخان اصبهذ خراسان على طبرستان، وجيل جيلان من أهل العدو، إنك آمن بأمان الله عز وجل على أن تكف لصوتك، وأهل حواشي أرضك، ولا تؤوي لنا بغية، وتتقي من ولي خرج أرضك بخمسمائة ألف درهم من دراهم أرضك، فإذا فعلت ذلك فليس لأحد منا أن يغير عليك، ولا يتطرق إلى أرضك، ولا يدخل عليك إلا بإذنك، سبيلنا عليكم بالإذن آمنة، وكذلك سبيلكم، ولا تؤوون لنا بغية ولا تسلون لنا إلى عدو، ولا تغلون، فإن فعلتم فلا عهد بيننا وبينكم، شهد سواد بن قطبة التميمي، وهند بن عمرو المرادي، وسماك بن مخرمة الأسدي، وسماك بن عبيد العبسي، وعتيبة بن النهاس البكري، وكتب سنة
ثمان عشرة"1.
اضطر المسلمون بعد انتهاء عمليات الفتوح إلى الحفاظ على الأوضاع العامة السائدة في المناطق المفتوحة، حيث تركوا الناس تحت رحمة الحكام المحليين الذين أضحوا الطرف الوسيط، وكان من مصلحة الفاتحين الحفاظ على استقرار أوضاع هؤلاء الوسطاء حيث أوكلت إليهم مهمات الحفاظ على الأمن، والنظام وتنفيذ شروط عقود الصلح، وكان التشاور معهم ضروريًا لحسن سير الأعمال2.
بعد أن استتب الفتح على أراضي السواد، تشاور سعد بن أبي وقاص مع دهاقنتها بشأن كيفية التعامل مع الفلاحين، فأشاروا أن يترك الناس على أرضهم يزرعونها؛ لأنه من سيزرع أو يحصد إذا سبي الفلاحون، وأبعدوا عن أرضهم؟ وكان عمر يأمر عماله على العراق أن سمعوا لنصائح الدهاقنة إذا ما اعترضتهم صعاب ومشكلات؛ لأن هؤلاء أعلم ببلادهم وناسهم من غيرهم.
لذلك، لم تكن للمسلمين الفاتحين أي علاقة مباشرة مع السكان، وانحصرت معاملاتهم مع دهاقنة الأهواز، وأمرائها الذين قبلوا منذ البدء على أنهم أسياد هذه البلاد وساسة سكانها، وبالتالي ممثلوها أمام الفاتحين.
هكذا كان أسلوب التعامل مع البلاد المفتوحة عامًا يتعلق بأوضاع الفاتحين أنفسهم، وعلاقاتهم الداخلية، أما الأوضاع الداخلية للسكان، فكانت هامشية لم تؤد دورًا يذكر في تحديد شكل هذا التعامل.
مقتل عمر:
قتل عمر فجأة بيد شخص مغمور لا يعرف الناس من أمره إلا أنه خادم للمغيرة
1 الطبري: ج4 ص153.
2 إبراهيم: ص176.
ابن شعبة، وهو من زعماء ثقيف بالطائف، أما اسمه فهو فيروز أبو لؤلؤة المجوسي، وهو فارسي الأصل من سبي نهاوند، وكان قد شكا إلى الخليفة ثقل خراجه.
ففي فجر يوم الأربعاء "لأربع بقين من شهر ذي الحجة عام 23هـ/ 23 تشرين الثاني عام 644م"1، خرج عمر من منزلة ليؤم الناس لصلاة الفجر، حتى إذا انتظم جمع المصلين، بدأ ينوي للصلاة ليكبر، ودخل في تلك اللحظة رجل ظهر فجأة بجانبيه، وطعنه بخنجر له نصلان حادان، ثلاث طعنان أو ست إحداها تحت سرته، وشعر عمر بحر السلاح، فالتفت إلى المصلين باسطًا يديه يقول:"أدركوا الكلب فقد قتلني"2، وحاول القاتل الفرار، فتصدى له المصلون، فراح يطعنهم يمينًا وشمالًا فأصاب ثلاثة عشر منهم، ثم إن عبد الله بن عوف أتاه من ورائه، وألقى عليه رداءه وطرحه أرضًا، وعندما أيقن فيروز أنه مقتول لا محالة، انتحر بخنجره3 مسدلًا الستار على دوافع أهم، وأخطر قضية واجهت المسلمين حتى ذلك الوقت؛ لأنها كانت فاتحة لحوادث مماثلة سوف تواجه المسلمين في المستقبل.
كانت الطعنة التي أصابت عمر تحت سرته قاتلة، فلم يستطع الوقوف من أثرها وسقط طريحًا، فاستخلف عبد الرحمن بن عوف على الصلاة بالناس، ونقل إلى منزله وهو ينزف دمًا، ولما علم أن أبا لؤلؤة هو الذي طعنه، حمد الله الذي لم يجعل قاتله يحاجه عند الله بسجدة سجدها له، وتوفي بعد ثلاث ليال، ودفن يوم الأحد مستهل محرم من عام 24هـ بالحجرة النبوية إلى جانب أبي بكر بعد أن استأذن عائشة4.
كان لمقتل عمر مقدمات تكشف عن إنذار وجهه إليه أبو لؤلؤة، وتحذير من كعب الأحبرا، أحد كبار أحبار اليهود في المدينة، فقد خرج عمر يومًا بعد عودته من الحج يطوف في السوق، فلقيه أبو لؤلؤة، فقال له: "يا أمير المؤمنين أعدني -انصرني- على المغيرة بن شعبة، فإن علي خراجًا كثيرًا، وقال عمر: كم خراجك؟ قال: درهمان في كل يوم، قال عمر: وما صناعتك؟ قال: نجار، نقاش، حداد، قال عمر: فما أرى خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال. قد بلغني أنك تقول: لو أردت أن أعمل رحى تطحن بالريح فعلت، قال: نعم. قال عمر: فأعمل لي رحى، قال: لئن سلمت لأعملن لك رحى يتحدث بها من بالمشرق والمغرب، ثم انصرف عنه، قال عمر:
1 الطبري: ج4 ص193، 194، اليعقوبي: ج2 ص52.
2 ابن قتيبة، ج1 ص23.
3 ابن كثير: ج7 ص137.
4 الطبري: ج4 ص192، 193.
لقد توعدني العبد آنفًا"1، ودخل عمر منزله دون أن يكترث
جديًا بهذا التهديد، فلما كان من الغد جاءه كعب الأحبار، فقال له:"يا أمير المؤمنين، فإنك ميت في ثلاثة أيام"، وأعاد عليه القول في اليوم الثاني، وفي الغداة
من ذلك اليوم قال له: "ذهب يومان وبقي يوم وليلة، وهي لك إلى صبيحتها"2. وقد شهد عبد الرحمن بن أبي بكر أنه رأى الخنجر الذي طعن به عمر مع الهرمزان الأمير الفارسي، وجفينة أحد نصارى الحيرة وأبي لؤلؤة، أثناء اجتماع لهم، مما دفع عبيد الله بن عمر، وهو في ثورة غضب إلى قتل الهرمزان وجفينة3.
إن حادثة على هذا المستوى تحتاج إلى إثباتات مقنعة قبل الحكم الموضوعي على دوافعها، وقد اندثرت مع قتل الأشخاص الثلاثة، إذ إن إقدام أبي لؤلؤة على قتل الرجل الأول في الدولة، لأمر يخرج عن القواعد المألوفة إلا إذا كان به مس من الجنون، وهذا لم تشر إليه الرواية التاريخية4، وفي هذه الحالة لا يستطيع الباحث أن يتجاهل ربط هذه القضية بعوامل خارجية بعد رفض الأسباب الهزيلة التي تناقلها المؤرخون التقليديون حول ثقل خراج حول ثقل خراج أبي لؤلؤة، ولا أستبعد أن يكون كعب الأحبار مشتركًا فيها، أو مطلعًا على خيوطها، إذ إن تحذيره لعمر، وتحديده ليوم القتل وساعته، له دلالته، والمعروف أن اليهود أخذوا يتآمرون ضد الإسلام في كل بلد وصل إليه، ويدبرون الاغتيالات لحكام هذه البلاد المسلمة، وبدأت مؤامرتهم الدنيئة باغتيار عمر مستعينين بالفرس الموجودين في المدينة، لقد قضى عمر على الإمبراطورية الفارسية، وأخرج البيزنطيين من بلاد الشام ومصر، كما أخرج اليهود من جزيرة العرب، فأضمروا الحقد للإسلام والمسلمين بعامة، ولعمر بخاصة، فحاكوا هذه المؤامرة التي كان أبو لؤلؤة أداتها التنفيذية، وروي عن عمر قوله حين علم بأن أبا لؤلؤة هو الذي طعنه:"قد كنت نهيتكم عن أن تجلبوا علينا من علوجهم أحد، فعصيتموني"
قد تكون حادثة الاغتيال تصب في مصلحة بعض المتذمرين من بقايا التجار، وأصحاب الثروات الذين وجدوا في نظام عمر الصارم ضربة لمصالحهم الحيوية، والمعروف أن عمر فرض رقابة مشددة على انتقال الشخصيات الحجازية إلى المدن
1 الطبري: ج4 ص191.
2 المصدر نفسه.
3 المصدر نفسه: ص240.
4 بيضون: ص101.
والقرى في البلدان المفتوحة، وكان يرى أن كثرة الأموال والثروات، وانتشار قريش في الأمصار المفتوحة يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة في تطور المسلمين، تبعدهم عن الأجواء الأولى لظهور الإسلام، واسنجامًا مع هذه الرؤية ضيق على المهاجرين بخاصة، وعلى قريش بعامة، وحصرهم في المدينة1، فمنعهم عمليًا من التنعم بثمار الفتوح، مما أثار صدمة لدى هؤلاء الذين شعروا بأن فرض الثراء تضيع من أمامهم دون أن ينجحوا في حمل الخليفة المتشدد على تعديل قراره، ولهذا تعارضت أهدافهم ومواقفهم مع أهداف عمر ومواقفه، وهو الملتزم بفكرة الدولة وقوانينها، ولعل أبرز مؤشرات الانفصال هي اندماج الخليفة بصورة عضوية مع الفئات المتسوطة، والشعبية المستفيدة عمليًا من تنظيم العطاء2، لكني استبعد اشتراك هؤلاء في المؤامرة، بدليل قول عمر:"ما كانت العرب لتقتلني"، هذا على الرغم من أن هذه الفئة سوف تؤدي دورًا بارزًا في اختيار شخصية البديل بما يتوافق، وحوافزها المتحركة.
1 الطبري: ج3 ص396، 397.
2 بيضون: ص101، 102.