الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1-
الفئة "الأرستقراطية" بزعامة أبي سفيان بن حرب، التي تراجعت عن الواجهة السياسية بفعل بروز النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنها استطاعت أن تستعيد مركزها بعد ذلك بفعل تسربها إلى مواقع السلطة من خلال تأييدها ودعمها للخليفة.
2-
فئة التيار الهاشمي: بزعامة علي بن أبي طالب، وقد انضم إليه بعض كبار الصحابة من عامة المسلمين بعد أن تحسنت أوضاعهم الاجتماعية بفعل الدين الجديد، أمثال سلمان الفارسي، وعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري، ولا يخفى ما لهذا التيار من أثر معنوي كبير في مسار الأحداث السياسية، وقد حاولت الفئة "الأرستقراطية"، إثارة أعضائه ضد الخليفة للوصول إلى أهدافها، وكان باستطاعة أفراده السيطرة على الحكم إلا أنهم آثروا المصلحة العامة، ودخلوا في ما دخل فيه الناس من البيعة لأبي بكر.
3-
تألفت الفئة الثالثة من شخصيات قيادية معتدلة أمثال أبي بكر، وعمر، وأبي عبيدة، وقد ساهم أفرادها في النضال الإسلامي أثناء حياة النبي، ولا سيما أبي بكر، وكان عمر أنشط أعضاء هذه الفئة، وإليه يعود الفضل في استرداد المبادرة من الأنصار، ومبايعة أبي بكر بالخلافة، وقد جمعت أعضاء هذه الفئة، وأعضاء الفئة الثانية، رؤية سياسية موحدة.
4-
فئة الأنصار، وكان لها دور عابر اقتصر على إثارة المشكلة.
الأوضاع السياسية خارج المدينة:
الحدثان البارزان في خلافة أبي بكر القصيرة1 هما الردة، وانطلاق الفتوح الإسلامية خارج نطاق الجزيرة العربية، وكان لكل منهما تأثيره الخاص على مستقبل الدعوة الإسلامية والعرب، وتطلق جميع روايات المصادر على التطورات التي حصلت على أطراف الجزيرة العربية عقب وفاة النبي، وما نجم عنها من انتفاضة القبائل؛ بحركة الردة أو بالارتداد عن الإسلام2، على أن هذا الموقف، لا يمكن المحافظة عليه بعد الأبحاث المستجدة في تاريخ صدر الإسلام. ذلك أن التطورات
1 لم تزد مدة خلافة أبي بكر عن سنتين، وثلاثة أشهر، وعشرة أيام.
2 الطبري: ج3 ص225- 242، ورد في التنزيل:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة: الآية 54] ارتد عنه: تحول، والاسم الردة، ومنه الردة عن الإسلام أي الرجوع عنه، وارتد فلان عن دينه أو كفر بعد إسلامه، ورد عليه الشيء إذا لم يقبله، وكذلك إذا أخطأه، ونقول: رده إلى منزله، ورد إليه جوابًا أي رجع، والردة بالكسر: مصدر قولك: رده برده، والردة الاسم من الارتداد. وفي حديث القيامة والحوض يقال:"إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم"، أي متخلفين عن بعض الواجبات"" انظر: ابن منظور، جمال الدين محمد: لسان العرب ج3 ص173.
خريطة مواطن القبائل في شبه الجزيرة العربية
التي حدثت بعد وفاة النبي كانت أكثر تباينًا في نوعها من أن ندخلها تحت حركة الردة، ولهذا لا يمكن الحديث بأي حال، عن ارتداد عام عن الإسلام، ولا بد من أن نبحث في كل حالة على حدة، ونتوغل في عمق كل قبيلة، بل في كل بطن من بطون القبائل الكبيرة.
ويواجه المؤرخ صعوبة في استنباط أسبابها الدينية والسياسية، والاجتماعية والاقتصادية، نظرًا لقلة المادة التاريخية المتعلقة بظروفها وحيثياتها، مع أنها شكلت تحديًا كبيرًا لهيبة الدولة الإسلامية الناشئة، وأول اختبار للمجتمع الإسلامي الجديد، وأول شرخ يصيب هذا المجتمع الموحد في إطار الدين الإسلامي، كما كانت المواجهة الأولى للخليفة حين وضعت كفاءته أمام الامتحان الصعب، وعملت على إنهاء نفوذه على كثير من مناطق الجزيرة العربية، لذلك، فإن علينا البحث عن اللمحات، والإشارات المبعثرة في المصادر، ومحاولة جمعها وتصنيفها، وتنسيقها بما يسمح بتشكيل صورة قريبة نسبيًا من الحقيقة التاريخية، ويذكر أن الردة لم تنشأ صدفة، ولم تكن مفاجأة، وإنما لها مقدماتها وشروطها المرتبطة ارتباطًا عضويًا بتاريخ تنامي نفوذ المدينة، وما نجم عن ذلك من التحاق الكثير من القبائل بها.
اتجهت سياسة النبي العامة نحو توحيد العرب تحت راية الدين الإسلامي في مؤسسة تتخطى النظام القبلي، واستطاع أن يؤسس جماعة دينية سياسية جسدت كيان دولة، فدخل العرب عامتهم في هذا الدين، وانضووا تحت لواء النبي، ودانوا له بالزعامتين الدينية، والسياسية بفعل أنه يصدر أحكامه عن وحي الله وأمره، بالإضافة إلى أنه كان مثاليًا في سلوكه، إذ سوى في المعاملة بين القبائل المختلفة، ولم يخضع لنزعات النفس البشرية، وميلها إلى إيثار الأهل والعشيرة، ويعد ذلك حدثًا دينيًا، وسياسيًا بالانضمام إلى دولة المدينة، واعتناق دينها، وهذه سمة توحيدية.
وهكذا تم توحيد القبائل في الجزيرة العربية في دولة واحدة يرأسها النبي ومركزها المدينة، لكن هذه الوحدة كانت مفككة، فالاضطراب الذي لازم مواقف القبائل العربية، التي لم يترسخ الإسلام في قلوبها نظرًا لحداثته؛ وحد التيارات المختلفة في المدينة، فالتف الجميع حول الخليفة، أما خارج نطاق المدينة، وفي أرجاء واسعة من جزيرة العرب، فلم يكن يوجد سوى أشكال من التحالف السياسي مع المدينة، بالإضافة إلى ذلك فإن الدخول في الإسلام كان قرارًا سياسيًا استهدفت به زعامات القبائل المحافظة على كيانها، وتحاشي خطر المسلمين عليها.
لكن هذه الزعامات، ربطت بين شخص النبي وبين ما حققه للعرب بعامة من مكاسب دينية، واجتماعية، وسياسية غيرت تمامًا حياة العربي، والنظام القبلي الاجتماعي، فقد استبدل الإسلام، منذ بداياته، رابطة الدم برابطة الدين والعقيدة، والغزو والجهاد والعرف بالشريعة، والتمزق القبلي بوحدة الأمة1، وحد من النزاعات القبلية التقليدية من خلال رفع مبدأ الثأر بشكله القبلي، ونقل مسئولية ذلك إلى الجماعة الإسلامية، وشرع الجهاد في سبيل الله بدلًا من القتال من أجل الثأر، أو التسابق على الماء والكلأ، وأطاح فردية القبيلة لقاء فكرة الجماعية التي تستند عليها الأمة، وأرسى قواعد الدولة الإسلامية، وساوى بين المسلمين، ودعا إلى التكافل والتضامن، ونظم المجتمع العربي على نحو يتناسب، وطباع العرب2، ومع ذلك لم يتمكن من الإنجاز التام، والنهائي لمد نفوذ الدولة الإسلامية الناشئة على سائر أنحاء الجزيرة العربية، وبرهنت حركة الردة عن ضعف هذا الكيان السياسي في الأطراف خاصة، وهشاشة دخول القبائل في الإسلام، وأن تجذر العادات والتقاليد القبلية في النفوس كان أقوى من رابطة الدين.
والحقيقة أن سياسة التوحيد لم تكن قد استكملت، ولم يتجذر الدين إلا بين سكان المدينة، ومكة والطائف، وبعض القبائل القاطنة بجوارهم، ولا تدع المصادر مجالًا للشك في الاتساع الشديد لحركة الردة سواء من الناحية القبلية، أو من الناحية الجغرافية، فلقد خرجت الأكثرية الساحقة للقبائل على حكم المدينة، ولم يبق مواليًا سوى نواة صغيرة جدًا تتألف من القبال التالية: قريش وحلفاؤها التقليديون الذين كانوا يعيشون بالقرب من مكة، الأوس والخزرج وحلفاؤهم التقليديون الذين كانوا يسكنون بالقرب من المدينة، ثقيف في الطائف، فقد ثبتت مزينة وغفار، وجهينة وبلى وأشجع وأسلم وخزاعة؛ على الإسلام، ويذكر بأن هذه القبائل تربطها بمكة، والمدينة مصالح مشتركة، وهي تدخل تقليديًا في تحالف معها، أما قبائل هوازن وبني عامر وسليم، فقد اتخذوا موقفًا متربصًا.
أما سكان المناطق الأخرى في الجزيرة العربية، ولا سيما اليمن وعمان وحضرموت في الجنوب، فلم يكن الدين قد تجذر في نفوس سكانها، ولقد كان إسلامهم سطحيًا ومرحليًا، واستسلامًا للأمر الواقع خشية القتل والسبي، وليس
1 الدوري: مقدمة في تاريخ صدر الإسلام ص37.
2 سالم، السيد عبد العزيز: تاريخ الدولة العربية ص434، 435.
اقتناعًا بالإسلام كعقيدة، ونظام ومنهج1، كما كان وليد ظروف سياسية خاصة أحدثها دخول قريش في الإسلام، ولم يؤد إلى خلق ترابط، ووثاق اجتماعي مادي فيما بينهم، كذلك، كان موقفهم من الإسلام ضعيفًا، إذ إن الإسلام لم ينتشر في هذه المناطق البعيدة عن مكة والمدينة، إلا بعد فتح مكة، وغزوة حنين والطائف، أي بعد العام الثامن للهجرة، وظل نشاط النبي قبل ذلك محصورًا في المنطقة المحيطة بالمدينتين المقدستين، ومعنى ذلك، أن كثيرًا من عرب الأطراف دخلوا في الإسلام، وفي قلوبهم مرض أو شيء من النفاق؛ لأنهم أسلموا مقتدين برؤسائهم الذين تقبلوا سلطة الحكومة الإسلامية في المدينة، وأطاعوا النبي، بعد أن حقق انتصارات كبرى على القوى المعادية له، ولدعوى الإسلام للمحافظة على كيانهم، وإبعاد خطر المسلمين عنه، ولا يدل إرسال الوفود القبلية إلى المدينة لتعلن إسلامها على أن القبائل فهمت، واستوعبت الإسلام وآمنت بتعاليمه، وحرصت على الدخول فيه، وبخاصة أن المدة الزمنية بين دخول هذه القبائل في الإسلام؛ ووفاة النبي، كانت قصيرة لا تتجاوز ثلاثة أعوام، بالمقارنة مع المدة التي استغرقها استقرار الدين الإسلامي في مكة والمدينة، البالغة عشرين عامًا، كما أن هذه القبائل الضاربة على الأطراف كانت تمر بمرحلة تحول سياسي لتتخلص من الضغط الفارسي الواقع عليها، وبخاصة في اليمن، بالإضافة إلى الصراعات الداخلية، بينها، على النفوذ.
لذلك، تفاوت إيمان هذه القبائل بين القوة، والضعف بشكل عام، ولقد كان النبي يعي ذلك تمامًا، ونزلت بهذه الصدد الكثير من الآيات القرآنية التي توثق هذه الواقعة التاريخية، وهي تتهم الأعراب، وهم الأكثرية المطلقة للعرب آنذاك، بالضعف، والتخاذل والكفر، والنفاق:{الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 97، 98] .
نفهم من هذا النص القرآني أن عددًا من القبائل كانت لا تخفي موقفها المتربص من الإسلام، وبالنبي على الرغم من دخولها في الدين الجديد، وولائها ومبايعتها للنبي.
ولعل أكثر الآيات دلالة، وبيانًا على موقف القبائل من الإسلام تلك التي تقول:
1 عاشور، سعيد عبد الفتاح: بحوث في تاريخ الإسلام وحضارته ص56.
{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14] ، وقد نزلت هذه الآية في وقت أخذ الكثير من القبائل تسارع عبر وفودها للدخول في الإسلام1.
وكان النبي قد شعر بما تنعم به هذه القبائل من حرية العيش، فتركها تعيش حياتها الخاصة مع الالتزام بالإسلام، لذلك لم تفقد شيئًا من حريتها السياسية، ولم يكن الحكم الإسلامي عليها يتجاوز العهود التي ارتبطت بها مع النبي التي لم تكن في نظرها سوى حلقًا، أو عقدًا مع شخص النبي نفسه لدوافع، وشروط معينة، فرضتها ظروف خاصة نشأت عن اتحاد قريش تحت رايته، وبوفاة الشخص المتعاقدة معه تنتهي آليًا صلاحية العقد إن لم يتم البت فيه مجددًا مع شخص آخر.
تذكر الروايات التاريخية أن ممثلي أسد، وغطفان وطيء اجتمعوا، بعد وفاة النبي وأرسلوا وفدًا مفاوضًا عنهم إلى المدينة مطالبين بإعفائهم من الزكاة، استقبل أبو بكر الوفد استقبالًا حسنًا، لكنه رفض طلبهم بترك الزكاة رفضًا قاطعًا على الرغم من أنهم أكدوا عزمهم على الاستمرار في الدين والصلاة، ولما عادوا خائبين من المدينة ارتدوا، والتحقوا بالمتنبئ طليحة الأسدي2، وما يصح على هذه القبائل يصح أيضًا على الأكثرية الساحقة من القبائل مثل كندة، وقضاعة وهوازن وغيرهم، حيث أعلنوا ارتدادهم، وفضوا عقودهم مع النبي، واستقلوا بأنفسهم.
ويبدو أن هذه القبائل التي ارتدت لم تكن تعلم ما يفرضه الدين الإسلامي عليها من واجبات، والتزامات وفروض ربما كانت غير طبيعة في نظرها، وكان معنى ذلك الخروج عما ألفت، وتغيير جذري في مجرى حياتها الدينية والاجتماعية، والحد من حريتها، وسرعان ما ضاقت ذرعًا بالواجبات التي فرضها الإسلام عليها، وبخاصة الزكاة، ورأت فيها انتقاصًا من حريتها الشخصية والجماعية، كما أوجدت نوعًا من الشعور بالإذلال لم تألفه هذه القبائل مما يتعارض مع كبرياء العربي، وأنفته على الرغم من الإسلام لم يعد الجزية أتاوة يدفعها المغلوب للمنتصر، فامتنعت عن دفع الزكاة لأبي بكر.
هذه كانت، على ما يبدو، نظرة القبائل للأمور، هذه النظرة التي لا يمكن عزلها عن أحداث الردة، وهكذا يتضح لنا كيف أن أحداث الردة كانت بهذا المعنى جزءًا لا يتجزأ من التزكية السياسية للأمة الإسلامية نفسها، وكشفت هذه الحركة بوضوح عن
1 انظر تفسير ابن كثير: ج4 ص218، 219.
2 الطبري: ج3 ص258.
الطابع التاريخي الملموس للكيان السياسي الذي أسسه النبي، ووطده عبر سنوات طويلة من الممارسة السياسية العملية.
وأدى العامل الأجنبي دورًا آخر في تحريك البواعث التي أدت بدورها إلى انتفاضة العرب وردتهم، ذلك أن إرسال النبي الكتب إلى المملوك، والأمراء المجاورين، ومن بينهم عاهل الفرس وإمبراطور البيزنطيين "الروم"، يدعوهم فيها إلى الإسلام، ما جعل هؤلاء يعملون على إثارة الفتنة في بلاد ليس فيها من أسباب الوحدة غير الدين الجديد1.
روى الطبري أنه "لما بويع أبو بكر رضي الله عنه، وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه قال: ليتم بعث أسامة، وقد ارتدت العرب إما عامة، وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت2 اليهود والنصارى، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم، وقلتهم وكثرة عدوهم"3.
ومن ثم فإن لنا أن نتصور، على الرغم من قلة المادة التاريخية، وانعدامها أحيانًا، حجم الدور اليهودي، والنصراني في حركة الردة والتنبؤ في حياة أبي بكر. ويذكر أن اليهود بخاصة يعملون خفية، ومن وراء حجاب، وقد أخفقت محاولاتهم لضرب الإسلام في عصر الرسالة، وكانت النتيجة التشتت، والتردي بعد أن طردهم النبي من المدينة، وأخضعهم في خيبر، فتربصوا بالإسلام والمسلمين.
وكان لتنوع الحياة في الجزيرة العربية دور في اضطراب العرب، فحياة الحضر والبدو تتجاور مع ما بينها من تباين، مما يجعل الوحدة القومية أمرًا ليس سهلًا، ثم إن طبيعة حياة البدوي لا تخضع لحاكم على النحو الذي يفهمه الحضري. فالبدوي لا يقابض باستقلاله الفردي شيئًا، كما ترى القبيلة في البادية أن حياتها تكمن في استقلالها، فتقاوم كل ما من شأنه الانتقاص، أو الحد منها. وعندما انتشر الدين الإسلامي بين العرب، وهو يدعو إلى التوحيد، خشي هؤلاء من أن تمتد وحدة الإيمان بالله إلى وحدة سياسية تقضي على استقلال أهل البادية4.
وبرزت العصبية القبلية بعد وفاة النبي بأوضح معانيها عند بعض القبائل، وقد اتخذت موقفًا سياسيًا معاديًا من قريش، بشكل خاص، التي تزعمت بنظرها جماعة المسلمين، ذلك أن هذه القبائل لم ترض من قبل بتفوق قريش، وزعامتها عليها،
1 هيكل، محمد حسين: الصديق أبو بكر ص99، 100.
2 اشرأبت: ارتفعت وعلت.
3 تاريخ الرسل والملوك: ج3 ص225.
4 هيكل: ص99.
وعدت استمرار هذه الزعامة بعد وفاة النبي كنوع من الوراثة التي لم يألفها العرب، لذلك لم تأخذ بيعة أبي بكر طابعها الإجماعي في أوساط القبائل، فكان لبعضها موقف لا ينسجم تمامًا مع الأسلوب الذي تم بموجبه اختياره كخليفة دون أن يكون لها رأي في هذا الاختيار.
ويرتبط بالعصبية، وما يتولد عنها من تنافس وتحاسد بين القبائل، ما نلاحظه من تسابق في إدعاء النبوة، فظهر المتنبئون في أنحاء مختلفة من الجزيرة العربية، وكانت هذه الظاهرة أحد الأصداء التي أحدثها نجاح النبي عقب فتح مكة، وتوسيع نفوذ الحكومة الإسلامية عبر توحيد مكة والمدينة.
وقد أتى الخطر الأكبر من شخصيتين ادعتا النبوة في حياة النبي:
الأولى: هي المتنبئ عبهلة1 بن كعب، ذو الخمار، المعروف بالأسود العنسي الذي نشر دعوته في اليمن.
والثانية: هي المتنبئ مسيلمة بن حبيب، المعروف بمسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة في بني حنيفة في اليمامة.
ويوضح الاستعراض الذي سنتعرض له في الفصل التالي للحوادث المرتبطة بظهور هاتين الشخصيتين في المركزين الخطيرين المنافسين للمدينة، كيف أنه التقت في هذه الأحداث حركتان مختلفتان.
الحركة الأولى: هي حركة تأسيس تحالفات قبلية على غرر التحالف الإسلامي، وتقليده في الشكل من خلال ظهور المتنبئين.
الحركة الثانية: هي حركة الردة الفعلية، أي نكث القبائل لعهودها التي عقدوها مع النبي في المدينة، وادعائهم بأن هذه العقود قد انتهت بوفاته، فامتنعوا عن دفع الزكاة.
وشاءت طبيعة الأحداث أن تندمج هاتان الحركتان، فكندة مثلًا التي ارتدت فعلًا بعد وفاة النبي التحقت بمركز الأسود العنسي بعد أن انفصلت عن مركز المدينة، والمعروف أن المصادر تدمج هذه الاتجاهات المختلفة في إطار واحد غير مميز، وتسميه الردة مع العلم بأن مسيلمة الكذاب مثلًا لم يعتنق الإسلام، ثم ارتد عنه وادعى النبوة حتى ننعته بالمرتد.
من خلال هذه الرؤية، فإن لحركة الردة أكثر من خلفية لا تبدو بالضرورة متجانسة، ولكنها تضافرت مع بعضها، وأدت إلى تفجير الوضع، وهذا يعني أن الردة بمفهومها
1 وفي رواية: عيهلة "بمثناة تحتية".
الفقهي لا تأخذ بعدها الشمولي لدى جميع القبائل؛ لأن بعضها كانت تحركه دوافع سياسية، أو اقتصادية لم تصب مطلقًا جوهر العقيدة1.
وإذا تجاوزنا عدم التمييز الذي تعتمده المصادر، فإن حركة الردة بعامة تمثل الجانب الديني والسياسي، والاجتماعي والاقتصادي من ردود الفعل التي أحدثها فورًا موت النبي، وعليه يمكن تصنيف المرتدين، والمنتفضين على حكم المدينة إلى أربع فئات:
الأولى: هي التي اعترضت على نتائج السقيفة مع احتفاظها بإيمانها، وصلتها بالعقيدة الإسلامية، غير أنها وعت بعد استتباب الأمر لأبي بكر، ولم ترتد عن الإسلام.
الثانية: هي التي ارتدت عن الإسلام، ووضع زعماؤها التيجان على رؤوسهم2.
الثالثة: هي التي رفضت دفع الزكاة إلى أبي بكر بوصفها نوعًا من التبعية، والتقييد لحرية، واستقلال هذه القبائل.
الرابعة: هي التي تبعت المتنبئين حتى اعتقد بعض الزعماء القبليين أن ادعاء النبوة وسيلة للوصول إلى الحكم، مدفوعين بعامل العصبية القبلية.
انتشرت حركة الردة جغرافيًا مع معظم أنحاء الجزيرة العربية، وامتدت من البحرين، وعمان على طول ساحل الخليج العربي، ومن الشرق إلى الجنوب الشرقي، ومن هناك إلى حضرموت3، واليمن في الجنوب، ثم من هناك إلى اليمامة4، أي أن هذه الحركة شكلت شبه نصف دائرة أحاطت بالقسم الأكبر من الجزيرة العربية.
1 بيضون: ص25، 26.
2 كان النعمان بن المنذر بن ساوى التميمي في البحرين قد وضع التاج على رأسه، وكذلك فعل لقيط بن مالك ذو التاج بعمان، انظر اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب: تاريخ اليعقوبي ج2 ص13- 17.
3 حضرموت: ناحية واسعة في شرقي عدن بقرب البحر، الحموي: ج2 ص270.
4 اليمامة: معدودة من نجد وقاعدتها حجر، كانت في الماضي منازل طسم وجديس، المصدر نفسه: ج5 ص442.