المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل التاسع: فتوح مصر ‌ ‌مدخل … الفصل التاسع: فتوح مصر أوضاع مصر قبل الفتح - تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية

[محمد سهيل طقوش]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة:

- ‌الباب الأول: أبو بكر الصديق 11-13هـ-632-634م

- ‌الفصل الأول: الأوضاع السياسية في الجزيرة العربية عقب وفاة النبي

- ‌الأوضاع السياسية في المدينة

- ‌اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة

- ‌الأوضاع السياسية خارج المدينة:

- ‌الفصل الثاني: تفشي ظاهرة التنبؤ في المجتمع العربي

- ‌الفصل الثالث: حروب الردة

- ‌مدخل

- ‌ملابسات حوادث بني تميم:

- ‌القضاء على ردة بني حنيفة:

- ‌الفصل الرابع: أوضاع الدولتين الفارسية، والبيزنطية عشية الفتوح الإسلامية:

- ‌أوضاع الدولة الفارسية

- ‌تراجع النفوذ البيزنطي من بلاد الشام عشية الفتوح الإسلامية:

- ‌الفصل الخامس: الفتوح في عهد أبي بكر

- ‌فتوح العراق:

- ‌فتوح بلاد الشام:

- ‌الفصل السادس: استئناف الفتوح في عهد عمر:

- ‌فتوح العراق:

- ‌معركة القادسية:

- ‌الفصل السابع:‌‌ استكمال فتوح العراق-فتوح فارس "إيران

- ‌ استكمال فتوح العراق

- ‌فتوح فارس "إيران

- ‌الفصل الثامن: استكمال فتوح بلاد الشام-فتوح الجزيرة وأرمينية والباب

- ‌مدخل

- ‌معركة اليرموك

- ‌فتح بيت المقدس

- ‌الفصل التاسع: فتوح مصر

- ‌مدخل

- ‌أثر الفتح الإسلامي على أوضاع الأقباط:

- ‌التوسع نحو الغرب:

- ‌الفصل العاشر: الدولة الإسلامية في عهد عمر-مقتل عمر

- ‌مدخل

- ‌الإدارة في عهد عمر:

- ‌الموظفون الإداريون:

- ‌الوالي:

- ‌الدواوين:

- ‌القضاء:

- ‌القضاء في عهد عمر:

- ‌إدارة البلاد المفتوحة من خلال عقود الصلح:

- ‌الفصل الحادي عشر: الفتوح في عهد عثمان

- ‌الفصل الثاني عشر: الفتنة الكبرى ومقتل عثمان

- ‌الباب الرابع: علي بن أبي طالب 35-40هـ/ 656-661م

- ‌الصراع بين علي وأصحاب الجمل:

- ‌المواجهة المسلحة الأولى بين المسلمين:

- ‌وقعة الجمل:

- ‌الصراع بين علي، ومعاوية، والخوارج

- ‌معركة صفين:

- ‌مرحلة التجهيز، والاستعداد:

- ‌معركة النهروان:

- ‌الخاتمة:

- ‌المصادر والمراجع:

- ‌محتوى الكتاب:

الفصل: ‌ ‌الفصل التاسع: فتوح مصر ‌ ‌مدخل … الفصل التاسع: فتوح مصر أوضاع مصر قبل الفتح

‌الفصل التاسع: فتوح مصر

‌مدخل

الفصل التاسع: فتوح مصر

أوضاع مصر قبل الفتح الإسلامي:

تمهيد:

يرتبط فتح مصر بأهميتها السياسية والاقتصادية، وذلك بما لديها من خصائص، وما توفره من إمكانات على جانب كبير من الأهمية، ويروي ابن عبد الحكم أن عمرو بن العاص أشار على عمر بن الخطاب بفتحها، وقال:"إنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونًا لهم، وهي أكثر الأرض أموالًا، وأعجزها عن القتال والحرب"1، والمعروف أن عمرًا كان قد سافر إلى مصر في الجاهلية للتجارة، فوقف على معالمها وعلى أوضاعها الداخلية، وبخاصة النزاع الديني بين البيزنطيين الحاكمين، وبين الشعب المصري الذي يخالفهم في المذهب، وظن أن المصريين سوف يمتنعون عن مساعدة الحاميات العسكرية البيزنطية المنتشرة في مصر إذا هاجمها المسلمون، ومما زاده اقتناعًا بما يظنه ما تناهى إلى أسماع المصريين عن سياسة المسلمين المتسامحة في بلاد الشام.

اجتمع عمرو بن العاص بعمر بن الخطاب في الجابية حين جاء إلى بلاد الشام بعد طاعون عمواس، وعرض عليه فتح مصر وطلب السماح له بالمسير إليها2 وهنا تظهر لأول مرة في المصادر العربية فكرة فتح مصر، وكأنها فكرة طارئة عنت لعمرو بن العاص الذي كان يسعى للحصول على ميدان جديد يظهر فيه نشاطه، وحسنها للخليفة عمر، وتجري بعض المصادر أن فكرة فتح مصر تعود إلى عمر بن الخطاب نفسه الذي أمر عمرو بن العاص بالمسير إليها3.

والواقع أن فتح مصر أضحى ضرورة بعد فتح بلاد الشام، وقد أثارت هذه البلاد

1 فتوح مصر وأخبارها: ص131.

2 المصدر نفسه.

3 الواقدي: ج2 ص36-38.

ص: 287

اهتمام المسلمين الجدي بعد أن وقفوا على أوضاعها السياسية، والاقتصادية والدينية المتردية، ذلك أن تطلعات عمرو بن العاص، ومن خلالها عمر بن الخطاب تكمن في فتح مصر، وضمها إلى الدولة الإسلامية من خلال هذا الواقع.

الوضع السياسي:

كانت مصر ولاية رومانية تابعة مباشرة لرومة منذ عام 31 ق. م، حين استولى الرومان عليها، وقضوا على حكم البطالسة1 فيها، واتخذها الإمبراطور أغسطس قيصر مخزنًا يمد رومة بحاجتها من الغلال، واتصف الحكم الروماني بالتعسف، فقد برع الرومان في ابتكار الوسائل التي تتيح لهم استغلال موارد البلاد، ففرضوا على المصريين نظمًا ضريبية متعسفة شملت الأشخاص، والأشياء والصناعات، والماشية والأراضي، فضاق المصريون ذرعًا بها، وقاموا بعدة ثورات ضد الحكم الروماني لعل أشهرها تلك التي قامت في عهد الإمبراطور ماركوس أورليوس "161-180م"، وتعرف بحرب الزراع، أو الحرب البوكولية2، ولكن الرومان كانوا يقضون على هذه الثورات في كل مرة3.

ظلت مصر تحت الحكم الروماني ما يزيد على أربعة قرون، ففي عام 395م انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين شرقي وغربي، وعلى الرغم من استمرار فكرة وحدة الإمبراطورية، فقد حكم أمبراطوران معًا، واحد في الشرق وآخر في الغرب، وفي عام 476م سقط القسم الغربي في أيدي البرابرة الجرمان في حين نجا القسم الشرقي الذي عرف بالإمبراطورية البيزنطية، وعاصمته القسطنطينية.

وكانت شمالي إفريقية ومن ضمنها مصر تابعة لهذه الإمبراطورية من خلال ما كان يعرف بأرخونية إفريقية، إلا أنها بظروفها السياسية والدينية، تعد امتدادًا طبيعيًا لبلاد الشام مع بضع الاختلاف في المدى الذي ترتبط به بالحكم المركزي في القسطنطينية، فقد وحدت بينهما العقيدة النصرانية، ولكن وفقًا لمفهوم لا يتفق كثيرًا مع المذهب الإمبراطوري الملكاني مما سنشرحه فيما بعد، ومن ناحية أخرى، كان الحكم البيزنطي، مباشرًا ومستبدًا يدار بواسطة حاكم يعينه الإمبراطور لكن الحضور السياسي كان ضعيفًا، مما أدى إلى انعدام التوازن في العلاقة بين الحكم المركزي

1 البطالسة: نسبة إلى بطليموس بن لاغوس 323-285 ق. م، أحد أقدر قادة الإسكندري المقدوني وأعظمهم حكمة، وكانت مصر من نصيبه بعد تقسيم تركة القائد المقدوني بين قادته.

2 البوكولية: نسبة إلى المنطقة المعروفة باسم بوكوليا الواقعة في شمالي الدلتا.

3.

Jourguet: p: L'Egypt Greco-Romain. I p 369

ص: 288

والشعب المصري، وكان المظهر الوحيد للسيادة المركزية، والإدارة التي تؤمن مصالح الدولة الحاكمة، هو وجود مراكز عسكرية في المدن الكبرى، وبعض الحاميات المنتشرة في الداخل1.

وكانت مصر، بوصفها مرتبطة مباشرة بالحكم المركزي، تتأثر بما كان يحدث في البلاط البيزنطي من صراعات، ومؤامرات من أجل السلطة، فتعرض المصريون لأشد أنواع المضايقات في عهد الإمبراطور فوقاس "602-610م"، فما اشتهر به عهده من المؤامرات والاغتيالات، إنما حدد الإطار الخارجي الذي جرى في نطاقه من العوامل ما أدى إلى انتشار الفوضى، والتفكك البطيء في الحكومة والمجتمع، وقد تأثرت مصر بذلك، فامتلأت أرض الصعيد بعصابات اللصوص، وقطاع الطرق، وغزاها البدو وأهل النوبة، واضطربت أوضاع مصر السفلى أيضًا، وأضحت ميدانًا للشغب والفتن، والثورات بين الطوائف، وقد توشك أن تكون حربًا أهلية، وانصرف الحكام إلى جمع المال لخزينة الإمبراطورية بغض النظر عن مشروعية الوسائل، أو عدم مشروعيتها، فاضطرمت مصر بنار الثورة.

وتعرضت الإمبراطورية في هذه الأثناء إلى كارثة خطيرة، إذا هزمت عسكريًا في البلقان، وآسيا الصغرى، وبلاد الشام، واجتاحتها الجيوش الفارسية، ثم شرع الفرس بغزو مصر، فسقطت الإسكندرية في أيديهم في عام 619م، ولم تلبث مصر كلها أن أضحت تحت حكمهم.

شعر المصريون بحرية لم يعهدوها من قبل في ظل حكم فوقاس، ذلك أن الفرس تركوا لهم أمر الحكم على نحو من اللامركزية المألوفة في بلادهم، وأسقطوا عنهم كثيرًا من الأعباء التي كانت ترهقهم، وإن ظلوا متعالين عليهم بوصفهم الطبقة الحاكمة.

وهكذا استهل القرن السابع الميلادي، والدولة البيزنطية تسير في طريق الانحدار، ولم ينقذ الموقف إلا ثورة حاكم أرخونية إفريقية، على حكم فوقاس، وانحازت إليه مصر، ونجح هرقل في خلع فوقاس، وتولى الحكم.

وبفضل ما اتخذه من تدابير إصلاحية، عسكرية وإدارية، نهض لقتال الفرس، واسترد ما فقدته الإمبراطورية البيزنطية على أيديهم، فاستعاد بلاد الشام ومصر، وكان الأقباط سكان مصر يأملون أن يجدوا في الحكم الجديد سيرًا أرفق بهم مما كانوا يعانونه من عسف فوقاس، وبأن يكافئهم هرقل على مساندتهم له، وألا يرهقهم حكمه.

1 بيضون: ص67، 68.

ص: 289

والواقع أنهم لم يشعروا بخيبة أمل بالغة في بادئ الأمر، إذ ليس ثمة ما يدعو إلى الشك في أن هرقل كان حريصًا على أن يستقطب المصريين، وكان واليه على مصر نيقتاس يرى لزامًا عليه أن يجزيهم على ما قدموه من خدمة للإمبراطورية. لكن سرعان ما خاب أملهم، فقد عاد الحكيم البيزنطي إلى سيرته الأولى من التعسف، مما أدى إلى التباعد بين الشعب وحكامه، كانت تغذيه باستمرار المحاباة القمعية، التي ارتبطت بآخر الحكام البيزنطيين قيرس1، الذي سعى إلى تنفيذ برنامج هرقل الهادف إلى تدعيم مركزية النظام بضرب المذاهب المتعارضة مع المذهب الرسمي للدولة.

وكانت مصر تمثل امتدادًا طبيعيًا لبلاد الشام من وجهة النظر الجغرافية والعسكرية والاقتصادية، وللبيزنطيين فيها جيش كبير قوامه ثلاثون ألفًا، فإذا ظلت تحت الحكم البيزنطي، فإن من شأن ذلك أن يحاصر البيزنطيون بلاد الشام من الجنوب، بالإضافة إلى سهولة إرسال حملة بيزنطية عن طريق البحر الأحمر لتهديد بلاد الحجاز، يضاف إلى ذلك إدراك كل من عمر بن الخطاب، وعمرو بن العاص أهمية وضع المسلمين يدهم على مصر، والمزايا التي تعود عليهم بامتلاكها، وبخاصة فيما يتعلق بمواصلة نشر الدين الإسلامي على أساس توحيد القوى الحاكمة في كل من البلدين الشام، ومصر تحت زعامة حاكم مسلم، وإن من شأن ذلك أن يقطع على البيزنطيين جهودهم في مضايقة المسلمين، واستعادة بلاد الشام.

وكان من البديهي أن يتأثر المسلمون بعد فتحهم لبلاد الشام، بهذه الحقيقة للأسباب نفسها، فكانت مصر في الإطار العام ذات ارتباط عضوي، وهو ما ناقشه مؤتمر الجابية2.

الوضع الاقتصادي:

عرف العرب مصر منذ حقب بعيدة، وذلك بفعل ما كان بينها، وبين الجزيرة العربية من صلات أبرزها الصلة التجارية، ذلك أن مصر كانت منذ أيام الفراعنة دولة بحرية تجوب أساطيلها التجارية البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، وهيمنت على

1 سمي المؤرخون المسلمون قبرس باسم المقوقس، وسنستعمل هذا الاسم كما ورد في المصادر الإسلامية، وتجدر الإشارة إلى أن قبرس هو قورش، وكان أسقف فاسيس بالقوقاز، جاء إلى مصر بعد أن عينته الدولة البيزنطية بطريركًا عليها، وقد لقبه الأقباط الذين يكرهونه بالقوقازي، ومنه اسم المقوقس الذي تطلقه عليه المصادر العربية، انظر: تروبو، جيرار: المسيحية في العقود الإسلامية الأولى ص451-457، بحث في كتاب: المسيحية عبر تاريخها في المشرق.

2 بيضون: ص68، 69.

ص: 290

التجارة الشرقية، والمعروف أن الفراعنة شقوا طرقًا ملاحية تصل البحر الأحمر بفروع النيل لتسهيل الحركة التجارية.

لم تكن الطرق البحرية الأداة الوحيدة التي تصل مصر بالجزيرة العربية، بل كان مضيق السويس أداة اتصال بينهما، فئقد كان في شبه جزيرة سيناء طريق عبده المصريون القدماء، يؤدي إلى مناجم النحاس فيها، وكان هذا الطريق يتصل بشمالي الحجاز، ويتقاطع عند تيماء مع الطريق الذاهب إلى العراق، ويتصل بطريق القوافل المنحدر إلى مكة واليمن، إنه الطريق التهامي الموازي تقريبًا لساحل البحر الأحمر من عدن إلى أيلة -العقبة- ومنها إلى مصر.

كان المصريون يحملون البضائع التجارية إلى بلاد العرب، ويقيمون فيها ريثما يعودون بتجارة الشرق، وكذلك فعل العرب، فكانوا يحلمون تجارة الشرق إلى مصر، ويقيمون فيها ريثما يعودون إلى بلادهم، ولقد أدت هذه الحركة التجارية إلى استقرار جالية مصرية في بلاد العرب، وإقامة جالية عربية في مصر.

استمرت الصلة التجارية بين مصر، والجزيرة العربية قائمة بعد قضاء الرومان على حكم البطالسة في مصر، تقوى حينًا وتضعف أحيانًا، ثم حدث أن ورثت بيزنطية المناطق الشرقية للإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي على أثر انقسام هذه الأخيرة إلى قسمين شرقي وغربي، وسقوط القسم الغربي في أيدي البرابرة الجرمان كما ذكرنا، في الوقت الذي استأنف فيه العرب رحلاتهم التجارية، وبخاصة رحلة الصيف إلى بلاد الشام حيث كانت بعض القوافل تنحدر عند أيلة إلى مصر، ويدل ذلك على أن جزءًا مهمًا من البضائع الشرقية كان معدًا للتصدير بحرًا إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط عبر ميناء الإسكندرية.

كون العرب، بحكم هذا الواقع التجاري، صورة عن أوضاع مصر، زادها القرآن الكريم وضوحًا حين تحدث عن غنى هذا البلد الزراعي، يقول القرآن الكريم تعقيبًا على ما حدث من غرق فرعون وقومه:{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان: 25- 27]، ويقول أيضًا:{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51]، ويقول على لسان بني إسرائيل بعد أن أخرجهم موسى من مصر:{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61] .

ص: 291

وفي عصر الرسالة، ومن خلال عالمية الدعوة الإسلامية، أرسل النبي محمد صلى الله عليه وسلم مبعوثين إلى ملوك، وأمراء الشرق الأدنى، إلى

كسرى، وقيصر وملوك الحيرة، وغسان وأمراء الجنوب، وإلى المقوقس حاكم مصر، يدعوهم إلى الإسلام، والملفت أن رد المقوقس كان لطيفًا، بل أكثر الأجوبة مجاملة، وقد بعث مع حاطب بن أبي بلتعة، الذي حمل الرسالة إليه، هدية، هي عبارة عن كسوة، وبغلة بسرجيها وجاريتين، ومقدارًا من المال، وبعض

خيرات مصر1. وقد اصطفى النبي لنفسه إحدى الجاريتين، وهي مارية القبطية، فولدت له إبراهيم، فرفعها إلى مقام زوجاته، وكان يقول: "استوصوا بالقبط خيرًا، فإن لكم منهم صهرًا" 2.

والواضح أن اختيار حاطب بن أبي بلتعة مبعوثًا إلى المقوقس يدل على أمرين:

الأول: أنه كان كثير التردد على مصر للتجارة.

الثاني: أنه كان يعرف لغة المصريين.

ولا شك بأن المسلمين ازدادوا معرفة بأوضاع مصر بعد فتوح بلاد الشام، إذ إنهم أضحوا على تخومها، والمعروف أن الصلة بين البلدين كانت وثيقة، فكلاهما يقعان تحت الحكم البيزنطي، وكان سكان بلاد الشام يذهبون إلى مصر للتجارة، كما أن العرب لم يجهلوا ثروة مصر آنذاك، وبخاصة أن كثيرًا منهم كان يذهب إليه للتجارة منذ أيام الجاهلية أمثال عمرو بن العاص، وعثمان بن عفان، والمغيرة بن شعبة، فكان خصب مصر، ووفرة إنتاجها مغريًا، وإن امتلاكها سوف يتيح للمسلمين الاستفادة من مواردها، وتسخيرها في خدمة الجهاد الديني، وإن النجاح في تحقيق هذه الهدف هو خطوة حاسمة في طموح المسلمين مع ازدياد الضغط الاقتصادي على المجتمع الإسلامي في بلاد العرب، لذلك كان فتح مصر ضرورة اقتصادية ملحة.

الوضع الديني:

كانت مصر في طليعة البلدان الشرقية التي تسربت إليها النصرانية في القرن الأول الميلادي، وانتشرت تدريجيًا، في جميع أنحاء البلاد في القرن الثاني، وقد تعارضت التعاليم النصرانية مع المفاهيم الرومانية المتعلقة بتأليه الإمبراطور وعبادته، ورفض النصارى الخدمة في الجيش الروماني، واتخذوا الأحد أول أيام الأسبوع ليكون فرصة لمباشرة طقوسهم الدينية، لذلك رأت الحكومة الرومانية أن اعتناق النصرانية هو جرم في حق الدولة، وعدت النصارى فئة هدامة، تهدد أوضاع

1 ابن عبد الحكيم: ص118-120.

2 المصدر نفسه: ص120، 121، 124.

ص: 292

الإمبراطورية وسلامتها، فمنعت اجتماعات النصارى، ونظمت حملات الاضطهاد ضدهم.

بدأت هذه الحملات ضد نصارى مصر أثناء حكم الإمبراطور سبتيموس سفيروس "193-211م"، وظل هؤلاء يتعرضون لاضطهاد كبير، وتسامح قليل إلى أن تولى دقلديانوس "284-305م" عرش الإمبراطورية، حيث بلغ اضطهاد النصارى حده الأقصى.

قاوم النصارى في مصر هذا الاضطهاد بقوة وعناد، وقد انبثقت عن هذه المقاومة حركة قومية أخذت تنمو تدريجيًا، وليس أدل على ذلك من أن الكنيسة القبطية بدأت تقويمها، الذي سمته تقويم الشهداء، بالسنة الأولى من حكم دقلديانوس، وذلك نتيجة لما خلف الاضطهاد من أثر كبير في نفوس القبط1.

ولم تلبث النصرانية أن أحرزت تقدمًا حين خرجت ظافرة من جميع معاركها ضد الوثنية، لا سيما بعد أن اعترف الإمبراطور قسطنطين الأول بها دينًا مسموحًا به ضمن الدينات الأخرى في الدولة الرومانية، بموجب مرسوم ميلان الشهير في عام 343م2، ثم أصبحت النصرانية الدين الرسمي الوحيد للدولة في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الأول "379-395م"، الذي أصدر مرسومًا بذلك في عام 380م، كما أصدر مرسومين في عامي 392 و 394م حرم بموجبهما العبادات الوثنية3.

لم تنعم مصر النصرانية طويلًا بهذا النصر الذي أحرزه الدين النصراني، إذ ثار الجدل، والنزاع منذ أيام قسطنطين الأول بين النصارى حول صفات المسيح، وقد تدخل قسطنطين الأول في هذه النزاعات الدينية البحتة، وعقد مجمع نيقية في عام 325م من أجل ذلك، وناقش هذا المجمع مذهب آريوس الإسكندري4، الذي أنكر صفة الشبه بين الأب والابن، وعد أن "ابن الله"! ليس إلا مخلوقًا فأنكر بذلك ألوهية المسيح، وتقرر بطلان مذهبه، والإعلان عن أن الابن من جوهر الأب نفسه5.

واتخذ معظم الأباطرة الذين جاءوا بعد قسطنطين الأول موقفًا عدائيًا من معتقدات

1.Munier: L'Egypt Byzantine pp 9، 10

2 انظر نص مرسوم ميلان عند السيد الباز العريني في كتابه: تاريخ أوروبا، العصور الوسطى ص50، 51.

3.

Munier: pp 38، 39

4 كان آريوس أحد قساوسة مصر، وراعي كنيسة بوكاليس بالإسكندرية.

5 العريني:ص73-76، الأب جوزف بو حجر: بلورة الفكر المسيحي، مجمعا نيقية والقسطنطينية، ص167-171، مقال في كتاب المسيحية عبر تاريخها في المشرق.

ص: 293

النصارى في مصر، مما أدى إلى احتدام الجدل، والنزاع الديني بين كنيستي الإسكندرية والقسطنطينية، وقد بلغ أقصاه في منتصف القرن الخامس الميلادي حينما اختلفت الكنيستان حول طبيعة المسيح، فاعتقدت الكنيسة المصرية بأن للمسيح طبيعة إلهية واحدة -مونوفيزيت- وتبنت كنيسة القسطنطينية القول بثنائية الطبيعة المحددة في مجمع حلقدونية، ورأت أن في المسيح طبيعة بشرية وطبيعة إلهية، وهو المذهب الرسمي للإمبراطور البيزنطي، وقد عقد الإمبراطور مرقيان "450-457م" مجمعًا دينيًا في خلقدونية في عام 451م من أجل وضع حد لهذا النزاع، تقرر فيه تحديد العقيدة الدينية المتعلقة بطبيعتي المسيح، وأنكر المجتمعون نحلة المونوفيزيتيين، وكفروا من قال بأن للمسيح طبيعة واحدة، وعدوهم خارجين على الدين الصحيح، كما تقرر حرمان ديسقوروس بطريرك الإسكندرية من الكنيسة1.

والواضح أن ما أحرزته كنيسة القسطنطينية من انتصار على كنيسة الإسكندرية، إنما يدل على أن دعوى الكنيسة الأولى بأن لها الصدارة بين الكنائس الشرقية، ومساواتها بالكنيسة الغربية في رومة، قد أضحى واقعًا، واتخذت القضية في مصر شكلًا قوميًا، إذ لم يقبل ديسقوروس، ولا نصارى مصر ما أقره مجمع خلقدونية، وأطلقوا على أنفسهم اسم الأرثوذكس أي أتباع الديانة الصحيحة، عرفت الكنيسة النصرانية في مصر منذ ذلك الوقت باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وباسم الكنيسة اليعقوبية نسبة إلى يعقوب البرادعي أسقف الرها المونوفيزيتي الذي زار مصر في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي، ونظم كنيستها، أما أتباع كنيسة القسطنطينية، فقد عرفوا بعد الفتوح الإسلامية باسم الملكانيين لأتباعهم مذهب الإمبراطور2.

أضحى هذا النزاع بين الكنيستين مشكلة أقلقت المسئولين البيزنطيين، إذ إن المونوفيزيتية ليست إلا تعبيرًا عما كان بمصر، وبلاد الشام من ميول انفصالية، وكانت الأداة التي اتخذها النصارى في هذه الجهات لمناهضة الحكم البيزنطي3، فألغت كنيسة الإسكندرية استخدام اللغة اليونانية في طقوسها، وشعائرها واستخدمت بدلًا منها اللغة المصرية القبطية.

وما حدث من القلاقل الدينية في الإسكندرية، وبيت المقدس وأنطاكية، وتعرض

1 العريني: الدولة البيزنطية ص52، 53، الأنبا بيشوي: مجمعا أفسس وخلقيدونية ص211-213، مقال في كتاب: المسيحية عبر تاريخها في المشرق، Ostrogorsky; p55. Vasiliev: p 105 وانظر نص المذهب عند أسد رستم في كتابه: الروم ج1 ص127، 128.

2.

Munier: p 45

3.

Munier: p 45

ص: 294

السكان في مصر لأشد أنواع الاضطهاد، وحرمان ديسقوروس وطرده من الكنيسة؛ بسبب ما جرى من محاولة تنفيذ قرارات مجمع خلقدونية بالقوة؛ إنما اتخذ صفة الثورات الوطنية العنيفة، ولم تقمعها السلطات إلا بعد أن أراقت دماء كثيرة.

وعندما استولى هرقل على الحكم، رأى أن ينقذ البلاد من الخلاف الديني، وأمل المصريون بانتهاء عهود الاضطهادات، وإراقة الدماء، ومن خلال البطريرك

سرجيوس، الذي أدرك خطورة الموقف، لم يأل جهدًا في أن يعيد للكنيسة الهدوء والسكينة، ذلك أنه اعتقد بقدرته على التوفيق بين المذهبين الخلقدوني، والمونوفيزيتي، فتبنى مذهبًا جديدًا يقوم على أن للمسيح طبيعتين لكن له مشيئة

واحدة -المونوثيلستية، إنه مذهب الفعل الواحد في المسيح، وهي وحدة تعرب عن وحدة الأقنوم1 "الشخص" لا عن وحدة الطبيعة، وأسند الرئاسة الدينية، والسياسية في مصر للمقوقس أسقف فاسيس في بلاد القوقاز، وطلب منه أن يحمل أهل مصر على اعتناق المذهب الجديد الموحد، غير أنه لم يدرك أن مذهبه هذا قد ترفضه كنيسة مصر، وهذا ما حصل، واضطر المقوقس للضغط على المصريين، وخيرهم بين أمرين: إما الدخول في مذهب هرقل الجديد، وإما الاضطهاد2.

وقبل أن يصل الحاكم الجديد إلى الإسكندرية في عام 631م هرب البطريرك القبطي بنيامين، توقعًا لما سيحل به، وبطائفته من الاضطهاد من جراء فرض المذهب الجديد3، كان هذا القرار نذيرًا أزعج الأقباط، وأفزع أهل الدين منهم، وبخاصة أنه كان لهذا البطريرك مكانة محببة بين الأقباط في مصر.

ولجأ المقوقس إلى البطش والتعذيب، وقاسى الأقباط جميع أنواع الشدائد فيما سمي "بالاضطهاد الأعظم"4، الذي استمر عشر سنوات، مما كان له أثر في سهولة فتح المسلمين لمصر حيث وقف السكان، بشكل عام، على الحياد في الصراع الإسلامي -البيزنطي على مصر.

فتح الفرما 5:

تقرر في عام "18هـ/ 639م"، تنفيذ القرار الذي اتخذ بفتح مصر في مؤتمر

1 تروبو: ص451، 452.

2 بتلر، ألفر. ج: فتح العرب لمصر ص172، 173.

3 المرجع نفسه: ص209.

4 المرجع نفسه: ص202-225.

5 الفرما: مدينة على الساحل من ناحية مصر، وهي مفتاح مصر في الشرق، وتشرف على الطريق القادم من الصحراء، حولها سباخ تتوحل، فلا تكاد تنضب صيفًا ولا شتاء، وليس بها زرع، ولا ماء يشرب إلا ماء المطر، فإنه يخزن في الجانب، ويخزنون أيضًا ماء النيل يحمل إليهم في المراكب من تنيس.

الحموي: ج4 ص255.

ص: 295

الجابية، وعهد عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص بقيادة العملية، ووضع بتصرفه ثلاثة آلاف وخمسمائة جندي، وقيل: أربعة آلاف1، وطلب منه أن يجعل ذلك سرًا، وأن يسير بجنده سيرًا هنيًا.

سار عمرو بن العاص بجنده مخترقًا صحراء سيناء، ومتخذًا الطريق الساحلي حتى وصل إلى العريش2 في عيد الأضحى:"10 ذو الحجة 18هـ/ 12 كانون الأول 639م"3، فوجدها خالية من القوات البيزنطية، فدخلها، وشجعه ذلك على استئناف التقدم، فغادر العريش سالكًا الطريق الذي كان يسلكه المهاجرون، والفاتحون والتجار منذ أقدم العصور، ثم انحرف جنوبًا تاركًا طريق الساحل، واتخذ الطريق الذي سار فيه الفرس عندما استولى على مصر، حتى وصل إلى الفرما.

كانت أنباء زحف المسلمين قد وصلت إلى مسامع المقوقس، فاستعد للتصدي لهم، ولكنه آثر ألا يصطدم بهم في العريش، أو الفرما وتحصن وراء حصن بابليون4، ولعل مرد ذلك يعود إلى:

- أن العريش والفرما قريتان من الصحراء مع علمه بأن المسلمين أقدر الناس في حرب الصحراء، بالإضافة إلى قربهما من فلسطين مما يجعل إمداد عمرو بجنود من

1 ابن عبد الحكم: ص131.

2 العريش: مدينة كانت أول عمل مصر من ناحية الشام على ساحل بحر الروم -الأبيض المتوسط- في وسط الرمل، الحموي: ج4 ص113.

3 ابن عبد الحكم: ص134.

4 بابليون أوباب إليون: هو اسم عام لديار مصر بلغة القدماء، وقيل: هو اسم لموضع الفسطاط خاصة، وموضع ذلك الحصن المتهدم، فيما يسمى مصر القديمة، كان أول من بناه الإمبراطور الروماني تراجان في عام 100م، وفي رواية أن أصل ذلك الحصن كان بناء أقامه بختنصر، وسماه باسم عاصمة ملكه بابليون، وذلك عندما غزا مصر، فأقام تراجان أسوار الحصن على أساسه وزاد في بنائه، والراجح أن ملك مصر سيزوستريس جاء بجماعة من أسرى الباليين، وأنزلهم في قصر، فأطلقوا على القصر اسم المدينة، وفي رواية أن قمبيز الفارسي بنى الحصن عندما غزا مصر، وقد سبب نابليون ارتباكًا للمؤرخين المسلمين، وبقي ذلك الاسم إلى اليوم، ولكنه لا يطلق على الحصن نفسه، فاسمه الآن قصر الشمع، بل يطلق على دبر صغير على مسافة قليلة من الحصن نحو الجنوب، وهو دير بابليون، وظل الكتاب الأوروبيون في العصور الوسطى يطلقون على ذلك الموضع اسم بابليون، وليس اسم مصر، انظر: الحموي: ج1 ص311- المقريزي، تقي الدين أبو العباس أحمد: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار: ج2 ص67-70، بتلر 268-277.

ص: 296

بيت المقدس وما جاورها أمرًا يسيرًا، لذلك فضل أن يدع عمرًا يمضي في زحفه، ويتوغل في أرض مصر ليبعده عن قواعده ثم يهاجمه، واعتمد على حصون الفرما القوية لعرقلة تقدمه دون أن يخاطر بالذهاب بنفسه إلى هناك، أو يرسل الأرطبون، كبير القادة، وهذا خطأ عسكري كلفه غالبًا حيث كانت الخطة العسكرية السليمة تقضي بأن يرسل قواته إلى الفرما ليوقف زحف المسلمين هناك، ولو فعل ذلك، وهو يمتلك قوة عسكرية هائلة لربما كان قد تغير وجه الصراع.

- أنه لم يكن يطمئن إلى ولاء المصريين، وخشي من أن يستغلوا الفرصة، ويقوموا بثورة ضد الحكم البيزنطي.

- أنه تهيب الدخول في مغامرة عسكرية مع المسلمين مع علمه بمقدرتهم القتالية، وتفوقهم في ميدان القتال، وبخاصة أنهم خارجون من انتصارات متلاحقة في بلاد الشام، ومعنوياتهم مرتفعة.

افتقر عمرو إلى آلات الحصار، إذ لم يكن للمسلمين عهد بأساليب حصار المدن، واعتمدوا في فتوحهم لمدن العراق، وبلاد الشام على المواجهة، أو الصبر عليها إلى أن يضطرها الجوع إلى الاستسلام، وهكذا ضرب عمرو الحصار على الفرما، وتحصنت حاميتها البيزنطية وراء الأسوار، وجرت مناوشات بين الطرفين استمرت مدة شهر، ثم اقتحمها المسلمون في "19 محرم عام 19هـ/ 20 كانون الثاني عام 640م"1.

أمن فتح الفرما للمسلمين المركز المسيطر على خطوط مواصلاتهم مع بلاد الشام، وضمن لهم وصول الإمدادات التي وعدهم بها عمر بالإضافة إلى طريق الانسحاب إذا تعرضوا للهزيمة.

ولما كانت قواته قليلة العدد، ولا يمكنه ترك حامية عسكرية لحراستها، فقد هدم عمرو أسوار المدينة، وحصونها حتى لا يستفيد البيزنطيون منها فيما لو امتلكوها ثانية.

فتح بلبيس 2:

تابع عمرو توغله في أرض مصر بعد فتح الفرما، وانضم إليه جند من البدو المقيمين على تخوم الصحراء المصرية، طمعًا في الغنيمة، فعوضوا المسلمين عمن فقدوه حتى ذلك الوقت، وسار منحدرًا إلى الجنوب، فتخطى مدينة مجدل القديمة

1 ابن عبد الحكم: ص134، البلاذري: فتوح البلدان ص241.

2 بلبيس: مدينة بينها وبين الفسطاط عشرة فراسخ على طريق الشام الحموي: ج1 ص479.

ص: 297

إلى موقع القنطرة اليوم، ومن ثم توجه غربًا إلى القصاصين -الصالحية- ثم انحرف جنوبًا، فاجتاز وادي الطميلات حتى بلغ بلبيس، وقد اختار هذا الطريق لخلوه من المستنقعات، ولم يلق في طريق الطويل هذا مقاومة تذكر لا من جانب السكان، ولا من جانب البيزنطيين، ولم يكن "يدافع إلا بالأمر الخفيف"1.

ضرب عمرو الحصار على المدينة، وقاتل حاميتها شهرًا2، وكان المقوقس قد أرسل في غضون ذلك قوة عسكرية للاستطلاع، ولكنها لم تحاول إلا مناوشة المسلمين في تقال خفيف، إلا أنه فشل في مهمته وخسر المعركة وتمزق جيشه، فقتل منه نحو ألف جندي، وأسر نحو ثلاثة آلاف أسير، وخسر المسلمون بعض الجند، ودخلوا على إثر ذلك مدينة بلبيس3.

فتح أم دنين 4:

سار عمرو من بلبيس متاخمًا للصحراء، فمر بمدينة هليوبوليس -عين شمس- ثم هبط إلى قرية على النيل اسمها دنين، وتقع إلى الشمال من حصن نابليون، وعسكر قريبًا منها.

اشتهرت أم دنين بحصانتها، وكان يجاورها مرفأ على النيل فيه سفن كثيرة، وما كان المقوقس ليرضى بأن تقع في أيدي المسلمين، وأدرك أخيرًا خطأ ما اتخذه من قرار الإحجام، والتصدي للمسلمين باكرًا حتى وصل خطرهم إلى قلب مصر، فغادر الإسكندرية إلى حصن بابليون ليدير العمليات العسكرية، ويشرف عليها، وحشد جيشًا استعدادًا للقتال.

وجرت بين الجيش الإسلامي، وحامية المدينة بعض المناوشات على مدى عدة أسابيع لم تسفر عن نتيجة حاسمة لأي منهما، إنما بدأ المسلمون يشعرون بتناقص عددهم بمن كان يقتل منهم في الوقت الذي لم يتأثر البيزنطيون كثيرًا بفقدان بعض جندهم، فاضطر عمرو أن يرسل إلى الخليفة يستحثه في إرسال إمدادات على وجه السرعة، فوعده بذلك.

1 ابن عبد الحكم: ص135.

2 المصدر نفسه: ص136.

3 المقريزي: ج1 ص340.

4 أم دنين: موضع بمصر، إنها قرية كانت بين القاهرة والنيل اختلطت بمنازل ربض القاهرة، وهي المقس على الضفة الغربية للخليج، وعلى نهر النيل وكانت ميناء مصر وقت الفتح، والمعروف أن المقس كان في الموضع الذي فيه اليوم حديفة الأزبكية، وهو أحد أحياء القاهرة، انظر: الحموي: ج1 ص251. المقريزي: ج1 ص135.

ص: 298

والواقع أن موقف عمرو كان حرجًا، فقد علم من خلال العيون التي بثها في المنطقة أنه لن يستطيع أن يحاصر حصن بابليون، أو يفتحه بمن بقي معه من الجند، وبالتالي فتح مدينة مصر المتصلة به، كما أنه يتعذر عليه التراجع حتى لايفت في معنويات جنوده، فيقوي عليهم عدوهم، بالإضافة إلى أنه كان مصرًا على فتح مصر، غير أنه كان لديه بصيص أمل من واقع وعد الخليفة بإمداده بالمساعدة.

ودار في غضون ذلك قتال شديد تحت أسوار أم دنين، وكانت كفة الصراع متأرجحة بين النصر، والهزيمة من واقع توازن القوى، لكن الإمدادات تأخرت في الوصول، وتضايق المحاصرون، وكاد اليأس يدب في نفوسهم، فرأى عمرو أن يشغل جنوده بنصر آخر كسبًا للوقت حتى تصل الإمدادات، لكنه كان عليه أن يفتح أم دنين أولًا حتى يستفيد من السفن الراسية في المرفأ لإجتياز النهر، ووصلت في غضون ذلك طلائع الإمدادات، فقويت عزيمة المسلمين، وأسقط في يد حامية أم دنين، فقل خروجهم للقاء المسلمين، فاستغل عمرو هذا الإحجام، وشدد حصاره على المدينة حتى سقطت في يده1.

تنفيذ غارات على الفيوم 2:

سار عمرو ومن معه من المسلمين إلى الجنوب بعد أن عبروا النهر سالمين، وتوجهوا نحو الفيوم، وعندما وصل إلى تخومها وجد الحاميات البيزنطية متأهبة للتصدي له بقيادة دومنتيانوس حاكم الفيوم، فاصطدم بقوة الطليعة بقيادة حنا، وتغلب عليها وقتل قائدها إلا أنه لم يتمكن من فتح الفيوم.

وعلم في هذه الأثناء بوصول الإمدادات الإسلامية، فعاد أدراجه إلى الشمال منحدرًا مع النهر، واتصل بالمدد العسكري في عين شمس على مقربة من حصن بابليون، ولم يحاول تيودور القائد العام للجيش البيزنطي أن يخرج من الحصن ليحول دون التقاء الجيشين الإسلاميين مضيعًا فرصة بيزنطية أخرى3.

حققت غارات عمرو على الفيوم عدة فوائد للمسلمين لعل أهمها:

- فقد أخرج جيشه من المأزق الذي وجد فيه نفسه عند أم دنين، وانتقل به إلى مكان أكثر أمنًا بانتظار وصول الإمدادات الإسلامية.

1 ابن عبد الحكم: ص136، 137.

2 الفيوم: ولاية غربية بينها وبين الفسطاط أربعة أيام، بينهما مفازة لا ماء بها، ولا مرعى مسيرة يومين، وهي في منخفض الأرض كالدارة، الحموي: ج4 ص286.

3 بتلر: ص252، 253.

ص: 299

خريطة فتوح مصر والنوبة

ص: 300

- أنجز بعض الانتصارات مما رفع معنويات المسلمين، وفت في عضد البيزنطيين الذين أظهروا حزنًا بالغًا لمقتل القائد حنا.

- بث الرعب في قلوب الحاميات البيزنطية المنتشرة في النواحي.

- قدم الدليل للمصريين على أن الوجود البيزنطي في مصر بدأ يتعرض لخطر حقيقي.

- شغل جنده خلال مدة الانتظار حتى مجيء الإمدادات1.

معركة عين شمس 2:

بلغ عدد الجنود الذين أرسلهم عمر بن الخطاب اثني عشر ألف مقاتل من بينهم عدد من كبار الصحابة، أمثال الزبير بن العوام، وعبادة بن الصامت، والمقداد بن الأسود، ومسلمة بن مخلد وغيرهم3، فاغتبط المسلمون بمقدمهم، وكان الهدف التالي لعمرو فتح حصن بابليون، فعكسر في عين شمس واتخذها مقرا له، وراح يستعد لمهاجمة الحصن، والمعروف أن موقع عين شمس يصلح لأن يكون قاعدة عسكرية، فهو مرتفع من الأرض يحيط به سور غليظ، ويسهل الدفاع عنه، وتتوفر فيه الماء والمؤن.

وضع عمرو خطة تقضي باستفزاز الجنود البيزنطيين، وحملهم على الخروج من حصن بابليون، ليقاتلهم في السهل خارج الأسوار، ويبدو أن تيودور قائد الجيش البيزنطي شعر بالقوة بما كان تحت إمرته من المقاتلين، فخرج من الحصن على رأس عشرين ألفًا، وسار بهم باتجاه عين شمس، وكانت على مسافة ستة أميان أو سبعة من المعسكر الإسلامي؛ للاصطدام بالمسلمين، تلقى عمرو أنباء هذا الخروج بسرور بالغ، فعبأ قواته استعدادًا للقاء المرتقب، ونفذ خطة ذكية للإطباق على القوات البيزنطية، ففصل فرقتين من جيشه يبلغ عدد أفراد كل فرقة خمسمائة مقاتل، وأرسل إحداهما إلى أم دنين، والأخرى إلى مغار بني وائل عند قلعة الجبل شرقي العباسية، وكانت بقيادة خارجة بن حذافة السهمي. وسار هو من عين شمس باتجاه القوات البيزنطية المتقدمة، وتوقف في موضع العباسية الحالي ينتظر وصول جموع البيزنطيين

1 بتلر: 253-256.

2 عين شمس: اسم مدينة فرعون موسى بمصر بينها، وبين الفسطاط ثلاثة فراسخ، بينها وبين بلبيس من ناحية الشام قرب المطرية، وليست على شاطئ النيل، وكانت مدينة كبيرة وهي قصبة كورة أثريب، إنها هيكل الشمس، الحموي: ج4 ص178-188.

3 ابن عبد الحكم: ص139، بتلر: ص262، البلاذري: إنه يذكر رقمين عشرة آلاف، واثني عشر ألفًا فتوح البلدان: ص214.

ص: 301

ليصطدم بهم، انتشرت القوات البيزنطية في السهل إلى الشمال الشرقي من الحصن، وإذ بلغهم خروج المسلمين من عين شمس، سروا بذلك، وظنوا بأنهم ضمنوا النصر عليهم، فتعاهدوا على القتال حتى الموت، ولم يعلموا بخطة عمرو العسكرية، ثم حدث البلقاء ولعله كان في مكان وسط بين المعسكرين الإسلامي، والبيزنطي عند العباسية اليوم، وأثناء احتدام القتال، خرج أفراد الكمين الذي أعده عمرو، فاجتاحت فرقة خارجة مؤخرة الجيش البيزنطي التي فوجئت، وأخذت على حين غرة، فتولى أفرادها الفزع، ودبت الفوضى في صفوفهم، وتقهقروا نحو أم دنين، فقابلتهم الفرقة الأخرى، وأضحوا بين ثلاثة جيوش، فانحل نظامهم، وإذا أدركوا أن لا أمل لهم في المقاومة، والصمود لاذوا بالفرار لا يلون على شيء، ونجحت فئة قليلة منهم بلوغ الحصن، وهلكت فئة كبيرة، ودخل المسلمون إلى أم دنين مرة أخرى، ووطدوا أقدامهم على ضفاف النيل، وجرت المعركة في "شهر شعبان 19هـ/ شهر تموز 640م"1.

عندما بلغت أنباء الهزيمة من بحصن بابليون من الجند خافوا على أنفسهم، ففر بعضهم عبر النهر إلى نقيوس إلى الشمال من منف2، وبقي بعضهم الآخر في الحصن للدفاع عنه، استغل عمرو انتصاره الحاسم هذا، فنقل معسكره من عين شمس، وضربه في شمالي الحصن، وشرقه بين البساتين والكنائس، وهو المكان الذي عرف فيما بعد بالفسطاط، ثم سار إلى مدينة مصر -منف- واستولى عليها بدون قتال، ولم يستطع الجيش البيزنطي الموجود في الحصن أن يمد لها يد المساعدة3.

فتح الفيوم:

عندما بلغت أنباء انتصار المسلمين دومنتيانوس حاكم الفيوم، خشي أن يهاجمه هؤلاء، وهو لا قبل له بمقاومتهم، وفضل الفرار، فخرج في الليل مع جنوده، وتوجه إلى نقيوس، ولما علم عمرو بذلك أرسل فرقة عسكرية فتحت إقليم الفيوم، وتوغلت في جنوبي الدلتا، فاستولت على أثريب، ومنوف في إقليم المنوفية4.

1 بتلر: ص260-263، 265.

2 منف: اسم مدينة فرعون بمصر، بينها وبين الفسطاط ثلاثة فراسخ، وبينها وبين عين شمس ستة فراسخ، إنها عاصمة مصر، وكان اسم مصر يطلق على مدينة منف، الحموي: ج5 ص213، 214، هيكل: ج2 ص101.

3 المرجع نفسه: ج2، ص109.

4 ابن عبد الحكم: ص292، 293، بتلر: ص263، 264، 266.

ص: 302

فتح حصن بابليون:

لم يبق بأيدي البيزنطيين سوى حصن بابليون، فكان هدف عمرو التالي قبل أن يتوجه إلى الإسكندرية لفتحها، إذ لم يشأ أن يشتت قواته، ويضعفها ليذر قسمًا منها على حصار الحصن، وليسير بالقسم الآخر إلى الشمال حتى يبلغ الإسكندرية، مما يشكل خطرًا على إنجازاته التي حققها حتى ذلك الحين من واقع رد فعل البيزنطيين الذي سوف يستغلون هذه الفرصة؛ ليقوموا بحركات ارتدادية يستعيدون بواسطتها ما فقدوه من أراضي، ويطردون المسلمين من مصر، لذلك ركز جهوده العسكرية على فتح الحصن، فسار إليه في شهر "شوال 19هـ/ أيلول 640م" وحاصره1.

أدرك سكان الحصن، وأفراد حاميته أن الحصار سوف يطول لسببين:

الأول: أنه بدأ في وقت فيضان النيل وارتفاع مياهه، فيتعذر على المسلمين أن يجتازوه أن يهاجموا الحصن، ولا بد لهم من الانتظار حتى هبوط الفيضان.

الثاني: أن مناعة الحصن ومتانة أسواره، وما يحيط به من الماء وضعف وسائل الحصار؛ سوف يشكل عائقًا أمام المحاصرين من الصعب أن يجتازوه بسرعة، وما غنموه من بعض آلات القتال أثناء فتح الفيوم لم يكن لهم خبرة باستعمالها أو بطرق إصلاحها إذا تعطلت، لذلك استعد الطرفان لحصار طويل، والواقع أن الحصار لم يكن محكمًا، فقد ظلت طريق الإمدادات بين الحصن والجزيرة -الروضة- مفتوحة؛ لأن عمرًا لم يكن قد أحكم سيطرته على الطرق المائية بعد.

كان المقوقس داخل الحصن عندما بدأ الحصار، أما قيادة الجيش فكانت للأعيرج2، هو قائد بيزنطي، وتراشق الطرفان بالمجانيق من جانب البيزنطيين والسهام والحجارة من جانب المسلمين، مدة شهر، حيث بدأ فيضان النيل بالانحسار، وأدرك المقوقس أن المسلمين صابرون على القتال، وأنهم سوف يقتحمون الحصن بصبرهم، وشجاعتهم كما يئس من وصول إمدادات من الخارج، والحقيقة أن شدة بأس المسلمين في القتال، وصبرهم أدى إلى هبوط معنويات المقوقس، فاضطر إلى عقد اجتماع مع أركان حربه للتشاور في الأمر، وتقرر بذل المال لهم ليرحلوا عنهم، وأن يذهب المقوقس بنفسه للتفاوض مع عمرو في هذا الشأن بشكل سري حتى لا يعلم أحد من المدافعين عن الحصن، فتهن عزائمهم، فخرج من الحصن تحت جنح الظلام مع جماعة من أعوانه، وركب سفينة إلى جزيرة

1 البلاذري: ص214، الطبري: ج4 ص102.

2 لعله تحريف جورج.

ص: 303

الروضة، فلما وصل إليها أرسل رسالة إلى عمرو مع وفد ترأسه أسقف بابليون، يعرض عليه أن يرسل وفدًا لإجراء مفاوضات بشأن التفاهم على حل معين، وانتظر أن يعود أعضاء الوفد في اليوم نفسه يرد عمرو، لكن هذا الأخير تعمد الإبطاء في الرد مدة يومين، وأبقى أعضاء الوفد عنده حتى خاف المقوقس وقال لأعوانه:"أترون القوم يحبسون الرسل، أو يقتلونهم ويستحلون ذلك في دينهم! "، وإنما أراد عمرو بحبسهم أن يطلع المقوقس، وأهل مصر على بأس المسلمين وحالهم.

ومهما يكن من أمر، فقد عاد أعضاء الوفد بعد يومين يحملون رد عمرو يخير المقوقس إحدى ثلاث خصال: إما الدخول في الإسلام، أو الجزية أو القتال. كان من الصعب على المقوقس وجماعته، وأهل مصر التخلي عن دينهم، واعتناق الإسلام، ذلك الدين الذي لا يعرفون عنه شيئًا، وبذلك رفضوا الشرط الأول، وخشوا إن هم قبلوا بدفع الجزية أن يستضعفهم المسلمون، ويذلوهم في الوقت الذي استبعدوا فيه فكرة الحرب خشية الهزيمة، وبخاصة بعد أن وصف أعضاء الوفد وضع المسلمين الجيد، وتضامنهم وجهوزيتهم القتالية، ومع ذلك فقد قبل المقوقس الدخول في الصلح، وطلب من عمرو أن يرسل إليه جماعة من ذوي الرأي للتباحث بشروطه، فأرسل إليه وفدًا برئاسة عبادة بن الصامت، فطمأنه بأنهم سيكونون آمنين على أنفسهم، وأموالهم وكنائسهم، وذراريهم إن هم قبلوا دفع الجزية مما شجعه على المضي في طريق الإذعان.

ويبدو أن القبول بقرار الاستسلام لم يكن عامًا، فقد وجدت فئة من الجند رفضت الصلح مع المسلمين، وكانت بقيادة الأعيرج، وأصرت على المقاومة المسلحة، عند ذلك طلب المقوقس من عمرو المهادنة مدة شهر للتفكير في الأمر، فمنحه ثلاثة أيام.

ولم تلبث أنباء المفاوضات أن انتشرت بين عامة الجند، فثارت ثائرتهم ضد المقوقس، ولما انتهت أيام الهدنة، استعد الطرفان لاستئناف القتال، وأحرز المسلمون بعض الانتصارات مما دفع المقوقس إلى تجديد الدعوة لأركان حربه للاستسلام، فقبلوا مكرهين، واختار المقوقس خصلة دفع الجزية، واشترط:

- موافقة الإمبراطور.

- تجميد العمليات العسكرية حتى يأتي الرد من القسطنطينية، وتبقى الجيوش في أماكنها خلال ذلك، وتعهد أن يبعث بعهد الصلح إلى القسطنطينية لأخذ موافقة الإمبراطور1.

1 البلاذري: ص220، ابن عبد الحكم: ص154، بتلر: ص290.

ص: 304

غادر المقوقس حصن بابليون، وتوجه إلى الإسكندرية حيث أرسل عهد الصلح إلى القسطنطينية، وطلب موافقة هرقل عليه، ويبدو أن بنود الصلح التبست على الإمبراطور، أهي عامة تطبق على البلاد كلها، أم خاصة يحصن بابليون؟ وهل يبقى المسلمون في البلاد بعد أخذ الجزية، أو يرحلون عنها؟ وهل معنى ذلك التناول عن مصر للمسلمين؟ واحتاج إلى بعض الإيضاحات، لذلك استدعى المقوقس إلى القسطنطينية1.

والواقع أن المقوقس فشل في إنقاع هرقل بوجهة نظره بشأن الصلح مع المسلمين، ورأى الإمبراطور أن العوامل القومية، والجغرافية التي ساعدت هؤلاء على فتح بلاد الشام غير متوفرة في مصر، وأن بحوزته -المقوقس- قوة عسكرية كبيرة تفوق في العدد قوة المسلمين، كما أن الحصن كان محصنًا، ومتينًا يصعب على المسلمين اقتحامه، فلا يعقل والحالة هذه أن ينتصر المسلمون، ولا بد من وجود سر في الأمر أدى إلى هذه النكبة، واتهمه بالتقصير والخيانة، والتخلي للمسلمين عن مصر2، ونفاه بعد أن شهر به3، ورفض عرض الصلح مع المسلمين، إلا أنه وقف عند هذا الحد، فلم يرسل مددًا إلى مصر، ولم يفعل شيئًا من تنظيم الدفاع عن هذا البلد لرفع معنويات جنوده القتالية، ولعل مرد ذلك يعود إلى شعوره بالاضطراب في التفكير، إذ إن الدولة البيزنطية ترزح تحت عبء ثقيل من عار الهزيمة على أيدي المسلمين في بلاد الشام الذين طردوا البيزنطيين منها، وانتشر هؤلاء في أرجاء مصر يفتحون المدن، ويبثون الرعب في نفوس السكان4.

علم المسلمون برفض هرقل لعهد الصلح في شهر "ذي الحجة 19هـ/ كانون الأول 640م"، فانتهت بذلك الهدنة، واستأنف الطرفان القتال، كان المدافعون عن الحصن قد قل عددهم بسبب قرار كثير منهم إلى الإسكندرية، ولم تأتهم نجدة من الخارج، وبدأ المرض ينتشر بينهم، وانتهى فيضان النيل، وغاض الماء عن الخندق

1 لا يشير المؤرخون المسلمون إلى سفر المقوقس إلى القسطنطينية، ولا إلى نبأ نفيه ثم عودته، بل يذكرون أن هرقل كتب إليه يقبح رأيه، ويوبخه ويرد عليه ما فعل، ويأمره أن يقاتل المسلمين، وألا يكون له رأي غير ذلك، وأنه أرسل إليه الجيوش، فأعلقوا أبواب الإسكندرية، وحاربوا المسلمين، انظر ابن عبد الحكم: ص152.

2 المرجع نفسه: بتلر: ص292.

3 المرجع نفسه: Ostrogorsky: p101.

4 يشير المؤرخون المسلمون بأن هرقل بعث الجيوش إلى الإسكندرية وأغلقها، ويبدو أنهم وقعوا في الخلط بين أحداث فتح حصن بابليون، وأحداث فتح الإسكندرية؛ لأن الإمبراطور البيزنطي هرقل توفي، والمسلمون يحاصرون الحصن كما سيمر معنا، انظر: البلاذري: ص220، ابن عبد الحكم ص154.

ص: 305

حول الحصن، فأضحى بمقدور المسلمين الآن أن يهاجموه، غير أن المدافعين صمدوا بضعة أشهر اقتصر الأمر أثناءها على التراشق بالمجانيق والسهام، وألقوا حسك الحديد في الخندق بدل الماء مما أعاق عمليات المسلمين العسكرية. وجاءهم وهم على هذا الحال نبأ وفاة الإمبراطور هرقل في شهر "ربيع الأول 20هـ/ شباط 641م"1، ففت ذلك في عضدهم، واضطربوا لموته، وتراجعت قدرتهم القتالية، مما أعطى الفرصة للمسلمين لتشديد الحصار قبل أن يقتحموا الحصن في "21 ربيع الآخر 20هـ/ 9نيسان 641م"، وقد اعتلى الزبير بن العوام مع نفر من المسلمين، السور، وكبروا، فظن أهل الحصن أن المسلمين اقتحموا، فهربوا تاركين مواقعهم، فنزل الزبير، وفتح باب الحصن لأفراد الجيش الإسلامي فدخلوه في رواية أن الزبير ارتقى السور، فشعرت حامية الحصن بذلك، ففتحوا الباب لعمرو، وخرجوا إليه مصالحين، فقبل منهم، "ونزل الزبير عليهم عنوة حتى خرج على عمرو من الباب معهم، فاعتقدوا بعدما أشرفوا على الهلكة، فأجروا ما أخذ عنوة مجرى ما صالح عليه، فصاروا ذمة، وكان صلحهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم، وملتهم وأموالهم، وكنائسهم وصلبهم، وبرهم وبحرهم؛ لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص، ولا يساكنهم النوب، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم، والنوب فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثاثا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمته، وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير الؤمنين، وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسًا، وكذا فرسًا، على ألا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة، ولا واردة، شهد الزبير وعبد الله ومحمد، ابناه، وكتب وردان وحضر"2.

1 العريني: ص137، بتلر: ص297، وانظر هامش رقم1.

2 الطبري: ج4 ص108، 109، وردان هو مولى عمرو بن العاص.

ص: 306

تعقيب على صلح بابليون:

- يتوافق مضمون هذا الصلح مع التوجهات الإسلامية العامة من واقع معاملة أهل البلاد المفتوحة، مثل منح السكان الأمام وحرية العبادة مقابل دفع الجزية.

- حدد الصلح نوعين من الضرائب:

الأول: الجزية، إلا أنه لم يحدد مقدارها ولا توزيعها بين السكان، وقد حددتها مصادر أخرى1 بدينارين دينارين على الرجال القادرين دون سواهم، فلا جزية على الأطفال، والنساء والشيوخ الفانين، والعجزة والرقيق.

الثاني: الخراج على الأرض، وقد حدد مقداره لكن جعله متحركًا يتغير بتغير الوضع الاقتصادي الناتج عن نقصان ماء النيل، وهذا من عدل المسلمين في معاملة أبناء البلاد المفتوحة، كما أنه يدفع على ثلاثة أقساط في السنة، روى البلاذري أن عمرًا:"وضع على كل حالم دينارين جزية إلا أن يكون فقيرًا، وألزم كل ذي أرض مع الدينارين ثلاثة أرادب حنطة، وقسطي زيت وقسطي عسل وقسطي خل، رزقًا للمسلمين تجمع في دار الرزق، وتقسم فيهم"2، وكان رؤساء القرى يجتمعون لينظروا في الوضع الزراعي، ويحددون مقدار الخراج، فإذا كان المال فوق ما فرض على قريتهم، أنفق في إصلاح أحوالها. وكانت كل قرية تخصص قطعة من الأرض يعود ريعها لإصلاح الأبنية العامة مثل الكنائس والحمامات، وكانوا كذلك يقدرون ما يفرض على الناس من المال لضيافة المسلمين، وكان هذا حقًا من حقوق المسلمين عليهم، وكذلك ما كان يفرض من المال لضيافة الحاكم، وإكرامه إذا وفد عليهم3.

- الملفت في هذا الصلح تنوع السكان العنصري وهم:

- أهل مصر الوطنيين من الأقباط، وقد اختص الصلح بهم.

- الروم، من رعايا وجنود الإمبراطورية البيزنطية الحاكمة، وكان وضعهم معلقًا على موافقة الإمبراطور، ولذلك ترك لهم حرية الاختيار بين المغادرة والدخول في الصلح، فإذا اختاروا الدخول في الصلح يصبح لهم ما للأقباط من حقوق وواجبات.

- النوب، من رعايا بلاد النوبة الواقعة في جنوب مصر، والمعروف أن هذه البلاد شكلت آنذاك مملكة قوية، وكان رعايها يتاجرون مع الشمال، وقد اختلف وضعهم عن وضع البيزنطيين بوصفهم تجارًا، ففرض عليهم أن يعطوا المسلمين عددًا من

1 البلاذري: ص218، ابن عبد الحكم: ص141، 151، 170، 266.

2 فتوح البلدان: ص216، 217.

3 ابن عبد الحكم: ص268، 269.

ص: 307

رءوس الماشية، والخليل مقابل السماح لهم بالتجارة، وإذا اختاروا الدخول في الصلح يصبح لهم ما للأقباط من حقوق وواجبات.

- حمل الصلح أهل الحصن مسئولية تضامنية عما يقوم به لصوصهم من تعديات.

أوضاع الإمبراطورية البيزنطية بعد وفاة هرقل:

ساد الاضطراب عاصمة الإمبراطورية البيزنطية بعد وفاة هرقل بسبب النزاع الأسري على العرش، فقد عين هرقل قبل وفاته، ولديه الكبيرين لخلافته، وهما قنسطنطين الثالث ابن فابيا إيدوسيا البالغ من العمر ثمانية وعشرين عامًا، وهرقلوناس ابن مارتينا البالغ من العمر خمسة عشر عامًا، وحاول أن يجعل لزوجته مارتينا نصيبًا في الحكم، وأشار في وصيته إلى أنه ينبغي أن يشترك الأخوان معًا في الحكم، وأن يتساويا في المكانة والحقوق، ولحرصه على أن يجعل لمارتينا قدرًا من النفوذ المباشر في إدارة الدولة، أعلن في وصيته بأنه ينبغي أن تشترك الإمبراطورة الأم في الحكم1.

عندما أعلنت مارتينا وصية زوجها لقيت معارضة شديدة من جانب أركان الحكم والشعب، فأثيرت نتيجة ذلك مسائل تتعلق بالوضع الدستوري العام، إذ أقر أفراد الشعب تولية الأخوين العرش غير أنهم لم يقروا باشتراك مارتينا في إدارة الشئون العامة، وأعلنوا أنها بوصفها امرأة لا تمثل الإمبراطورية، وليس لها أن تستقبل السفراء، وزعمت مارتينا لنفسها هذا الحق، ووقع الشقاق داخل شطري الأسرة الحاكمة2، وهكذا ساد الصراع الحياة العامة في العاصمة البيزنطية في وقت تعرضت فيه الإمبراطورية لخطر سياسي بالغ الشدة في الخارج.

كان قنسطنطين الثالث أكثر أتباعًا، وأنصارًا من أخيه غير أنه كان مريضًا، وتوفي في "8 جمادى الآخرة 20هـ/ 25 أيار 641م" بعد أن حكم ثلاثة أشهر، وأضحى هرقلوناس متفردًا في الحكم، والواقع أن مارتينا هي التي كانت تسير شئون الدولة، فنفت أنصار قنسطنطين وقربت أنصارها، كان من بينهم البطريرك بيروس المونوثليستي3.

كانت مصر في رأس اهتمامات مارتينا، إذ إن ضياع هذا البلد من شأنه أن يعرض الإمبراطورية لنقص في الأقوات، لذلك أسرعت باستدعاء المقوقوس من المنفي، ووضعت ثقتها فيه، وأعادته إلى منصبه السابق في مصر4.

1 العريني: ص137. Ostrogorsky: p 100.

2 المرجع نفسه: ص138.

3.

Ostrogorsky: p 100

4 Ibid

ص: 308

كان المقوقس لا يزال على رأيه أن لا جدوى من مقاومة المسلمين، ولكنه تظاهر بالاقتناع بحجج الذين يرون ألا يدخل البيزنطيون في صلح مع المسلمين، ووعدته مارتينا بمساعدته بالإمدادات الكبيرة، وجهزت السفن من أجل ذلك. أسرع المقوقس بالسفر إلى مصر على رأس جيش أعد لهذه الغاية، ورافقه عدد من القساوسة، ثم حدث أن تدهورت أوضاع مارتينا، وابنها هرقلوناس بعد أن انقلب أصحاب السلطة، والنفوذ في الإمبراطروية على حكومتهما، أمثال أعضاء الناتو، والقادة العسكريون، ورجال الدين الأرثوذكس، وظل الناس على كراهيتهم للإمبراطورة والبطريرك بيروس، وجرى اتهامهما بأنهما تآمرًا ضد قنسطنطين بدس السم له، وطالبوا بأن يكون العرش لابن قنسطنطين الثالث، ولم يكن يتجاوز الحادية عشرة من عمره، واتخذ اسم هرقل عند تعميده، غير أنه عند تتويجه اتخذ اسم قنسطنطين، وأطلق الناس عليه اسم قنسطانز، وهو مصغر قنسطنطين، وثارت القوات المسلحة المرابطة في آسيا الصغرى ضدهما، وزحفت نحو العاصمة حتى بلغت خلقدونية، فاضطر هرقلوناس للإذعان للثائرين، وتوج قنسطانز قسيمًا له في الحكم، غير أن هذا الإجراء لم يمنع سقوطه في شهر "شوال/ أيلول"، كما تقرر عزل مارتينا1، وتفرد قنسطانز بالحكم.

الزحف نحو الإسكندرية:

كان لسقوط حصن بابليون، ذلك الموقع العسكري الحصين الذي حدشت فيه أعظم طاقات البيزنطيين العسكرية في مصر، التأثير الجذري على مسار المعركة، فلم يعد هناك مجال للشك، بأن المبادرة قد أصبحت في أيدي المسلمين، وأن أبواب السيطرة قد فتحت أمامهم على هذه البلاد الواسعة، ويعد هذا السقوط بمثابة انهيار خط الدفاع الأول عن مصر، حيث إن الطريق بات مفتوحًا إلى الإسكندرية2.

بعد الانتهاء من فتح حصن بابليون، طلب عمرو من الخليفة أن يأذن له بالزحف نحو الإسكندرية لفتحها، وضمها إلى الأراضي الإسلامية، وهو خطوة لا بد منها لاستكمال فتح مصر، ثم أخذ ينظم إدارة البلاد المفتوحة.

والحقيقة أن الخليفة لم يتأخر في منح الإذن لقائده بالسير إلى الإسكندرية، وبخاصة أنه علم أن النيل سيعود بعد ثلاثة أشهر إلى مده وفيضانه، وأنه من الأفضل أن يسير جيش مصر إلى الإسكندرية قبل ذلك، وما لبث عمرو حين تسلم الإذن أن

1 العريني: ص138، 139.

2 سالم، عبد العزيز: تاريخ الدولة العربية ص488.

ص: 309

زحف نحو الإسكندرية، وترك حامية عسكرية في حصن بابليون بقيادة خارجة بن حذافة السهمي1.

كانت الإسكندرية في ذلك الوقت قصبة الديار المصرية، وثانية حواضر الإمبراطورية بعد القسطنطينية، وأول مدينة تجارية في العالم، وقد أدرك البيزنطيرون أن سقوطها في أيدي المسلمين من شأنه أن يؤدي إلى زوال سلطانهم من مصر، وقد عبر الإمبراطور البيزنطي عن ذلك بقوله:"لئن ظفر العرب بالإسكندرية لقد هلك الروم وانقطع ملكهم، فليس للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية"2، فأسرعوا بإرسال المقوقس على رأس قوة عسكرية، كما ذكرنا.

وصل المقوقس إلى الإسكندرية في شهر "شوال 20هـ/ أيلول 641م"، وفي نيته الدخول في صلح مع المسلمين بسبب عجزه عن مواجهتهم، وبخاصة أنه بدت في الأفق السياسي ملامح انهيار الإمبراطورية البيزنطية، لكن يبدو أن أركان حربه رفضوا توجهه هذا، وأصروا على المقاومة.

وكان عمرو قد غادر حصن بابليون في شهر "جمادى الأولى 20هـ/ أوائل أيار 641م"، وقد آثر السير على الضفة اليسرى للنيل حيث مديرية البحيرة اليوم، حتى لا تشكل الترع الكثيرة المنتشرة في جنوبي الدلتا عائقًا يؤخر زحفه، وقد ساعده بعض الأقباط في إصلاح الطرق وإقامة الجسور، كما اصطحب معه عددًا من زعمائهم ليكونوا أداة اتصال بينه، وبين من يلقاهم في طريقه، وهذا يعني أن سكان مصر الوطنيين كانوا على عداء مع البيزنطيين المحتلين لأرضهم، واستوعبوا أهمية الوجود الإسلامي الذي من شأنه أن يطرد هؤلاء من بلادهم.

صادف عمرو والمسلمون أثناء سيرهم عدة عقبات عسكرية من جانب البيزنطيين، كان أولها في ترنوط3 حيث تصدت لهم قوة عسكرية إلا أنهم تغلبوا عليها، وتابعوا تقدمهم حتى وصلوا إلى نقيوس الواقعة على بعد عدة فراسخ من منوف، فأسرع سكانها إلى التسليم والإذعان، لكن حامية الحصن أصرت على المقاومة، وهذا يعني أن لم يكن هناك تنسيق بين السكان الوطنيين، والحاميات البيزنطية، ولعل مرد ذلك يعود إلى فقدان الثقة بين الجانبين بسبب العداء المستحكم

1 البلاذري: ص231، 232.

2 ابن عبد الحكم: ص158.

3 المصدر نفسه: ص155، وترنوط: قرية بين مصر والإسكندرية، وهي كبيرة جامعة على النيل، الحموي: ج2 ص27.

ص: 310

بينهما، فاصطدم عمرو بأفراد الحامية وانتصر عليهم، ودخل نقيوس، وفرت فلول المنهزمين إلى الإسكندرية1.

تابع عمرو تقدمه، واصطدم بقوة عسكرية بيزنطية أخرى عند سلطيس2، وتغلب عليها، وكان حصن كريون3 آخر سلسلة الحصون قبل الإسكندرية، وقصد اعتصم به تيودور قائد الجيش البيزنطي مع حامية قوية، كما تدفقت عليه الإمدادات من المناطق المجاورة، واشتبك الطرفان في عدة معارك على مدى بضعة عشر يومًا، كان بعضها شديدًا حتى إن عمرًا صلى يومًا صلاة الخوف4. وتمكن المسلمون أخيرًا من اقتحام الحصن، وتغلبوا على الحامية العسكرية، فقتلوا بعض أفرادها، وفر البعض الآخر إلى الإسكندرية للاحتماء بها، وكان تودور من بين هؤلاء، وطاردهم المسلمون حتى بلغوا الإسكندرية في "منتصف رجب 20هـ/ أواخر حزيران 641م"5.

فتح الإسكندرية:

أدرك عمرو، فور وصوله إلى الإسكندرية ودراسته للوضع الميداني، أن المدينة حصينة إذ يحيط بها سوران محكمان، ولها عدة أبراج ويحيط بها خندق يملأ من ماء البحر عند الضرورة للدفاع، وتتألف أبوابها من ثلاث طبقات من الحديد، ويوجد مجانيق فوق الأبراج، ومكاحل، وقد بلغ عدد جنود حاميتها بعد الإمدادات التي أرسلها الإمبراطور البيزنطي خمسين ألف جندي، ويحيمها البحر من الناحية الشمالية، وهو تحت سيطرة الأسطور البيزنطي، الذي كان يمدها بالمؤن والرجال والعتاد، وتحميها قريوط من الجنوب، ومن المعتذر اجتيازها، وتلفها ترعة الثعبان من الغرب، وبذلك لم يكن للمسلمين طريق إليها إلا من ناحية الشرق، وهو الطريق الذي يصلها بكريون، وكانت المدينة حصينة من هذه الناحية، ومع ذلك لم ييأس،

1 بتلر: ص310، 311.

2 ابن عبد الحكم: ص156، وسلطيس: من قرى مصر القديمة، الحموي: ج3 ص236.

3 كربون: اسم موضع قرب الإسكندرية، الحموي: المصدر نفسه ج4 ص458.

4 ابن عبد الحكم: ص156، 157.

5 المصدر نفسه: ص157، بتلر: ص320، يذكر البلاذري أن عمرو بن العاص سار إلى الإسكندرية في سنة إحدى وعشرين، وهذا لا يتوافق مع التواريخ التي اعتمدناها منذ دخول المسلمين إلى مصر، انظر فتوح البلدان: ص221، والواقع أن الصعاب التي تواجه المؤرخ المعاصر في معالجته لتأريخ الفتوح كثيرة، حتى ليخيل إليه أن الوصول إلى الحقيقة فيها يكاد يكون مستحيلًا، وذلك من واقع الخلط، والتناقض في روايات المصادر الإسلامية بخاصة، مما ضلل المؤرخين المحدثين وحيرهم.

ص: 311

ووضع خطة عسكرية ضمنت له النصر في النهاية؛ قضت بتشديد الحصار على المدينة حتى يتضايق المدافعون عنها، ويدب اليأس في نفوسهم، فيضطروا للخروج للاصطدام بالمسلمين لتخفيف وطأة الحصار، وهكذا يستدرجهم ويحملهم على الخروج من تحصيناتهم ثم ينقض عليهم، لذلك نقل معسكره إلى مكان بعيد عن مرمى المجانيق، بين الحلوة وقصر فارس، استمر الوضع على ذلك مدة شهرين لم يخرج البيزنطيون من تحصيناتهم للقتال1، سوى مرة واحدة حيث خرجت قوة عسكرية بيزنطية من ناحية البحيرة، واشتبكت مع قوة إسلامية، ثم ارتدت إلى الحصن، ولعلها كانت بمثابة قوة استطلاع أو جس نبض.

ورأى عمرو أن يقوم بعمل عسكري يشغل به جنوده، إذ إن الانتظار قد يؤثر على معنوياتهم القتالية، ويدفعهم إلى الخمول، فشغلهم بالغارات على الدلتا، وأبقى معظم جنوده على حصار الإسكندرية.

ونتيجة لاشتداد الصراع في القسطنطينية بين أركان الحكم، انقطعت الإمدادات البيزنطية عن الإسكندرية، إذ لم يعد أحد منهم يفكر في الدفاع عنها، مما أثر سلبًا على معنويات المدافعين عنها، فرأوا أنفسهم معزولين ولا سند لهم، ومما زاد من مخاوفهم ما كان يقوم به المسلمون من غارات على قرى الدلتا والساحل، فإذا سيطروا عليه فسوف يقطعون الميرة عنهم.

كان عمر بن الخطاب في المدينة ينتظر أنباء مصر، وهو أشد ما يكون استعجالًا لنبأ سقوط الإسكندرية في أيدي المسلمين، ولكن هذا النبأ أبطأ عنه أشهرًا، فراح يبحث عن السبب، وهو لم يقصر عن إمداد عمرو بما يحتاج إليه من المساندة التي تكفل له النصر، وخشي أن تكون خيرات مصر قد أغرت المسلمين، فتخاذلوا، وقال لأصحابه:"ما أبطأوا بفتحها إلا لما أحدثوا"2، ثم كتب إلى عمرو يقول له: "أما بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، إنكم تقاتلونهم منذ سنتين، وما ذلك إلا لما أحدثتم، وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قومًا إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقاوم ألف رجل على ما كنت أعرف، إلا أن يكونوا غيرهم غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا، فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم، ورغبهم في الصبر والنية، وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومر الناس جميعًا أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل

1 ابن عبد الحكم: ص157، 158.

2 المصدر نفسه: ص162.

ص: 312

واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة، ووقت الإجابة وليعج الناس إلى الله، ويسألوه النصر على عدوهم"1.

شكل كتاب عمر عامل دفع للمسلمين، فاقتحموا حصون الإسكندرية2، ففتحوها بحد السيف في "28 ذو القعدة 20هـ/ 8 تشرين الثاني 641م" بعد حصار دام أربعة أشهر ونصف3، وفر البيزنطيون منها بكل اتجاه للنجاة بأنفسهم، وأذعن سكانها من الأقباط، واستبقى عمرو أهلها، ولم يقتل ولم يسب، وجعلهم ذمة كأهل حصن بابليون4.

تتباين روايات المصادر حول كيفية فتح الإسكندرية، أكان عنوة أو صلحًا؟. ويذكر البلاذري أن المسلمين قاتلوا الحامية البيزنطية قتالًا شديدًا، وحاصروهم مدة ثلاثة أشهر، ثم إن عمرًا فتحها بالسيف، وغنم ما فيها واستبقى أهلها، ولم يقتل ولم يسب، وجعلهم ذمة كأهل بابليون، ويخالف ابن إسحاق البلاذري، في روايته حول فتح الإسكندرية، فيذكر أنها فتحت صلحًا، وليس عنوة على الرغم من أن كلا الطرفين، الإسلامي والبيزنطي في مصر، استعدا للقتال الذي أمكن تجنبه في اللحظة الأخيرة، وتشير هذه الرواية إلى أن المسلمين فتحوا الكثير من القرى حتى وصلوا إلى الإسكندرية، وكانت سباياهم من فتوح هذه القرى عظيمة جدًا، وقد بلغت المدينة ومكة واليمن، حتى إذا وصل إلى بلهيب راسله صاحب الإسكندرية، وعرض عليه الجزيرة مقابل رد السبايا، فأرسل عمرو كتابًا إلى عمر يستشيره، فجاءه الجواب بالموافقة على أن يخير السبايا بين البقاء على دينهم وعليه الجزية، وبين الدخول في الإسلام، فترفع الجزية عنهم، أما من تفرق في الجزيرة العربية، "فإنا لا نقدر على ردهم، ولا نحب أن نصالحه على أمر لا نفي له به"5.

وتشير الرواية النصرانية أن الإسكندرية فتحت صلحًا، فيذكر حنا النقيوسي أن

1 ابن عبد الحكم: ص162، 163.

2 كانت الإسكندرية تتألف من عدة حصون متداخلة حصن دون حصن. المصدر نفسه: ص157.

3 تتباين روايات المصادر والمراجع حول تاريخ فتح الإسكندرية، والراجح أن التوارخ التي اعتمدنا عليها هي أقرب إلى الصحة من واقع حصول الأحداث. انظر: ابن عبد الحكم: ص163، 164، البلاذري: ص221، 222، الطبري: ج4 ص105، المقريزني: ج1 ص303-310، بتلر: ص343، هيكل: ج2 ص142، 143.

4 البلاذري: ص222.

5 المصدر نفسه: ص222، 223، ابن عبد الحكم: ص157، 159-170. وقارن بالطبري: ج4 ص105، 106.

ص: 313

قيرس -المقوقس- لم يكن وحده الذي رغب في السلام، وإنما رغب فيه السكان والحكام، ودومنتيانوس الذي كان مواليًا للإمبراطورة مارتينا، ولذا اجتمعوا واتفقوا مع قيرس على إنهاء الحرب يعقد الصلح مع المسلمين، وذهب قيرس إلى بابليون حيث كان عمرو بن العاص هناك بعد غاراته على الدلتا، وعقد معه معاهدة يصح أن نطلق عليها معاهدة بابليون الثانية، تمييزًا لها عن المعاهدة الأولى، أو أن نسميها معاهدة الإسكندرية؛ لأنها كانت خاصة بأهل الإسكندرية وحاميتها، وأهم ما جاء في هذه المعاهدة:

- أن يدفع الجزية كل من دخل في العقد.

- أن تعقد هدنة مدتها أحد عشر شهرًا تنتهي في أول شهر بابه القبطي، الموافق للثامن والعشرين من شهر أيلول عام 642م.

- أن يبقى المسلمون في مواضعهم خلال مدة هذه الهدنة على أن يعتزلوا وحدهم، ولا يسعوا أي يسعى لقتال الإسكندرية، وأن يكف الروم عن القتال.

- أن ترحل مسلحة الإسكندرية في البحر، يحمل جنودها معهم متاعهم وأموالهم جميعًا، على أن من أراد الرحيل من جانب البر فله أن يفعل، على أن يدفع كل شهر جزءًا معلومًا ما بقي في أرض مصر في رحلته.

- أن لا يعود جيش من الروم إلى مصر، أو يسعى لردها.

- أن يكف المسلمون عنأخذ كنائس المسيحيين، ولا يتدخلوا في أمورهم أي تدخل.

- أن يباح لليهود الإقامة في الإسكندرية.

- أن يبعث الروم رهائن من قبلهم، مائة وخمسين من جنودهم وخمسين من غير الجند، ضمانًا لإنقاد العقد1.

والراجح أن الإسكندرية فتحت عنوة، غير أن عمرو بن العاص عامل أهلها كأهل ذمة لأسباب سياسة تتعلق بالمحافظة على مكتسبات الفتح من جهة، والتفرغ لتنظيم إدارة البلاد من جهة أخرى، بالإضافة إلى الانطلاق لتحقيق فتوح جديدة على ساحل شمالي إفريقية.

ذيول فتح الإسكندرية:

زال السلطان البيزنطي عن مصر كلها بعد فتح الإسكندرية، باستثناء بعض

1 انظر: بلتر ص334-343.

ص: 314