المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مرحلة التجهيز، والاستعداد: - تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية

[محمد سهيل طقوش]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة:

- ‌الباب الأول: أبو بكر الصديق 11-13هـ-632-634م

- ‌الفصل الأول: الأوضاع السياسية في الجزيرة العربية عقب وفاة النبي

- ‌الأوضاع السياسية في المدينة

- ‌اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة

- ‌الأوضاع السياسية خارج المدينة:

- ‌الفصل الثاني: تفشي ظاهرة التنبؤ في المجتمع العربي

- ‌الفصل الثالث: حروب الردة

- ‌مدخل

- ‌ملابسات حوادث بني تميم:

- ‌القضاء على ردة بني حنيفة:

- ‌الفصل الرابع: أوضاع الدولتين الفارسية، والبيزنطية عشية الفتوح الإسلامية:

- ‌أوضاع الدولة الفارسية

- ‌تراجع النفوذ البيزنطي من بلاد الشام عشية الفتوح الإسلامية:

- ‌الفصل الخامس: الفتوح في عهد أبي بكر

- ‌فتوح العراق:

- ‌فتوح بلاد الشام:

- ‌الفصل السادس: استئناف الفتوح في عهد عمر:

- ‌فتوح العراق:

- ‌معركة القادسية:

- ‌الفصل السابع:‌‌ استكمال فتوح العراق-فتوح فارس "إيران

- ‌ استكمال فتوح العراق

- ‌فتوح فارس "إيران

- ‌الفصل الثامن: استكمال فتوح بلاد الشام-فتوح الجزيرة وأرمينية والباب

- ‌مدخل

- ‌معركة اليرموك

- ‌فتح بيت المقدس

- ‌الفصل التاسع: فتوح مصر

- ‌مدخل

- ‌أثر الفتح الإسلامي على أوضاع الأقباط:

- ‌التوسع نحو الغرب:

- ‌الفصل العاشر: الدولة الإسلامية في عهد عمر-مقتل عمر

- ‌مدخل

- ‌الإدارة في عهد عمر:

- ‌الموظفون الإداريون:

- ‌الوالي:

- ‌الدواوين:

- ‌القضاء:

- ‌القضاء في عهد عمر:

- ‌إدارة البلاد المفتوحة من خلال عقود الصلح:

- ‌الفصل الحادي عشر: الفتوح في عهد عثمان

- ‌الفصل الثاني عشر: الفتنة الكبرى ومقتل عثمان

- ‌الباب الرابع: علي بن أبي طالب 35-40هـ/ 656-661م

- ‌الصراع بين علي وأصحاب الجمل:

- ‌المواجهة المسلحة الأولى بين المسلمين:

- ‌وقعة الجمل:

- ‌الصراع بين علي، ومعاوية، والخوارج

- ‌معركة صفين:

- ‌مرحلة التجهيز، والاستعداد:

- ‌معركة النهروان:

- ‌الخاتمة:

- ‌المصادر والمراجع:

- ‌محتوى الكتاب:

الفصل: ‌مرحلة التجهيز، والاستعداد:

‌مرحلة التجهيز، والاستعداد:

التعبئة البشرية في قوات علي:

كان قتلة عثمان يتولون زمام الأمور في الكوفة، وقد ازداد عددهم كثيرًا بعد وقعة الجمل، ومارسوا مزيدًا من التأثير، والضغط في سبيل الحرب، متخطين الانقسامات القبلية، وقد وظفوا نفوذهم بين قبائلهم من أجل تجييش المؤيدين والأتباع، والراجح أنه كان يربطهم اعتاقد راسخ بأنهم كانوا على حق حين قتلوا عثمان، وحين حاربوا أصحاب الجمل، وأنهم الآن على حق وهم يستعدون لمحاربة "ظلمة الشام"1، لكن ربما علينا أن نفرق بين فئتين منهم:

الفئة الأولى: هم القادة القلائل، وأتباعهم الذين يسيرون وراءهم، وقد تجمعوا حول علي وتبنوا قضيته، ودخلوا في لعبة السلطة الجديدة، وسوف يساندونها بقوة، وسيقاتلون في صفين من أجل شرعية علي، وبخاصة أنه عينهم ولاة على الأمصار2.

والواقع أن الخليفة اهتم باستقطابهم بعد ضعف المشاركة الكوفية إلى جانبه في وقعة الجمل، فكان بحاجة ماسة إلى نفوذهم السياسي بقدر ما كان بحاجة إلى قدرتهم القتالية لكي يؤمن قوة ضاربة، إذ لم يكن قادرًا على فرض قيادة شخصية، ومباشرة من جمهور الكوفيين، وبالتالي كان لا بد له من أن يمر من خلال الأشراف3، وفعلًا، فقد سانده هؤلاء من واقع:

- أنه الخليفة الشرعي، وقد ثبته الانتصار في وقعة الجمل في شرعيته.

- لقد كان ي الكوفة اتجاه عام لصالحه.

- لقد أدت الإقليمية دورًا مهمًا في دفع العراقيين بعامة إلى الوقوف خلفه، وذلك من خلال التنافس الإقليمي بين العراق والشام، بدليل قول معاوية لجنده، وهو يعبئهم لمعركة صفين "

إنكم قد سرتم لتمنعوا الشام، وتأخذوا العراق

"4.

- إن وجود الخليفة في الكوفة كان يفرض على الكوفيين الدفاع عنه، وعن عاصمتهم أيضًا.

1 جعيط: ص191.

2 لقد عين علي مالكًا بن الحارث الأشتر واليًا على الموصل ونصيبين، ويزيد بن قيس واليًا على المدائن وجوخى، انظر ابن مزاحم: ص116.

3 جعيط: ص191، 192.

4 ابن قتيبة: ج1 ص87. ابن مزاحم: ص56، 78، 79، 168.

ص: 457

- إن شخصية علي كانت تفرض الاحترام، وتستقطب الأتباع من خلال ماضيه الإسلامي، ومن حيث استقامته، وعدم تبديله النظام الاجتماعي القائم.

الفئة الثانية: هم جماعة القراء الذين شكلوا قوة متماسكة، إنما ظلوا أقلية في الكوفة والبصرة، إنهم نواة الخوارج، وقد ركزوا على قناعاتهم الخاصة بدافع ماضي علي، وتعالي القرآن فوق كل سلطان بشري، وإدانة ما ابتدعه عثمان، والمطالبة بالتخلص منه، والعداء للمزاعم القرشية في الوصاية على الإسلام، وقد توافقت مصلحتهم مع مصلحة علي ضد الخصم المشترك، وبالتالي، فإن دعمهم له هو مصلحي بقدر ما كان على يشاطرهم آراءهم، وسوف يقاتلون من أجل فكرتهم عن العدل والعدالة، لكن الخلافات بين الطرفين سوف تغيب الآن بفعل قرب الخطر والمعركة المشتركة، وحضور علي، وبحركة قادتهم النشطة، وستنفجر بعد القتال في صفين1.

وتلقى علي مساعدة محدودة من قبائل البصرة، النصف تقريبًا، وذلك بسبب مواقفها السابقة من أحداث الفتنة المتمثلة في تأييدهم لسياسة عثمان، ومعارضتهم لقتله، ووقوفهم وراء أصحاب الجمل.

وساند المهاجرون والأنصار، وذوو الأصل البدوي المقيمون في المدينة، عليًا، سبعون من أهل بدر، وسبعمائة ممن بايع تحت الشجرة، وأربعمائة من سائر المهاجرين والأنصار2، إنهم نسبيًا قليلو العدد بالمقارنة مع الجماعتين الكبيرتين الكوفية والبصرية، ولكنهم كانوا مع ذلك يملكون قوة معنوية كبيرة بوصفهم كانوا صحابة، وأبناء الصحابة وأنصار رسول الله الذين ذكرهم الله في كتابه، والمعروف أنه جرى تهميشهم على أيدي الخلفاء الثلاثة السابقين، فرفعهم علي بعد أن بنى شرعيته على إجماعهم، وبفعل أنه أراد أن يمارس سياسة إسلامية بعيدة عن الشعور القبلي المحض3.

وهكذا نجح علي في تشكيل تجمع من المقاتلين إلى جانبه، ويعد هذا انتصارًا بحد ذاته، غير أن التشكيل جاء غير متجانس، وغير منسجم عقائديًا، وإقليميًا وقبليًا، إذ ضم عناصر متباينة في الولاء والمفاهيم والتوجهات، فهناك المهاجرون والأنصار، وأشراف القبائل وأهل القادسية، والأيام والروادف وجماعات القراء، وهي عناصر

1 جعيط: ص192.

2 ابن مزاحم: ص92-94، وقارن بابن كثير: البداية والنهاية ج7 ص253، 254. اليعقوبي: ج2 ص88.

3 جعيط: ص194.

ص: 458

تتفاوت في درجة تقديرها لمصالحها، وفي نظرتها لقريش، ولسلطان المدينة، وفي تقييمها لأبعاد الصراع الذي تخوضه، بدليل أنها ظلت مثار شكوى على منذ انطلاقه لمواجهة معاوية وحتى مقتله1.

التعبئة البشرية في قوات معاوية:

وقفت القوى في بلاد الشام بأجمعها وراء معاوية، وساندته بكل قواها، ودعمته بشكل مطلق، وذلك بدافع:

- الشعور البدائي بعصبية الدم.

- الكبرياء والكراهية.

- عدم القبول بسيطرة أهل العراق.

شكلت هذه القوى تجمعًا مؤتلفًا نسبيًا، ووحدة إقليمية مماثلة لوحدة الكوفة وحدها أو البصرة وحدها، لكنها كانت متباعدة جغرافيًا، فقد أقام القيسيون في الجزيرة حول قرقيسياء، واتخذت الجماعات اليمنية الكبرى مكانًا لها، ومجالا حول حمص، واستوطنت قضاعة، لا سيما لخم وجذام، ساحل فلسطين والأردن، مع امتداد باتجاه الصحراء الشامية2، ومن محاسن هذا التبعثر أنه يستبعد الاحتكاكات القبلية، ويسمح بتعايش منسجم، لكنه بحاجة إلى قوة توحيدية ومطاعة، وبخاصة أن بلاد الشام كانت في وضع حدودي ودفاعي دائم بسبب التهديد البيزنطي المستمر، لذلك كانت هذه القوى في حال جهوزية دائمة، ومدربة على القتال، من هنا كان الشعور بالحرص على الأرض والدفاع عنها، والاستقرار والولاء الشديد للسلطة3.

كانت بلاد الشام مصونة من كل أشكال الاعتداءات الخارجية في ظل حكم معاوية، وآل الأمر بالشاميين إلى تكوين عالم خاص، ملك قائم بذاته، وليس مستغربًا أن تتوافق خصوصيتهم مع قضية الخليفة المقتول، وأن تعزز شعورًا قويًا لصالح البيت الأموي، في ميله الانتقامي لقتلة عثمان، وفي طموحه السياسي وفي رفضه القبول ببيعة علي، وكان ذلك يزداد بقدر ما كان يتراءى لهم أن عليًا أضحى رجل العراقيين4.

مرحلة الصدام العسكري:

بلغت معاوية أخبار استعدادات علي للمسير إليه، فجهز قواته البالغة ما بين

1 جعيط: ص195.

2 ابن مزاحم: ص206. جعيط: ص196.

3 المرجع نفسه.

4 المرجع نفسه: ص197، 198.

ص: 459

ثمانين إلى مائة ألف مقاتل1، وانحدر بها إلى صفين على شاطئ الفرات الغربي قرب الرقة؛ لأن ذلك هو الطريق الطبيعي الذي سيسلكه جيش علي ليصل إلى بلاد الشام، ووصل إليها في "أول ذي الحجة 36هـ/ 21 أيار 657م"، واستقر فيها، وساعدته الظروف البيئية من سهولة الأرض، وملاءمة المناخ وقرب الفرات2.

كان علي يعسكر في النخيلة على بعد ميلين من الكوفة استعدادًا للانطلاق إلى بلاد الشام، وطلب منه بعض قادته بإعطاء المفاوضات فرصة أكبر، كما طلب منه آخرون بالمسير مباشرة لقتال معاوية، وآثر هو الواجهة السريعة لحسم الوضع، فغادر النخيلة إلى الصراة، ثم المدائن فالأنبار فالرقة فصفين، فوصل إليها بعد بضعة أيام من وصول معاوية، وقد بلغ عدد قواته ما بين تسعين إلى مائة ألف مقاتل3.

وشهد شهر ذي الحجة مبارزات فردية، ومناوشات جماعية محدودة قبل أن يتوقف القتال في شهر "محرم 37هـ/ حزيران 657م"، ربما بضغط القاعدة التي كانت ترغب في السلام، ويبدو أن حرص الطرفين على الاحتفاظ بقدر معين من التفاهم يكتسب أهمية بالغة في التطورات اللاحقة، إذ يظهر الرغبة الكامنة لدى أهل الشام، والعراق في المصالحة، وبخاصة أن كل طرف كان يتخالط مع الطرف الآخر، ويدخل معسكره وسط جو من حسن الجوار4.

استمرت الهدنة شهرًا واحدًا تخللها اتصالات، ومفاوضات على أمل الوصول إلى اتفاق ينهي النزاع، ويحقن دماء المسلمين، لكن التصلب في المواقف حال دون ذلك5، والواقع أن اندفاع قيادات الطرفين للقتال قابله حرص من سواد رجالهما على أن تكون المواجهة بينهما محدودة خشية من هلاك المسلمين6.

ويبدو من تفاصيل التعبئة حرص طرفي النزاع على أن تواجه كل قبيلة من قبائل الشام أختها من أهل العراق، إلا أن تكون قبيلة ليس منها بالشام أحد، فصرفها إلى قبيلة أخرى تكون بالشام ليس منها أحد في العراق، مثل بجيلة التي لم يكن منها في الشام إلا عدد قليل، فصرفهم إلى لخم7.

1 ابن قتيبة: ج1 ص87. البلخي: ج2 ص224. المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر ج2 ص384. ابن مزاحم: ص157.

2 ابن قتيبة: المصدر نفسه.

3 البلاذري: ج3 ص80.

4 الطبري: ج4 ص563-575.

5 البلاذري: ج3 ص84. الطبري: ج5 ص5-10. ابن الأثير: ج2 ص641- 644.

6 جعيط: ص198.

7 البلاذري: ج3 ص86. ابن مزاحم: ص227-229، 243-246.

ص: 460

واشتبك الطرفان في حرى معركة طاحنة، ستتحمل الأجنحة ثقلها، تبادل المتقاتلون خلالها الكر والفر، وتأرجحت الكفة بين النصر والهزيمة من واقع ضغط الطرفين كل على الآخر، ووصلت إحدى الهجمات العراقية إلى جوار معاوية، ووصف يوم الخميس 12 صفر بأنه اليوم الأطول، وأطلق على ليله اسم الهرير، وقتل فيه ذو الكلاع، وعبيد الله بن عمر، وعمار بن ياسر وهاشم بن عتبة، وهو المرقال حامل لواء علي1، وكثر القتل بفعل اشتداد المواجهة، وأمام خامة المجزرة خشيت العرب على نفسها من القتال والهلاك، ولاح في الأفق أن نهاية الدولة الإسلامية بات وشيكًا، والواقع أن المسلمين جميعًا كانوا يتقاتلون، وتتمزق الأمة دون أي أفق في انتصار طرف على آخر، فالكفتان متوازنتان والقتال سجال2، واستفاقت قيادات الطرفين على هول الكارثة، وانطلقت نداءات سلمية من وسط القتال، "ألا تذكرون الأرحام، أفنيتم لخم الكرام، والأشعريين وآل ذي حمام، أما تذكرون أهل فارس، والروم، والأتراك"، "من لثغور الشام بعد هلاك أهل الشام؟ ومن لثغور العراق بعد هلاك أهل العراق، من للذراري والنساء"3.

وأدرك مقاتلوا الشام بأنهم يسيرون نحو الإبادة المتبادلة، فنادوا بالبقية، أي وقف القتال خوفًا من زوال الجميع "لقد أكلتنا الحرب، ولا نرى أننا سنغلب أهل العراق إلا بفناء أهل الشام"، ويبدو أن معاوية لم يكن مستعدًا للتضحية بأهل الشام للوصول إلى غاية، وتبين له أنه لن يكون هناك غالب ومغلوب، ومن هذه الرؤية دعا القادة العراقيين إلى وقف القتال، فكتب إلى علي يقول:"أما بعد، فإني أظنك أن لو علمت أن الحرب تبلغ بنا، وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض، وإن كنا قد غلبنا على عقولنا، فلنا منها ما نذم به ما مضى، ونصلح ما بقي، فإنك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو، ولا تخاف من الفناء إلا ما أخالف، وقد والله رقت الأجناد، وذهبت الرجال"4.

كما كتب إلى ابن عباس يقول: "وأدالت هذه الحرب بعضنا من بعض، حتى استوينا فيها، فما أطمعكم فينا، وما أيأسكم منا أيأسنا منكم، وقد رجونا غير الذي كان، وخشينا ما وقع، ولستم ملاقينا اليوم بأحد من حدكم أمس، وقد منعنا بما كان منا الشام، وقد منعتم بما كان منكم العراق، فاتقوا الله في قريش"5، وكتب عمرو بن

1 الطبري: ج5 ص17-48 حيث تفاصيل مسهبة عن سير العمليات العسكرية، البلاذري: المصدر نفسه ص85، 86، ص91-107.

2 جعيط: ص201.

3 ابن مزاحم: ص302، 481-498.

4 ابن قتيبة: ج1 ص97.

5 المصدر نفسه: ص93-94.

ص: 461

العاص إلى عبد الله بن عباس يقول: "فوالله ما أبقت هذه الحرب لنا ولا لكم حياة وصبرًا، وأعلم أن الشام لا تهلك إلا بهلاك العراق، وأن العراق لا تهلك إلا بهلاك الشام"1، وفي المقابل مال مقاتلو العراق إلى الموادعة، وقالوا:"إن هذه الحرب قد أكلتنا، وأذهبت الرجال، والرأي الموادعة"2.

إن قراءة متأنية لمضمون نداءات المصالحة، والموادعة توضح اختلاطها بقيم الدين والشرف، والعرض والتعصب للأمصار، مع ملاحظة تراجع الأثر الديني في أداء الدور الرئيسي فيها، وفي هذه الأجواء، رفع مقاتلو الشام المصاحف، فتوقف القتال3، أما الاعتقاد بأن جيش الشام كان على وشك الهزيمة والانهيار، وأنه رفع المصاحف تخلصًا من هذا المأزق؛ فهو اعتقاد مبالغ فيه، هناك رواية واحدة مصدرها أبو مخنف توهم أن الأشتر كان يأمل النصر حيث قام بعملية اختراق في صفوف جيش الشام، وأنه كان يسير نحو النصر.

والواقع أن غالبية قوات علي وافقوا على وقف القتال4، من واقع تعبير قادتهم له حين استشارهم "لم يصب منا إلا وقد أصيب مثلها منهم، وكل مقروح، ولكنا أفضل بقية منهم"5، فأدرك عندئذ أن الوضع الميداني لقواته أضحى حرجًا بسبب الإرهاق الشديد الذي أصابهم، وأنه لم يعد باستطاعتهم المضي في القتال؛ فاتخذ قرارًا بوقف الحرب، أما إبراز أنه وافق مكرهًا بفعل ضغط القراء، أو فئة منهم أو يضغط الأشعث بن قيس، وهو قد دعا قواته إلى تجاهل النداء والاستمرار في القتال بفعل أن فكرة رفع المصاحف خدعة ومكيدة6، فأمر لا يمكن القبول به، وبخاصة أنه قدم نفسه منذ البداية على أنه رجل سلام، وكان لديه شعور صادق تجاه الحل السلمي منذ ما قبل اندلاع القتال.

إن إعادة قراءة أحداث معركة صفين أمر مهم جدًا لرصد وضع كل طرف، ولا شك بأن عليًا، ومعاوية أدارا المعركة بشكل ناجح، وحرصًا على الحفاظ على دماء المسلمين ما أمكن، على الرغم من كثرة عدد القتلى، وتمييز علي بالشجاعة، والصبر في حين ظهر معاوية كقائد سياسي محترف.

1 ابن قتيبة: ج1 ص92، 93. البلاذري: ج3 ص87، 88.

2 ابن قتيبة: المصدر نفسه: ص97، 98. ابن مزاحم: ص485.

3 ملحم: ص270.

4 عارض الأشتر النخعي، وعدي بن حاتم وقف القتال في حين وافق سعيد بن قيس، زعيم الهمدانيين، وأغلبية زعماء ربيعة.

5 ابن مزاحم: ص482.

6 الطبري: ج5 ص48، 49.

ص: 462

ويبدو التأثير الشيعي واضحًا في ما تقدمه بعض روايات المصادر من صورة علي البطل الخارق ذي القوة الجسدية الهائلة، ورجل المآثر والمواقف الصعبة، والذي قابل الإساءة بالإحسان، إذ سمح لقوات الشام بالوصول إلى ماء الفرات في الوقت الذي أصر معاوية على منع أهل العراق من الوصول إليه، الحريص على دماء المسلمين، إذ حاول إقناع معاوية بوقف القتال، ولم يؤذ النساء، ولم يأخذ أموال أهل الشام بغير وجه حق، وهو الرجل المتسامح الذي يأمر بإطلاق سراح الأسرى، وتصور قادته بأنهم ذوو مهارات عسكرية خارقة، ومقاتلون متميزون مخلصون، يرفضون خيانة قائدهم ومصرهم، ومستعدون لبذل أرواحهم ثمنا لانتصاراتهم، وتصور معاوية، في المقابل، بالرجل الذي فرط بدماء المسلمين، ويرفض الاستجابة لدعوات علي المتكررة بالموادعة ووقف القتال، ويحث قواته على القتل والتنكيل، ويفتقد إلى المزايا العسكرية التي تؤهله ليكون قائدًا، فهو يخشى مبارزة علي، وسرعان ما يفكر بالفرار من ساحة المعركة عندما يشتد ضغط الجبهة العراقية على قواته، ولا يشارك معسكره في القتال بل "يجلس وعلى رأسه رجل قائم، معه ترس ذهب يستره من الشمس، وهو إنسان مخادع عديم الرحمة، يعرض الرشوة باستمرار على قيادات علي وجنده بهدف سلخهم واستقطابهم، كما أنه يرفض دفن جثث القتلى العراقيين، ويدعو إلى قتل الأسرى، وتتصف قيادات عسكره بالجبن والخداع، وفي مقدمتهم عمرو بن العاص الذي اقترح فكرة رفع المصاحف بهدف وقف القتال بعد أن مالت كفة المعركة لصالح علي، وتصف قبائل الشام بالمترددة؛ لأنها لا تقاتل عن إيمان، وإنما تقاتل عن حمية، وأبرزت أن موازين القوى في ساحة المعركة كانت لصالح علي في حين أن معسكر معاوية كان على وشك الهزيمة1.

والواقع أن هذا الأمر لا يمكن قبوله، وبخاصة أن مختلف الروايات قدمت معلومات مهمة عن الأوضاع الصعبة التي كان يعانيها طرفًا القتال في المعركة.

التحكيم وظهور فرقة المحكمة:

كان رفع المصاحف من قبل مقاتلي أهل الشام بمثابة دعوة إلى التعقل، ووقف القتال بين المسلمين، واتخاذ القرآن حكمًا بين الطرفين المتخاصمين "كتاب الله

1 ابن قتيبة: ج1 ص88، 89، 95، 103. البلاذري: ج3 ص81، 82، 110. الطبري: ج4 ص469-572، ج5 ص5-56. المسعودي: ج1 ص386، اليعقوبي: ج1 ص87-89. ابن مزاحم: ص191، 258، 259، 334.

ص: 463

يحكم بيننا وبينكم"، وسوف يترتب على ذلك مسألتان مترابطتان، ومتعاقبتان في الزمن الأولى وقف القتال، والثانية اللجوء إلى التحكيم، وإذا كنا قد تحدثنا عن المسألة الأولى، فسوف نبحث هنا المسألة الثانية.

والواقع أن رغبة السلام كانت قوية لدى غالبية جيش علي لدرجة أن هؤلاء تقبلوا المفاوضات الأولية التي جرت بين الأشعث، ومعاوية لوضع أسس التحكيم التي آلت إلى اختيار حكمين للنظر في الخلاف بمقتضى القرآن، ويبدو أن هذه القضية هي التي أثارت عامة القراء أو بعضهم، ودفعتهم إلى رفضها. وهكذا تبدل موقفهم مباشرة بعد اتفاق الطرفين على قبول وقف الحرب، وقبل الخوض في التفاصيل الخاصة بعملية التحكيم، وقد بلغ عدد الرافضين زهاء أربعة آلاف "من ذوي بصائرهم، والعبّاد منهم"1.

والراجح أن هؤلاء الرافضين لمبدأ التحكيم، اعتقدوا، حين امتثلوا لحكم القرآن، أن دورا ما سيوكل إليه لإصدار الحكم من خلال مضمونه، مع رفضهم تدخل البشر في هذا الحكم، أو أنهم كانوا يطرحون مسبقًا أن القرآن يدين معاوية؛ لأنه يمثل الفئة الباغية، ولا بد من قتاله، وأن رفعه المصاحف

كان نوعًا من الاستسلام2، أو أنهم أدركوا أنهم تسعروا كثيرًا في هذا الأمر الذي حمل في طياته بشائر النصر لمعاوية، مما يهدد مصالحهم بشكل أعظم من ذي قبل، ومنذ هذه اللحظة حصل حصل الانقسام في جيش علي2.

وعندما جال الأشعث بن قيس بين المقاتلين ليروج لفكرة التحكيم، تعرض للاغتيال، حيث اندفع الرافضون أمامه يصرخون أمامه يصرخون في وجهه "لا حكم إلا الله"، فعرفوا بالمحكمة، وأعلنوا توبتهم عن قبول وقف القتال، وطالبوا عليًا أن يستأنف الحرب3.

ومهما يكن من أمر، فئقد جرى اختيار حكمين هما: أبو موسى الأشعري ممثلًا عن أهل العراق، وعمرو بن العاص ممثلًا عن أهل الشام، وإذا كان هذا الأخير يعد حليفًا قويًا لمعاوية، فإن الأول يجسد التوجه الحيادي الذي لازمه في الكوفة من قبل، حين دعا الكوفيين إلى عدم مبايعة علي الذي عزله، كما كان قد حذر من الفتنة، والواقع أنه فرض على علي من جانب الأشتر، وأغلبية المقاتلين الذين عارضوا رغبته في اختيار عبد الله بن عباس، ويبدو أن لذلك علاقة بمدى قرابته.

1 البلاذري: ج3: ص112.

2 المصدر نفسه: جعيط: ص210.

3 الطبري: ج5 ص55.

ص: 464

منه، بالإضافة إلى أنه رجل تقي يثق به أهل العراق، وأهل الشام، وهو على مسافة واحدة من كلا الطرفين المتنازعين1.

والواضح أن اختيار أبي موسى الأشعري أحدث نقلة نوعية سلبية في الصراع، وشكل منعطفًا حاسمًا في موقف جيش العراق، وذلك بفعل أنه تحول إلى الحياد في النزاع بين علي ومعاوية، وهو الموقف القديم للكوفيين الذين تنكروا لعلي في وقعة الجمل، ويبدو أن هذا الانقلاب جاء نتيجة خيبة أمل العراقيين من تحقيق النصر.

وثيقة التحكيم:

كتب الطرفان بينهما وثيقة التحكيم يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من شهر صفر عام 37هـ، كتبها عبد الله بن رافع، كاتب علي، وعمير بن عباد الكناني، كاتب معاوية، وتتضمن تسليم الطرفين المتنازعين أمرهما لحكم القرآن، وأن الحكمين المذكورين في النص2، ملزمان بالتقيد بحكم القرآن أيضًا، وحدد الأجل بثمانية أشهر ينتهي في شهر "رمضان 37هـ/ شباط 658م"، وبقي مكان اللقاء غامضًا "مكان وسط بين أهل الكوفة، وأهل الشام"، قبل أن يتأرجح بين دومة الجندل، وأذرح الأكثر توسطًا3، والملفت في هذه الوثيقة أمران:

الأول: أنها تجاهلت القضية الأساسية التي ارتكز عليها صراع علي ومعاوية، وهي القصاص من قتلة عثمان، ويبدو أن معاوية نجح في تحويل المسألة إلى قضية سياسية بينه، وبين علي في الصراع على السلطة، وعلى هذا النحو سيتطور التحكيم.

الثاني: رفض معاوية كتابة "أمير المؤمنين" بجانب اسم علي، لعدم اعترافه بذلك، ولم يصر علي على ذلك مما عد تنازلًا منه عن الخلافة؛ لأنه وضع نفسه على قدم المساواة مع معاوية، ولم يعد سوى رئيس العراقيين وشيعتهم، تمامًا مثلما كان معاوية زعيم أهل الشام وشيعتهم، وقد أتاحت هذه الخطوة طرح مصطلح الشورى، وعزز من إصرار معاوية على تطوير محاور صراعه مع علي، وأعطاه غطاء شرعيًا للخروج على خلافته، وعدم الاعتراف بها4.

وهكذا، من خلال حلقات جاءت متعاقبة، ومتداخلة بدءًا بقبول التحكيم إلى فرض أبي موسى الأشعري ممثلًا له، إلى التخلي عن إمرة المؤمنين؛ كان علي يفقد

1 الطبري: ج5 ص51. ابن قتيبة: ج1 ص105. ابن مزاحم: ص499. المسعودي: ج2 ص412.

2 انظر النص عند الطبري: ج5 ص53، 54، 56، 57.

3 المصدر نفسه: ص54-57.

4 ملحم: ص280.

ص: 465

أوراقه تباعًا، ويتراجع إلى أن يصبح ومعاوية ندين متنافسيين على الخلافة، بعد أن كان قبل ذلك يقاتله بوصفه خارجًا على حكمه1.

ودعا علي قواته بعد يومين من إنجاز وثيقة التحكيم، للعودة إلى الكوفة، بعد أن أمر بدفن القتلى، وإطلاق سراح الأسرى، فعاد إلى الكوفة في شهر "ربيع الأول 37هـ/ تموز-آب 657م"2.

محاورة المحكمة، وظهور فرقة الخوراج:

لم يكن الرافضون للتحكيم قد لقبوا بعد بالخوارج، فإنهم لم يكن قد انفصلوا عن جيش علي حين غادر صفين عائدًا إلى الكوفة، غير أن عودتهم كانت مفعمة بالنقاشات العنيفة والمشادات، فقد رجعوا متباغضين، أعداء يتشاتمون ويتضاربون بالسياط، وأقبل بعضهم يتبرأ من بعض، الأخ من أخيه، والابن من أبيه3، متجاوزين روابطهم العائلية، والقبلية والإقليمية من أجل رابطة أخرى، عقدية، كاهتداء شخصي إلى الحقيقة، وخرق لرواسب الدم؛ مما يدل على عمق تأثير الحادثة في نفوسهم، وقد عبروا عن رفضهم بشعار:"لا حكم إلا لله، الذي سيصبح بدءًا من تلك اللحظة وعلى امتداد قرون، الشعار الأساسي للخوارج، والقاعدة التي ستقوم عليها عقيدتهم، وقد ورد تفسير هذا الشعار في العديد من الدراسات4، ويتفق معظم الباحثين على القول: إنه يعبر عن رفض هذه الجماعة للتحكيم بوصفه من اختصاصات الله وحده، ولا يحق للبشر أن يتدخلوا فيه، ويتوافق هذا التفسير مع المدلول اللغوي لكلمة "حكم" بمعنى القضاء وفصل النزاع، ومع ما ذكره القراء أثناء النقاش الذي دار بينهم، وبين ابن عباس، وعلي بعد صفين.

والواقع أن الجماعة الرافضة للتحكيم، انفصلت عن جسم الجيش العراقي عندما وصل إلى الكوفة، وتوجهت إلى حروراء5، واستقرت فيها معلنة رفضها الإقامة في المصر مع الخليفة الذي لم يلب مطالبها حيث بدأ يتبلور مفهوم "الخروج" بمعنى مغادرة المكان الذي يقيم فيه المخالفون6، ومن هنا تسميتهم بالحرورية.

1 بيضون: ص86.

2 البلاذر ي: ج3 ص111.

3 المصدر نفسه: ص114، 115. الطبري: ج5 ص63. اليعقوبي: ج2 ص91. المسعودي: ج3 ص143، 144.

4 انظر البكاي: ص28، 29.

5 حروراء: قرية من قرى الكوفة على بعد ميلين منها، الحموي: ج2 ص245.

6 البكاي: ص29.

ص: 466

والواضح أن هؤلاء قاموا بنشر معتقداتهم بطريقة جيدة، وبفعل حججهم المقنعة، ومن واقع إعادة قراءة كالمة لأحداث الفتنة، استقطبوا عددًا آخر من المقاتلين العراقيين من خارج دائرة القراء، كانوا في البداية مع التحكيم، فأضحى عددهم اثني عشر ألف رجل1، والمعروف أن عددهم في بداية تحركهم لم يتجاوز أربعة آلاف رجل، مما يدل على اتساع دائرة الرفض للتحكيم.

واختار الحرورية عند استقرارهم في حروراء أميرًا على الصلاة هو عبد الله بن الكواء اليشكري، وآخر على الحرب هو شبث بن ربعي التميمي2، ويدل ذلك على استعدادهم للمواجهة العسكرية إذا دعت الضرورة، ويذكر أن استعمال القوة لمواجهة المخالفين أضحى أمرًا مألوفًا منذ مقتل عثمان، كما رفعوا شعارات جديدة مثل:"الأمر شورى بعد الفتح"، و"البيعة لله عز وجل" و "الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر"3، وهو ما تميزوا به على المستوى الفكري، أما على المستوى السياسي، فإن مرحلة حروراء سوف تغدو هامة لحاضرهم ومستقبلهم.

قد تبدو تلك الشعارات المطروحة متقدمة على الخلافة ذاتها، لا سيما رفضهم الضمني لسيادة قريش عندما اختاروا عبد الله بن وهب الراسبي، وهو أزدي من اليمن، خليفة عليهم4، متجاوزين لأول مرة القاعدة المتداولة منذ بيعة السقيفة، فهل يمكن ربط التوجه الاقتصادي، والسياسي لهؤلاء بما جرى من أحداث سابقة حين ثارت القبائل التي انفصلوا عنها على الخلافة، مطالبين بحقوقهم التي شعروا بانتهاك الولاة لها؟ 5.

الواقع أن الثورة التي اندلعت في الكوفة في عام 33هـ، تحمل في طياتها البذرة الجنينية للثورة على سلطة قريش في ظل خلافة عثمان، من خلال مشاركة الخوارج، أو بعضهم في هذه الثورة، وإذا كان علي قد نجح في استقطاب هذه القبائل الثائرة بعد تلك الفتنة، فإن ذلك كان آنيًا فقط، وتمكن من امتصاص نقمتها حين شغلها بالحروب، من هذه الرؤية التي تنطوي على شيء من الحقيقة يمكن تفسير موقف الخوراج من التحكيم، على الرغم من أنهم شكلوا حركة سياسية مختلفة اتخذت التطرف الديني منهجًا لاستقطاب الأتباع، وفرض آرائها بالقوة6.

1 الطبري: ج5 ص63.

2 المصدر نفسه.

3 المصدر نفسه: البكاي: ص30، 31.

4 المصدر نفسه: ص75.

5 بيضون: ص91.

6 بيضون: ص91-93.

ص: 467

ومهما يكن من أمر، فقد أقلقت الحرورية عليًا، لذلك حاول إقناعهم بالحجة للعودة إلى الكوفة، فأرسل إليهم عبد الله بن عباس، ثم انتقل بنفسه إلى حروراء، وتمدنا روايات المصادر بتفاصيل مسهبة عن المناظرات، والنقاشات التي دارت بينهم، وبين مبعوث علي، ثم بينهم وبين علي نفسه1، والتي أسفرت عن اقتناعهم، فعاد معظمهم إلى الكوفة وبخاصة العناصر القيادية، منهم مثل عبد الله بن الكواء اليشكري أمير الصلاة، وشبث بن ربعي أمير الحرب، ويزيد بن قيس الأرجحي رأس الجماعة2.

ويبدو واضحًا من خلال تتبع أسماء العائدين أنهم من العناصر اليمنية التي أيدت عليًا، من النخع ومذحج وهمدان وغيرها، وبذلك أضحى أبناء القبائل الأخرى، وبخاصة تميم يشكلون الأغلبية في المجموعة المتبقية، وقد افتقر هؤلاء للشرف القبلي وللزعامة السياسية، هذا بالإضافة إلى بقاء خمسة عناصر من اليمنية في حروراء من بينهم عبد الله بن وهب الراسبي الذي ستختاره المجموعة لقيادتها، مما دفع بعض الباحثين إلى وصف الحرورية بأنها حركة بدو تزعمها أعراب يرفضون، بحكم طبيعتهم البدوية، الخضوع للحكم المنظم3.

ويحتمل أن يكون العائدون قد اشترطوا على علي، للعودة إلى الكوفة، إقراره بذنبه في قبول التحكيم، وإعلان توبته، وتذكر المصادر الخارجية، أنه عبر بالفعل عن توبته، كما وعدهم باستئناف الحرب ضد معاوية بعد أن يجبي المال ويسمن الكراع، وأكدت المصادر غير الخارجية ذلك، لكن ختمت الرواية بالقول:"ولسنا نأخذ بقولهم، وقد كذبوا"4.

لم تدم إقامة الحرورية -المحكمة- في الكوفة طويلًا، فقد تعرض علي لضغط من قبل الأشعث والأشراف، أو أنه لم يشأ أن يتنصل من التزاماته، وتعهداته تجاه أهل الشام، فتراجع عن تعهداته تجاه الحرورية، مقدرًا أن تبقى حركتهم محصورة في نطاق نواتها المتشددة بعد أن استقطب سوادها، وكان قراره بإرسال أبي موسى الأشعري لإتمام إجراءات التحكيم، كافيًا لتفجير الوضع من جديد.

وفعلًا، فقد اتخذ الخلاف في هذه المرحلة بعدًا أكثر عنفًا، حين راح الحرورية

1 الطبري: ج5 ص65، 66. البلاذري: ج3 ص122، 123، 127-129.

2 الطبري: المصدر نفسه.

3 الدوري: مقدمة في تاريخ صدر الإسلام ص131. أمين: ص261. وقارن بالبكاي ص33.

4 الطبري: ج5 ص66.

ص: 468

يجاهرون برفضهم للتحكيم في الأماكن العامة، وفي المسجد الجامع، كما كانوا يقاطعون خطب الخليفة، ويستفزونه برفع شعاراتهم، واتهموه بالكفر والشرك، وتمادوا حين هددوه بالقتل1.

واجه علي هذه التصرفات بصبر كبير، ولم يحاول، على الرغم من هذه الاستفزازات، إنزال العقاب بهم، كما لم يمنعهم الفيء، ودخول المساجد ولم يتصد لهم ما لم يفسكوا دمًا2، مبررًا تصرفه بحرصه الشديد على تجاوز الخلافات، وتجنب حصول انقسام في معسكر؛ لأن من شأن ذلك أن يضعف موقفه في مواجهة خصمه الرئيسي معاوية.

وبعد أن فشلت محاولات ثنية عن قراره عقد الحرورية اجتماعات مكثفة في منازل عبد الله بن وهب الراسي، وشريح بن أوفى العبسي، وزيد بن حصين الطائي3، وقرروا الخروج من الكوفة، وظهرت أفكار جديدة عبرت عنها هذه الجماعة، فقد شبهت الخروج من الكوفة بهجرة الرسول من مكة إلى المدينة، وابتعاده عن كفار قريش4، من هنا تسمية الخوارج أنفسهم بالمهاجرين، وتسمية الكوفة بالقرية الظالم أهلها، كما كفروا المخالفين لهم وتبرأوا منهم. وهكذا، فبعد أن شمل التكفير في حروراء معاوية وأنصاره، أضحى، بعد قرار إجراء التحكيم، يشمل الخليفة وأتباعه5.

والواقع أن ربط الحرورية مواقفهم السياسية بالدين، سيدفعهم إلى تبني فكرة الخطأ الديني، وتكفير من يخالفهم ومحاربتهم، وسيعدون ذلك واجبًا مقدسًا؛ لأنهم "أهل الحق"6، ولعل أوضح الأمثلة على ذلك هو إعدامهم الصحابي عبد الله بن خباب، وامرأته بعد محاكمة سريعة7.

مؤتمر التحكيم ونتائجه:

عقد الحكمان اجتماعًا واحدًا في أذرح في شهر "محرم 38هـ/ حزيران 658م"، وأحاط بكل واحد منهما قوة عسكرية من أعوانه، مؤلفه من أربعمائة شخص كنوع من الحراسة، رأس القوة العراقية شريح بن هانئ في حين قاد عمرو بن العاص القوة الشامية8.

1 الطبري: ج5: ص72-75.

2 المصدر نفسه: ص74.

3 المصدر نفسه.

4 المصدر نفسه: ص75.

5 البلاذري: ج3 ص131.

6 البكاي: ص36.

7 الطبري: ج5 ص81، 82.

8 المصدر نفسه: ص67. البلاذري: ج3 ص117.

ص: 469

ودعي عدد من كبار الشخصيات الإسلامية لحضور المناظرة التي ستدور بين الرجلين، مثل: المغيرة بن شعبة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، لكن غاب عن المؤتمر سعد بن أبي وقاص، وهو أحد أعضاء الشورى مع علي، والوحيد الذي كان لا يزال حيًا، كما غاب المحايدون الآخرون من ضمنهم أصدقاء عثمان، مثل: محمد بن مسلمة، وزيد بن ثابت وأسامة بن زيد1، ورفض علي القدوم بسبب ضرورة بقائه في العراق، وربما يكون معاوية

قد حضر المؤتمر.

وجرت مناظرة بين الرجلين تمحورت حول مسألتين:

الأولى: تتعلق بتحديد ما إذا كان عثمان قد قتل مظلومًا، وقد وافق أبو موسى ممثل علي على ذلك، واعترف بظلامة القتل، وأوضح عمرو على أحقية معاوية في المطالبة بدمه؛ لأنه وليه وقريبه، وقد وافق أبو موسى أيضًا على ذلك، واعترف أمام الجميع أن عثمان قتل مظلومًا، وأنه يجب قتل قتلته، وأكد أن معاوية هو من أوليائه، ومن حقه المطالبة بدمه ومعاقبة قتلته، وربما لم يكن يتوقع إسقاط هذا الأمر على مسألة الخلافة بعد ذلك2.

الثانية: تتعلق بالشخص المرشح للخلافة، فاقترح عمرو مبايعة معاوية بالخلافة، فهو من بيت شريف، وصحابي وختن رسول الله، وقريب عثمان، والمطالب بدمه، فرفض أبو موسى الاقتراح من واقع رفضه لفكرة الوراثة الأسرية، بالإضافة إلى أن انتخاب الخليفة لا يتم وفقًا للشرف الاجتماعي، بل إن معيار ذلك هو التقوى، والفضل:"فإني لم أكن لأليه معاوية، وأدع المهاجرين الأولين"3 مبديًا استعداده للخروج عن الخطط المحدد له، وذلك بدافع كره الفتنة،

وبالانسجام مع منطقه الخاص وموقفه السياسي وعلى الرغم من معارضته الضمنية لعلي، فإن ذلك لم يؤد به إلى إيثار معاوية عليه، أو اختياره بديلًا عنه، وفي ضوء هذا الموقف يمكن تفسير دعوته إلى إحياء اسم عمر بن الخطاب "

ولكنك إن شئت أحيينا اسم عمر بن الخطاب"، ملمحًا إلى عبد الله بن عمر، الرجل الذي لم يشترك في الفتنة، فرفض عمرو ترشيح ابن عمر، وقدم ابنه عبد الله، فرد عليه أبو موسى بالرفض قائلًا: "إن ابنك رجل صدق، ولكنك قد غمسته في هذه الفتنة"4، وجدد اقتراحه بترشيح ابن عمر، ورفض عمرو مرة أخرى مثل هذا الترشيح بسبب عدم الأهلية، "إن هذا الأمر

1 الطبري: ج5 ص67. البلاذري: ج3 ص117.

2 الطبري: ج5 ص68.

3 المصدر نفسه.

4 المصدر نفسه.

ص: 470

لا يصلحه إلا رجل له ضرس1، يأكل ويطعم، وكانت في ابن عمر

غفلة"1.

وهكذا، فإن الحكمين انحرفًا عن هدف المؤتمر، وهو إنهاء حالة الحرب بين المسلمين، والتوصل إلى اتفاق يضع حدًا لانقسامهم، وانتهت المناظرة عند هذا الحد، وافترق الحكمان دون التوصل إلى نتيجة إيجابية، فعاد عمرو إلى معاوية، وغضب أبو موسى، واتخذ طريقه إلى مكة حتى لا يواجه غضب علي بسبب تغييبه بشكل كامل، وتجاهله له على امتداد المناظرة مع إصراره على رفض معاوية، وهو كان يرغب في إيجاد مخرج لتجاوز الفتنة، واتهم عمر بالانحياز2.

ومن المحتمل أن يكون أبو موسى قد ترك الأمر شورى بين المسلمين يختارون لأنفسهم من أحبوا3، بعدما حاول جمع المسلمين حول اسم ابن عمر، إذ إن دراسة أسباب تمرد الخريت بن راشد في عام "38هـ/ 659م" ضد علي يدعم، إلى حد ما، هذا الاحتمال، حين قال له:"لأنك حكمت في الكتاب، وضعفت عن الحق، إذ جد الجد، وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم، فأنا عليك زارٍ، وعليهم ناقم"4.

فهل الحق الذي ضعف عنه علي هو أنه لم يقبل حكم أبي موسى الذي يقضي بترك اختيار الخليفة إلى الشورى بين المسلمين؟ وبخاصة أن الخريت أكد أنه لم يرض عليًا، ولا سيرته "فرأيت أن أعتزل، وأكون مع من يدعو إلى الشورى من الناس"5.

وربما أدى إصرار عمرو على ترشيح معاوية إلى وقوع الخلاف، لكن ما الذي يبرر تصرف كهذا مع خلو الوثيقة إلى ما يشير إلى ذلك، والحكمان ليسا مجلس شورى؟

والواقع أن هناك أمرًا لا يمكن تجاهله، وقد ورد في وثيقة التحكيم، وهو قبول علي بمحو لقبه كأمير للمؤمنين، مما جعله يتساوى مع معاوية، أو مع أي شخص آخر.

وهكذا شغر منصب الخلافة، نظريًا على الأقل، ورأى الحكمان أن من واجبهما التدخل لملئه، لكن ذلك لم يؤد إلا إلى توسيع المسافة بين الخصمين من واقع وجود قوتين متنازعتين، قوة أهل العراق وقوة أهل الشام، وعلى رأس كل قوة رئيس معترف به، مما شكل وضعًا لا يمكن تجاوزه، لذلك كان التحكيم شأنًا شكليًا، يسوغ وقف القتال، ويبرر الوحدة الضمنية للمسلمين6.

1 الطبري: ج5 ص69.

2 المصدر نفسه: ص70، 71.

3 المصدر نفسه: ص70.

4 المصدر نفسه: ص114.

5 البلاذري: ج3 ص178.

6 جعيط: ص223.

ص: 471

ويبدو أن الأمر كان مخططًا له منذ البداية، بدليل تجاهل حقوق علي من جانب أبي موسى، وطرح عمرو ترشيح معاوية للخلافة، وقد اكتسب هذا الأخير دفعًا معنويًا في الوقت الذي أضحى فيه موقف علي ضعيفًا، وبدا وكأنه مجرد من منصبه، وصلاحياته حيث عدت الصفعة قوية لطموحاته وآماله، على الرغم من أن موقف أبي موسى كان متوقعًا، الأمر الذي دفعه إلى محاولة الإبقاء في دائرة الضوء معترفًا به كأمير المؤمنين من جانب شيعته على الأقل، ولقد نجح في ذلك إلى حد ما، لكن سلطته تعرضت للاهتزاز حتى من جانبهم، فهو غير مطاع، وغير مسموع الكلمة في مجال نفوذه.

من هنا يمكن تفسير رواية أبي مخنف، التي ربما وضعت لاحقًا لإنقاذ موقف علي ودعم قضيته، تذكر الرواية أن عمرًا خدع أبا موسى بطريق الدهاء السياسي، وبخاصة تقديمه عليه في الكلام لإعلان الاتفاق الذي تواصلا إليه، وهو خلع كل من على معاوية، وترك الأمر شورى للمسلمين، وقد جاء ذلك على صيغة بيان أذاعه أبو موسى "أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة، فلم نر أصلح لأمرها، ولا ألم من شعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه؛ وهو أن نخلع عليًا ومعاوية، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر، فيولوا منهم من أحبوا عليهم"، فخلع أبو موسى كلًا1 من علي ومعاوية في حين خلع عمرو عليًا وثبت معاوية1، والمعروف أن هذه الرواية ارتقت إلى مستوى الخبر الشائع المقبول2.

إن استعراض المصادر لأحداث التحكيم، كما أوردتها رواية أبي مخنف، يفرغه من محتواه، ويصوره حيلة محبوكة حول الشخصية الملائمة لتولي منصب الخلافة، هل هو عبد الله بن عمر أم عبد الله بن عمرو أم معاوية، دون التطرق لاسم علي بالمطلق، فكيف يتناقش الحكمان حول اسم الخليفة فقط مع أن هذا الأمر لم تتضمنه وثيقة التحكيم؟ الراجح أن الحكمين تناولا جوانب الخلاف بين علي ومعاوية، وفقًا لما تضمنته وثيقة التحكيم، الأمر الذي يؤكد بتر المصادر بعض الأجواء من الروايات التي سجلت أحداث المؤتمر، وذلك بهدف إظهار القضية بمظهر الخداع، والتآمر على علي وحقه3.

والواقع أن القول بأن عمرًا خدع أبا موسى الذي سارع إلى اتهام ابن العاص بأنه

1 الطبري: ج5: ص70، 71.

2 جعيط: ص223.

3 جعيط: ص221.

ص: 472

أحجم عن تأكيد الاتفاق بحرفيته "غدرت وفجرت"1 لا يعكس الصورة الصحيحة في الرواية التاريخية، إذ لم يكن من السهولة على عمرو أن يخدع على هذا النحو شيخًا له تجربة طويلة في السياسة مثل أبي موسى، مهما بلغت الحنكة، والبراعة في المناورة، لكن الواضح أن أبا موسى الذي اختارته الأكثرية اليمنية في جيش علي، كان غير متحمس لخوض معركة الدفاع عن شرعية الخليفة، دون أن يكون بالمقابل مقتنعًا بأهلية معاوية للخلافة، وهنا اختلف مع عمرو بشأن نظرية الرجل الثالث، إلا أن هذا الأخير ظل وفيًا لصاحبه، وما لبث أن التحق به، وسلم عليه بالخلافة2، وظلت خديعة عمرو مشهورة في التاريخ الإسلامي بوصفها فضيحة، وعارًا لا يمكن محوه، ولكن يعترف بفعاليتها،

وأثرها في مجرى التاريخ الإسلامي المقبل.

رد الفعل الأولي على نتيجة التحكيم:

تفاوت رد الفعل الأولي على نتيجة التحكيم بين معارض، ومؤيد وفقًا لمصلحة كل طرف، فعندما نقل شريح بن هانئ، وعبد الله بن عباس إلى علي ما جرى بين الحكمين؛ لام أشياعه لإجبارهم إياه على اختيار أبي موسى الأشعري، وأوضح أنه لا سبيل إلى قتال القوم حتى تنتهي المدة المحددة، وأضاف بأن الحكمين نبذا حكم القرآن وراء ظهريهما، وأحييا ما أمات القرآن3، وكتب إلى أبي موسى:"إنك امرؤ ضللك الهوى، واستدرجك الغرور"4.

وأعلن الحسن بن علي أن الحكمين أرسلا ليحكما بالقرآن على الهوى، فحكما بالهوى على القرآن، وهاجم بشدة اقتراح أبي موسى جعل الأمر لعبد الله بن عمر، مخالفًا بذلك رغبة عمر بن الخطاب الذي لم يرض ذلك لولده، ولم يره أهلًا له5.

ورحب معاوية من جهته بنتيجة التحكيم، وكتب لأبي موسى، وهو في مكة يستقطبه ويستدعيه إلى بلاد الشام، "فأكره من أهل العراق ما كرهوا منك، وأقبل إلى الشام، فإني خير لك من علي، والسلام"6.

وهكذا رفض علي نتيجة التحكيم من واقع أن الحكمين أظهرا خلافهما، ولم يحكما بمقتضى القرآن، ولم يستند في رفضه إلى خدعة تمت، ولا إلى عيب شكلي،

1 الطبري: ج5 ص71.

2 بيضون: ص89.

3 البلاذري: ج3 ص126. ابن قتيبة: ج1 ص111-115.

4 ابن قتيبة: المصدر نفسه: ص113.

5 المصدر نفسه: ص111.

6 المصدر نفسه: ص112.

ص: 473