الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: حروب الردة
مدخل
…
الفصل الثالث: حروب الردة
تمهيد: واجه أبو بكر، في بداية حياته السياسية كخليفة، ردة العرب وانتقاضهم على الإسلام كدين، وعلي حكم المدينة كقوة سياسية، ووردت إليه الأخبار من كافة أرجاء الجزيرة العربية بارتداد بني أسد بقيادة طليحة بن خويلد الذي ادعى النبوة، وبني فزارة بقيادة عيينة بن حصن، وبني عامر وغطفان بقيادة قرة بن سلمة القشيري، وبني سليم بقيادة الأشعث بن قيس الكندي، وبني بكر بن وائل في البحرين بقيادة الحكم بن زيد، وبني حنيفة بقيادة مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة، وحافظت قريش وثقيف، وأهل المدينة على ولائهم.
قرر أبو بكر التصدي لهذه الحركات الارتدادية بالقوة والحزم، وبخاصة بعد ورود أنباء عن تحفز القبائل لشن هجوم واسع على المدينة، وتدمير القاعدة المركزية للدين الإسلامي.
وبغض النظر عن الأحكام الفقهية التي ترعى شئون المرتدين؛ لأن المسألة هنا تختص بالناحية التاريخية، وربما كان الحديث النبوي:"من بدل دينه فاقتلوه" 1؛ مبررًا لاتخاذ هذا القرار، بالإضافة إلى ذلك، كان لأبي بكر موقف من الذين امتنعوا عن دفع الزكاة، وفرقوا بينها وبين الصلاة:"لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة"2.
والواضح أن أبا بكر أدرك أن الزكاة هي التجسيد الملموس، وربما التجسيد المادي الوحيد، لوحدة القبائل، وهي العلاقة الوحيدة التي يمكن لها أن تربط فيما بينهم، فكل قبيلة كان يمكن لها أن تصلي وراء إمامها، ويقتصر الحال على هذا، في حين تتطلب الزكاة نوعًا من العلاقة المتبادلة، والتنظيم المركزي لجمعها وصرفها، من هنا أصر أبو بكر على ضرورة استمرار القبائل في دفع الزكاة3.
1 العسقلاني: ج15 ص296، 297.
2 المصدر نفسه: ص302- 309.
3 إبراهيم: ص130.
لكن كان على أبي بكر، قبل ذلك، أن يرسل جيش أسامة بن زيد إلى وجهته التي حددها له النبي قبل وفاته، وهي الإغارة على القبائل الشامية على الطريق التجاري بين مكة وغزة، والمعروف أن هذا الجيش كان معسكرًا في الجرف، من أرباض المدينة، حين توفي النبي وانتخب أبو بكر، فتوقف عن الزحف.
ويبدو أن أسامة أدرك حرج موقف الخليفة، والمسلمين في تلك المرحلة الدقيقة التي تتطلب تجميع القوى الإسلا مية وحشدها، وبخاصة أن جيشه البالغ سبعمائة مقاتل ضم غالبية المهاجرين والأنصار، ومن كان حول المدينة من القبائل.
وأبدى بعض الصحابة تحفظًا على إرسال هذا العدد الكبير من المقاتلين إلى خارج المدينة في ظل أجزاء ثورات القبائل والمرتدين، لكن أبا بكر أبى أن يخالف وصية النبي1، وأثبتت الأحداث أنه كان محقًا في إصراره؛ لأن في ذلك دلالات واضحة على قوة المدينة، وثقتها بنفسها، وساعد على رفع هيبتها في عيون القبائل.
وهكذا قامت سرية أسامة بتنفيذ مهمتها، وخلت المدينة في غضون ذلك، من المدافعين عنها باستثناء بضع مئات من المهاجرين والأنصار، والحقيقة أن أبا بكر أثبت في مواجهة هذا التحدي أنه رجل الدولة القوي، وصاحب القرار الجريء.
تعرض المدينة لجهوم القبائل:
الواقع أن خروج أسامة بن زيد بلاد الشام قد شتت القوة الإسلامية النامية، مما شجع الخارجين وبخاصة عبس، وذبيان على مهاجمة المدينة، فعسكروا حولها، وأرسلوا وفدًا إلى أبي بكر ليساوموه على موقفهم بعدم دفع الزكاة، وأطلعوا في غضون ذلك، على الوضع الداخلي في المدينة مما دفع أبا بكر إلى تنبيه المسلمين كي يأخذوا حذرهم2.
انتهت المفاوضات بين الجانبين بالفضل بسبب التصلب في المواقف، فعاد أعضاء الوفد إلى معسكرهم، في حين قام أبو بكر بحشد القوى، وتدعيم دفاعات المدينة، وشن المحاصرون هجومًا ليليًا بعد ثلاثة أيام، غير أنهم لم يحققوا أي نصر على الرغم من قلة المدافعين، وارتدوا على أعقابهم3.
كان لهذا الانتصار الإسلامي السريع عدة نتائج إيجابية لعل أهمها:
- ازداد المسلمون، في كل قبيلة، ثباتًا على دينهم.
1 الطبري: ج3 ص225، 226.
2 المصدر نفسه: ص244، 245.
3 المصدر نفسه: ص246.
- ازداد المرتدون تعنتًا، فوثبوا على من فيهم من المسلمين وقتلوهم، فحلف أبو بكر ليقتلن في كل قبيلة بمن قتل من المسلمين.
- هرع من ثبت على إسلامه إلى المدينة لأداء الزكاة.
تجهيز الجيوش لحرب المرتدين:
عاد، في هذه الأثناء، أسامة بن زيد وجيشه بعد سبعين يومًا من خروجهم، فأبقاه الخليفة في المدينة حتى يستريح هو وجنده، وهاجم، بالقوى التي توفرت له، مضارب بني ذبيان، ودخلها بعد أن انسحب منها هؤلاء بفعل ضغط القتال، ثم عاد إلى المدينة ليستعد لحرب المرتدين1، فعبأ المسلمين وجهز من الجيوش أحد عشر لواء تتناسب في عديديها وفي إماراتها، وفي وجهتها، مع قوة القبائل التي وجهها إليها، ومدى إلحالحها في درتها، فخصص ثمانية ألوية للجنوب بفعل تركز غالبية المرتدين، والمتنبئين في الأماكن الجنوبية، في حين وجه ثلاثة ألوية إلى الشمال، واحتفظ بقوة عسكرية لحماية المدينة.
تألفت ألوية الجنوب من الجيوش التالية:
- خالد بن الوليد إلى طليحة بن خويلد الأسدي في بزاخة، ومن انضم إليهم من مرتدي طيء وعبس وذبيان، والمعروف أن بني أسد، وبني تميم كانوا أقرب القبائل المرتدة إلى المدينة، فكان طبيعيًا أن يبدأ المسلمون بمهاجمتهم.
- عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة الكذاب المتنبئ باليمامة، فإذا فرغ توجه إلى دبا.
- شرحبيل بن حسنة مددًا لعكرمة، فإذا فرغ منه، لحق بقضاعة لمساعدة عمرو بن العاص.
- المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى اليمن لمحاربة الأسود العنسي، ومساعدة الأبناء ضد قيس بن هبيرة المرادي، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، فإذا فرغ، قصد كندة وحضرموت لمحاربة المرتدين بزعامة الأشعث بن قيس.
- سويد بن مقرن إلى تهامة اليمن.
- العلاء بن الحضرمي إلى الحطيم بن ضبيعة، والمرتدين من ربيعة في البحرين.
- حذيفة بن محصن الغلفاني إلى ذي التاج لقيط بن مالك الأزدي، المتنبئ في عمان.
1 الطبري: ج3 ص246.
خريطة جيوش حروب الرِّدَّة
- عرفجة بن هرثمة إلى أهل مهرة.
وتألفت ألوية الشمال من الجيوش التالية:
- عمرو بن العاص إلى قضاعة، ووديعة والحارث في شمالي الحجاز.
- معن بن حاجز السلمي إلى بني سليم، ومن معهم من هوازن.
- خالد بن سعيد بن العاص إلى مشارف الشام1.
ويضيف البلاذري أميرًا آخر هو يعلى بن منبه، حليف نوفل بن عبد مناف، إلى خولان باليمن2.
والملاحظ أن جميع الأمراء الذين اختارهم لقيادة العمليات العسكرية كانوا من المهاجرين، وأنه استبقى الأنصار للدفاع عن مدينتهم، ولا مبرر للقول بأنه استبقاهم حذرًا منهم لما أبدوه في سقيفة بني مساعدة، إذ لم يكن الأنصار دون المهاجرين إيمانًا بالله ورسوله.
إن قراءة متأنية لقرار الخليفة، والتوزيع الجغرافي للألوية تطلعنا على الحقائق التالية:
- مدى خطورة الموقف الذي يواجهه الإسلام كدين، وعقيدة ودولة، والمسلمون كأمة، فقد انتشر المرتدون والخارجون والمتنبئون، من مشارف بلاد الشام شمالًا حتى حضرموت ومهرة، واليمن في الجنوب، ومن البحرين وعمان والخليج العربي شرقًا حتى شاطئ البحر الأحمر غربًا، بالإضافة إلى قلب الجزيرة العربية، ومشارف الحجاز وأبواب المدينة.
- عظيم المسئولية الملقاة على عاتق أبي بكر، والمسلمين من حوله، والتي تتطلب بذل جهد غير عادي لمواجهة الموقف.
- كان المسلمون يمثلون قلة عددية في تلك المرحلة بالمقارنة مع الكثرة العددية للقبائل المرتدة والثائرة، فكان عليهم مواجهة هذه الظاهرة.
- حتمية التعاون بين هذه الجيوش وفق خطة عسكرية محكمة بحيث لا تعمل كأنها جيوش منفصلة تحت قيادات مستقلة، وإنما هي، على الرغم من تباعد الأمكنة، جهاز واحد تلتقي، وتفترق كلها أو بعضها.
- اتخذ أبو بكر المدينة مقرأ له، وقاعدة لإدارة العمليات العسكرية.
انطلقت الألوية الإسلامية من ذي القصة كل إلى الوجهة المحددة لها، بعد أن
1 الطبري: ج3 ص249.
2 فتوح البلدان: ص109.
زود الخليفة قادتها بكتاب ذي مضمون واحد إلى جميع العرب1، يعكس سياسته وأسلوبه في التعامل مع هذه الفتنة بحيث إنه2:
- حرص على أن يبدأ الكتاب باسم الله، وأن يوضح صفته التي يخاطب بها الناس، ويتعامل معها بمقتضاها، فهو خليفة رسول الله، وله عليهم ما للرسول من الولاية العامة، والطاعة التامة.
- وجه الكتاب إلى العرب عامة، من أقام على إسلامه منهم، ومن رجع عنه، ومعنى ذلك أنه أراد أن يكون مضمونه بيانًا للناس جميعًا سواء من بقي على الطاعة ومن خرج منها.
- اختص بتحية الإسلام، من اتبع الهدى فقط، أما المرتدين والخارجين، فلا سلام عليهم، وذكر الجميع بشعار الإسلام، وأول ركن من أركانه هو شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
- أقر بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وكفر كل من ينكر ذلك، وتعهد بقتاله.
- وضح رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبين الأسلوب الذي اتبعه النبي لتحقيق الهدف:{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، وذكر الجميع بأن النبي اتبع سياسة حازمة تجاه المشركين والكفار.
- أوضح صفة النبي البشرية، ورد على الجماعة التي عجبت من وفاته، وذكرها بما جاء في كتاب الله من أن محمدًا بشر يجري عليه من يجري على سائر البشر من حياة وموت، ويعكس هذا ادعاءات بعض المرتدين:"لو كان محمد نبيًا لما مات"، ثم أبرز قدرة الله، وأنه حي لا يموت.
- قدم النصح للناس بتقوى الله، واتباع ما جاء به رسوله والاعتصام بدينه، وذلك بأسلوب هادئ، وهو في خلال ذلك يبشر المهتدين بثواب الله، ويحذر الضالين من عذابه، وأوضح أن الأمر كله لله، من ثواب وعقاب.
- أشار إلى ما بلغه من ردة بعض العرب عن الإسلام، وخروجهم عن طاعة الله، وأوضح لهؤلاء أن هذا من عمل الشيطان، وحذرهم من المصير الذي ينتظر أولياء الشيطان، وحزبه وهو حكم الله في الضالين.
- كشف سياسته العامة تجاه المرتدين القائمة على منحهم فرصة للتفكير، ودعوتهم بالحسنى للعودة إلى الله، بعد أن انساق كثير من العرب وراء الدعاة، خشية
1 انظر نص الكتاب في الطبري: ج3 ص249- 252.
2 هيكل ص127، عاشور: ص98.
ما يصيبهم إذا استمروا على إسلامهم، فإذا رأوا أنفسهم بين قوتين مالت نفوسهم إلى إسلامها، أو أمسكوا على الأقل، عن الانضواء تحت راية زعماء الردة، وبذلك تحقن دماء، ويتراجع اندفاع كثير من المرتدين، ويتوقفوا عن القتال، ولا شك بأن هذه السياسة الحكيمة التي انتهجها قد حققت أهدافها الموضوعة، فعاد قسم كبير من المرتدين عن ردتهم، في حين استمر آخرون عليها، فتعرضوا للقتل بالسيف، والحرق بالنار، وسبي الذراري والنساء.
- لم يقصد أبو بكر المداورة من خلال منح القبائل فرصة للتفكير، حتى إذ لم يفلح التمس وسيلة غيرها، بل كان جادًا في كل كلمة من كلمات كتابه، وفي كل صورة من صور التهديد التي ذكرها فيه.
وأوصى أبو بكر قادة الألوية1 تنفيذ المهام الموكولة إليهم ضمن إطار الخطة التي وضعها، وزودهم بتفاصيلها، ويتفق مضمونها مع وصايا دأب النبي على تزويد أمراء جنده بها عند خروجهم للجهاد، وتضم طرفًا من آداب الإسلام في الجهاد، كما أمرهم بالتنسيق معه إيمانًا منه بأن وحدة القيادة في الحرب هي السبب الأكثر أهمية في تحقيق النصر.
خرجت الألوية الإسلامية، في ضوء هذه التوجهات، في اتجاهات متعددة، ومعها أوامر مشددة بقمع ثورات القبائل دون تمييز بين دافع وآخر، والقضاء على الأخطار التي واجهت الإسلام، ودولته الناشئة.
قتال طليحة الأسدي -معركة البزاخة:
برز خالد بن الوليد في حروب الردة كقائد محترف، ومقاتل شجاع، مارس عمليًا مهام القائد العام، واستطاع بفضل الخطط العسكرية المبتكرة، والمداهمات الصاعقة التي نفذها ضد المرتدين؛ أن يحقق النجاح المطلوب في مهمته الصعبة، ففي أقل من عام، كانت لديه القدرة لقمع حركة الردة، وتصفية جيوب التمرد في كافة أنحاء الجزيرة العربية.
كانت مواجهته الأولى ضد طليحة الأسدي، وخصصه أبو بكر بأربعة آلاف مقاتل، أقلهم من المهاجرين، وأكثرهم من القبائل القريبة من المدينة، وبعض بني كنانة، وكان فيهم من الأنصار ما بين أربعمائة إلى خمسمائة مقاتل بقيادة ثابت بن قيس، وحمل أبو لبابة رايتهم2.
1 انظر نص الوصية في الطبري: ج3 ص251، 252.
2 المصدر نفسه: ص254.
أقام طليحة في منازل بني أسد ببزاخة، وعسكر جيشه في سميراء، وانضمت إليه فلول عبس، وذبيان الذين هزمهم أبو بكر، كما انحازت إليه قبائل غطفان وسليم ومن جاورهم من أهل البادية في شرق المدينة، وفي شمالها الشرقي، وحاول استقطاب طيء للانضمام إليه، عن طريق الحلف الذي كان بينهم، وبين بني أسد، في الجاهلية، فتعجل أقوام من جديلة والغوث، وهما من طيء بالانضمام إليه، وأوصوا من تأخر باللحاق بهم1، وفعلًا، وحدتهم العصبية القبلية، وتقبلوا رأي عيينة بن حصن "نبي من الحليفين أحب إلينا من نبي من قريش، وقد مات محمد، وطليحة حي"2، ولم تخالجهم أدنى ريبة في تعرضهم لهجمات المسلمين إن هم أصروا على خروجهم على سلطان المدينة، ومتابعة طليحة، وامتنعوا عن دفع الزكاة3.
واشتد ساعد طليحة بما انضم إليه حتى ظن أنه لن يغلب، ونقل معسكره من سميراء إلى بزاخة، الأكثر مناعة، استعدادًا لمواجهة محتملة مع المسلمين.
وأمر أبو بكر خالدًا أن يبدأ بطيء قبل أن يتوجه إلى البزاخة، وحتى يموه على الحملة تصرف على محورين:
الأول: أذاع أنه خارج بنفسه على رأس الجيش إلى خيبر4 حتى ينضم إلى قوات خالد، ثم ينطلق لمحاربة المرتدين، فابتعد بذلك عن طريق البزاخة، فاطمأنت طيء، وتقاعست عن الخروج لمساعدة طليحة، ففصل بذلك بين الحليفين، ليضرب كلًا على حدة.
الثاني: حاول أن يستقطب طينًا عن طريق عدي بن حاتم الطائي، وهو أحد الأشخاص الذين ثبتوا على إسلامهم، فكلفه بمهمة إخراج قومه من التحالف مع طليحة، والعودة بهم إلى طاعة المدينة، ونجح عدي في مهمته، لكن كان على طيء أن تسحب قواتها الموجودة في معسكر طليحة خشية أن يقتلهم أو يرتهنهم، فطلبوا من عدي أن يكف خالدًا عنهم حتى يستخرجوهم5.
استحسن خالد هذا العرض، وأمهلهم ثلاثة أيام، مدركًا في الوقت نفسه أن من شأن ذلك أن يكسبه قوة إضافية، ويضعف من قوة خصمة، وطلب القوم من إخوانهم
1 الطبري: ج3 ص253.
2 المصدر نفسه: ص257.
3 المصدر نفسه: 258.
4 خيبر: ناصية على ثمانية برد من المدينة لمن يريد الشام، وهي ولاية تشتمل على سبعة حصون، ومزارع ونخل كثير، الحموي: ج2 ص409- 411.
5 الطبري: ج3 ص253.
في البزاخة أن يعودوا إلى منازلهم ليساعدوهم في التصدي لزحف المسلمين، وسمح لهم طليحة بالعودة، فانضم بذلك خمسمائة مقاتل من الغوث إلى صفوف المسلمين1.
ارتحل خالد بعد ذلك إلى الأنسر2 يريد جديلة، فتدخل عدي بن حاتم أيضًا، وأقنع الجديليين بالعودة إلى حظيرة الإسلام، ويبدو أن انضمام الغوث إلى المسلمين، شكل دافعًا لهؤلاء لتغيير موقفهم، وانضم خمسمائة مقاتل منهم إلى صفوف خالد، فأضحى عدد جنوده خمسة آلاف3، كما انضمت سليم إلى صفوف المسلمين، وكانت لا تزال مترددة إلى أن زحف خالد نحو بني أسد، فخشيت على نفسها.
والواقع أن بعض القبائل التي صنفها المؤرخون في عداد المرتدين، مثل طيء، كانت في الحقيقة ضحية مزيج من عدة مشاعر تفاعلت في أبنائها نتيجة عدم تجذر العقيدة الإسلامية في قلوبهم، بالإضافة إلى وقوعهم تحت تأثير التقاليد الجاهلية وأفكارها، ثم ارتباطهم بروابط الأحلاف، وحسن الجوار مع قبائل أخرى، هذا فضلًا عما رأوه في بعض أحكام الإسلام من تضييق على حريتهم، وانتقاص من سطوتهم، وتحملهم أعباء هم في غنى عنها4، ومثل هؤلاء، كانوا بحاجة إلى مزيد من الإقناع، والموعظة الحسنة، والتعريف بأحكام الإسلام وأهدافه، ويتعذر تحقيق ذلك في بضع سنين.
ومهما يكن من أمر، فقد بلغت أنباء التحولات الجديدة طليحة في البزاخة، فاغتم، لكنه أصر على موقفه، وشجعه عيينة بن حصن الفزاري الذي كان يكن الحقد على أبي بكر والمسلمين.
ويبدو أن طليحة، على الرغم من أنه اتصف بالشجاعة والحذر، لم يستطع مخالفة عيينة بعد أن انسحبت جموع طيء من صفوفه، خيشية من انقلابه عليه، وتعريض حياته للخطر، وآثر البقاء حيث هو منتظرًا قدوم خالد، وعسكر على ماء آخر يقال له الغمر5.
وبث طليحة العيون على فجاج الصحراء حتى لا يؤخذ على غرة، وعلم منهم بزحف المسلمين قبل أن يصلوا إلى بزاخة، فعبأ قواته استعدادًا للمواجهة، ووضع
1 الطبري: ج3 ص253، 254.
2 الأنسر: ماء لطيء دون الرمل قرب الجبلين أجأ وسلمى، الحموي: ج1 ص256.
3 الطبري: ج3 ص253.
4 عاشور، سعيد عبد الفتاح: بحوث في تاريخ الإسلام وحضارته ص106.
5 الغمر: ماء من مياه بني أسد، الحموي: ج4 ص212.
خطة عسكرية قائمة على الغلبة، والفرار في حال الهزيمة، فعزل معظم النساء في مكان أمين؛ لئلا يقعن في السبي إذا دارت الدائرة عليه، وأحاط نفسه بأربعين فارسًا من أشد فتيان بن أسد.
تميز جيش طليحة بميزتين هما الكثرة العددية، والراحة فقد زاد عدد أفراد جيشه عن عدد أفراد جيش خالد بألف مقاتل، أو أكثر مع وفرة السلام والركائب، كما كان مرتاحًا في دياره، على عكس الجيش الإسلامي الذي كان على أفراده أن يقاتلوا بعد سير مئات الأميال في الأودية والجيال1، وشغلت نجد كلها بهذه المعركة التي أضحت على الأبواب.
التفت قيس، وبنو أسد حول طليحة، واستعدوا للقتال، فأشارت جماعة من طيء على خالد أن يحارب قيسًا، ويعدل عن بني أسد، وذلك لحلف كان بينهم في الجاهلية كما أشرنا، وإن دل هذا الطلب على شيء، فإنه يدل على أن القوم لا زالوا يفكرون بالعصبية الجاهلية، وينظرون بالعين القبلية، وأن الإسلام لم يتجذر في قلوبهم، وأن عودة طيء عن ردتها كانت بدافع الواقع السياسي والعسكري.
عارض عدي بن حاتم هذا التوجه، وكان خالد حريصًا على ألا يسمح لأي انشقاق يحصل داخل صفوف قواته، فهو بحاجة إلى كل مقاتل، نظرًا لشدة بأس عدوه الذي يحارب على أرضه، فأقنع عديًا بمجاراة قومه، وهكذا قاتلت طيء قيسًا، وقاتل سائر المسلمين سائر بني أسد2.
والتحم الجيشان في رحى معركة ضاربة انتهت بانتصار المسلمين، وانفض الفزاريون عن طليحة بعد أن اكتشفوا أنه كاذب، فطاردهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم، وكان عيينة من بين الأسرى، ولاذ طليحة بالفرار حتى النقع من منازل كلب على تخوم بلاد الشام، وقتل من جيشه خلق كثير، وعاد من بقي عن ردته3.
وعندما علم طليحة بتحول كفة الصراع إلى جانب المسلمين، وبلغه ما لقيت أسد، وغطفان من الشدة، وعودة من ارتد منهم إلى الإسلام، أسلم وحسن إسلامه بعد ذلك، واشترك في معركة القادسية، وحفظ له عمر مكانته، ورأيه في الحرب، فكتب إلى النعمان بن مقرن، أحد قادة جيوش فتح العراق، "أن استعن في حربك بطليحة، وبعمرو بن معدي كرب"، ولقد استشهد في معركة نهاوند4.
1 العقاد: ص85.
2 الطبري: ج3 ص255.
3 المصدر نفسه: ص255- 257.
4 المصدر نفسه: ص261، ونهاوند مدينة عظيمة قبلة همذان بينهما ثلاثة أيام. الحموي: ج5 ص313.
ذيول معركة البزاخة:
- استثمر خالد انتصاره في البزاخة لإخضاع القبائل المرتدة الضاربة في الجزء الشمالي الشرقي من الجزيرة العربية، ودفعها للعودة إلى حظيرة الإسلام، وتثبيت أقدام المسلمين في هذا الجزء، لذلك أقام في المنطقة مدة شهر كامل نفذ خلاله عدة عمليات عسكرية ضد فلول المرتدين، وهكذا عاد بنو عامر، وسليم وهوازن من ردتهم1.
- طلب خالد من غطفان وهوازن، وسليم وطيء، حين وادعهم، تسليمه الذين قتلوا المسلمين، ومثلوا بهم أثناء ردتهم، فلما جيء بهم عفا عن المقاتلين العاديين، وأرسل الزعماء إلى المدينة، كان من بينهم قرة بن هبيرة القشيري صاحب ردة بني عامر، وعيينة بن حصن الفزاري، وقتل الذين عدوا على المسلمين، وكتب إلى أبي بكر يعلمه بتصرفه هذا2.
- وافق أبو بكر على تصرفات خالد، وشجعه على الاستمرار في محاربة المرتدين ومطاردتهم، ورأى أن يتألف زعماء القبائل؛ لأن حركة الانتفاضة على الحكم الإسلامي في الجزيرة العربية كانت لا تزال في بدايتها، والمسلمون بحاجة إلى تأليف قلوب هؤلاء ليكونوا عونًا لهم في هذه المحنة، فعفا عن قرة وعيينة وعلقمة بن علاثة الكلبي، وقتل الفجاءة، وهو بجير بن عبد الله السلمي، نتيجة ما اقترفت يداه من العدوان، والقتل بحق المسلمين3.
- اصطدم خالد بسلمى بنت مالك الفزارية المعروفة بـ"أم زمل"، وقد خرجت لتصيب ثأرًا عند المسلمين4، وساندتها بعض القبائل المرتدة، وأسفر اللقاء عن انتصار المسلمين، ومقتل أم زمل وفرار أتباعها5.
1 الطبري: ج3 ص262.
2 المصدر نفسه: ص263.
3 المصدر نفسه: ص259، 260، ابن أعثم: ج1 ص22، 23، البلاذري: ص107.
4 لقد قتلت والدتها أم قرفة في عهد النبي على يد زيد بن حارثة حين اجتاح بن فزارة.
5 الطبري: ج3 ص263، 264.