الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخامس عشر: ارم من الرامي.
ثم المشتق قد يطرد كأسماء الفاعلين والمفعولين، والصفة المشبهة، واسم التفضيل، فإن الضارب شيء له الضرب يطلق على كل من له ذلك، وقد لا يطرد كالقارورة والدبران، فإنها لا تطلق على كل ما يكون مقرًا للمائعات، بل تختص بالزجاجة المخصوصة، وكذا الدبران لا يطلق على كل ذي دبور، بل يختص بمجموع كواكب خمسة من الثور، وعلته أن وجود معنى الأصل في محل التسمية قد يعتبر من حيث إنه داخل في التسمية فهذا يطرد، وقد يعتبر من حيث إنه مصحح لها مرجح لها من غير دخوله في التسمية، والمراد ذات مخصوصة فيها المعنى لا من حيث هو فيها، بل باعتبار خصوصها، فهذا لا يطرد.
قال: (مسألة:
اشتراط بقاء المعنى في كون المشتق حقيقة
.
ثالثها: إن كان ممكنًا اشترط.
المشترط: لو كان حقيقة وقد انقضى، لم يصح نفيه.
وأجيب: بأن المنفي الأخص، فلا يستلزم نفي الأعم.
قالوا: لو صح بعده لصح قبله.
أجيب: إذا كان الضارب من ثبت له الضرب، لم يلزم).
أقول: المشتق عند وجود معنى المشتق منه كالضارب حالة الضرب
حقيقة اتفاقًا، وقبل وجوده كالضارب لمن لم يضرب / مجاز اتفاقًا، وبعد وجوده منه وانتفائه عنه كالضارب لمن قد ضرب وهو الآن غير ضارب.
قيل: إطلاق الضارب عليه بطريق المجاز، وهو مذهب المتأخرين.
الثاني: أنه بطريق الحقيقة، وهو مذهب ابن سينا.
الثالث: إن كان المشتق مما يمكن بقاؤه كقائم وقاعد فإنه مجاز، فإن كان مما لا يمكن بقاؤه كالمتحرك والمتكلم فهو حقيقة.
وهذا معنى قوله: (اشتراط بقاء المعنى في كون المشتق حقيقة) أي صدق المشتق حقيقة مشروط ببقاء معنى المشتق منه.
وقيل: لا، وقيل: بالتفصيل.
والمشترط مطلقًا لا يصدق عنده المتكلم والمخبر حقيقة إلا حالة التكلم
ولو عند آخر جزء منه، وأصحاب المذهبين الباقيين يصدق عندهما بعد ذلك. وكأن المصنف مال إلى الوقف.
احتج المشترط: بأنه لو كان الإطلاق بعد انقضاء المعنى بطريق الحقيقة لم يصح نفيه واللازم باطل، أما الملازمة؛ فلأن الحقيقة لا يصح نفيها لما تقدم. وأما [بيان] بطلان التالي؛ فلأنه عند انقضاء الضرب يصدق [أنه] ليس بضارب في الحال، وإذا صدق ذلك، صدق ليس بضارب مطلقًا؛ لأن النفي في الحال أخص من النفي في الجملة، وإذا ثبت الملزوم ثبت اللازم، وإذا صدق ليس بضارب لا يصدق ضارب، وهو المدعى.
أجيب: بمنع انتفاء التالي.
قوله: إذا صدق ليس بضارب في الحال صدق ليس بضارب مطلقًا، نمنعه، فإن الضارب في الحال أخص من الضارب مطلقًا، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم.
قيل على الجواب: المراد النفي بالحال لا نفي المقيد بالحال، فيصدق على تقدير صدقه ليس بضارب مطلقًا؛ لأن النفي المطلق لازم للنفي المقيد.
وجوابه حينئذ: لا نسلم حينئذ صدق قولنا: ليس بضارب في الحال؛ لأنه يكون معناه: زيد ليس في الحال بضارب، وهو عين المتنازع فيه.
قيل عليه أيضًا: إذا صدق زيد ليس بضارب في الحال، وجب أن يصدق زيد ليس بضارب مطلقًا، وإلا صدق نقيضه وهو: ضارب دائمًا، وهو ينافي ليس بضارب في الحال الذي ثبت صدقه بالاتفاق.
وأجيب: بأنه إن أراد بقوله: ليس بضارب مطلقًا، أنه ليس بضارب في شيء من الأزمنة، فلا نسلم صدقه على تقدير صدق ليس بضارب في الحال.
قوله: وإلا لصدق نقيضه، وهو زيد ضارب دائمًا.
قلنا: لا تناقض بين الدائمتين، وإن أراد أنه ليس بضارب في الجملة فصدق مسلم على تقدير صدق المذكور، لكن لا يلزم من صدق ليس بضارب مطلقًا كذب ضارب مطلقًا؛ لأن المطلقين لا يتناقضان.
قيل: يتنافيان للتكاذب بينهما عرفًا.
رد: بأنه لا تناقض من حيث الوضع وإن تنافيا عرفًا من حيث أن استعمال المتخاطبين يدل على توافقهما على إرادة زمان معين، والمطلوب في التناقض الأول لا الثاني.
احتج ثانيًا: بأنه لو صح إطلاق الضارب حقيقة باعتبار [ما قبله، لصح باعتبار ما بعده] واللازم باطل، أما الملازمة؛ فلأنه يصح باعتبار الحال. فقيد كونه في الحال، إما أن يعتبر في المصحح للإطلاق، فتنتفي الصحة باعتبار ما قبله لانتفائه وهو خلاف الفرض، أو يلغى فتتحقق الصحة باعتبار ما بعده، لتحقق الضرب بعده.
أجاب: بمنع الملازمة، ولا يلزم من عدم اعتبار هذا القيد / عدم اعتبار غيره، إذ المشترط بين الحال والماضي وهو كونه ثبت له الضرب.
وفي نفس العبارة مناقشة؛ لأن من ثبت له الضرب الماضي لا الحال، وأيضًا الضارب من له الضرب، إذ لو كان من ثبت له الضرب، لزم دخول الزمان في مفهومه وانتقض تعريف الفعل به.
قال: (النافي: أجمع أهل العربية على صحبة «ضارب أمس» ، وأنه اسم فاعل. أجيب: مجاز، كما في المستقبل باتفاق.
قالوا: صح مؤمن وعالم للنائم.
أجيب: مجاز؛ لامتناع كافر لكفر تقدم.
قالوا: يتعذر في مثل متكلم ومخبر.
أجيب: بأن اللغة لم تبن على المشاحة في مثله، بدليل صحة الحال.
وأيضًا: فإن يجب أن لا يكون كذلك).
أقول: احتج النافي للاشتراط: بأن أهل العربية أجمعوا على صحة ضارب أمس، وأنه اسم فاعل، والأصل في الإطلاق الحقيقة.
أجيب: بأنه مجاز، [بدليل إجماعهم على صحة ضارب غدًا، وعلى أنه اسم فاعل، مع أنه مجاز] اتفاقًا.
وفيه نظر؛ لأن الدليل دل عليه، وفي المستقبل الإجماع منع منه، وفيه
تقليل المجاز، ولا يلزم الاشتراك لجواز كونه للمشترك بين الحال والماضي.
احتج النافي أيضًا: بأنه لو لم يصح الإطلاق بعد انقضاء المعنى، لم يصح إطلاق مؤمن وعالم على النائم، لخلوه حينئذ عن الإيمان والعلم، لكنه يصح والأصل الحقيقة.
أجيب: بأن إطلاقه عليه حالة النوم مجاز، إذ لو كان حقيقة لاطرد، فكأن من تقدم منه كفر كافرًا مؤمنًا حقيقة في حال واحدة، وما قيل من عدم الاطراد إنما هو لمانع من الشرع فلا يقدح في كونه حقيقة لما تقدم، ساقط بما تقدم أيضًا، وبأن اللازم اتصافه بهما معًا في حالة واحدة، والمنع إنما هو من الإطلاق فقط.
احتج ثالثًا: بأنه لو اشترط بقاء المعنى لم يكن مثل: متكلم ومخبر حقيقة، واللازم حروف تنقضي أولًا فأولًا ولا تجتمع في وقت، فقبل حصولها لم تتحقق وبعده قد انقضت وليس بمجاز، لأنه لم يوضع لغير ذلك.
أجيب: بمنع الملازمة، وإنما يلزم ذلك لو وجب وجود ما منه الاشتقاق بتمامه، وليس كذلك بل بقاء معنى المشتق منه شرط إذا أمكن وجود المعنى بتمامه، وبقاء الجزء الأخير منه شرط إذا تعذر اجتماع أجزاء المعنى، واللغة لم تبن على المشاحة [بدليل فعل الحال حقيقية] ، بدليل صحة يتكلم ويخبر الذي هو حقيقة اتفاقًا، فلو كان ذلك شرطًا لم يكن حقيقة بعين ما ذكرتم.
أو نقول: وإلا لم يكن فعل الحال حقيقة؛ لأن الزمان غير قار الذات، فليس الموجود منه إلا جزء واحد، مع أنه يطلق الحال على زمان الفعل الحاضر حقيقة، هذا جواب من جانب المشترط مطلقًا.
ثم أجاب من جانب من فصل، فقال: يجب، إلا أن يكون بقاء المعنى شرطًا فيما لا يمكن بقاؤه، بل يكون شرطًا فيما يمكن بقاؤه.
قال: (مسألة: لا يشتق اسم فاعل لشيء والفعل قائم بغيره، خلافًا للمعتزلة.
لنا: الاستقراء.
قالوا: ثبت ضارب وقاتل، والضرب والفعل للمفعول.
قلنا: القتل التأثير، وهو للفاعل.
قالوا: أطلق الخالق على الله تعالى باعتبار المخلوق وهو اللائق؛ لأن الخلق المخلوق، وإلا لزم قدم العالم أو التسلسل.
وأجيب: بأنه ليس بفعل قائم بغيره.
وثانيًا: أنه للتعلق / الحاصل بين المخلوق والقدرة حال الإيجاد، فلما نسب إلى الباري صح الاشتقاق جمعًا بين الأدلة).
أقول: لا يشتق اسم فاعل لشيء والصفة المشتق منها قائمة بغير ذلك الشيء، خلافًا للمعتزلة حيث قالوا: الله تعالى متكلم بكلام خلقه الله في الشجرة، ثم لا يسمون ذلك الجسم متكلمًا؛ لأن المتكلم عندهم من فعل
الكلام لا من قام به، كما لو خلق الرزق في محل، فإنه يقال للخالق رازق لا للمحل.
لنا: الاستقراء، فإنا تتبعنا أوضاع العرب ولم نعثر على صورة وُحد الاشتقاق لها والفعل قائم بغيرها وذلك كاف، إذ المراد غلبة الظن؛ لأنها من مباحث الألفاظ.
احتج المعتزلة: بأنه اشتق قاتل وضارب للفاعل، من القتل والضرب وهما قائمان بالمفعول لا بالفاعل؛ لأنهما أثران حاصلان في المفعول.
أجاب: بأنا لا نسلم أن القتل هو الأثر بل هو التأثير، والتأثير قائم بالفاعل، والتأثر والانفعال هو القائم بالمفعول.
قيل: التأثير غير التأثر، إذ لو كان غيره فإما أن يكون وجودًا أو اعتباريًا، والأول باطل، وإلا لكان أثرًا أيضًا لكونه صادرًا عن الفاعل، فيستدعي تأثيرًا سابقًا ويتسلسل، ويلزم انحصار ما لا يتناهى بين حاصرين: الأثر، ومؤثره.
والثاني يستلزم المطلوب؛ لأنه اشتق اسم فاعل لشيء، والصفة غير قائمة به.
أجيب أولًا: بأنه تشكيك في الضروريات؛ لأنا نفرق بين التأثير والتأثر بديهة.
سلمنا، ونختار الأول، ويكون أثرًا قائمًا بالفاعل وتأثيره غير زائد عليه إذ الفرض أن بعض التأثيرات غير الأثر لا كلها.
سلمنا أن تأثيره زائد عليه، ونمنع بطلان التسلسل من جانب المعلولات؛ لأن البرهان إنما قام على امتناعه في العلل.
وفيه نظر؛ للزوم انحصار ما لا يتناهى بين حاصرين.
سلمنا، ونختار الثاني، وهو وإن كان اعتباريًا لكن نسبته بين الفاعل والمفعول، فله تعلق بالفاعل فاشتق له منه، إذ القائم بالقائم بالشيء قائم بذلك الشيء، ثم نقول: لو كان عينه افتقر الشيء إلى نفسه؛ لاحتياج الأثر إلى التأثير بديهة، وإلا لما وجدا.
احتجوا ثانيًا: بأنه أطلق الخالق على الله تعالى باعتبار الخلق وهو المخلوق إذ لو كان غيره لكان هو التأثير، فإما أن يكون قديمًا أو حادثًا، والأول باطل وإلا لزم قدم العالم؛ لأنه نسبة بين الخالق والعالم، وإذا كانت النسبة قديمة يلزم قدم المنتسبين ضرورة تأخرها عنهما، وإن كان حادثًا افتقر إلى تأثير آخر ولزم التسلسل، فقد أطلق الخالق على الله تعالى باعتبار المخلوق، وهو غير قائم به.
أجاب بجوابين:
أحدهما: أنه غير محل النزاع؛ إذ محل النزاع فعل قائم بالغير وهذا ليس كذلك بل هو نفس الغير، فلا يلزم من جواز الاشتقاق باعتبار الخلق الذي هو نفس الغير جواز الاشتقاق مع قيام الفعل بالغير.
وفيه نظر؛ لأنه قد يكون فعلًا قائمًا بالغير كضرب زيدًا مثلًا فإنه مخلوق لله تعالى، فيطلق الخالق على الله تعالى باعتبار خلقه ضرب زيد، وخلقه ضرب زيد نفس ضرب زيد بما سلمتم من أن نفس الخلق نفس المخلوق وهو قائم بغيره تعالى. وأيضًا إنما تمسكوا بالمذكور على جواز الاشتقاق، مع أن الفعل لا يكون قائمًا به، لا على جواز الاشتقاق مع أن الفعل قائم بغيره /.
والجواب الثاني: أن الخلق عبارة عن التعلق الحادث، فإن للقدرة تعلقًا حادثًا، وذلك التعلق إذا نسب إلى الأثر فهو صدوره عن المؤثر، وإذا نسب إلى القدرة فهو إيجابها له، وإذا نسبت إلى المؤثر فهو فعله، فالخلق كون قدرته تعالى تعلقت وهذه النسبة قائمة بالخالق وباعتبارها اشتق له، فصح ما ذكرنا، لأنا لا نعني به كونها صفة حقيقية وسائر الإضافات قائمة بمحالها، وصح ما ذكرتم أيضًا على أنه ليس أمرًا مغايرًا للمخلوق، فيحمل عليه جمعًا بين الأدلة، إذ لو حمل على أنه إطلاق الخالق عليه باعتبار المخلوق بطل الاستقراء، ولو حمل على أنه فعل قائم به الحقيقة كما ذكرنا أولًا، يلزم إهمال دليليكم، والتعلق لما لم يكن وجوديًا لم يتصف بقدم ولا حدوث، لأنهما من أقسام الموجود، فالحلق منع الملازمة.
قال: (مسألة: الأسود ونحوه من المشتقات يدل على ذات متصفة بسواد لا على خصوص من جسم أو غيره، بدليل صحة الأسود جسم).
أقول: الأسود ونحوه من المشتقات كالأحمر والأبيض يدل على ذاتٍ ما
متصفة بالمشتق منه، لا على خصوصية تلك الذات من جسمية أو غيرها، فإن علم شيء من ذلك فإنما هو بدلالة الالتزام، وذلك أن العرض لا يقوم بعرض، ويدل على ذلك أن قولنا: الأسود جسم، كلام مفيد، فلو دل الأسود على خصوص الجسم، لكان المعنى: الجسم ذو السواد جسم، فيكون تكرارًا بلا فائدة، ولو دل على غير الجسم، لكان المعنى: غير الجسم الأسود جسم، فيكون تناقضًا.
قيل: إنما يلزم التكرار لو دل عليه مطابقة، أما إذا دل عليه تضمنًا فلا، كما يقال: الإنسان حيوان، مع أن معناه: الحيوان الناطق حيوان، ولا يعد تكرارًا.
وأيضًا: يصح أن يقال: الأسود ذات، مع أنه يدل على ذات متصفة بسواد، فيكون معناه: الذات الأسود ذات، ولا يعد تكرارًا، بل الأولى في عدم دلالته على خصوص الجسم أو غيره النقل، فإنه وضع لشيء متصف بسواد أعم من أن يكون جسمًا أو غيره.
وفيه نظر؛ لأن الإنسان حيوان وإن صح الحمل، لكنه غير مفيد بخلاف المذكور. وكذا الثاني أيضًا، نمنع كونه مفيدًا من غير تكرار، على أنا نمنع دلالة الإنسان على الحيوان الناطق لغة.
وفي لفظ المصنف مناقشة، إذ الأحمر لا يدل على ذات متصفة بسواد.
قال: ([مسألة]: لا تثبت اللغة قياسًا خلافًا للقاضي وابن سريج، وليس الخلاف في نحو: رجل، ورفع الفاعل.
أي لا يسمى مسكوت عنه إلحاقًا بتسمية لمعين لمعنى يستلزمه وجودًا وعدمًا، كالخمر للنبيذ للتخمير، والسارق للناش للأخذ خفية، والزاني للائط للوطء المحرم، إلا بنقل أو استقراء التعميم.
لنا: إثبات اللغة بالمحتمل).
أقول: هذه كالخاتمة للمشتق من حيث أطلق الاسم في كل صورة وجد فيها المشترك، واختلف في جواز إثبات اللغة بالقياس.
فمنعه الحنفية، وأكثر الشافعية، وجماعة / من الأدباء.
[واختاره المصنف. وجوزه القاضي أبو بكر منا.
وابن سريج من الشافعية، وأكثر الفقهاء، وأكثر الأدباء].
ثم حرر المصنف محل الخلاف فقال: ليس الخلاف فيما ثبت تعميمه بالنقل كالرجل والضارب، إذ الرجل موضوع لواحد من ذكور بني آدم أي واحد كان، وكذا الضارب وما في معناه لأنه الموصوف بتلك الصفة، فهو موضوع لكل من تحقق فيه معنى المشتق منه. وليس الخلاف فيما ثبت تعميمه بالاستقراء كرفع الفاعل ونصب المفعول فإنا إذا لم نسمع رفع الفاعل مثلًا منا لعرب لا نرفعه بالقياس، بل تتبعنا أوضاعهم فوجدناهم يرفعون كل ما أسند الفعل أو شبهه إليه وقدم عليه، فعلمنا أن كل فاعل مرفوع.
ثم قال: (أي لا يسمى مسكوت عنه) فأي تفسير يعني أن محل الخلاف هل يسمى مسكوت عنه باسم إلحاقًا له بمعين سمي بذلك الاسم، لمعنى تدور معه التسمية بذلك الاسم في غير المسكوت عنه وجودًا وعدمًا، فيظن أنه ملزوم للتسمية، وأنه حيث ما وجد وجدت التسمية به.
فقوله: «لا يسمى مسكوت عنه» ، بدل من قوله:«لا تثبت اللغة قياسًا» ، و «إلحاقًا» مفعول من أجله وبه يتعلق بتسمية، ويصح أن يتعلق بلا
يسمى، و «لمعين» يتعلق بتسمية، و «لمعنى» يتعلق بلا يسمى ولا يتعلق بتسمية، إذ لم يتحقق أن التسمية لأجل المعنى، والضمير في «يستلزمه» يعود على الاسم الذي هو معنى التسمية.
وهذا كتسمية النبيذ خمرًا إلحاقًا له بالعقار، لأجل التخمير الموجود فيهما الذي دارت معه التسمية، فماء العنب إذا لم توجد فيه لا يسمى خمرًا، وإذا وجدت سُمي به، وإذا زالت سُمي خلًا، وكذا تسمية النباش سارقًا للأخذ خفية، وتسمية اللائط زانيًا للإيلاج المحرم.
وقوله: (إلا بنقل أو استقراء التعميم) يصح أن يكون متصلًا من قوله: لا تثبت اللغة إلا ننقل أو استقراء التعميم، فلا تثبت قياسًا.
وليس الخلاف في [نحو] رجل، ورفع الفاعل؛ لأن الأول بالنقل، والثاني بالاستقراء، ويصح أن يكون استثنى من لا يسمى مسكوت عنه إلا بنقل التعميم أو استقراء التعميم، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه؛ لأنه وإن سكت عن هذا الشخص مثلًا لكن التعميم منقول عنهم، وإن لم يظهر ذلك وحملنا النقل على التنصيص عليه عينًا لم يكن مسكوتًا عنه، فيكون الاستثناء منقطعًا.
وقيل: إنه راجع إلى المثل، أي إلا أن يثبت في شيء من هذه الصور نقل أو استقراء فيخرج عن محل النزاع، ولا يكون المثال مطابقاُ ولا يضر ذلك، إذ المراد بالمثال التفهيم لا التحقيق.
احتج: بأنه لو جاز القياس في اللغة، لكان إثباتًا للغة بالمحتمل واللازم
باطل، أما الملازمة؛ فلأن الواضع يجوز أن يكون الحامل له على التسمية وجود المعنى المشترك، ويجوز أن يكون الحامل له على التسمية معنى يختص بذلك المعين، ولا ترجيح لأحدهما. وأما بطلان التالي؛ فبالاتفاق.
وقد يقرر بوجه آخر وهو: أنه يحتمل أن يكون الوصف الجامع الذي به التعدية دليلًا على التعدية، ويحتمل أن لا يكون لاحتمال تصريحهم بالمنع، كما منعوا طرد الأدهم، والأبلق، والأحول، والأخيل، والقارورة، فعند السكوت يبقى على احتمال المنع.
وأما الثانية؛ فلأنه بمجرد احتمال وضع / اللفظ للمعنى، لا يصح الحكم بالوضع فإنه تحكم. وأيضًا:[كان] يجب الحكم بوضع اللفظ بغير قياس إذا قام الاحتمال وهو باطل اتفاقًا.
والتقرير الأول أظهر؛ لقوله بالمحتمل، وإلا لقال: مع الاحتمال.
قيل: فيه مصادرة، إذ الغرض أن التسمية لمعنى يستلزمه وجودًا وعدمًا فكيف يقال: يحتمل أن يكون علة للتسمية، ولا يكون علة له.
وأجيب: بأن ذلك إنما يستلزم لو كان [لمعنى] يتعلق بتسمية.
لا يقال: من قال لمعنى يستلزمه التسمية وجودًا وعدمًا فلا يكون إثباتًا لها بالمحتمل. لأنا نقول: يستلزمه في غير المسكوت، فسقط الاعتراض.
قال: (قالوا: دار الاسم معه وجودًا وعدمًا.
قلنا: ودار مع كونه من العنب، ومال الحي، وقبلًا.
قالوا: ثبت شرعًا والمعنى واحد.
قلنا: لولا الإجماع لما ثبت، وقطع النباش وحد النبيذ، إما لثبوت التعميم، وإما بالقياس، لا لأنه سارق أو خمر بالقياس).
أقول: احتج المثبت بوجهين:
الأول: أن الاسم دار مع المعنى وجودًا وعدمًا، أما وجودًا ففي ماء العنب الذي فيه الشدة فإنه يسمى خمرًا، وأما عدمًا فلأنه قبلها يسمى عصيرًا وبعدها خلًا، فقد دار الاسم مع التخمير، وكذا اسم السارق مع الأخذ خفية، وكذا اسم الزاني مع الوطء المحرم، والدوران دليل عليه المدار الذي هو المعنى، وإلا لزم تخلف المعلول عن العلة.
أجاب: بالمعارضة على سبيل القلب، أي دار أيضًا مع المحل ككونه ماء العنب، ومال الحي، ووطء في القبل، وإذا كانت العلة نفس المحل أو
جزؤه، بطل الإلحاق على ما سيأتي، وكما جاز أن تكون العلة ما ذكرتم، جاز أن تكون جزء علة، فلو أثبتنا به التسمية لكان إثباتًا بالمحتمل، مع أن الدوران لا يفيد العلية.
الثاني: لو لم يثبت القياس لغة لم يثبت شرعًا، أما الملازمة؛ فلأن ما ذكرت من الاحتمال قائم فيه، فلو كان مانعًا منع من القياس الشرعي.
وجوابه: المنع، وإنما يلزم ذلك لو لم يقم الإجماع على جواز الإلحاق عند الاحتمال.
وله تقرير آخر وهو: أنه ثبت القياس شرعًا فيثبت لغة، إذ المعنى الموجب للإلحاق واحد وهو الاشتراك في معنى يظن اعتباره.
أجاب: بأنا لا نسلم أن المعنى الموجب واحد، إذ الموجب الشرعي هو الإجماع، أو الإجماع مع ظن اعتبار المشترك المذكور.
قوله: (وقطع النباش وحد النبيذ) جواب عن سؤال مقدر تقريره: لو لم يصح القياس لغة لما قطع النباش، ولما حد شارب النبيذ؛ لأن النص إنما ورد في السارق وشارب الخمر، وقد أوجب مالك والشافعي الحد فيهما.
أجاب: بأن ذلك إما بتعميم اسم الخمر للنبيذ، والسارق للنباش بالنقل، على ما ذكر في نحو: رجل، لا بالقياس لغة، وإما بالقياس الشرعي للأمر الجامع بينهما، لا بالقياس اللغوي.
قال: (الحروف، معنى قوله: الحروف لا يستقل بالمفهومية: أن نحو «من» ، و «إلى» مشروط في دلالتها على معناها الإفرادي ذكر متعلقها.
ونحو الابتداء والانتهاء وابتدأ وانتهى، غير مشروط فيهما ذلك.
وأما نحو «ذو» ، و «فوق» ، و «تحت» وإن لم تذكر إلا بمتعلقها / لأمر فغير مشروط فيه ذلك، لما علم من أو وضع «ذو» بمعنى صاحب ليتوصل به إلى الوصف بأسماء الأجناس اقتضى ذلك ذكر المضاف إليه، وأن وضع «فوق» بمعنى مكان ليتوصل به إلى علو خاص، اقتضى ذلك، وكذلك البواقي).
أقول: لما كان الحرف من أقسام المفرد، وكان الأصولي مفتقرًا إلى معرفته لوقوعه في الأدلة الشرعية، ولم يكن في المبادئ اللغوية ما يختص بالفعل وكان ما يختص بالحرف، أراد تحقيق معناه أولًا ثم البحث عن بعض أقسامه. ولما كان قول النحاة: الحرف لا يستقل بالمفهومية مشكل، أراد تقرير المراد أولًا، ثم الإشارة إلى الإشكال ثانيًا، ثم حله ثالثًا.
فقال: إن نحو [«من»] و «إلى» شرط الواضع في إفادتها معناها الإفرادي ذكر متعلقها الذي منه الابتداء أو الذي إليه الانتهاء، والاسم نحو الابتداء والانتهاء والفعل نحو ابتدأ وانتهى غير مشروط فيهما ذلك حالة الإفراد، وأما معاني الأسماء الذي يكون لها حالة التركيب فذلك مشروط
بذكر متعلقه وكذا الأفعال فلا يفهم معنى «في» إلا حال ذكر المتعلق أو حال اعتباره، بخلاف الابتداء والانتهاء وابتدأ وانتهى، فإن معانيها مفهومة من ألفاظها حالة الإفراد، والذي يوضحه: أن اللفظ قد يوضع لأمور مخصوصة كوضع «ذا» لكل مشار إليه مخصوص و «أنا» لكل متكلم، و «الذي» لكل معين بجملة، وليس وضع المذكور كوضع رجل، فإنه موضوع للحقيقة لا للخصوصيات، وهذه وضعت باعتبار المعنى العام للخصوصيات التي تحته، حتى إذا استعمل رجل في زيد بخصوصه كان مجازًا، وإذا أريد المعنى العام المطابق له كان حقيقة بخلاف «هذا» ، و «أنا» ، و «الذي» فإنه إذا أريد بها الخصوصيات كانت حقائق، ولا يراد بها العموم أصلًا، فلا يقال:«هذا» والمراد أحدٌ مما يشار إليه، ولا:«أنا» والمراد به متكلم ما، فالحرف وضع باعتبار معنى عام وهو نوع من النسبة كالابتداء والانتهاء لكل ابتداء وانتهاء معين بخصوصه، والنسبة لا تتعين إلا بالمنسوب إليه، فالابتداء الذي للبصرة يتعين بالبصرة، والانتهاء الذي إلى الكوفية يتعين بها، فما لم يذكر متعلقه لا يتحصل فرد من ذلك النوع، وهو مدلول الحرف لا في العقل ولا في الخارج وإنما يتحصل بالمنسوب ليه فيتعقل بتعقله بخلاف ما وضع للنوع نفسه كالابتداء والانتهاء، وبخلاف ما وضع لذات باعتبار نسبته نحو «ذو» و «فوق» و «على» و «عن» ، و «الكاف» إذا أريد بها علو وتجاوز وتشبيه مطلقًا.
ولما بين المراد، أشار إلى الإشكال وهو: أن نحو: «ذو» ، و «فوق» ، و «تحت» أسماء باتفاق، والخاصة المذكورة للحرف ثابتة لها؛ لأنها غير مستقلة بمعناها الإفرادي، فإنها ما لم يذكر متعلقها لا تفيد فائدة.