المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فتوح فارس "إيران - تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية

[محمد سهيل طقوش]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة:

- ‌الباب الأول: أبو بكر الصديق 11-13هـ-632-634م

- ‌الفصل الأول: الأوضاع السياسية في الجزيرة العربية عقب وفاة النبي

- ‌الأوضاع السياسية في المدينة

- ‌اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة

- ‌الأوضاع السياسية خارج المدينة:

- ‌الفصل الثاني: تفشي ظاهرة التنبؤ في المجتمع العربي

- ‌الفصل الثالث: حروب الردة

- ‌مدخل

- ‌ملابسات حوادث بني تميم:

- ‌القضاء على ردة بني حنيفة:

- ‌الفصل الرابع: أوضاع الدولتين الفارسية، والبيزنطية عشية الفتوح الإسلامية:

- ‌أوضاع الدولة الفارسية

- ‌تراجع النفوذ البيزنطي من بلاد الشام عشية الفتوح الإسلامية:

- ‌الفصل الخامس: الفتوح في عهد أبي بكر

- ‌فتوح العراق:

- ‌فتوح بلاد الشام:

- ‌الفصل السادس: استئناف الفتوح في عهد عمر:

- ‌فتوح العراق:

- ‌معركة القادسية:

- ‌الفصل السابع:‌‌ استكمال فتوح العراق-فتوح فارس "إيران

- ‌ استكمال فتوح العراق

- ‌فتوح فارس "إيران

- ‌الفصل الثامن: استكمال فتوح بلاد الشام-فتوح الجزيرة وأرمينية والباب

- ‌مدخل

- ‌معركة اليرموك

- ‌فتح بيت المقدس

- ‌الفصل التاسع: فتوح مصر

- ‌مدخل

- ‌أثر الفتح الإسلامي على أوضاع الأقباط:

- ‌التوسع نحو الغرب:

- ‌الفصل العاشر: الدولة الإسلامية في عهد عمر-مقتل عمر

- ‌مدخل

- ‌الإدارة في عهد عمر:

- ‌الموظفون الإداريون:

- ‌الوالي:

- ‌الدواوين:

- ‌القضاء:

- ‌القضاء في عهد عمر:

- ‌إدارة البلاد المفتوحة من خلال عقود الصلح:

- ‌الفصل الحادي عشر: الفتوح في عهد عثمان

- ‌الفصل الثاني عشر: الفتنة الكبرى ومقتل عثمان

- ‌الباب الرابع: علي بن أبي طالب 35-40هـ/ 656-661م

- ‌الصراع بين علي وأصحاب الجمل:

- ‌المواجهة المسلحة الأولى بين المسلمين:

- ‌وقعة الجمل:

- ‌الصراع بين علي، ومعاوية، والخوارج

- ‌معركة صفين:

- ‌مرحلة التجهيز، والاستعداد:

- ‌معركة النهروان:

- ‌الخاتمة:

- ‌المصادر والمراجع:

- ‌محتوى الكتاب:

الفصل: ‌فتوح فارس "إيران

نزل سعد في الأنبار، وقرر اتخاذها مقرًا، ولكن كثرة الذباب فيها اضطره إلى النزوح إلى كويفة عمر، فلم يجدها كما يرغب، فكتب إلى الخليفة للوقوف على رأيه، فأجابه:"إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان، فابعث سلمان، وحذيفة1 رائدين، فليرتادوا منزلًا بريًا بحريًا ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر"، نفذ سعد أوامر عمر، ونجح الرائدان في اختيار مكان مناسب بين الحيرة والفرات، فنزله المسلمون في شهر "محرم 17هـ/ كانون الثاني 638م"، وضربوا خيامًا في بادئ الأمر حتى يظلوا متأهبين للجهاد، ويبدو أن هذه كانت رغبة الخليفة حتى لا يلجأ المسلمون إلى الدعة، ثم أذن لهم بعد ذلك بأن يقيموا بيوتًا من القصب والقش، ولكن حريقًا كبيرًا شب، فالتهم معظم هذه البيوت، فطلب المسلمون من عمر أن يأذن لهم بإعادة البناء باللبن، فأذن لهم بشرط ألا يتطاولوا في البنيان2.

أشرف أبو الهيجاء بن مالك الأسدي على تخطيط المدينة، وأول ما شيد من أبنيتها المسجد الجامع، وبنيت أمامه ظلة واسعة المساحة أقيمت على أعمدة، وشيدت دار الإمارة بجوار المسجد، وسميت قصر سعد، وأقام الجند منازلهم حول فناء المسجد، فاختارت كل قبيلة مكانًا نزلت فيه وجعلت به خيامها. وكان من أهم مميزات المدينة الجديدة اتساع طرقها، حتى لا تحجب الأبنية هواء البادية عن سكانها.

فتوح فارس "إيران":

1 الطبري: ج4 ص41، 42.

2 المصدر نفسه: ص43، 44.

ص: 216

‌فتوح فارس "إيران

":

تمهيد:

لم يكن عمر بن الخطاب قد خطط في هذا الوقت لتفح بلاد فارس المعروفة بإيران اليوم، وكان هدف الاصطدامات التي حدثت حتى الآن داخل الأراضي الفارسية هو الحفاظ على إنجازات المسلمين، والمحافظة على الأراضي الإسلامية، إلا أن العراق الذي ضم إلى رقعة الدولة الإسلامية، يعد جزءًا من بلاد العرب؛ لأن العرب سكنوا في أنحائه قبل الإسلام، وكان عمر يقول:"وددت أن بيننا وبين فارس جبلًا من نار لا يصلون إلينا منه، ولا نصل إليهم"، ولكن الفرس لم يركنوا إلى الهدوء، فكانوا يجهزون الجيوش استعدادًا لمواصلة الحرب، كما كانوا يقومون بأعمال التمرد في البلاد المفتوحة1، ولما سأل عمر كبار الصحابة عن سبب ذلك

1 المصدر نفسه: ص79.

ص: 216

أجابوه: "لا يمكن أن تخمد هذه الفتنة ما لم يخرج يزدجرد من حدود إيران، ولا يمكن أن تنقطع آمال الإيرانيين طالما تراودهم هذه الفكرة، وهي أن وارث عرش "كنعان" موجود على قيد الحياة"1.

ومما زاد في تشجيع الفرس على التمادي في الخروج على حكم المسلمين، والاستعداد لحرب الاسترداد؛ إخفاق هؤلاء في فتح مدينة إصطخر2، والمعروف أن العلاء بن الحضرمي عامل عمر على البحرين عبر الخليخ إلى البر الفارسي دون الحصول على إذن من الخليفة، فقصد اصطخر، وتغلب على حامية السواحل، وتابع زحفه باتجاه المدينة، إلا أنه لم يؤمن على مؤخرته حيث تقضي السياسة العسكرية السليمة بتمركز قوة عسكرية في النقاط المهمة على الطريق إلى اصطخر، فقطع الفرس عليه خط الرجعة بقيادة الهربذ، ولم ينقذه سوى قرار الخليفة بإرسال مدد من حاميات البصرة، والكوفة وعزله عمر بعد ذلك جزاء مغامرته، ووضعه بتصرف سعد3.

فتح الأهواز وتستر 4:

اعتقد الفرس أن الأندفاع الإسلامي سوف يتوقف بعد أن يصل المسلمون إلى الثور، ولهذا اطمأنوا على ديمومة مملكتهم، والواقع أن سياسة عمر أن يتوقف المسلمون عن الزحف شرقًا، ولا يتعدوا العراق انسجامًا مع تطلعاته العربية حيث كانت بعض القبائل العربية تقيم فيه؛ لكن الأحداث المتسارعة دفعته خإلى تغيير هذه السياسة تجاه الفرس، وشجعته الانتصارات الإسلامية على التوغل في عمق الأراضي الفارسية.

كانت الأوضاع السياسية في فارس مزعزعة، وأركان الحكم متفرقين في النواحي، فقد رحل يزدجرد إلى الري كما ذكرنا، إلا أنه تعرض لمؤامرة من قبل حاكمها آبان جاذويه، فغادرها إلى خراسان عن طريق أصفهان وكرمان، وأقام بمرو، واتخذها قاعدة جديدة يحكم منها ما تبقى من مملكته، واستقر الهرمزان في الأهواز، وتشتت جنود فارس في مختلف النواحي5.

1 النعماني: شلبي: سيرة الفاروق ص139.

2 اصطخر: من أعيان حصون فارس وكورها، وبها كانت قبل الإسلام خزائن الملوك، الحموي: ج1 ص211.

3 الطبري: ج4 ص79، 80.

4 تستر: أعظم مدينة في الأهواز "خوزستان"، الحموي: ج2 ص29.

5 الطبري: ج4 ص166، 167.

ص: 217

وعندما علم يزدجرد، وأهل فارس بقرار الخليفة بألا يتعدى المسلمون العراق، ظنوا بأن هؤلاء أمسكوا عن تعقبهم خوفًا ورهبة، فطمعوا في استرداد ما فقدوه، ولم يزل يزدجرد يثير الفرس من قاعدته في مرو حتى تحركت قوة عسكرية ضخزة نحو تستر عاصمة الأهواز بقيادة الهرمزان، فأرسل سعد فرقة عسكرية من الكوفة إلى الأهواز بقيادة النعمان بن مقرن المزني، بناء على تعليمات عمر، كما كتب "عمر" إلى أبي موسى الأشعري عامله على البصرة بأن يرسل قوة عسكرية من جند البصرة بقيادة سهل بن عدي1.

كان سكان الأهواز قد أشعلوا الثورة ضد الوجود الإسلامي بفعل قرب بلادهم من الأبلة والبصرة، وقد أثارهم التغيير السريع للولاة في البصرة، وقد أملوا أن تندلع الاضطرابات الداخلية بين المسلمين، مما يساعدهم على طردهم من المنطقة.

سلك النعمان طريق السواد، وعبر دجلة عند ميسان وتابع زحفه إلى الأهواز، فاجتاز نهر تيري، ومناذر وسوق الأهواز، ثم اصطدم بالقوة الفارسية بقيادة الهرمزان بن رامهرمز في أربك2، وتغلب عليها، وانسحب الهرمزان إلى تستر وأخلى رامهرمز، فدخلها النعمان، ثم أتم فتح الأهواز بعد أن انضم إليه الجند الذين قدموا من البصرة بقيادة سهل بن عدي، كما انضم أبو موسى الأشعري إلى الجيش الإسلامي بعد ذلك، وحاصر المسلمون تستر، وقد تحصن بها الهرمزان، دام الحصار بضعة أشهر تخلله مناوشات بين الطرفين كانت سجالًا قبل أن يقتحم المسلمون المدينة بمساعدة أحد سكانها، وأسر الهرمزان، وأرسل إلى عمر في المدينة، فأعلن إسلامه أمامه3.

فتح السوس 4:

أحاط المسلمون بالسوس، وعليها شهريار أخو الهرمزان، وجرت بين الطرفين عدة مناوشات.

وعلم المسلمون أثناء الحصار بأن الفرس يحشدون قوات كثيفة في نهاوند، فرأوا أن يسيطروا على السوس قبل الزحف نحوها، فشنوا هجومًا مركزًا على المدينة واخترقوا تحصيناتها، فاستسلم سكانها وطلبوا الأمان5.

1 الطبري ج4 ص83.

2 أربك: بلد وناحية من نواحي الأهواز ذات قرى ومزارع، الحموي: ج1 ص137.

3 الطبري: ج4 ص84-89.

4 السوس: بلدة بخوزستان "الأهواز"، الحموي: ج3 ص280، 281.

5 الطبري: ج4 ص89-93.

ص: 218

فتح نهاوند:

تراجعت هيبة الإمبراطورية الفارسية بعد خسارة العراق، وانسحاب الفرس من الأهواز إلى عمق الأراضي الفارسية، وحركت هذه الظاهرة العنصرية الفارسية، وأحدثت يقظة في طبرستان1، وجرجان2 ودنباوند3، والري وأصفهان4 وهمذان، وأثارت الفرس في خراسان والسند5، فكتب سكان تلك المناطق إلى يزدجرد، وهو يومئذ في مرو، وأثاروه لتحرك جديد، فدعا إلى التعبئة، وحشد مائة ألف مقاتل، عين عليهم مردانشاه، ذا الحاجب، وسيرهم جميعًا إلى نهاوند6.

رصد قباذ بن عبد الله، الوالي على ثغر حلوان7، هذه الحشود فكتب إلى سعد بذلك، فأخبر سعد بدوره عمر، ثم حدث أن عزل سعد في هذه الظروف الحرجة بسبب وشايات أهل الكوفة ضده، وخلفه عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وهو صحابي متقدم في العمر8.

كانت سياسة عمر تقضي، حتى ذلك الوقت، بعدم السماح للمسلمين بالانسياح في الجبال، لكن حشود الفرس في نهاوند اضطرته إلى تغيير سياسته، فإذا لم يبادرهم المسلمون بالشدة ازدادوا جرأة، وربما كروا عليهم، وعقد مجلسًا للمشورة استمع فيه إلى آراء كبار الصحابة الذين أجمعوا على ضرورة الإمساك بزمام المبادرة9، وبذلك يكون عمر قد ألغى أوامره السابقة بعدم التوغل فيما وراء السواد.

1 طبرستان: بلدان واسعة كثيرة يشملها هذا الاسم، والغالب على هذه النواحي الجبال، فمن أعبائها دهستان وجرجان، وأستراباذ وآمل وهي قصبتها. الحموي: ج4 ص13.

2 جرجان: مدينة عظيمة مشهورة بين طبرستان وخراسان، المصدر نفسه: ج2 ص119.

3 دنباوند: جبل من نواحي الري عال مشرف، ناهق شامخ لا يفارق أعلاه الثلخ شتاء، ولا صيفًا المصدر نفسه: ص475، 476.

4 أصفهان أو أصبهان: مدينة عظيمة مشهورة من أعلام المدن وأعيانها، وأصفهان اسم للإقليم بأسره، وهي من نواحي الجبل، المصدر نفسه: ج1 ص206، 207.

5 السند: بلاد بين الهند وكرمان، وسجستان، المصدر نفسه: ج3 ص267.

6 البلاذري: ص300، وقارن بالطبري الذي يذكر أن الفرس حشدوا مائة وخمسين ألف مقاتل، ج4 ص122.

7 حلوان: مدينة كبيرة عامرة ليست بأرض العراق، بعد الكوفة والبصرة وواسط، وبغداد وهي بقرب الجبل، الحموي: ج2 ص291.

8 الطبري: ج4 ص120-122.

9 المصدر نفسه: ص123-125.

ص: 219

ومن سمات عمر الفذة أنه كان لديه معرفة كاملة بجميع أحوال البلد، لدرجة أنه كان تحت نظره ميزات كل فرد من أفراد الرعية ومؤهلاته، فاختار النعمان بن مقرن المزني لقيادة الجيش الإسلامي إلى نهاوند، وكان آنذاك عامل الخراج على كسكر من قبل سعد، وموجودًا في البصرة في جموع من أهل الكوفة، كان الخليفة قد أرسلهم مددًا عندما ثار الفرس هناك، وفي رواية أن النعمان كتب إلى عمر برغبته في الجهاد، وعدم بقائه على خراج كسكر، ووصل كتابه إلى المدينة في الوقت الذي تجمعت فيه جيوش الفرس في نهاوند، فكتب إليه بإمارة جند المسلمين1، ورسم له الخطة التي يتوجب عليه تنفيذها، وأردفه بقوات من المدينة بقيادة عبد الله بن عمر، وبثلث قوات البصرة بقيادة أبي موسى الأشعري، وثلث قوات الكوفة بقيادة حذيفة بن اليمان2.

وقدر عمر أن القتال سيكون ضاربًا، وربما أدى إلى استشهاد القائد، فاقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة مؤتة، فعين سبعة من الرجال خلفًا للنعمان في حال قتل، منهم حذيفة بن اليمان، جرير بن عبد الله البجلي، قيس بن مكشوح المرادي وغيرهم، فإن قتل واحد تولى الذي يليه3.

وخرج النعمان من السوس على رأس جيش الكوفة الذي يقدر بثلاثين ألف جندي متوجهًا إلى نهاوند، في الوقت الذي فتحت فيه قوة إسلامية مدينة جنديسابور بقيادة زر بن عبد الله كليب4، وبث العيون أمامه لاستكشاف المنطقة حتى لا يؤخذ على غرة، وهذا ما يفعله القادة العسكريون الناجحون عادة، وحتى يحكم الطرق على الحشود الفارسية في نهاوند، أمر قادة المسلمين بين فارس، والأهواز أن يناوشوا من يحاورهم من الفرس لمنعهم من نجدة أهل نهاوند، وأن يقيموا على الحدود الفاصلة بين فارس والأهواز، كما أرسل مجاشعًا بن مسعود السلمي إلى الأهواز، وأمره أن يخرج إلى ماه5 لقطع طريق الإمدادات على العدو، حتى إذا وصل إلى غضى شجر6 أمره النعمان أن يقيم مكانه7.

1 الطبري: ج4، ص114، 115.

2 البلاذري: ص300، الطبري: ج4 ص127، 128.

3 الطبري: ج4 ص93، 94.

4 البلاذري: ص300، الطبري: ج4 ص115.

5 ماه: الماء قصبة البلد، ومنه قيل: ماه البصرة وماه الكوفة وماه فارس، ويقال لتهاوند وهمذان، وقم ماه البصرة، الحموي: ج5 ص48.

6 غضى شجر: موضع بين الأهواز ومرج القلعة، المصدر نفسه: ج4 ص205.

7 الطبري: ج4 ص127.

ص: 220

وأخبره العيون بأن لا حشود عسكرية على طريق زحف الجيش إلى نهاوند فاطمأن النعمان، وواصل زحفه إلى أسبيهذان التي تبعد تسعة أميال عن نهاوند، وعسكر فيها بالقرب من المعسكر الفارسي، وقد خندق الفرس على أنفسهم، وألقوا حسك الحديد فيما وراءهم حتى لا يتعرضوا للهجوم من الخلف، وقد اقترن على عشرة جنود في سلسلة، وكل خمسة في سلسلة حتى لا يفروا1.

ويبدو أن الفرس تهيبوا الدخول في معركة، فطلبوا من النعمان أن يرسل إليهم رسولًا للتباحث بشأن التوصل إلى تفاهم سلمي، فأرسل إليهم المغيرة بن شعبة، لكن المباحثات انتهت إلى الفشل بسبب التصلب في المواقف، فقد عرض الفرس على المسلمين اقتراحهم القديم بالجلاء عن الأراضي الفارسية مقابل منحهم الإمان والسلم، وجاء الرد الإسلامي سريعًا بالرفض المطلق، وبدأ الطرفان يتسعدان للحرب، ثم التحما في رحى معركة ضارية، ابتدأت شديدة، واستمرت يومين، ولما لاح النصر للمسلمين، تراجع الفرس إلى المدينة وتحصنوا بها، وطرحوا حسك الحديد حول مواقعهم لعرقلة تقدم خيل المسلمين، فأحاط المسلمون بهم، ومرت أيام والجبهة على ذلك، فقلق المسلمون لعدم خروج الفرس من مواقعهم، واشتد الأمر عليهم، وبخاصة أنه دخل فصل الشتاء "شهر محرم عام 21هـ/ شهر كانون الأول عام 641م"2.

والواقع أن اختيار الفرس لنهاوند كموقع دفاعي كان ممتازًا، بفعل طبيعته الجبلية، وهو اختيار يتيح لقوة صغيرة متحصنة فيه أن تواجه جيشًا بكامله، وهكذا ظنوا أن تحصنهم وراء ذلك الموقع سوف يمنحهم المنعة، ويضعف بالمقابل روح المسلمين القتالية بعد أن يدب اليأس في نفوسهم، ويزعزع ثقتهم بالنصر.

وعقد النعمان مجلسا عسكريًا مع أركان حربه للتشاور، فتقرر تخصيص قوة عسكرية تعمل على دفع الفرس إلى الخروج من تحصيناتهم بالتحرش بهم، وإغرائهم على الالتحام، بالكر والفر، في حين يترصد سائر الجيش في أماكن خلفية خافية عن أعين العدو، فإذا حدث الالتحام تظاهرت القوة بالخسارة، وتتراجع أمامهم إلى حيث يستطيع جيش المسلمين أن يشترك في المعركة، ويلتحم بهم بعيدًا عن تحصيناتهم3.

1 الطبري: ج4 ص115-119، البلاذري: ص301.

2 الطبري: ج4 ص114، 129، 130، وقارن بالبلاذري: ص302، 303، وانظر: كمال ص219.

3 الطبري: ج4 ص129.

ص: 221

ونفذ القعقاع بن عمرو، ومعه سريته من الجند هذه الخطة، فناوش الفرس وأثارهم، فخرجوا من أماكنهم، ثم تظاهر وجنده بالهزيمة، والفرار إلى حيث مكان تجمع الجيش الإسلامي، فطاردوه وأضحوا بعيدين عن المدينة وتحصيناتها، فانكشفوا أمام المسلمين الذين طوقوهم وانقضوا عليهم، ودار قتال لم يسمع، ولم يشهد مثله جيش من الفرس أو المسلمين، وصمد المسلمون لضراوة القتال وشراسة هجمات الفرس بشكل مذهل، وقاتل الفرس قتال المستميت حتى كثر القتل فيهم، واستشهد كثير من المسلمين حتى كسيت أرض المعركة بالدماء يزلق فيه الناس والدواب، وأصيبت بعض خيول المسلمين في هذه الزلقة، كما أصيب النعمان حين زلقت قوائم فرسه في هذه الدماء، فسقط من فوقه، وكان قد جرح من رمية في خاصرته، كانت السبب في استشهاده، فتناول أخوه نعيم بن مقرن الراية منه قبل أن تقع، وسجى النعمان بثوب، ثم رفع الراية إلى حذيفة بن اليمان بوصفه خليفة النعمان، وتكتم المحيطون به هذا الأمر حتى لا يدب الوهن في قلوب الجند، واستمرت المعركة كالمعتاد1.

وواصل حذيفة قيادة المعركة التي كانت قد بدأت في منتصف يوم الجمعة واستمرت إلى عتمة الليل، وانتهت بانهيار التماسك الفارسي، وبالتالي هزيمة الفرس وانتصار المسلمين، وتراجع من نجا من المعركة لكنهم ضلوا طريقهم في عتمة الليل، فسلكوا طريقًا خاطئًا أوصلهم إلى واد عميق يقال له:"واية خرد"، فسطقوا فيه مع خيولهم، وقتل منهم ثمانون ألفًا، وكان مردانشاه من بين القتلى2.

وتمكن الفيرزان، وهو أحد قادتهم، من النجاة مع قلة من جنوده، وفروا إلى همذان فطاردهم نعيم والقعقاع، وأدرك هذا الأخير الفيرزان في ثنية همذان وقتله3.

واستسلمت حامية نهاوند، وطلب سكانها الأمان وأقروا بدفع الجزية، فأجابهم حذيفة إلى ما طلبوا، ودخل المسلمون المدينة في موكب النصر، وكتب حذيفة إلى عمر يبشره بالفتح4.

أصاب الفرس الهلع بهزيمة نهاوند، وتوغل المسلمين في أرضيهم، فازدادوا اضطرابًا، وتراجعت معنوياتهم، فليس إلا أن يأخذهم عمر وهم فيما هم فيه، وأن يدفع

1 الطبري: ج4 ص130-132، البلاذري: ص301، 302.

2 الطبري: ج4 ص116، 132، 133، 138.

3 المصدر نفسه: ص132، 133.

4 المصدر نفسه.

ص: 222

بقواته لتجتاح سائر ولاياتهم حتى تذعن كلها للمسلمين، ولا يبقى فيها أي أثر لمقاومة، وفعلًا عقد عمر عدة ألوية عسكرية عهد إلى قادتها بالانسياج في أرض فارس كلها.

فتح همذان:

واصلت فلول الفرس المنهزمة فرارها حتى وصلت إلى همذان، واحتمت بتحصيناتها، فحاصرهم المسلمون، وأدرك حاكم المدينة، خسروشنوم، بعد انهيار جيش نهاوند، وبلوغ المسلمين مدينته؛ خسارة القضية وبخاصة أنه يفتقر إلى القوة الضرورية للمقاومة والصمود، فآثر الاستسلام مقابل الأمان لمدينته وسكانها1، واقتدى به حاكم الماهين، وذلك في "أواخر عام 21هـ/ خريف عام 642م".

فتح أصفهان:

إلى جانب اهتمامه بفتح الجنوب الفارسي، اهتم عمر بفتح المناطق الشمالية، فأرسل عبد الله بن عتبان على رأس مقاتلة الكوفة إلى الشمال لفتح أذربيجان والري، فسار إلى أصفهان حيث احتشدت فيها قوة عسركية فارسية، وذلك في عام "21هـ/ 642م"، وأمده عمر بأبي موسى الأشعري من قاعدة البصرة، وانضم إليه جمع من جند النعمان بن مقرن في نهاوند، فأضحى من القوى ما جعله يصطدم بالقوة الفارسية المدافعة عن المدينة بقيادة شهريار جاذويه، ويتغلب عليها، ويقتل قائدها، وجرت المعركة في ضاحية سميت بعد ذلك برستاق الشيخ، نسبة إلى القائد شهريار المسن، تولي الأسبيران مهمة الدفاع عن المدينة، ولما كان عاجزًا عن الصمود، طلب الصلح وعرض الاعتراف بفتح المسلمين رستاق الشيخ، فكان أول رستاق فتحه هؤلاء من أصفهان2، واقتدى الفاذوسفان بالأسبيران، فصالح المسلمين، وسلمهم مدينته جي3، فأقر بالجزية لمن شاء الإقامة في المدينة، وبعودة الذين فروا منها، وقد صودرت أراضيهم حتى يدفعوا الجزية، ومن رفض سمح له بالخروج إلى حيث يشاء، وصودرت أراضيه4، وحدث فتح أصفهان في عام "21هـ/ 642م".

1 الطبري: ج4 ص147، 148.

2 المصدر نفسه: ص139-141.

3 جي: اسم مدينة ناحية أصفهان القديمة، وتسمى الآن عند الفرس شهرستان. الحموي: ج2 ص202.

4 الطبري: ج4 ص140.

ص: 223

إعادة فتح همذان:

انتهز سكان همذان فرصة عودة الجيوش الإسلامية إلى الكوفة، وانهماك المسلمين في فتوح مناطق أخرى، فانتفضوا على الحكم الإسلامي، ونقضوا صلحهم مع المسلمين، فأمر عمر نعيم بن مقرن أن يخرج إليهم في اثني عشر ألف مقاتل، وأن يدخل المدينة عنوة عقابًا لأهلها1.

حاصر نعيم المدينة، وأرغم سكانها على إعادة طلب الصلح، ولم يدخلها عنوة2، ولعل السبب في ذلك هو أنه سمع عن حشود فارسية أخرى بقيادة أسفنديار، كانت تتجمع للاصطدام به طمعًا في إخراجه من المنطقة، واسترداد ما كسبه هو وأخوه من قبل، فآثر أن يحتفظ بقواته سليمة ليواجه بها هذه الجموع المتزايدة.

والواقع أنه في ظل غياب التنسيق الفارسي العام، أخذت حاميات المدن على عاتقها مقاومة المسلمين منفردة أو مجتمعة، فقد تبادلت حاميات الري، وأذربيجان، والديلم الرسائل، واتفقوا على التصدي للمسلمين، فخرج جيش من الديلم بقيادة موتًا، وعسكر في واج روذ، وانضم إليه جيش من الري بقيادة الزينبي أبي فرخان، وجيش آخر قدم من أذربيجان بقيادة أسفنديار الرازي3.

تجاه هذه التحركات الفارسية، تحصن أمراء المسالح وراء أسوارهم، وكتبوا إلى نعيم في همذان يطلبون مساعدته، كما أخبروا عمر بذلك، خرج نعيم من همذان، ونزل بجنده في واج روذ، واشتبك مع القوى الفارسية في معركة ضاربة، حتى تذكر الناس معركة نهاوند، أسفرت عن انتصار المسملين، وقتل من الفرس

عدد لا يحصى، ونجا أسفنديار الرازي مع قلة من جنوده، وكذلك الزينبي، وأخبر عمر بهذا الانتصار4.

فتح الري:

توجه نعيم بعد انتصاره، إلى الري، فاستسلمت له حامية قها الواقعة بين واج روذ، والري بقيادة الزينبي، وسار هذا الأخير مع نعيم نحو الري، استنفر سياوخش بن مهران بن بهرام جوبين حاكم الري حاميات المدن المجاورة، فجاءته الإمدادات من دنباوند، وطبرستان وقومس5، واشتبك مع القوات الإسلامية على سفج جبل الري.

1 الطبري: ج4 ص147، 148.

2 المصدر نفسه.

3 المصدر نفسه: ص148، 149.

4 المصدر نفسه: 148-150.

5 قومس: كورة كبيرة واسعة تشتمل على مدن، وقرى ومزارع، وهي في ذيل جبال طبرستان، وقصبتها دامغان، وهي بين الري ونيسابور، الحموي: ج14 ص414.

ص: 224

وتمكنت قوة إسلامية من دخول المدينة بمساعدة الزينبي في الوقت الذي شن فيه الجيش الرئيسي هجومًا ليليًا عنيفًا، فانهزم القوم وكثر القتل فيهم، وخرب نعيم مدينة الري، وبنى على أنقاضها مدينة حديثة، وعين عليها الزينبي، وكتب لسكان الري، كتاب معاهدة، استتب الأمر للمسلمين في إقليم الري، ودخل مردانشاه مصمغان حاكم دنباوند في عهدة الصلح، وفتحت الري في عام "22هـ/ 643م"1.

فتح قومس:

كان نصر المسلمين بالري حاسمًا، لذلك أسرعت حاميات المدن، والأقاليم المجاورة في الدخول في ذمة المسلمين لقاء الأمان وتأدية الجزية، فلما سار سويد بن مقرن إلى قومس، بأمر عمر، لم يتصد له أحد، ودخلها سلمًا بلا حرب، ولا مقاومة2، وبفتح الري وقومس، ودنباوند لم يبق بين المسلمين، وشواطئ بحر قزوين من أرض فارس غير جرجان، وطبرستان وأذربيجان.

فتح جرجان:

عسكر سويد بعد صلح قومس ببسطام3، وكاتب ملك جرجان، وهو رزبان صول، يدعوه إلى الدخول في طاعة المسلمين، وهدده بالمسير إليه، فاستجاب لنداء الصلح، أقام سويد في جرجان حتى جبى خراجها، ووضع على مداخلها من يحرسها من أتراك دهستان4.

بعد صلح جرجان نقطة تحول في مسار التعامل مع القوى المحلية، ونظرًا لأهميته نورد نصوصه كما ذكره الطبري:

"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من سويد بن مقرن لرزبان صول بن رزبان، وأهل دهستان وسائر أهل جرجان؛ إن لكم الذمة، وعلينا المنعة، على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم، على كل حالم، ومن استعنًا به منكم، فله جزاؤه في معونته عوضًا من جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم، وأموالهم ومللهم، وشرائعهم ولا يغير شيء من ذلك هو إليهم ما أدوا وأرشدوا ابن السبيل، ونصحوا وقروا المسلمين، ولم يبد منهم سل ولا غل، ومن أقام فيهم فله مثل ما لهم، ومن خرج

1 الطبري: ج4 ص150، 151.

2 المصدر نفسه: ص151، 152.

3 بسطام: بلدة كبيرة بقومس على جادة الطريق إلى نيسابور بعد دامغان بمرحلتين، الحموي: ج1 ص421.

4 الطبري: ج4 ص152، 153.

ص: 225

فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، وعلى أن من سب مسلمًا بلغ جهده، ومن ضربه حل دمه"1.

نلاحظ في كتاب الصلح هذا ظاهرة ملفتة، فلأول مرة ممنذ فتح جرجان بدأ المسملون يستعينون بأصحاب البلالد المفتوحة الذين ما زالوا على وثنيتهم، ولعل مرد ذلك يعود إلى سببين:

الأول: إن حركة الفتوح قد امتدت، وتشعبت مع قلة عدد الفاتحين أمام كثرة أعدائهم، لقد كان جيش سويد بن مقرن اثني عشر ألفًا منذ خرج بهم من نهاوند، ففتح همذان والري، ثم فصل قسمًا من جيشه، وأرسله إلى أذربيجان بقيادة سماك بن خرشة، مددًا لبكير بن عبد الله، فنقص عدد قواته عما كان عليه بما لا يقل عن ألفين، ومع ذلك فإنه فتح قومس وجرجان، وهو مقدم على فتح المزيد مما وراء طبرستان، فكان عليه في هذه الحالة أن يستعين بالقوى المحلية ما دام ذلك ممكنًا مقابل إغراءات مادية، وهي الإعفاء من الجزية.

الثاني: إن تعاون بعض الفرس مع المسلمين من شأنه أن يدمر البنية التحتية للمجتمع الفارسي؛ لأنه يقسم الفرس إلى قسمين متناحرين، وإن إسقاط الجزية عن المتعاملين مع المسلمين من شأنه أن يشجع غيرهم على التهافت على هذا التعاون للتخلص من الجزية، ومن ثم يفتح الباب واسعًا لنشر الإسلام في المجتمع الفارسي في ظروف أكثر ملاءمة2.

يضاف إلى ذلك، أنه لأول مرة أضيفت إلى عهدة الصلح فقرة تتعلق بسب المسلم وضربه، وجزاء ذلك حل دمه، ويبدو أن سكان هذه المناطق كانوا يشتمون المسملين بسبب فتحهم لبلادهم، فلجأ سويد إلى هذا البند الجزائي حتى يردعهم.

فتح طبرستان:

بلغت أنباء انتصار المسملين، ودخولهم قومس وجرجان، مسامع فرخان حاكم خراسان، وكانت طبرستان داخلة في حكمه، فآثر السلامة، وصالح سويدًا3.

فتح أذربيجان:

تقع أذربيجان إلى الغرب من طبرستان وتجاورها، ويتاخم جنوبها بلاد العراق

1 تاريخ الرسل والملوك: ج4 ص152.

2 كمال: ص247، 248.

3 الطبري: ج4 ص153.

ص: 226

العربي والجزيرة الفراتية، والغالب على أرضها الجبال، واشتهرت بكثرة معابد النار فيها، ولهذا سميت بأذربيجان، ومعناها أرض النار، أو معابد النار.

عين عمر حذيفة بن اليمان على حرب أذربيجان، فسار إليها، حتى إذا وصل إلى أردبيل، وهي قصبتها، تصدى له حاكمها المرزبان، وجرى بينهما قتال ضار، ويبدو أنه "المرزبان" أدرك عدم جدوى المقاومة بعد أن مالت كفة المعركة لصالح المسلمين، فعرض الصلح على حذيفة، فأجابه إلى ذلك، وشمل الصلح جميع أهل أذربيجان على ثمانمائة ألف درهم، وزن ثمانية، مقابل عدم التعرض لأحد من السكان بالقتل، أو بالسبي مع المحافظة على بيوت النار، وللسكان أن يمارسوا شعائرهم الدينية، وإظهار ما كانوا يظهرونه1، ثم عزل عمر حذيفة، وولى عتبة بن فرقد السلمي أذربيجان، فأتاها من الموصل أو شهرزور، ولما دخل أردبيل وجد أهلها على العهد، وانتفضت عليه نواح فغزاها فظفر وغنم، وكان معه عمرو بن عتبة الزاهد2.

فتح إقليم فارس:

لم تشكل الأراضي التي سيطر عليها الفرس، والتي غزاها المسلمون، دولة مستقلة بالمفهوم العام للدولة، وإنما كانت داخلة ضمن إمبراطورية تضم دويلات، أو ولايات تخضع للحكم الفارسي، في حين تركزت الدولة التي أقامها الساسانيون، في إقليم فارس، ثم ضم هؤلاء إلى دولتهم ما جاورها من أقاليم، ووصل المسملون في عام "23هـ/ 644م" إلى قلب الإمبراطورية الفارسية الساسانية، إلى أرض الشعب الذي حكم الشعوب المجاورة؛ وبدأوا بفتح مدنها.

أرسل عمر ثلاثة ألوية لفتح إقليم فارس، انطلقت جميعها من قاعدة البصرة، وهي على الشكل التالي:

- مجاشع بن مسعود إلى أردشير خرة وسابور.

- عثمان بن أبي العاص إلى اصطخر.

- سارية بن زنيم الكناني إلى فسا وداربجرد.

وبعد أن اجتازوا جميعًا أرجان دون مقاومة، وكانت في طريقهم، تفرقوا كل إلى وجهته المحددة، وفتحوا كامل الإقليم3، والملفت أن كافة عمليات الفتح كانت عبارة

1 البلاذري: ص321.

2 المصدر نفسه: ص322، وقارن بالطبري: ج4 ص153- 155، وهو يفصل مضمون كتاب الصلح.

3 البلاذري: ص378-380، الطبري: ج4 ص174-177.

ص: 227

عن معارك صغيرة بالمقارنة مع معارك البويب، والقادسية وجلولاء ونهاوند، وذلك بفعل قضاء المسلمين في تلك المعارك على القوة الميدانية للإمبراطورية الفارسية المنهارة.

فتح كرمان:

تقع كرمان إلى الشرق من إقليم فارس، وإلى الجنوب من صحراء خراسان وسجستان، ويحدها من الجنوب بحر فارس، اختص سهيل بن عدي الأنصاري الخزرجي بفتح هذا الإقليم، فخرج من البصرة على رأس الجيش، واصطدم بحاميات الإقليم، وانتصر عليها وفتحه1.

فتح سجستان:

تقع سجستان إلى الشمال من مكران، وتشغل الآن أجزاء من إيران وأفغانستان، كان يزدجرد يكرمان حين هاجمها المسلمون، فخرج منها إلى خراسان، وحاول أن يعبئ أهلها، وأهل سجستان لمقاومة الزحف الإسلامي، وبخاصة أن المسافة بين هذين الإقليمين، وكل من البصرة والكوفة، قاعدتي الإمدادات الإسلامية، شاسعة جدًا.

كان عاصم بن عمرو التميمي هو المكلف بفتح هذا الإقليم، فسار إليه ولحق به عبد الله بن عمير الأشجعي من غطفان، فالتقيا بقوات سجستانية في أول حدود الإقليم، فاصطدما بها وتغلبا عليها، فتراجع أفرادها إلى الداخل، وتحصنوا بعاصمتهم زرنج، فحاصرهم المسلمون، وضيقوا عليهم بما كانوا يشنونه من غارات على الضواحي، واضطر سكان زرنج إلى طلب الصلح، فصالحهم عاصم على مدينتهم، وما احتازوا من الأرض، وأن تكون مزارعهم حمى لهم لا يمسها المسلمون2.

فتح مكران:

تدخل مكران ضمن أراضي السند -باكستان اليوم- ولكن جزءًا منها يقع ضمن أراضي إيران، وهي ناحية واسعة، غزاها الحكم بن عمرو التغلبي، فاصطدم بحاكمها راسل، وانتصر عليه واستقر فيها، وكتب إلى عمر يبشره بالفتح مع صحار العبدي، وسأله عمر عن مكران، كما هي عادته كلما قدم عليه رسول يبشره بفتح ناحية، فأجابه: "يا أمير المؤمنين، أرض سهلها جبل، وماؤها وشل -قليل-وتمرها دقل-أردأ التمر-، ولصها بطل، وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير بها قليل، والقليل بها

1 الطبري: ج4 ص180.

2 المصدر نفسه: ص180، 181.

ص: 230

ضائع، وما وراءها شر منها"، فتأثر عمر من هذا الوصف، وقال: "لا يغزوها جيش لي ما أطعت"، وكتب إلى الحكم، وسهيل بن عدي، وهو أحد مساعديه "لا يجوزن مكران أحد من جنودكما، واقتصرا على ما دون النهر"1، لذا تعد مكران آخر حدود فتوح عمر، استنادًا لرواية الطبري، في حين ذكر البلاذري2 أن الجيوش الإسلامية، وصلت إلى المنطقة المنخفضة من الديبل3 وبلدة تانة، وإذا أخذنا بهذه الرواية، فإن الإسلام قد دخل السند، والهند في عهد عمر.

فتح خراسان:

بعد فتح خراسان محورًا رئيسيًا في الصراع الإسلامي -الفارسي من واقع ناحيتين:

الأولى: أن يزدجرد تمركز في مرو4 بخراسان بعد فراره من أمام زحف المسلمين، وسوف يخرجه هذا القرار من أرض فارس إلى بلاد الأتراك والصين، فيقيم في حماية حكامهما.

الثانية: أن سقوط خراسان بيد المسلمين من شأنه أن يقضي على:

- آخر أمل لدى الفرس لطرد المسلمين من المناطق الشرقية المفتوحة.

- آخر ملوك بني ساسان، فتسقط بذلك الأسرة الحاكمة.

عقد عمر للأحنف بن قيس لواء قيادة الجيش، فخرج من البصرة، وسلك طريق أصفهان، وتزامن اجتيازه لها مع حصار عبد الله بن عبد الله بن عتبان لمدينة جي، وهذا يعني أن الحملة خرجت من قاعدة البصرة في عام "21هـ/ 642م"، غير أنها أتمت مهمتها خلال عام "22هـ/ 643م"، ثم وصل الأحنف إلى الطبسين5، وتوغل حتى بلغ هراة6، وفتحها عنوة7.

1 الطبري: ج4 ص181، 182.

2 فتوح البلدان: ص420.

3 الديبل: مدينة مشهورة على ساحل بحر الهند، الحموي: ج2 ص495.

4 مرو: هما مروان، مرو الروذ ومرو الشاهجان بينهما مسيرة خمسة أيام، الأولى صغيرة والثانية كبيرة، وهي قصبة خراسان، المصدر نفسه: ج5 ص112، 113.

5 الطبسين: هي تثنية طبس، والطبسان قصبة ناحية بين نيسابور، وأصفهان وكرمان، وتسمى قهستان قاين، وهما بلدتان: طبس العناب وطبس التمر، المصدر نفسه: ج4 ص20، 21.

6 هراة: مدينة عظيمة مشهورة من أمهات مدن خراسان، المصدر نفسه: ج5 ص396.

7 الطبري: ج4 ص167.

ص: 231

يعد سقوط هراة خطوة أولى على طريق سقوط خراسان كلها، فأرسل الأحنف فرقة عسكرية بقيادة مطرف بن عبد الله بن الشخير لفتح نيسابور1، وفرقة أخرى لفتح سرخس2 بقيادة الحارث بن حسان السدوسي، وسار بنفسه باتجاه مرو الشاهجان، حيث يقيم يزدجرد لله، فلما اقترب منها غادرها الملك الفارسي إلى مرو الروذ، واستقر الأحنف مكانه في مرو الشاهجان3.

والواضح أن المسلمين جردوا يزدجرد من كل أرضه، واضطروه على الفرار حتى آخر حدود مملكته، ولم يبق أمامه سوى الالتجاء إلى جيرانه، وطلب مساعدتهم، وفعلًا، فقد كتب إلى ثلاثة ملوك يستمدهم، ويستنجد بهم وهم خاقان الترك، وملك الصغد4 وملك الصين، لكن الأحنف لم يمهله، وهاجمه في مرو الروذ بعد أن تلقى إمدادات من الكوفة، ومرة أخرى، يفر يزدجرد، إلى بلخ5، ودخل الأحنف مرو الروذ، وأرسل وحدات عسكرية في إثره، لم لحق بها، فحاضر المدينة وفتحها6.

كان طبيعيًا أن يتابع يزدجرد فراره من أمام المسلمين، ولما لم يكن له في أرض مملكته مكان يفر إليه ويحتمي به، عبر نهر جيحون إلى خاقان الترك الذي توافقت مصلحته مع مصلحة العاهل الفارسي، وقد خشي من الامتداد الإسلامي باتجاه بلاده، وتعاون الرجلان في مقاومة فاشلة حيث جندا جيشًا، وهاجما المسلمين في خراسان، وانتهى الأمر بانسحاب خاقان الترك إلى بلاده مقتنعًا بما تناهى إلى أسماعه من أن المسلمين لن يعبروا النهر، على تعليمات عمر7.

أما يزدجرد فقد نزل ضيفًا على حاكم مرو، ماهويه، الذي لم يكن يتمنى غير التخلص من ضيفه الذي رفض أن يزوجه ابنته، وتحالف مع نيزك طرخان التابع لبيغو حاكم طخارستان8، فأرسل نيزك جماعة لأسره، فاشتبكوا معه وهزموه، فمضى هاربًا حتى انتهى إلى بيت طحان على شاطئ نهر المرغاب، فمكث ليلتين

1 نيسابور: مدينة عظيمة مشهورة في خراسان، الحموي: ج5 ص331.

2 سرخس: مدينة قديمة من نواحي خراسان بين نيسابور ومرو، المصدر نفسه: ج3 ص208.

3 الطبري: ج4 ص167.

4 الصغد: كورة، قصبتها سمرقند، وتعد من بلاد ما وراء النهر، الحموي: ج3 ص409.

5 بلخ: مدينة مشهورة بخراسان، المصدر نفسه: ج1 ص479، 480.

6 الطبري: ج4 ص167، 168.

7 المصدر نفسه: ص168-171.

8 طخارستان: ولاية واسعة كبيرة تشتمل على عدة بلاد، وهي من نواحي خراسان، الحموي: ج4 ص23.

ص: 232

وماهويه يبحث عنه، فلما أصبح اليوم الثاني دخل الطحان إلى بيته، فرأى يزدجرد بهيئته الملكية وهو لا يعرفه، فبهت، وطمع به، فقتله بعد أن وشى به إلى ماهويه، وطرح جثته في النهر، وذلك في عام "31هـ/ 652م"، ولما يبلغ الثامنة والعشرين من عمره، وقد خلف ابنين هما بهرام وفيروز وثلاث بنات هن أورج، وشهربانو ومرداوند1.

وبفرار يزدجرد إلى ملك الترك، ومقتله بعد ذلك تم القضاء على الإمبراطورية الفارسية.

1 الطبري: ج4 ص293-298.

ص: 233