المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

إثباتـ[ها] نفسها، وأنها قائمة بذات الله سبحانه وتعالى، فإن ذلك - تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول - جـ ١

[يحيى بن موسى الرهوني]

الفصل: إثباتـ[ها] نفسها، وأنها قائمة بذات الله سبحانه وتعالى، فإن ذلك

إثباتـ[ها] نفسها، وأنها قائمة بذات الله سبحانه وتعالى، فإن ذلك من علم الكلام، والعلم به من مبادئ الأصول، فلا دور.

واعلم أن التصديق بالأحكام من حيث هي محمولات مسائل الأصول، كقولنا: الأمر للوجوب، ومن حيث تعلقها بمسائل الأصول، كقولنا: العام إذا خص بمبين يكون حجة في الباقي، لا يكون من المبادئ؛ لأن المسائل تتوقف على المبادئ، فلو استمد الأصول منه لزم توقف الشيء على نفسه.

قال: ‌

‌(الدليل

لغة: المرشد، والمرشد: الناصب، والذاكر، وما به الإرشاد.

وفي الاصطلاح: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.

قيل: إلى العلم به، فتخرج الأمارة.

وقيل: قولان فصاعدًا يكون عنهما قول آخر.

وقيل: يستلزم لنفسه، فتخرج الأمارة).

أقول: لما وقع [له] الدليل من حد [ي] الفقه وأصول الفقه، وكذا العلم، ووقع النظر بعد ذلك من تعريف الدليل، عرفها لتعلم.

ص: 161

وقال الآمدي ومن تابعه: «إن هذا من المبادئ الكلامبية» .

ولما كانت من المبادئ، تعرض لها أولًا.

وفيه نظر؛ لأن البحث عن الدليل وأقسامه لا يختص به الكلام، مع أن ما بعد هذا منطق، فلا ينسب إلى مبادئ الكلام لكونه آلة لجميع العلوم. والدليل: فعيل بمعنى فاعل، أي دال، قال الجوهري: «يقال: دل دلالة ودلالة، بفتح الدال وكسرها، والفتح أعلى.

وقيل: الفتح في الأعيان، والكسر في المعاني، يقال: دله على الطريق دلالة، ودل الدليل دلالة».

قال المصنف في الأمالي: «لغة» انتصب على أنه مصدر مؤكد، أي

ص: 162

يدل دلالة لغة.

قلت: والمصدر المؤكد لا يتقدم الجملة ولا يتوسطها إلا عند الزجاج.

قيل: قدم على المرشد، لبيان أنه لدلالة الدليل، ولو أخر لصلح لكل منهما.

قيل: وليس بتمييز عن النسبة، إذ لا إبهام في حمل المرشد على الدليل ولا عن المفرد وهو الدليل، إذ الإبهام غير مستقر لكونه مشتركًا.

قلت: ولا عن مضاف محذوف بمعنى مدلول الدليل، إذ المميز مطلقًا موصوف في الأصل عما انتصب عنه، ولا توصف اللغة بذلك، ولا ينصب بإسقاط الخافض لالتزامهم تنكيره.

وفي عرف الفقهاء: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب

ص: 163

خبري.

فما يمكن، يشمل القول وغيره، وهو المعنى الحاصل في الذهن.

وقوله: (بصحيح النظر) يخرج المقدمات الصحيحة المرتبة ترتيبًا أن ترتبها ترتيبًا صحيحًا وقد حصل، ويخرج ما يمكن التوصل به بالنظر الفاسد كالمقدمات الكاذبة، ولا تخرج المقدمات الصحيحة التي أمكن التوصل بها بنظر فاسد إلى مطلوب؛ لأن إمكان / التوصل بالنظر الفاسد فيها لا ينافي إمكانه بالنظر الصحيح فيها.

وقوله: (إلى مطلوب خبري) يخرج التصوري، هذا إذا أردنا بصحيح النظر إيقاع النظر.

وإن أريد بصحيح النظر الواقع فيه [أيضًا] ، دخل القياس المنطقي.

ص: 164

وقال المتكلمون: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم به.

والضمير المجرور يعود على المطلوب الخبري فتخرج الأمارة، إذ لا يمكن التوصل بصحيح النظر فيها إلى العلم بالمطلوب الخبري، بل إلى الظن به.

وإنما خص المتكلمون الدليل بقيد العلم؛ لأن الدليل يتوصل به إلى المطلوب، ومطالبهم يقينية، والموصل إلى اليقين لا يكون أمارة.

ولما كانت مطالب الفقهاء عملية، والعمل لا يتوقف على العلم، فلذلك كان الدليل عندهم أعم.

ولما كان أصول الفقه متعلقًا بهما، احتيج فيه إلى الاصطلاححين، فلهذا عرفه بالتعريفين، لكونه مستمدًا من الكلام وأصلًا للفقه.

ولما كان تعلقه بالفقه أقوى - ولهذا سمي بأصول الفقه ولم ينسب إلى الكلام مع كونه مقصودًا للفقه لا لذاته - عرفة في اصطلاح الفقهاء أولًا،

ص: 165

وأيضًا: موضوع أصول الفقه الأدلة السمعية وهي أعم من العلمي والظني. واعلم أن النقلي الصرف لا يفيد اليقين؛ لأنه ما لم يثبت صدقه لا يفيد، وصدقه لا يعلم إلا بالعقل، بنظره في دلالة المعجزة.

وعرفه قوم بأنه: قولان فصاعدًا يكون عنهما قول آخر، أي قضيتان ولم يقل: مقدمتان؛ لأن المقدمة تعرف بأنها جزء الدليل، فلو عرف بها لدار.

وقوله: (فصاعدًا) ليتناول القياس المركب.

ص: 166

وقوله: (لا يكون عنهما قول آخر) ليخرج قضيتان لا يكون عنهما قول آخر، مثل: زيد قائم، عمرو قاعد، وإن كان مجموعهما يستلزم إحداهما، لكن ليس ذلك بقول آخر مغاير لهما، وهذا يشمل البرهان والأمارة؛ لأن قوله:(يكون عنهما [قول آخر]) أعم من أن يكون لازمًا أو لا.

ويشمل الاقتراني، والاستثنائي؛ لأن النتيجة قول يغاير كل واحدة من المقدمتين أيضًا.

وبين الدليل بهذا المعنى وبينه بالأولين عموم من وجه، لصدق الأولين على المعقول دون الثالث لتقييده بالقول، وصدق الثالث دونهما على القضايا المرتبة بالفعل ترتيبًا صحيحًا، وصدقهما على الأقوال الصحيحة الغير مرتبة.

وإن أريد المعنى الثاني فيما تقدم، كان أخص من الأول مطلقًا، وبينه وبين الثاني عموم من وجه، لصدق الثاني دونه على المعقول، وصدق الثالث دونه على المركب من الظنيات.

ص: 167

وعرفه [بعض] المنطقيين بأنه قولان فصاعدًا يستلزم لنفسه قولًا آخر.

فقوله: (يستلزم) أي مجموعهما، فتخرج الأمارة؛ لأنه ليس بينهما وبين ما تفيده ربط عقلي / يقتضي لزوم ذلك القول عنهما، إذ لو استلزمت شيئًا ما تخلف؛ لامتناع تخلف اللازم عن الملزوم، لا يقال: الأمارة تستلزم لكن لا لنفسها بل مع عدم المانع، لأن المصنف قال في الذي قبله: يكون عنهما قول، ولم يقل: يستلزم، حتى يكون قيد لنفسه يخرج الأمارة.

فقوله: (لنفسه) ليخرج قياس المساواة، كقولنا:(أ) مساوٍ لـ (ب)، و (ب) مساوٍ لـ (ج) [فإنه يستلزم:(أ) مساوٍ لـ (ج) ، لكن لا لنفسه بل بواسطة مقدمة أجنبية، وهي مقدمة غير لازمة لشيء من مقدمتي القياس، وهو قولنا: كلما هو مساو لـ (ب) ، مساو لـ (ج) ، وهذا ليس بدليل عند المنطقيين؛ لأن الدليل عندهم ما يستلزم لذاته، وقول من قال: لنفسه يخرج المستلزم بواسطة عكس إحدى مقدمتيه بعكس النقيض، فاسد على رأي المصنف؛ لأنه بين الضرب الرابع من الشكل الثاني بذلك،

ص: 168

وهو دليل عند المنطقيين.

ولو قيل: يستلزم لنفسه قيد واحد يخرج الأمارة؛ لأنها تستلزم مع عدم المانع، أو لكون المصنف لم يقل: فتخرج الأمارة وقياس المساواة، لكان أقرب إلى كلام المصنف، وهذا أعم من أن يكون الاستلزام بينًا كالشكل الأول، أو لا كالثلاثة الباقية، ويدخل الاستثنائي أيضًا.

والدليل بهذا المعنى أخص منه، فالثالث مطلقًا وبينه وبين الأولـ[ين] عموم من وجه مما تقدم في الثالث معهما، هذا على التفسير الأول.

وأما على الثاني فهو أخص من الأول مطلقًا، وكذا من الثاني أيضًا.

قال: (ولابد من مستلزم للمطلوب، حاصل للمحكوم عليه، فمن ثم وجبت المقدمتان).

أقول: يعنى أنه لابد في كل دليل من مقدمتين؛ لأن نسبة الأكبر إلى الأصغر لما كان محمولًا، [فلابد] في الدليل من أمر يوجب العلم به، وذلك هو المسمى عند المنطقيين بالحد الأوسط، لتعلقه بطرفي النسبة، فبحسب كل تعلق حصلت مقدمة، والمطلوب انتساب الأكبر إلى الأصغر.

والمراد بقولنا: (حاصل للمحكوم عليه) أنه متعلق به تعلقًا إسناديًا، وعلى هذا يشمل الأقيسة الأربعة، والاستثنائي.

ص: 169

وإن فسر (حاصل) بمعنى ثابت، لم يتناول إلا الشكل الأول، وضربين من الثاني.

وقيل: مراده الشكل الأول؛ لرجوع الباقي إليه، فيكون المعنى: ولابد من مستلزم حاصل للمحكوم عليه والمحكوم به حاصل له أو مسلوب عنه، ومن ثم أتى، من أجل أنه لابد من مستلزم للمطلوب حصلت الكبرى، حاصل للمحكوم عليه حصلت الصغرى، وهما المقدمتان.

قال: (والنظر: الفكر الذي يطلب به علم أو ظن).

أقول: النظر في اللغة يطلق على الانتظار، وعلى رؤية العين، وعلى الإحسان، وعلى المقابلة.

ويطلق ويراد به الاعتبار، وهذا هو النظر في عرف المتكلمين.

ورسمه القاضي أبو بكر: «بالفكر الذي يطلب له علم أو ظن» .

ص: 170

فقوله: (الفكر) كالجنس، والفكر يطلق لثلاث معان: على حركة النفس [بالقوة] التي آلتها مقدم البطن الأوسط من الدماغ، إذا كانت تلك الحركة في المعقولات، فإن كانت في المحسوسات، سميت: تخيلًا، وقد يطلق على أخص وهو حركتها من المطالب إلى المبادئ، ورجوعها عن المبادئ إلى المطالب.

ويرسم الفكر بهذا المعنى: بترتب أمور حاصلة في الذهن ليتوصل به إلى تحصيل غير الحاصل، ويطلق على الجزء الثاني فقط وهو [الـ] حركة [النفس] من المطالب إلى المبادئ وإن كان الغرض منها الرجوع، وهذا هو الذي يستعمل بإزائه الحدس وهو سرعة الانتقال من المبادئ إلى المطالب.

فقوله: (الذي يطلب به علم أو ظن) هو الفكر، فالمعنى الثاني يخرج الفكر بمعنى الأول والثالث.

وقوله: (الذي يطلب به) يتضمن المطلوب منه وهي المبادئ، ويتضمن

ص: 171

أنها معلومة؛ لأن الطلب من المجهول مطلقًا محال، ويتضمن ما به يقع الطلب وهو ترتيب تلك المبادئ.

وقوله: (علم أو ظن) أي يطلب به علم أو ظن غير حاصل؛ لأن طلب ما حصل محال، فيكون بمعنى: يتوصل به إلى تحصيل ما ليس بحاصل، فيرجع إلى تعريف الحكماء؛ لأن تعريف الشيء تعريف لمرادفه.

وقال الإمام في الشامل: «الفكر: انتقال النفس في المعاني انتقالًا بالقصد» ، فقد يكون لطلب علم أو ظن، فيسمى: نظرًا، وقد يكون كأحاديث النفس، فلا يسمى نظرًا.

واعلم أن هذا التعريف يشمل النظر الموصل إلى التصور وإلى التصديق، والنظر الصحيح والفاسد.

قيل عليه: الظن مطلوب بالنظر، والمظنون قد يكون خلاف الواقع فيلزم أن يكون الجهل مطلوبًا بالنظر.

ورد: بأن المطلوب مطلق الظن، لا الظن المخالف للواقع، ولا يلزم من كون العام مطلوبًا بشيء أن يكون الخاص مطلوبًا به.

ص: 172

قبل أيضًا: هذا تعريف بالأنواع، فهو تعريف بالأخفى؛ لأن ما يطلب به علم أخص من النظر، وكذا ما يطلب به ظن.

رد: بأن انقسام النظر إلى الأمرين خاصة له، فصح تعريفه بهما.

واعلم أن الحركة في قولهم: «حركة النفس في المبادئ» ، إنما هي حركة في الكيف، بمعنى أنها تكيفت بكيفية بعد تكيفها بغيرها، ثم تنتقل إلى أخرى وأخرى، فحركة النفس إلى المبادئ هو تكليفها بالمعاني المخزونة عندها، وانتقال النفس فيها بانتقالها من تكيف بواحد إلى تكيف بآخر، إلى أن تجد المبادئ المؤدية إلى المطلوب، بعد تكيفها بالمطلوب بوجه ما / وتكيفها بالمعنى هو اتصافها بالحالة التي تعرضها عند ملاحظتها المعنى، فإذا حصل معنى غير ذلك، حصلت كيفية غير تلك.

قال: (والعلم، قيل: لا يجد، فقال الإمام: لعسره، وقيل: لأنه ضروري من وجهين:

أحدهما: أن غير العلم لا يعلم إلا بالعلم، فلو علم العلم بغيره كان دورًا.

وأجيب: بأن توقف تصور غير العلم على حصول العلم بغيره، لا على تصوره، فلا دور.

الثاني: أن كل أحد يعلم وجوده ضرورة.

وأجيب: بأنه لا يلزم من حصول أمرٍ تصوره، أو تقدم تصوره).

ص: 173

أقول: العلم يطلق على المنقسم إلى مطلق التصور ومطلق التصديق، وهو المراد في قوله: والعلم ضربان.

ويطلق على المنقسم إلى تصور خاص وتصديق خاص، وهما اللذان يوجب كل واحد منهما لمن قام به تمييز لا يحتمل النقيض، وهو المختلف فيه عند المصنف، وهو الذي حده في قوله: وأصحها.

ويطلق على مطلق التصديق وهو المراد من قوله: ويسمى تصديقًا وعلمًا. ويطلق على تصديق يقينى، وهو المراد في قوله: وقيل إلى العلم به، فتخرج الأمارة.

وبعضهم جعل الاختلاف في العلم بالمعنى الأول، لا فيما ذكر المصنف، وهو خطأ، يعلم ذلك من طالع كلام إمام الحرمين، ومن طالع المستصفى.

قال إمام الحرمين والغزالي ومن تابعهما: إن لا يحد - أي حدًا حقيقيًا - لعسر تحديده، قال الغزالي: «أكثر المحسوسات مثل الروائح والطعوم يعسر تحديدها، لعسر الاطلاع على الذاتي المشترك والذاتي الأخص، فما ظنك

ص: 174

بالمعقولات» ، وقال غيره: إن في العلم إضافة أشبهت أن تكون ذاتية له أو عارضة، ولهذا اختلف فيه أجوهر هو أم عرض؟ ، وعلى أنه عرض أهو من مقولة الإضافة أم [من] مقولة الكيف أم [من] مقولة الانفعال؟ ، وإذا لم تتميز ذاتياته من عرضياته، عسر تحديده، [فلا يتأتى إلا نادرًا من مؤيد يعلم ذاتياته، فيكون في حكم العدم] ، فلا طريق إلا بأن نميزه عن غيره بالقسمة، بأن نأخذ المشترك بينه وبين غيره، ثم نأخذ المميز حتى يخرج لنا العلم من بينهما، فيكون ذلك رسمًا له.

ص: 175

والحق: أن العسر لا يوجب منع تحديده، إلا لمن لم يعلم من أي مقولة هو، يخرج من مذهب هؤلاء أنه كسبي يرسم ولا يحد، وقال الإمام فخر الدين الرازي: لا يحد - أي حقيقيًا ولا رسميًا - لأنه ضروري، واحتج على ذلك بوجهين: الأول: لو لم يكن ضروريًا، لكان كسبيًا، إذ لا واسطة، ولو كان كسبيًا لأمكن تحصيله بالمعرف، لإمكان اكتساب النظري بالمعرف، لكنه لا يكتسب من غيره، وإلا لزم الدور. بيان اللزوم؛ أن غير العلم لا يعلم إلا بالعلم، لامتناع تعريف الشيء بنفسه، فلو علم العلم بغيره لزم تقدم العلم بذلك الغير، ضرورة وجوب سبق العلم بالحد على العلم بالمحدود، لكن العلم بالغير متأخر عن العلم لأنه إنما يعلم به، فيتوقف العلم على ذلك الغير المتوقف على العلم، ويلزم الدور وهو باطل بما نقرر في علم الكلام.

وأجاب بعضهم: بأن غير العلم ينكشف بالعلم لا بالعلم بالعلم، والغير كاشف للعلم بالعلم، وليس بمحال أن يكون العلم كاشفًا عن غيره، وغيره كاشفًا عن العلم به.

وهو حسن، لكنه يغاير كلام المصنف بوجه ما.

ص: 176

وجواب المصنف: أن توقف تصور غير العلم على حصول العلم بذلك الغير لا على تصور العلم، أي يتوقف تصور الغير على علم جزئي وهو تعلق العلم بذلك الغير، لا على تصور حقيقة العلم، والتوقف على الغير حقيقة العلم لا حصول جزئي منه، وإنما يلزم الدور لو توقف تصور الغير على تصور حقيقة العلم، أما على [حصول] [تصور] جزئي من العلم فلا دور. فإن قيل: تصور غير العلم هو حصول العلم بغيره فتوقف على نفسه. أجيب: بأن تصور غير العلم أخص من حصول العلم بالغير، لانقسام حصول العلم بالغير إلى التصور والتصديق، ولا ضرورة في توقف الخاص على العام. قال: إلا أن تصور العلم يتوقف على تصور الغير، لأن تصور المحدود يتوقف على تصور الحد، وتصور الغير يتوقف على حصول العلم به، لا على حقيقة العلم [به] ، فلا دور.

والمصنف وضع الظاهر في قوله: ([غيره) موضع المضمر، ولو قال به لكان أحسن؛ لأن وضع الظاهر في قوله:(بغيره) موضع المضمر، ولو قال به لكان أحسن؛ لأن وضع الظاهر موضع المضمر قليل في كلامهم، ووقع في المنتهى وفي بعض النسخ.

ص: 177

وأجيب: بأن توقف تصور العلم على حصول العلم بغيره لا على تصوره أي تصور العلم يتوقف على تلعق العلم بالغير؛ لأنه إذا توقف على تصور حده الذي هو الغير، والغير متوقف على تعلق العلم به، صدق أن العلم يتوقف على تعلق العلم بالغير، وحصول العلم بالغير لا يتوقف على تصور العلم، لجواز حصول العلم بالشيء مع الذهول عن تصور ماهية العلم.

والضمير في قوله: (لا على تصوره) أي لا على تصور العلم بالغير، وإلا لتوقف على تصور العلم لأنه جزؤه، فيتوقف على نفسه.

واعلم أن قول من قال: هذا الدليل بعد سلامته عن المنع لا يفيد - لأنه لا يلزم من امتناع التحديد الضرورة - ساقط يعلم من تقريرنا للدليل المذكور.

الوجه الثاني: أن علمنا بوجودنا تصديق ضروري، فتكون تصوراته ضرورية؛ لأن ما يتوقف عليه الضروري أولى أن يكون ضروريًا، والعلم أحد تصورات هذا التصديق، فيكون ضروريًا.

وقد تقرر على وجه آخر، وهو أن نقول: علمي بوجودي علم خاص ضروري، وإذا كان الخاص ضروريًا، كان مطلق العلم ضروريًا، لاستحالة كون المركب ضروريًا وجزؤه / كسبيًا، وإلا لتوقف عليه؛ لأن المتوقف على المتوقف متوقف.

وأجيب عنه على التقرير الأول: بأنه لا يلزم من بداهة التصديق بداهة التصور؛ لأن التصديق البديهي هو الذي يكون تصور طرفيه كافيًا في الجزم بالنسبة بينهما، فقد تكون تصوراته كسبية، وقد تكون ضرورية، وقد

ص: 178

تكون مختلطة، مع أن التصديق لا يتوقف إلا على التصور بوجه ما، لا على تصور الحقيقة.

وأجيب عنه على التقرير الثاني: أن قولكم: علمي بوجودي علم خاص ضروري، فمطلق العلم ضروري، فإن عنيتم أن ماهيته متصورة بالضرورة فممنوع، وإن عنيتم أن ذلك حاصل بالضرورة فمسلم، ولا يلزم منه تصور مطلق العلم، بل حصول العلم الخاص يستلزم حصول العلم المطلق، وتصور العلم الخاص يستلزم تصور العلم المطلق، وأما حصول العلم فلا يستلزم تصور العلم.

قيل عليه: قولكم: لا يلزم من حصول أمر تصوره، لا يلزم من حصول أمر في الخارج تصوره، أما حصول أمر في الذهن، فإنه يستلزم تصوره؛ لأنه لا ينفك الحاصل في الذهن عن تصوره.

رد: بأنه قد ينفك؛ لأنه ما لم تلاحظ النفس ذلك الحاصل في الذهن لا يتحقق تصوره، وملاحظة النفس له ليس لازمًا لحصوله، فإنا نجد في أنفسنا أنه قد يحصل فيها شيء تصوره عينه بالذات ومغاير له بالاعتبار، والنفس لا تلاحظه ولا تعتبره.

وقوله: (ولا يقدم تصوره) إشارة إلى جواب سؤال، أي العلم يحصل باختيار صاحبه، وكلما هو كذلك فهو مسبوق بتصوره، لأن الأفعال الاختيارية مسبوقة بتصورها.

ص: 179

ورد: بأن حصول العلم لنا بالفيض [علينا] لا بالاختيار.

قال: (ثم نقول: لو كان ضروريًا لكان بسيطًا إذ هو معناه، ويلزم أن يكون كل معنى علمًا).

أقول: لما كان لا يلزم من إبطال الدليل إبطال المدلول، احتج الآن على كونه مكتسبًا بأنه مركب وكل مركب كسبي، بيان الصغرى من وجهين: الأول: أنه نوع من مقولة الكيف، أو من مقولة الانفعال على الرأيين فيكون داخلًا تحت أحد هذين الجنسين، وحينئذ لابد له من فصل.

الثاني: [أنه] لو لم يكن مركبًا لكان بسيطًا؛ إذ لا واسطة، ولو كان بسيطًا لكان كل معنى علمًا.

بيان اللزوم؛ أن كل علم معنى، فلو لم يكن كل معنى علمًا، لكان المعنى أعم من العلم، فكان العلم مركبًا من المعنى وأمر آخر مختص، والتقدير: البساطة.

وأما بيان بطلان الثاني؛ فلأن كثيرًا من المعاني ليست بعلوم، كالجود والشجاعة، وغيرهما.

وأما بيان الكبرى؛ فلأن المركب يتوقف تصوره على تصور أجزائه، وهي / غيره، وما توقف تصوره على تصور غيره فهو كسبي.

وقوله: (إذ هو معناه) بيان للملازمة، أي يلزم الضرورة البساطة؛ لأن البسيط نفس الضروري؛ لأن اشتراكهما في عدم التوقف لا يستلزم اتحاد

ص: 180

حقيقتهما، لجواز اشتراك المختلفات في لازم واحد.

رد الأول: بأنا لا نسلم أن العلم وجودي، سلمنا، ولا نسلم اندراجه تحت شيء من المقولات العشر، إذ لم يقم برهان على الانحصار.

سلمنا، ولا نسلم أن اندراجه تحت شيء منها من حيث أنه علم بشيء، فإنه من حيث إنه يحصل صورة الشيء عند العقل، يكون آلة ينظر به في الشيء، فيصير الشيء به معلومًا.

وبهذا الاعتبار لا يكون جوهرًا ولا عرضًا، ومن حيث إنه شيء حاصل عند العقل يكون عرضًا، لكن من هذه الحيثية يكون معلومًا لا علمًا.

سلمنا اندراجه من حيث إنه علم لا من حيث إنه كيف أو انفعال، ولا نسلم أنه [اندرج] اندراج النوع تحت الجنس، لجواز كونه [اندرج]

ص: 181

اندراج الشيء تحت العرض العام.

وأما رد ما ذكر في الكبرى، فلا نسلم أن ما يتوقف تصوره على تصور أجزائه يكون كسبيًا، لجواز كون الأجزاء أمورًا ذهنية متصورة بالبديهة، يلزم من تصورها تصوره بالبديهة.

قلت: ولو قدر على غير هذا الوجه لاندفع أكثر هذه الاعتراضات، وهو أن يقال: لو كان ضروريًا لكان بسيطًا، أي غير مركب بوجه لا من ذاتيات ولا من عرضيات، وإلا لتوقف عليها فيعرف بها، فلا يكون ضروريًا بنفسه لكن بالمعرف، ولا نزاع فيه، وكل تصور ضروري بما ذكرنا بسيط، وضرورة الأجزاء لا تجعل المحدود ضروريًا بنفسه، إذ ضرورته بضرورة ما تركب منه، فتتوقف ضرورته على ذلك، لتوقف المجموع على أجزائه، ولو كان [العلم] بسيطًا، لكان كل معنى علمًا، والتقرير ما مر.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المعنى عرضًا عامًا؟ .

قلنا: لو كان كذلك، لتركب منه والعارض لتوقفه عليه، فيحد رسميًا فلا ضرورة، ألا ترى [أن] الأجناس العالية مع عمومها وبساطتها بوجه مركبة مع أعراضها، فتحد رسميًا.

ص: 182

وما قيل من أنا نعلم ضرورة أن المعنى ليس بخارج عن العلم فيه نظر، ولو كان ذلك معلومًا بالضرورة ما اختلف في العلم، حتى قال قوم: هو جوهر وليس بعرض.

والحق أنه متى سلمت الشرطية الأولى انتهض الدليل؛ لأن المعنى ذاتي للعلم، إذ لو رفع عن الذهن ارتفع العلم، مع أن الفرض البساطة، فلا ذاتي له غيره، فيلزم من تحققه تحقق العلم، فيلزم أن يكون كل معنى علمًا.

وما قيل: لو كان خارجًا وهو عرض، لزم قيام العرض بالعرض، فباطل، وكذا قول من قال: اتفاقهم على أن بعض العلم ضروري تصورًا كان أن تصديقًا، ويكر على هذا الخلاف بالبطلان يعلم مما تقدم.

قال: (وأصح الحدود: صفة توجب تمييزًا لا يحتمل النقيض، فيدخل إدراك الحواس كالأشعري، وإلا زيد: في الأمور المعنوية.

واعترض على عكسه: بالعلوم العادية، فإنها تستلزم جواز النقيض عقلًا.

وأجيب: بأن الجبل إذا علم بالعادة أنه حجر، استحال أن يكون حينئذ ذهبًا ضرورة وهو المراد، ومعنى التجويز العقلي: أنه لو قدر لم يلزم منه محال لنفسه، لا أنه محتمل).

أقول: أشار إلى أنهم حدوه بحدود كثيرة مزيفة / فقال: وأصحها

ص: 183

بصيغة أفعل هنا ليست للمشاركة، وقوله:(صفة) كالجنس، وقوله:(توجب تمييزًا) إسناد للفعل إلى السبب، وإلا فالموجب هو الله تعالى، ومذهب الشيخ أن العلم الحاصل عقيب النظر بالفيض لا بالتولد، فتخرج القدرة والإرادة وغيرهما، مما لا يوجب لمن قام به أن يميز الأشياء، نعم يتميز في نفسه بها.

واعلم أن الفصل والخاصة يوجبان تمييز الشيء في نفسه، ويوجب حصولهما عند النفس تمييزًا للشيء عن غيره، لكن ذلك علم.

والحق أن معنى الحد يوجب لمن قالت به [أن يميز الأشياء] وإلا رد. وقوله: (لا تحتمل النقيض) يخرج الاعتقاد والظن والشك والوهم، فتدخل العلوم المستفادة من الحس الظاهر أو الباطن، فإنها علوم عند الشيخ،

ص: 184

وإن إدراك الحواس يوجب إدراك النفس، وإدراك النفس يوجب التصديق، ومن لا يراها علومًا لاحتمالها النقيض - إذ الحد قد يدرك الشيء على غير ما هو عليه - يزيد في الحد: في الأمور المعنوية؛ لأن العلم عندهم الصورة الكلية الحاصلة في العقل، ومن لا يصف الحواس بالإدراك يكون المعنى عنده: فيدخل إدراك النفس بواسطة الحواس.

واعلم أن هذا الحد للعلم المنقسم إلى تصور وتصديق خاصين، وهما اللذان يوجب كل واحد منهما لمن قام به أن يميز الأشياء على وجه لا يحتمل النقيض، فسقط ما اعترض به على المصنف، ولأن إدراك الحواس يحصل صورة الشيء، ويكون احتمال النقيض في التصور عدم كونه متصورًا على ما هو عليه، أو لأن التصور لا نقيض له يصدق عليه، أو نقول: الحد للتصديق اليقيني، ويكون المعنى: فيدخل التصديق بواسطة إدراك الحواس، فدخل تحت الحد.

وما قيل من أنه غير مطرد لدخول العقل، وغير منعكس لخروج الفقه، فغير وارد؛ لأن العقل ليس صفة توجب تميزًا، والفقه ليس بعلم بهذا المعنى. واعترض على عكس هذا الحد بالعلوم العادية، فإن العقل يحكم بأن العلم العادي يجوز أن يقع نقيض متعلقه، فإن الجبل إذا علم بالعادة أنه حجر جاز أم ينقلب ذهبًا عقلًا؛ لأن ذلك ممكن لذاته، والممكن جاز أن يقع بقدرة الفاعل المختار، ولو قال المصنف بدل يستلزم جواز النقيض: لجواز

ص: 185

النقيض، لكان أحسن.

وأجيب: بأن الجبل إذا علم بالعادة أنه حجر، استحال ألا يكون حجرًا إلا في العقل ولا في الخارج، حالة تعلق العلم بكونه حجرًا، وإلا لجاز اجتماع النقيضين، بخلاف الظن فإنه إذ ذاك يحتمل النقيض.

ومعنى التجويز العقلي: لو قدر نقيضه لم يلزم منه محال لنفسه؛ لأنه ممكن لذاته، لكن الممكن لذاته قد يمتنع لغيره وهو وجود مقابله، فتدخل العلوم العادية تحت الحد، لأنها لا تحتمل وقوع النقيض عقلًا ولا خارجًا لأجل الغير.

قيل: العادة تمنع من احتمال النقيض في الذهن، أما في الخارج فلا؛ لأن غايتها الجزم، ولا يلزم مطابقته.

وأجيب: بأن النفس اكتفت بالعادة أن النقيض وإن كان ممكنًا لذاته، لكنه ممتنع لغيره. قلت: لقائل أن يقول:

لما كانت العادة قابلة للانخراق، لم تكن مانعة من احتمال نقيض المعتاد في الخارج عند الجزم به، لاحتمال أن تكون منخرقة في تلك الحال، بل وقع؛ لأن الصحابة كانوا يرون رجلًا لا يشكون أنه دحية وكان

ص: 186

جبريل، غايته أن النفس لتمكنها وعدم اطلاعها على الخرق لا تحتمل النقيض عندها، أما / لأنه لا يحتمل في الخارج فلا.

قال بعضهم: الحكم على الحجر حالة المشاهدة أنه حجر علم، وبعد الغيبة الحكم عليه بذلك اعتقاد، لاحتمال أن لا يكون حجرًا حينئذ.

قال: (واعلم أن ما عنه الذكر الحكمي، إما أن يحتمل متعلقه النقيض بوجه ما أو لا، والثاني العلم.

والأول، إما أن يحتمل النقيض عند الذاكر لو قدره أو لا، والثاني الاعتقاد، فإن طابق فصحيح، وإلا ففاسد.

والأول، إما أن يحتمل النقيض وهو راجح أم لا.

والراجح الظن، والمرجوح الوهم، والمساوي الشك، وقد علم بذلك حدودها).

أقول: قال في المنتهى: «واعلم أن الذكر النفسي إما أن يحتمل متعلقه النقيض [بوجه أو لا]» ، وعدل عنه هنا؛ لأن الذكر النفسي حكم، والشك والوهم اختلف في مقارنتهما الحكم.

واعلم أن الحكم الذي هو إيقاع النسبة أو انتزاعها تابع لتمييز تلك

ص: 187

النسبة؛ لأن الحكم بوقوع الشيء فرع تميزه عن غيره؛ لأنا إذا أدركنا [أولًا] نسبة بين شيئين بنفي أو إثبات، ثم ميزنا أن الحاصل مثلًا هو الإثبات، حكمت النفس بأن الإثبات هو المطابق لما في الخارج، فما عنه الذكر الحكمي هو تمييز النسبة، والذكر الحكمي يعم النفسي واللفظي، ومتعلق ما عنه الذكر الحكمي النسبة المعينة بنفي أو إثبات لا ما في نفس الأمر، لا لما قيل بأن ما في نفس الأمر لا يحتمل النقيض، لأنه قد يحتمله بتشكيك مشكك، بل لأنه قد يتعلق بغير ما في نفس الأمر عند عدم المطابقة والعلم الذي خرج حده هنا أخص من الأول، لتعلق ذلك بالمفرد.

واحتاج المصنف إلى هذا التقسيم لوقوع الظن في تعريف النظر، وأيضًا سائر الإدراكات يفهم من قوله في حد العلم:(صفة توجب تميزًا لا يحتمل النقيض) ، فلذلك شرع في تعريف الجميع بالتقسيم.

لا يقال: قوله: (لو قدر لم يلزم من محال لنفسه) مناف لما هنا، فإن جواز النقيض بتقدير المقدر ينافي عدم احتمال النقيض عند الذاكر لو قدره.

لا لما قيل: إن التجويز العقلي من غير الذاكر فلا منافاة؛ بل لأن العلوم العادية لا تحتمل النقيض عند الذاكر لو قدر النقيض لا عقلًا ولا خارجًا [ولا عند غيره] لأجل الغير، وإلا لجاز اجتماع النقيضين، وإن جوزنا النقيض نظرًا إلى ذاته.

ص: 188

إذا ثبت هذا، فما عند الذكر الحكمي ولا يحتمل متعلقه النقيض بوجه لا في الخارج لمطابقته، ولا عند الذاكر لكون الحكم جزمًا، ولا بتشكيك مشكك لكونه ثابتًا، هو العلم.

وإن احتمل متعلقه النقيض بوجه، فإما أن يحتمل ذلك عند الذاكر لو قدر النقيض أو لا، والثاني الاعتقاد وهو: ما عنه ذكر حكمي ولا يحتمل متعلقه النقيض عند الذاكر فقط، فالمعتبر فيه الجزم فقط، والصحيح منه ما عنه ذكر حكمي ولا يحتمل متعلقه النقيض عند الذاكر بتقديره فقط مع كونه مطابقًا، والفاسد ما عنه ذكر حكمي ولا يحتمل متعلقه النقيض عند الذاكر بتقديره فقط مع عدم المطابقة، والأول وهو ما يحتمل النقيض عند الذاكر لو قدر النقيض يلزم منه أن يحتمل النقيض بتشكيك مشكك، ويجوز احتمال نقيضه في الخارج، فهذا انتفى فيه الجزم والثبات دون المطابقة، وهذا ثلاثة أقسام:

- فما عنه الذكر الحكمي واحتمل متعلقه النقيض عند الذاكر بتقديره مع كونه راجحًا هو الظن.

- وما عنه ذكر حكمي واحتمل متعلقه النقيض عند الذاكر بتقديره مع كونه مرجوحا هو الوهم.

- وما عنه ذكر حكمي واحتمل متعلقه النقيض عند الذاكر بتقديره [النقيض] مع تساوي طرفيه هو الشك.

ص: 189

وعُلم بهذا الحصر حدود سائر / الأقسام، يعني حدودًا رسمية، وهو ظاهر.

قال: (والعلم ضربان: علم بمفرد، ويسمى تصورًا ومعرفةً.

وعلم بنسبة، ويسمى تصديقًا وعلمًا).

أقول: لما كان علم الشرع للفكر فيه مجال في اكتساب بعض تصوراته وتصديقاته، احتيج إلى قواعد من علم المنطق لكيفية اكتسابها بالحدود والدلائل، ولو أحالوها على كتب الأوائل لعسر على كثير من علماء الشرع الشروع فيما ليس شرعيًا مع عدم الاحتياج إلى كثير منها في الشرع، فانتزع منها القدر المحتاج وجعل مقدمة للأصول التي هي أدلة الفقه، صونًا للذهن عن الغلط في أصول الأحكام الشرعية، فهي [من] تتمة مبادئ هذا الكتاب، مع أنه لا بيان لها في علم شرعي مشهور، فبينها ها هنا كما فعل الغزالي.

قوله: (العلم ضربان) تقسيم للعارض الذي هو العلم بالمعروض الذي هو المفرد وإيقاع النسبة، والعلم المقسم هو الصورة الحاصلة عند الذات المجردة، وهذا خير من قولهم: حصول صورة الشيء عند العقل، لخروج علم الواجب، وخير من قولهم: حصول صورة من الشيء عند العقل، لما

ص: 190

تقدم [ولخروج شيء من الصورة] وأيضًا [الأشياء] التي لا وجود لها في الخارج ليست [أشياء] انتزعت هذه منها، مع أن علم الله تعالى غير منتزع من شيء، والألف واللام في الشيء في الرسمين معًا ليست للعهد فلا يرد قولهم: صورة الشيء إن لم تكن مطابقة له، لم تكن صورة له.

إذا عرفت هذا فالعلم بهذا المعنى يصدق على الجهل والتقابل بين المفرد، وإيقاع النسبة تقابل العدم والملكة، وإنما حملنا قوله:(وعلم بنسبة) على إيقاع نسبة؛ لأن العلم بنفس النسبة تصور، فما ليس إيقاعًا بنسبة مفرد، سواء كان مركبًا أم لا، والعلم المتعلق به في الحالين يسمى تصورًا، ولهذا كان العلم المتعلق بنفس النسبة تصورًا، والمنطقيون يسمون ما يتعلق بالمفرد تصورًا لأنه ليس إلا حصول صورته، ويسمون ما تعلق بإيقاع نسبة أو انتزاعها تصديقًا؛ لأنه ليس إلا الحكم بأن هذا مطابق لما في الخارج أو لا.

وسمي تصديقًا له بأشرف عارضيه، وبعض الأصوليين يسمون الأول معرفة؛ لأن العلم يتعلق بالنسبة، فلهذا يتعدى إلى مفعولين، والمعرفة تتعلق بالمفرد، فلهذا تتعدى إلى واحد فقط، والتصديق نفس الحكم عند

ص: 191

الفارابي وابن سيناء، وعند الإمام فخر الدين ومن تابعه الحكم جزء التصديق، والمصنف لم يصرح بواحد من الرأيين.

فقيل على الأول: الحكم من مقولة أن يفعل، والعلم من مقولة أن ينفعل، أو من مقولة الكيف، وأيًا ما كان لا يندرج الحكم تحته.

وأجاب بعض أهل العصر: بأن النفس ليس لها تأثير، وإنما لها قبول وإذعان وإدراك لوقوع النسبة، فالحكم من مقولة الكيف، فدخل تحت العلم.

قال: لأن الأفكار ليست موجدة للنتائج، بل معدات للنفس لقبول الفيض، فدل ذلك على أن الحكم صورة إدراكية، إذ لو كان فعل النفس كانت موجدة للنتائج، وفعل الشخص لا يحصل من غيره.

ص: 192

قلت: فيه نظر؛ لأن الحاصل من الله تعالى الإقدار، وهو معنى قولهم: النتيجة تفيض، وإلا لم يضف إلينا فعل؛ إذ الجميع فعل الله.

والحق أن الذي يخرجنا عن هذا، أن نقسم العلم كما فعل ابن سينا إلى تصور ساذج، وإلى تصور معه تصديق.

قيل عليه: الإدراك الساذج إن كان إدراك الحقيقة من حيث هي والمقسم كذلك، انقسم الشيء إلى نفسه وغيره، وإن كان الإدراك المقيد بعدم الحكم، لزم شرط الشيء بنقيضه إن جعلنا التصور / شرط التصديق، أو تقوم الشيء بالنقيضين إن جعلناه جزؤه.

وجوابه: أنه الإدراك الذي لا يعتبر معه الحكم، ولا امتناع في تقوم الإدراك الذي يعتبر معه الحكم بالإدراك الذي لا يعتبر معه الحكم، كما أنه لا امتناع في تقوم الأربعة - التي يلحقها الزوج - بالثلاثة التي لا يلحقها.

سلمنا، ونختار الثاني، والموجود في التصديق ما صدق عليه التصور لا مفهومه؛ لأن كثيرًا من يحكم ولا يعرف مفهوم التصور، ولا يلزم أن يكون عدم الحكم معتبرًا في التصديق، وإنما يلزم ذلك لو كان مفهومه ذاتيًا لما تحته، أما مع جواز كونه عرضيًا فلا.

ص: 193

قيل على القائل الحكم جزء التصديق: المركب إن لم تكن له صورة اجتماعية لم يكن شيئًا واحدًا، وإن كانت فحينئذ إن اعتبرت يكون التصديق مركبًا من العلم والمعلوم؛ لأن الصورة الاجتماعية لا تكون علمًا، والمركب من العلم وغيره ليس علمًا، وإن لم تعتبر كان التصديق علومًا.

وأجيب: نختار الثاني، فيكون علومًا تصورية، وعلمًا واحدًا تصديقيًا.

قال: (وكلاهما ضروري ومطلوب.

فالتصور الضروري: ما لا يتقدمه تصور يتوقف عليه، لانتفاء التركيب في متعلقه، كالوجود والشيء.

والمطلوب بخلافه، أي تطلب مفرداته بالحد).

أقول: يعرف الحصر من تعريفهما، وليست التصورات والتصديقات كلها كسبية وإلا لما حصل لنا شيء بدون الكسب، ولا ضرورية وإلا لما احتجنا إلى اكتساب، بل بعضها ضروري وبعضها نظري.

قيل: تقسيم كل واحد منهما إلى ضروري ونظري، بل تقسيم العلم إلى ذلك فاسد؛ لأن مورد القسمة علم، وكل علم إما ضروري وإما نظري، فمورد القسمة إن كان ضروريًا لم ينقسم إلى النظري، وإن كان نظريًا لم ينقسم إلى الضروري.

وأجيب: بأن المقسم ما صدق عليه علم، وبعضه ضروري وبعضه

ص: 194

نظري، مع أن الوسط لم يتحد؛ لأن [محمول] مورد القسمة مفهوم، والعلم والحكم في الكبرى على الأفراد، ولو سلم، اخترنا أنه ضروري. وقوله: لا يصدق على [النظري] نمنعه؛ لأن كونه ضروريًا وصف له، ولا يلزم من صدق شيء على شيء صدق وصفه عليه، كالأبيض الذي يوصف له الحيوان، والحيوان صادق على الزنجي، ولا يصدق الأبيض عليه، وذلك لأن طبيعة الأعم يجب اتصافها بالأمور المتقابلة، لتحققها في الصور المتعددة، فالتصور الضروري ما لا يتقدمه تصور يتوقف عليه، فيشمل ما لا يتقدمه تصور أصلًا، وما يتقدمه إلا أنه لا يتوقف عليه.

وقوله: [لانتفاء التركيب في متعلقه] تعليل لقوله: لا يتقدمه تصور [يتوقف عليه الاستدلال، لأن الحد لا يحصل ببرهان] كما سيأتي، أي يجب أن ينتفي التركيب مطلقًا عن متعلق التصور الضروري، إذ لو تركب بوجه ولو من الداخل والخارج، لتوقف تصوره على تصور سابق عليه، فحينئذ الضروري ما كان بسيطًا بكل اعتبار، كالوجود والشيء.

قيل عليه: الكلي متفرع من الجزئي، فتصور الوجود والشيء جزئيًا غير

ص: 195