المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الحادي عشر: الفتوح في عهد عثمان - تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية

[محمد سهيل طقوش]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة:

- ‌الباب الأول: أبو بكر الصديق 11-13هـ-632-634م

- ‌الفصل الأول: الأوضاع السياسية في الجزيرة العربية عقب وفاة النبي

- ‌الأوضاع السياسية في المدينة

- ‌اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة

- ‌الأوضاع السياسية خارج المدينة:

- ‌الفصل الثاني: تفشي ظاهرة التنبؤ في المجتمع العربي

- ‌الفصل الثالث: حروب الردة

- ‌مدخل

- ‌ملابسات حوادث بني تميم:

- ‌القضاء على ردة بني حنيفة:

- ‌الفصل الرابع: أوضاع الدولتين الفارسية، والبيزنطية عشية الفتوح الإسلامية:

- ‌أوضاع الدولة الفارسية

- ‌تراجع النفوذ البيزنطي من بلاد الشام عشية الفتوح الإسلامية:

- ‌الفصل الخامس: الفتوح في عهد أبي بكر

- ‌فتوح العراق:

- ‌فتوح بلاد الشام:

- ‌الفصل السادس: استئناف الفتوح في عهد عمر:

- ‌فتوح العراق:

- ‌معركة القادسية:

- ‌الفصل السابع:‌‌ استكمال فتوح العراق-فتوح فارس "إيران

- ‌ استكمال فتوح العراق

- ‌فتوح فارس "إيران

- ‌الفصل الثامن: استكمال فتوح بلاد الشام-فتوح الجزيرة وأرمينية والباب

- ‌مدخل

- ‌معركة اليرموك

- ‌فتح بيت المقدس

- ‌الفصل التاسع: فتوح مصر

- ‌مدخل

- ‌أثر الفتح الإسلامي على أوضاع الأقباط:

- ‌التوسع نحو الغرب:

- ‌الفصل العاشر: الدولة الإسلامية في عهد عمر-مقتل عمر

- ‌مدخل

- ‌الإدارة في عهد عمر:

- ‌الموظفون الإداريون:

- ‌الوالي:

- ‌الدواوين:

- ‌القضاء:

- ‌القضاء في عهد عمر:

- ‌إدارة البلاد المفتوحة من خلال عقود الصلح:

- ‌الفصل الحادي عشر: الفتوح في عهد عثمان

- ‌الفصل الثاني عشر: الفتنة الكبرى ومقتل عثمان

- ‌الباب الرابع: علي بن أبي طالب 35-40هـ/ 656-661م

- ‌الصراع بين علي وأصحاب الجمل:

- ‌المواجهة المسلحة الأولى بين المسلمين:

- ‌وقعة الجمل:

- ‌الصراع بين علي، ومعاوية، والخوارج

- ‌معركة صفين:

- ‌مرحلة التجهيز، والاستعداد:

- ‌معركة النهروان:

- ‌الخاتمة:

- ‌المصادر والمراجع:

- ‌محتوى الكتاب:

الفصل: ‌الفصل الحادي عشر: الفتوح في عهد عثمان

الباب الثالث: عثمان بن عفان 23-35هـ/ 644-656م

‌الفصل الحادي عشر: الفتوح في عهد عثمان

التعريف بعثمان:

هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، الأموي القرشي، أمير المؤمنين، ولد بعد مولد النبي بخمس سنين، أمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وأمها البيضاء

بنت عبد المطلب، عمة النبي، وكانت توأمة لوالده عبد الله1.

اشتهر عثمان بالعفة والحياء والكرم2، لين العريكة، كثير الإحسان والحلم، لا يوقظ نائمًا من أهل بيته إلا أن يجده يقظان فيدعوه، فيناوله وضوءه، وكان يصوم الدهر عدا الأيام المكروهة، وهي أيام العيدين، والشك في أول رمضان3.

زوجه النبي ابنته رقية، فأنجب منها ابنه عبد الله وبه كان يكنى، والمعروف أنه مات صغيرًا له من العمر ست سنوات4، ولما تعرض المسلمون الأوائل للاضطهاد، والعذاب من جانب قريش، وأذن لهم النبي بالهجرة إلى الحبشة، هاجر عثمان مع زوجته إليها5، ولما علم برضاء قريش عن النبي، عاد إلى مكة6، ثم هاجر إلى المدينة ونزل على أوس بن ثابت أخي حسان بن ثابت في دار بني النجار7.

اشترك عثمان في الغزوات باستثناء غزوة بدر، لاشتغاله بتمريض زوجته التي ماتت، ودفنت في اليوم الذي انتصر فيه المسلمون، فعده النبي من البدريين، وزوجه

1 البلاذري: ج6 ص99، الطبري: ج4 ص420.

2 البلاذري: المصدر نفسه ص104، 112.

3 العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة ج4 ص223.

4 الطبري: ج4 ص419، 420، العسقلاني: فتح الباري ج8 ص54.

5 ابن هشام: ج2 ص70.

6 المصدر نفسه: ص119.

7 المصدر نفسه: ص221، البلاذري: ج6 ص100، 101.

ص: 365

ابنته الثانية أم كلثوم1، ولهذا لقب بذي النورين، لزواجه بابنتي النبي، رقية وأم كلثوم التي توفيت في السنة التاسعة للهجرة2.

استعان النبي بعثمان في كثير من المناسبات، فكان سفيره إلى قريش في السنة السادسة للهجرة حين منعت دخول المسلمين إلى مكة لأداء العمرة، فاحتبسته قريش عندها، فبلغ النبي والمسلمين أن عثمان قد قتل، فبايع المسلمون النبي بيعة الرضوان في المكان المعروف بالحديبية على مقربة من مكة3.

بذل عثمان كثيرًا من ماله في سبيل الإسلام، كان له نصيب وافر في تجهيز جيش العسرة الذي أعده النبي لغزوة تبوك في "شهر رجب عام 9هـ/ شهر تشرين الأول 630م"، إنه أمد المسلمين بتسعمائة وخمسين فرسًا وألف دينار، وقد قال النبي:"من جهز جيش العسرة فله الجنة، فجهزه عثمان"4، كما اشترى بئر معونة من يهودي بعشرين ألف درهم، وتصدق بها على المسلمين، وقد قال النبي:"من يحفر بئر رومة فله الجنة، فحفرها عثمان" 5، وبشره النبي بالجنة وعده من أهلها، فقال:"لكل نبي رفيق في الجنة، ورفيق في الجنة عثمان"6.

كان عثمان من رواة الحديث، فقد روى عن النبي وعن أبي بكر وعمر، كما روى عنه أولاده، عمر وأبان وسعيد، وابن عمه مروان بن الحكم، ومن الصحابة عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر وعبد الله بن العباس، وعبد الله بن الزبير، وزيد بن ثابت وأبو هريرة وغيرهم، ومن التابعين: الأحنف بن قيس ومحمد بن الحنفية بن علي، وسعيد بن المسيب7، واتخذه أبو بكر أمينًا، وكاتبًا له يستشيره في أمور الدولة.

قضية الشورى -اختيار عثمان خليفة:

وجد المسلمون أنفسهم بعد طعن عمر بن الخطاب أمام مهمة اختيار خليفة يدير شئونهم، فقد رفض عمر أن يعين خليفة له، مع أن توليه الخلافة كان نتيجة عهد أبي بكر الصديق له، وتخلى بكل تبصر عن تعيين أحد من أفراد عائلته خشية تحويل

1 الطبري: ج4 ص420.

2 ابن هشام: ج3 ص85، السهيلي: ج3 ص127.

3 ابن هشام: ج4 ص27-29.

4 الطبري: ج4 ص174 العسقلاني، ابن حجر: فتح الباري بشرح البخاري ج8 ص54.

5 العسقلاني: المصدر نفسه، البلاذري: ج6 ص105.

6 البلاذري: ج6 ص102، العسقلاني: ج8 ص54.

7 العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة ج4 ص223.

ص: 366

الحكم إلى وراثة، كما أنه امتنع عن تعيين عثمان بن عفان الذي كان مساعده تقريبًا، وحجته في ذلك أنه لا يريد أن يتحمل تبعات الخلافة حيًا وميتًا1.

ويبدو أنه لم يكن هناك مرشح واضح، كما أن عمر أراد العودة إلى نظام الشورى، وتشير بعض روايات المصادر أنه كان يعمد إلى بلورة وجهة نظر جديدة تجاه مسألة الحكم تنطلق من إحياء الشورى التي تأسست عليها بيعة السقيفة، تاركًا لنخبة المسلمين قرار اختيار الخليفة المناسب، والتي طرح شكلها النهائي بعد أن طعنه أبو لؤلؤة2.

والواضح أن ظروف المسلمين آنذاك فرضت أن تكون مبايعة خليفة مسألة اختيار بين شخصيات قرشية، بالإضافة إلى السابقة والقدم في الإسلام، وكانت الآراء السائدة في المجتمع القرشي بعامة، وبين كبار الصحابة، وأهل الفضل والسابقة بخاصة، وبين صفوف المهاجرين الذين كانت لهم في نهاية المطاف الكلمة النهائية؛ هي العامل الحاسم في الاختيار3.

وهكذا اختيار عمر قبل وفاته مجلسًا للشورى مؤلفًا من: عثمان بن عفان من بني أمية، علي بن أبي طالب من بني عبد المطلب، الزبير بن العوام، من بني عبد العزة، وينتسب إلى عبد المطلب من جهة النساء إذا إن والدته عمة النبي، عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة عشيرة والدة النبي وصهر عثمان، سعد بن أبي وقاص من بني زهرة أيضًا، وطلحة بن عبيد الله من بني تيم عشيرة أبي بكر4.

إن قراءة متأنية في اختيار هؤلاء الصحابة تطلعنا على الحقائق التالية:

- جميعهم من المهاجرين، أي قرشيين، من أوائل الصحابة، وتوفي النبي وهو راض عنهم، وهم من بين العشرة المبشرين بالجنة.

- يمثلون مراكز القوى في المدينة من حيث النفوذ، والقدرة والشهرة بدليل وصف عمر لهم بأنهم:"رؤساء الناس وقادتهم"، وقوله:"لا يكون هذا الأمر إلا فيكم"، "إني لا أخاف عليكم إن استقمتم، لكني أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم، فيختلف الناس"5.

- المفاضلة بينهم تبعًا لدورهم في الإسلام أمر شاق، وعسير؛ لأنهم كانوا جميعًا من أمضى سيوفه، وأرسخ أعمدته طوال تاريخه6.

1 الطبري: ج4 ص228.

2 البلاذري: أنساب الأشراف ج6 ص119.

3 إبراهيم: ص230.

4 البلاذري: ج6 ص123، الطبري: ج4 ص228.

5 الطبري: المصدر نفسه.

6 إبراهيم: ص231.

ص: 367

- كانت قضية اختيار خليفة منذ بدايتها قرشية محضة، لقد كان النبي من قريش، وما كان يمكن استخلافه إلا من قريش أيضًا، لقد اختصرت قريش قضية الحكم، وحصرتها برجالها، وهذه القضية هي استمرار العمل بمقولة:"الأئمة من قريش" التي طرحت يوم مبايعة أبي بكر على الرغم من تغير الظروف العامة، لكن يبدو أنها أضحت عرفًا لم يطعن به أحد من ذلك العصر؛ لأنه ينسجم مع روحه انسجامًا تامًا، لذلك استبعد الأنصار على الرغم من مآثرهم واستحقاقهم.

ونظم عمر طريقة عمل المجلس قبل وفاته، فحدد مدة الاختيار بثلاثة أيام، فإذا انقسم مجلس الشوى إلى ثلاث مجموعات من شخصين، فلا بد من استئناف التشاور، وإذا كان هناك أكثرية، فلا بد لهم من اتباعها، أما إذا انقسم المجتمعون إلى مجموعتين متساويتين من ثلاثة أشخاص، تكون الأولوية للمجموعة التي يكون فيها عبد الرحمن بن عوف، وهذا يعني إعطاء هذا الصحابي دورًا مفصليًا وبارزًا، إلا أن التطورات التي رافقت انعقاد مجلس الشورى في بدايته، على الأقل، لا تعطيه هذا الدور، إذ بدأ كأحد أعضاء المجلس الآخرين، ولم يبرز إلا عندما انسحب من ميدان التنافس كما سنرى، الأمر الذي يرجح أن الروايات الخاصة بذلك شيعية الهوى تحمله مسئولية تقديم عثمان1، وأمر بقتل كل من يتخلف عن مبايعة من يتم اختياره للخلافة خشية الفتنة، وحث المؤتمرين على سرعة إنجاز اختيارهم، وأمر أيضًا أن يتولى صهيب الرومي إمامة الصلاة طيلة ثلاثة أيام، وشكل فصيلة من الأنصار للمحافظة على الأمن، وحماية أعضاء المجلس2.

توقع عمر أن يتجه الاختيار في مجلس الشورى لصالح عثمان أو علي، وكلاهما من سلالة عبد مناف وختن النبي، بل إنه وجه المسلمين في المدينة نحوهما بصورة غير مباشرة، إذ بدا للوهلة الأولى أن التنافس سيجري بينهما، وأن باقي أعضاء مجلس الشورى ناخبين فحسب.

فقد انتقد عثمان لحبه أهله وقومه، وخشي إن هو تولى الخلافة أن يحمل بني أبي معيط على رقاب الناس "ولو فعلها لقتلوه"، وهو تأكيد هدف إلى إيجاد غطاء شرعي لعملية قتل عثمان التي تمت فيما بعد، ووصف عليًا بالرجل الذي فيه دعابة، وبطانة

1 البلاذري: ج6 ص119، الطبري: ج4 ص229، ملحم: عدنان محمد: المؤرخون العرب والفتنة الكبرى ص88.

2 البلاذري: ج6 ص120، الطبري: المصدر نفسه.

ص: 368

وفكاهة، وخشي إن هو تولى الخلافة أن يحمل بني عبد المطلب على رقاب الناس، إلا أنه أكد في الوقت نفسه على ثقته بمقدرته، ونزاهته في الحكم "إن ولوها الأجلح سلك بهم الطريق"1.

يبدو أنه من الصعب الأخذ بهذه الروايات؛ لأن عمر نفسه هوالذي اختار أعضاء مجلس الشورى لكونهم من أبرز الشخصيات العامة، الأمر الذي يثير التساؤل بشأن ما نسب إليه من انتقادات وجهها إليهم، والواقع أنها مهمة تؤكد التزام عمر بما تم إنجازه في حصر الخلافة في قريش بين المهاجرين الأولين.

عقد مجلس الشورى اجتماعه الأول بناء على رغبة عمر قبل وفاته، إلا أن أعضاءه اختلفوا فيما بينهم؛ لأنهم كلهم كانوا يطمحون للسلطة، ولم يتوصلوا إلى نتيجة2، وعقد الاجتماع الثاني بعد وفاة عمر، وقد أشارت روايات المصادر إلى عدم اتفاق أعضاء مجلس الشورى على رجل منهم، ووقعوا في مأزق حقيقي، لم يخرجوا مه إلا بمبادرة عبد الرحمن بن عوف الذي أخرج نفسه من إطار المنافسة، ومجال الاختيار، إلا أنه اشترط أن يتركوا له حرية الاختيار، وأخذ عليهم يمين المبايعة لمن يختار، وأعطاهم عهدًا "أن لا يميل إلى هوى، وأن يؤثر الحق، وأن يجتهد للأمة، وأن لا يحابي ذا قرابة"3، ولهذا السبب فقدت الشورى طابعها كمجمع، وفقد المجلس طابعه كجهاز انتخاب مباشر، إذا فوض لعبد الرحمن أن يختار عنه وباسمه، وتحول الانتخاب إلى تعيين من قبل شخص واحد من أعضاء مجلس الشورى، وأضحى محصورًا، وفي المقابل غدًا واسعًا بما سيقدم عليه عبد الرحمن من مشاورات، فقد لجأ هذا الصحابي إلى مشاورة المسلمين، واستطلع رأي أهل المدينة، وقادة الجند الذين توافدوا على المدينة، وأشراف الناس، لكي يعرف من تود الأمة أن تجتمع عليه بعد عمر.

وبما أن القضية قرشية منذ بدايتها، فقد كان واضحًا أن مشاورة الناس تعني في نهاية المطاف مشاورة قريش، ولا يمكننا أن نتجاهل في هذا المقام، الحقيقة التي تحدثت عنها روايات المصادر، والتي لا يمكن استيعاب مآل مجلس الشورى، واختيار عثمان إلا على ضوئها، ألا وهي أن قريشًا ملت شدة عمر، وطالبت باستبدال هذه الشدة باللين، وبفك الحصار، والقيود عنها4.

1 البلاذري: ج6 ص120-122.

2 الطبري: ج4 ص229.

3 المصدر نفسه: ص231.

4 إبراهيم: ص231.

ص: 369

كان علي يرى أنه الأجدر بتولي منصب الخلافة نظرا لقرابته من النبي، والتصاقه به، ولكنه كان يشعر أنه محكوم بمجرى الأحداث لا سيما بالدور الموكل إلى عبد الرحمن بن عوف زوج شقيقة عثمان من أمه، والذي كان له تأثير على سعد بن أبي وقاص المنتمي إلى العشيرة نفسها، ويذكر أن العباس عم النبي، وعم علي كان متخوفًا من أن تخرج الخلافة مرة أخرى من يد عشيرته، فنصح عليًا بعدم الاشتراك في الشورى، لكن عليًا الذي كان يكره الخلاف1 آثر القيام بمسعى لدى سعد بن أبي وقاص، ويبدو أنه نجح في ذلك2، فهل كان هذا الأمر هو الذي بدل طابع الشورى أم بدل خوف عبد الرحمن بن عوف من أن يرى استمرار الفراغ دون التوصل إلى نتيجة طالما كانت المطامع كبيرة؟ 3.

استشار عبد الرحمن بن عوف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد، وأشراف الناس كما ذكرنا، ثم دار متنكرًا لا يعرفه أحد، واستشار عامة المهاجرين، والأنصار وغيرهم من ضعاف الناس4، فأشار عليه الجميع بعثمان، فاقتنع عندئذ بأن وجوه قريش وعامتها، وقادة الجند يريدون عثمان خليفة عليهم.

والواقع أن بني أمية أدوا دورا نشطًا في توجيه "الرأي العام" نحو عثمان، ونظموا دعاية واسعة له، بهدف تعزيز نفوذهم الذي فقدوه بعد فتح مكة، ونجحوا في استعادته جزئيًا في عهد أبي بكر وعمر، فقد تنافسوا مع بني هاشم في تعاقب خطبائهم على منبر مسجد النبي5.

كان هناك إذن تياران متنافسان مرتبطان بالسابقة في الإسلام، وبروابط الدم:

الأول: عشيرة النبي الأقربون الذين كان علي مرشحهم.

الثاني: قرشي متصل بالقابلية على التمثيل الأفضل لقريش، وبالتالي مقرب من الأمويين، وكان عثمان مرشحهم.

ثم إن مفهوم البيت الذي جرى طرحه لتمييز عثمان، وعلي كان يفسر بالمعنى الواسع، معنى بيت عبد مناف، وليس بالمعنى الضيق بيت بني هاشم، وكان هذا يناسب أغلبية الصحابة الذين خشوا من تفسير ضيق لمفهوم البيت أن تؤسس ملكية وراثية على حسابهم لصالح البيت الهاشمي6.

1 الطبري: ج4 ص228.

2 البلاذري: ج6 ص126.

3 جعيط: ص57، 58.

4 ابن قتيبة: ج1 ص27.

5 الطبري: ج4 ص233.

6 جعيط: ص58، 59.

ص: 370

تروي المصادر أنه في اليوم الثالث، وفي ظل بوادر انقسام بين المسلمين خيف أن يتفاقم، قرر عبد الرحمن بن عوف حسم الأمر، وفي المسجد النبوي، وأمام جمع من المهاجرين والأنصار، وقادة الجند وممثلي الأمصار؛ نادى عثمان وعليًا وسألهما على التوالي إن كانا بعد انتخابهما سيتبعان سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر، وتجنب حمل أقاربهما على رقاب الناس، فأجاب علي بتحفظ متعللًا بأنه سوف يبذل جهده، وطاقته مستيعنًا بالأمناء، والأقوياء من بني هاشم وغيره، وأضاف أن عليه الاجتهاد قدر الإمكان:"لا أحمل عهد الله وميثاقه على ما لا أدركه، ولا يدركه أحد، من ذا يطيق سيرة رسول الله، ولكني أسير من سيرته بما يبلغه الاجتهاد مني، وبما يمكنني وبقدر علمي"1، أما عثمان فقد أعلن موافقته على شرط عبد الرحمن بن عوف قائلًا:"اللهم نعم"، "علي عهد الله وميثاقه، وأشد ما أخذ على أنبيائه، ألا أخالف سيرة رسول الله وأبي بكر وعمر في شيء، ولا أقصر عنها"2؛ مما دفع عبد الرحمن بن عوف، وأصحاب الشورى، وعامة الناس إلى مبايعته3.

قد تدعو روايات المصادر هذه للتساؤل: فهي تعطي عبد الرحمن بن عوف ذريعة صالحة لإعلان عثمان بدلًا من علي خليفة على المسلمين، وتبرز اختيارًا يبدو أنه قد تم قبل ذلك، وتقدم عليًا كأنه مجدد له نهجه الخاص، وفهمه لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما قد يختلف عن نهج الخليفتين السابقين، وهو أمر ربما نسب إلى علي في وقت لاحق، كما أن شرط عبد الرحمن للترجيح بين المتنافسين قد يكون تصريحًا طلب من عثمان وحده بعد اختيار الأغلبية له4، ويبرزه، وكأنه أكثر الأعضاء، توافقًا مع التحولات المنشودة، فهو إلى جانب كونه واحدًا من النخبة في الإسلام، كان ينفرد عن الآخرين بانتمائه إلى البيت الذي كاننت له الزعامة الفعلية إبان ظهور الإسلام، ذلك البيت الذي بات يمثل، بعد اغتيار عمر، أحد أقوى مراكز النفوذ في الدولة الإسلامية5.

والواقع أن ما جرى من مشاورات مكثفة داخل مجلس الشورى وخارجه، وما أحاط بهيئة المجلس من اتصالات خارجية، كانت بعيدة عن الشورى في الشكل والمضمون.

1 البلاذري: ج6 ص127، البلخي: ج2 ص212.

2 البلاذري: المصدر نفسه ص128، الطبري: ج4 ص238.

3 المصدران نفساهما.

4 جعيط: ص59، ملحم:90.

5 بيضون: الإمام علي ص40، 41.

ص: 371

ردود الفعل على اختيار عثمان:

أثار اختيار عثمان خليفة ردود فعل متباينة بين أعضاء مجلس الشورى وخارجه، يمكن ربطها بالأدوار التي قام بها أصحابها في مجمل تطورات الفتنة بعد ذلك، وتوضحت الصورة السياسية للمجتمع الإسلامي الذي انقسم إلى أربع فئات على النحو التالي:

1-

الفئة الموالية لآل البيت بعامة ولعلي بخاصة، وقد عارض أفرادها قرار مجلس الشورى، فقد أظهر على منذ البداية عدم اطمئنانه إلى تركيبة هذا المجلس الذي كانت آراء معظم أعضائه تميل لغير صالحه، وشكا ذلك إلى بني هشام "إن أطيع فيكم قومكم لم تؤمروا أبدًا"1، وأضاف أن عبد الرحمن بن عوف، وسعدًا بن أبي وقاص لا يخالف أحدهما الآخر، وعبد الرحمن صهر عثمان، فأحدهما لا يخالف صاحبه، فيوليها عبد الرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمن. وخشي إن ولي عثمان "ليتداولنها، ولئن فعلوا ليجدني حيث يكرهون"، بالإضافة إلى ذلك، فإنه شك في مواقف طلحة والزبير، وبفعل عدم ثقته بعبد الرحمن بن عوف رفض إعطاءه مهمة الاختيار إلا بعد أن حلف له بألا يتبع الهوى، وألا يؤثر إلا الحق، ولا يخص ذا رحم، ولا يأل الأمة2، كما اجتمع بسعد بن أبي وقاص وناشده، بعدم هضم حقه بالخلافة3، واتهم قريشًا بالممالأة على هضم حقوق آل البيت، وإبعاده عن الحكم4، وهو اتهام يعكس وجهة نظر عمر بن الخطاب في فرص كل عضو من أعضاء مجلس الشورى في تسلم الحكم5:"إن عليًا لأحق الناس بها، ولكن قريشًا لا تحتمله، ولئن وليهم ليأخذنهم بمر الحق، لا يجدون عنده رخصة، ولئن فعل لينكثن بيعته ثم ليتحاربن"6، ومع ذلك فإن عليًا بايع عثمان فورًا، أو بعد تردد7.

نذكر من بين شخصيات هذه الفئة: العباس بن عبد المطلب، والمقداد بن عمرو وأبا ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وقد حفلت الروايات التي استعرضت مواقفهم بالميول الشيعية، والعباسية الواضحة، ويلاحظ بأن هذه الشخصيات ستؤدي دورًا.

1 الطبري: ج4 ص229.

2 المصدر نفسه: ص231.

3 البلاذري: ج6 ص123.

4 الطبري: ج4 ص233.

5 البلاذري: ج6 ص120، 121. ابن قتيبة: ج1 ص26.

6 اليعقوبي: ج2 ص51، 52.

7 البلاذري: ج6 ص128، 129. الطبري: ج4 ص238.

ص: 372

بارزًا في الفتنة من خلال معارضتها الصارمة لسياسة عثمان.

2-

الفئة الموالية لعثمان، وتألفت من أعضاء مجلس الشورى، وعامة بني أمية، فقد بايع الزبير بن العوام عثمان فورًا، وكذلك فعل سعيد بن أبي وقاص، وبايع عبد الله بن عمر عثمان محترمًا قرار أعضاء المجلس، أما طلحة بن عبيد الله، فقد بايع عثمان فورًا، أو بعد تردد احتجاجًا على إسراع مجلس الشورى في انتخاب خليفة للمسلمين، وكن قد عاد إلى المدينة، واعتكف في منزله.

3-

الفئة التي أيد أفرادها قرار مجلس الشورى باختيار عثمان، ومع أن الروايات تباينت في توضيح أسباب هذا التأييد، إلا أنها حصرتهم في أصحاب المصالح الخاصة، نذكر منهم: المغيرة بني شعبة، وبعض أقارب عثمان مثل عبد

الله بن أبي ربيعة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن مسعود أبرز زعماء القراء.

4-

عامة المسلمين الذين تماشوا مع قرار مجلس الشورى بهدف استمرار الحياة العامة.

لقد توضحت إذن، الأجواء الاجتاعية، والقوى الاجتماعية -السياسية التي أعاقت تسلم علي الخلافة بعد عمر، وبدا واضحًا أن شدة علي ستضاهي شدة عمر، لكن قريشًا كانت تسعى إلى تحول في التعامل معها، وقد دفع هذا المزاج السائد عثمان إلى الخلافة حيث علقت عليه قريش آمالها في تصفية نهج عمر نحوها، وبالتالي في فتح الباب أمامها للانطلاق نحو الأمصار، كما دلت عليه التطورات اللاحقة، فشخصية عثمان كانت أقرب إلى تفكير، وطباع قريش من عمر وعلي، وهكذا كان اختيار عثمان خليفة، قرارًا اجتماعيًا، ولم يكن مفاضلة بين صحابيين، وشكل هذا النزوع القرشي نحو انفراج حياتي ومعاشي، واجتماعي شامل، على قاعدة البيئة الجديدة التي أفرزتها الفتوح؛ الأرضية المادية الواقعية التي أوصلت عثمان إلى الخلافة، ولهذا كان نهج عثمان منذ بدايته متعلقًا بهذه الأرضية، ومشروطًا بها ومقرونًا معها، ويتناغم مع التطور الاجتماعي داخل الأمة1.

الثورات ضد الحكم الإسلامي:

اتسعت رقعة الدولة الإسلامية في عهد عمر بفتح أراضي الإمبراطورية الفارسية،

والأراضي البيزنطية في بلاد الشام، ومصر وجزء من شمالي إفريقية، واضحت هذه المناطق تحت الحكم الإسلامي، ولم تتوقف سلسلة هذه الفتوح في عهد عثمان،

1 إبراهيم: ص233.

ص: 373

وعمل المسلمون على توطيد نفوذهم من جديد من بعض المدن الفارسية التي ثارت ضد الحكم الإسلامي، ذلك أن المسلمين لم يستقروا تمامًا في مناطق الأطراف، ولم يوطدوا حكمهم فيها، فكانوا ينطلقون من الكوفة أو البصرة للفتح، ثم يعودون إليها بعد أن يعقدوا الصلح مع السكان المحليين، ثم إن هؤلاء ظلوا مخلصين لقوميتهم مما أتاح لهم القيام بثورات للتخلص من الحكم الإسلامي كلما سنحت لهم الفرصة، وكان التغيير في مركز القيادة فرصة سانحة لهؤلاء لتحقيق أمانيهم.

تصدى المسلمون لهذه الثورات على حكمهم، وتمكنوا من إخمادها، وثبتوا أقدامهم في المناطق الثائرة، نذكر منها: ثورة همذان وأذربيجان، والري واصطخر

وطبرستان، وجرجان وخراسان، وكرمان، وأعاد المسلمون فتح مدينة الإسكندرية في عام "25هـ/ 645م" في عهد ولاية عبد الله بن سعد بن أبي

سرح، بعد أن هاجمها البيزنطيون انطلاقًا من جزيرة رودس بهدف استعادتها، وقد فاجأ هؤلاء الحامية الإسلامية، ونزلوا على البر واستولوا عليها، توغلوا في

أرض مصر حتى كادوا يصلون إلى بابليون، ولم ينقذ الموقف سوى عمرو بن العاص الذي عينه الخليفة واليًا على الإسكندرية، وأمره بطرد البيزنطيين منها، ودمر عمرو أسوار الإسكندرية حتى لا يتحصن البيزنطيون فيها مرة أخرى إذا نجحوا في استعادتها1.

فتح أرمينية:

توغل المسلمون في الربوع الأرمينية في عهد عثمان، إذ إن الحملات الإسلامية المتواترة ضد بلاد الأرمن كانت تسير وفق خطة عسكرية محكمة، وموضوعة مسبقًا، بهدف فتح هذه البلاد، وضمها إلى الأملاك الإسلامية، ونشر الإسلام في ربوعها، ونجح المسلمون بقيادة مسلمة بن حبيب الفهري، في بسط سلطانهم على أودية نهر الرس، ونهر الفرات، وصادفوا مقاومة في تفليس، والمناطق الجبلية المرتفعة2.

وخاب أمل الأرمن في بيزنطية التي عجزت عن الدفاع عنهم وحمايتهم، واضطر القائد الأرميني تيودور الرشتوني، الذي تخلت بيزنطية عنه بسبب ميوله المذهبية المعادية، وموقفه السابق من القائد الإمبراطوري بروكوبيوس في معركة ساراكين؛ إلى إجراء مفاوضات منفردة مع المسلمين انتهت إلى التسوية التالية:

1 البلاذري: ج6 ص306، 315، 323، ابن عبد الحكم: ص300-303. الطبري: ج4 ص246، 247، 265، 266، 269، 270، 300-303.

2 البلاذري: المصدر نفسه: ص200-204، الطبري: المصدر نفسه ص 248. Grousset: p219

ص: 374

- يعترف المسلمون باستقلال الأقاليم الأرمينية.

- يعترف الأرمن بسيادة المسلمين عليهم بالشروط نفسها التي سبق للفرس أن مارسوا بها سيادتهم على أرمينية.

- يعين المسلمون حاكمًا أرمينيًا عامًا على أرمينية.

- يضع الأرمن فرقة عسكرية تعدادها خمسة عشر ألف جندي بتصرف المسلمين1.

الواضح أن المعاهدة كانت مناسبة للأرمن من واقع وضعهم الحرج بعد إحجام بيزنطية عن مساعدتهم، في حين سببت لبيزنطية خيبة أمل كبيرة؛ لأن البيزنطيين كانوا يأملون في استمرار سخونة الجبهة الأرمينية، لتخفيف الضغط عن الجهات الأخرى مع المسلمين، كما أن الأرمن لم يكونوا راغبين في التضحية بأنفسهم من أجل إمبراطورية هرمة، أضحت عاجزة عن الدفاع عن حدودها، وولاياتها. ثم حدت أن تطورت العلاقات الإسلامية -الأرمينية نحو الأفضل، وأبدى الأرمن استعدادهم للتحالف مع المسلمين، وانفصالهم نهائيًا عن الدولة البيزنطية، مقابل منحهم نوعًا من الاستقلال المحلي، وجرت مفاوضات بين الطرفين من أجل ذلك أسفسرت عن اتفاق آخر يعد متممًا للاتفاق السابق، وتضمن البنود التالية:

- عدم فرض جزية على أرمينية لمدة سبع سنوات.

- يقدم الأرمن فدية خلال مدة الاتفاق التي تركت مفتوحة تتناسب مع قدرتهم الاقتصادية، وذلك ضمانًا لبقاء استقلالهم، وفعلًا دفعوا للدولة الإسلامية مبلغًا رمزيًا مقداره خمسمائة دينار2.

- يقدم الأرمن قوة عسكرية قوامها خمسة عشر ألف مقاتل تساعد القوات الإسلامية في حروبها مع أعدائها باستثناء جبهة بلاد الشام.

- يعين المسلمون على بلاد الأرمن حاكمًا أرمينيًا.

- لا يأوي الأرمن عدوًا للمسلمين، ولا يساعدونه.

- يتعهد المسلمون بمساعدة الأرمن إذا تعرضوا لغزو بيزنطي3.

لم ترحب بيزنطية بهذا الاتفاق الذي سلخ أرمينية عن التبعية البيزنطية، لذلك قاد الإمبراطور البيزنطي قنسطانز الثاني في عام "34هـ/ 654م" جيشًا بيزنطيًا كثيفًا بلغ تعداده مائة ألف مقاتل، إلى الأراضي الأرمينية، بهدف إعادة البلاد إلى الحظيرة.

1 Grousset: pp 300. 301. Passder madjjen: Histoire de L، Amenic p127.

2.

Grousset Ibid: p 301

3 حسين، صابر محمد دياب: أرمينية من الفتح الإسلامي إلى مستهل القرن الخامس الهجري، ص34، 35.

ص: 375

البيزنطية، ولما وصل إلى ترجان، تلقي إنذارًا إسلاميًا بعدم دخول الأراضي الأرمينية، لكن الإمبراطور لم يعر الإنذار التفاتة جدية، واستمر في زحفه حتى وصل إلى ثيودوبوليس "أرضروم"، وعسكر فيها واستقبل عددًا كبيرًا من الإقطاعيين، وحكام المناطق الأرمينية الذين ساءهم الانسلاخ عن البيزنطيين وتخلوا عما تعهدوا به لتيودور الرشتوني، وكذلك فعل البطريرك الذي تنصل أمام الإمبراطور من الاتفاق مع المسلمين، وتبرأ مما فعله القائد الأرميني المذكور.

تشجع الإمبراطور بهذا التغيير الولاني من جانب قادة الأرمن، فدخل الأراضي الأرمينية، وعزل تيودور الرشتوني، وعين هامازسب ماميكونيان مكانه، وراح يعمل على توحيد أرمينية تحت قيادته وسلطته1.

وما أحرزه المسلمون من انتصار في معركة ذات الصواري، لم يترتب عليه نتائج مباشرة، وحاسمة في الصراع بينهم وبين البيزنطيين، بالإضافة إلى ما تعرضت له الدولة الإسلامية من مشكلات تفاقمت عقب مقتل الخليفة عثمان في عام "35هـ/ 656م"، مما دفع معاوية بن أبي سفيان إلى عقد صلح مع البيزنطيين في عام "38هـ/ 659م"، وقد تأثر وضع أرمينية بهذا الاتفاق من واقع استئناف الأسر الأرمينية الإقطاعية صلاتها بالبيزنطيين، وانحسار النفوذ الإسلامي عن هذه البلاد، وعودة النفوذ البيزنطي، وسحب معاوية القوات الإسلامية المرابطة في أرمينية، ليدعم موقفه في الصراع مع علي بن أبي طالب.

فتح طرابلس الشام:

تمهيد:

استطاع البيزنطيون في عام "23هـ/ 644م" أن يستعيدوا بعض مدن بلاد الشام الساحلية، وأن يتمسكوا بها مدة عامين، منها بيروت وجبيل، وقد ساعدهم في ذلك كثرة عدد أفراد الجالية البيزنطية الموجودة في طرابلس، وهي المدينة التي بقيت تحت السيطرة البيزنطية حتى ذلك الوقت، وقد تحصن بها البيزنطيون الذين فروا من المدن الساحلية الأخرى التي فتحها المسلمون.

والواقع أنه تضافرت ثلاثة عوامل دفعت المسلمين إلى فتح طرابلس، سياسية واقتصادية، وعسكرية.

1.Grousset: p 302

ص: 376

فمن الناحية السياسية، كان لا بد من إحكام السيطرة الإسلامية على مدن الساحل الشامي، ولا يتم ذلك إلا بفتح طرابلس آخر المعاقل البيزنطية على هذا الساحل.

ومن الناحية الاقتصادية، تشكل طرابلس منفذًا بحريًا هامًا لبلاد الشام، وثغرًا لدمشق وحمص.

ومن الناحية العسكرية، كانت طرابلس قاعدة بيزنطية مهمة، راحت تهدد مكتسبات المسلمين من واقع مهاجمة الثغور البحرية الإسلامية، والمعروف أن البيزنطيين كانوا لا يزالون متفوقين بحرًا على المسلمين، ولهم أساطيلهم البحرية التي تجوب عباب البحر المتوسط، وبقي الساحل الشامي عرضة لهجماتهم، كما أن المدينة كانت محاطة بالمدن الإسلامية من ثلاث جهات، عرقة في الشمال، وجبيل في الجنوب، وبعلبك في الشرق.

أحداث الحصار والفتح:

بعد أن حصل معاوية على موافقة الخليفة عثمان بغزو الجزر البحرية، أرسل سفيان بن مجيب الأزدي، والي بعلبك، إلى طرابلس على رأس جيش كبير لفتحها في خطوة ضرورية لتحقيق الهدف الأساس، وكانت المدينة تتكون من ثلاث مدن مجتمعة من اللسان الرومي الداخل في البحر، وبها ثلاثة حصون، وعسكر في مشارفها في مرج السلسلة عند سفح جبل تربل شمالي شرقي المدينة على بعد خمسة أميال، منها، وراح يهاجم البيزنطيين، إلا أنه فشل في تحقيق أي تقدم، وذلك لسببين:

الأول: إن المدينة كانت منيعة بتحصيناتها، وإنه من الصعب محاصرتها، وفتحها دون الاستناد إلى قاعدة قريبة ثابتة ينطلق منها.

الثاني: كان سكان طرابلس يتلقون إمدادات تموينية من بيزنطية عن طريق البحر، مما يجعل أمر الحصار طويلًا، وشاقًا ودون حسم1.

ويبدو أن سفيان أدرك هذه الصعاب، فكتب إلى معاوية يطلب منه الرأي والمشورة، فأجابه "أن ابن لك ولعسكرك حصنًا يأوون إليه ليلا، ويغزونهم نهارًا"2.

نفذ سفيان ما أشار عليه معاوية فانتقل من المرج، وعبر النهر إلى ضفته الغربية، واختار مكانًا ملائمًا يبعد عن المدينة مسافة ميلين، وبنى فيه حصنًا عرف باسمه، وراح يشدد ضغطه على المدينة، ووضع حراسًا على الشواطئ المحيطة بها لمراقبة

1 تدمري: تاريخ طرابلس ص90.

2 ابن عساكر: ج16 ص76.

ص: 377