المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قال: (المترادف واقع على الأصح، كأسد وسبع، وجلوس وقعود. قالوا: لو - تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول - جـ ١

[يحيى بن موسى الرهوني]

الفصل: قال: (المترادف واقع على الأصح، كأسد وسبع، وجلوس وقعود. قالوا: لو

قال: (المترادف واقع على الأصح، كأسد وسبع، وجلوس وقعود.

قالوا: لو وقع لعري عن الفائدة /.

قلنا: فائدته التوسعة، وتيسير النظم والنثر للروي أو الزنة، وتيسير التنجنيس والمطابقة.

قالوا: تعريف المعرف.

قلنا: علامة ثانية).

أقول: اختلف في وقوع المترادف في اللغة.

[و‌

‌الترادف]:

توارد الألفاظ الدالة على شيء واحد [باعتبار واحد] ، وهو من خواص المفرد.

وشذ قوم فقالوا: إنه غير واقع.

والدليل عليه: أن الأسد والسبع اسمان للحيوان المفترس، والجلوس والقعود اسمان للهيئة المخصوصة، وذلك معنى الترادف.

ولا معنى لما تكلف أهل الاشتقاق من بيان أن ما ظن أنه مترادف، فهو

ص: 315

من قبيل الأسماء المشتقة.

احتج الثاني: بأنه لو وقع لعري عن الفائدة، واللازم باطل، فالملزوم مثله.

بيان اللزوم؛ أن الغرض من الوضع حصول الإفهام، واللفظ الواحد كاف فيه، فالثاني عبث، وهو ممتنع على الحكيم.

أجاب: بمنع الملازمة، ولا تنحصر فائدته فيما ذكرتم.

ومن فوائده: التوسيع في التعبير، فتكثر الذرائع إلى المقصود، فيكون إفضاء له.

ومنها: تيسير النظم للروي، وهو أن يكون أحد اللفظين يوافق الروي - وهو حرف القافية الذي تبنى عليه القصيدة - والآخر لا يوافق، كقوله:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكل نعيم لا محالة زائل

لو قال: «ذاهب» لحصل الوزن دون الروي.

ولو قال: «مضمحل» لحصل الروي دون الوزن.

ص: 316

وفي النثر الأسجاع بمنزلة القوافي، فقد تقع موازنة بلفظ دون مرادفه، فقد يكون أحدهما موافقًا للسجع دون الآخر.

وتيسير التجنيس، وهو تشابه اللفظين، كقوله تعالى:{ويوم تقم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعةٍ} ، لو قال:«تقوم القيامة» فات التجنيس.

وتتيسر به المطابقة، وهو الجمع بين معنيين متضادين بلفظين، كقوله تعالى:{تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء} ، ولا مدخل للترادف في تيسيرها عند الأكثر.

وشرط قوم أن يكون أحد الضدين موازنًا للآخر، أو موافقًا له في الحرف الأخير، فحينئذ يكون للترادف مدخل في تيسيرها.

احتجوا ثانيًا: بأنه لو وقع لكان تعريفًا للمعروف وهو باطل؛ لأنه تحصيل الحاصل؛ لأن التعريف يحصل بالواحد، وهذا غير عين الأول بتغير عبارة.

والجواب: منع الملازمة، فإن اللفظ علامة على المعنى، ويجوز أن ينصب لشيء واحد علامات ليحصل التعريف بها على البدل لا معًا.

وأيضًا: قد يكون من واضعين لا يدري كل منهما بوضع الآخر، ثم اشتهر الوضعان.

ص: 317

قال: (مسألة: الحد والمحدود ونحو عطشان نطشان غير مترادفين على الأصح؛ لأن الحد يدل على المفردات، ونطشان لا يفرد).

أقول: زعم قوم أن لفظ الحد مرادف للفظ المحدود، وأن الأسماء التي لا تسمع إلا تابعة مرادفة للمتبوع.

وليس كذلك؛ لأن الترادف من خواص اللفظ المفرد، ولفظ الحد مركب.

وأيضًا: مدلولهما ليس واحدًا؛ لأن لفظ الحد يدل تفصيلًا ولفظ المحدود يدل إجمالًا، فمفهومه الماهية من حيث هي، ومفهوم الحد أجزاؤها، وإن كان كل واحد منهما يدل مطابقة على المحدود، لفظ المحدود وضع له، ولفظ الحد وضع أجزاؤه لأجزائه، لكن لفظ الحد دل على الأجزاء مطابقة، ولفظ المحدود دل عليها تضمنًا.

وأما التابع والمتبوع؛ فلأن التابع لا يفرد بالذكر، وكل من المترادفين يفرد بالذكر.

قال /: (مسألة: يقع كل من المترادفين مكان الآخر لأنه بمعناه، ولا حجر في التركيب.

قالوا: لو جاز، لجاز خداي أكبر.

وأجيب: بالتزامه.

وبالفرق باختلاط اللغتين).

ص: 318

أقول: اختلف في جواز إيقاع كل من المترادفين مكان الآخر.

فمنع مطلقًا، وأجيز مطلقًا.

وقيل: إن كانا من لغة واحدة جاز، وإلا فلا.

احتج: بأنه يجوز ذلك حالة الإفراد اتفاقًا.

قال المنتهى: المترادفان يصح إطلاق كل منهما مكان الآخر؛ لأنه لازم معنى المترادفين.

ثم لا حجر في التركيب أو صحة التركيب من عوارض المعنى دون اللفظ وإذا اتحد المعنى لا محذور.

احتج المانع: بأنه لو جاز، لجاز خداي أكبر، وخداي معناه الله، واللازم باطل، فالملزوم مثله.

أجاب على مذهب المجوز: بالتزامه.

وعلى مذهب من فصل: بالفرق باختلاف اللغتين، المؤدي إلى استعمال المهمل مع المستعمل.

وإنما قدم المنع الأول وإن كان الترتيب الطبيعي منع الملازمة أولًا ثم منع

ص: 319

بطلان التالي ثانيًا؛ لأن المنع موافق لمذهبه، والثاني غير موافق لمذهبه.

وإنما قصد به دفع الخصم فقط.

ص: 320

قال: (مسألة: الحقيقة: اللفظ المستعمل في وضع أول، وهي: لغوية، وعرفية، وشرعية، كالأسد، والدابة، والصلاة.

والمجاز: المستعمل في غير وضع أول على وجه يصح).

أقول: الحقيقة: فعيلة من الحق، وجاء فعله لازمًا بمعنى ثبت، ومنه حقت العذاب، وجاء متعديًا، حققت الشيء أي أثبته، وفعيل أي بمعنى فاعل كعليم، وبمعنى مفعول كجريح، فمن الفعل الأول بمعنى ثابت، ومن الثاني بمعنى مثبتة، فالتاء على الأول لا إشكال في أنها للتأنيث؛ لأن فعيل يفرق فيه بين المذكر والمؤنث بتاء التأنيث، وعلى الثاني فالتاء أيضًا للتأنيث؛ لأن فعيلًا بمعنى مفعول إنما يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا كان الموصوف مذكورًا، وإلا وجب تأنيثه رفعًا للبس، والموصوف الكلمة، هذا اختيار صاحب المفتاح.

وقيل: إن التاء على الوجه الأخير لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية فصار شبه التأنيث من حيث إنه ثان، كما أن المؤنث ثانٍ.

قيل: إنها بمعنى الثابتة أو المثبتة ثم نقلت إلى الاعتقاد المطابق للواقع لكونه ثابتًا في نفسر الأمر، أو المثبتة ثم نقلت إلى القول المطابق لكون مدلوله ثابتًا، أو مثبتًا ثم نقلت إلى ما ذكر المصنف، وهو اللفظ المستعمل؛ لأنه ثابت في

ص: 321

موضعه أو مثبت فيه، فيكون منقولًا في المرتبة الثالثة.

وفيه نظر؛ لأن المناسبة متحققة بين الأول والأخير، فيجوز أن ينقل من المعنى اللغوي إلى المفهوم المصطلح ابتداء من غير واسطة، وتكون كلها مجازات عن اللغوي.

وأيضًا: ما ذكر إنما يقال فيه حق لا حقيقة، فلفظ الحقيقة في المعنى المحدود مجاز لغوي، وحقيقة عرفية.

ورسمها المصنف: (باللفظ المستعمل في وضع أول) ، فاللفظ كالجنس، والمستعمل يخرج المهمل واللفظ قبل الاستعمال.

وقوله: (في وضع) أي فيما وضع له، وفيه تساهل، فتخرج الأعلام لأنها مستعملة في غير ما وضعت له.

وقوله: (أول) يخرج المجاز؛ لأنه في وضع ثانٍ، إن قلنا إن المجاز موضوع، وإن قلنا ليس بموضوع وهو الحق، على أن المصنف ما جزم بواحد منهما ها هنا.

وقيل: إن كلامه قبل يعطي أنه موضوع؛ لأنه أحد أقسام / المفرد الموضوع، وليس كذلك، وإنما جعله من أقسام الموضوع باعتبار كونه موضوعًا للمعنى الحقيقي فقط، فـ «أول» يكون زائدًا.

ص: 322

وقيل: المراد بـ «أول» أي في الاصطلاح الذي وقع به التخاطب، ففائدته دخول الشرعية والعرفية وإلا خرجت؛ لأنها لم تستعمل فيما وضعت له أولًا، والحق أن اللفظ لا يدل عليه على هذا الوجه.

وقيل: أن قيدًا في الاصطلاح الذي وقع به التخاطب، يغني عنه ما ذكر المصنف، ولذلك ذكر فقال:(في وضع أول) ، فتدخل الحقائق الثلاث، وتخرج المجازات الثلاث: اللغوي كالصلاة للركعات، والعرفي كالدابة لكل ما يدب، والشرعي كالصلاة للدعاء، ضرورة أنها من حيث كونها مجازات مسبوقة بالوضع الأول.

قلت: وفي خروجها نظر؛ لأنها وإن كانت مسبوقة بوضع أول، لكن صدق أنها استعملت في وضع أول أيضًا.

قال بعض الشراح: لفظ «في» ليس صلة للمستعمل، وإلا لكان المراد بوضع ما وضع له، وهو خلاف ظاهر اللفظ، وترد المجازات الثلاث، حتى يزاد في العرف الذي به التخاطب، أما إذا كان معناه المستعمل بحسب وضع أول، دخلت الحقائق الثلاث، [وخرجت المجازات الثلاث] ، إذ ليست بحسب وضع أول بل بالمناسبة، أو بوضع غير أول لوحظ فيه وضع سابق، وهذا كقولهم: مستعمل في العرف ومستعمل في الشرع، وهو حسن.

وحينئذ تظهر فائدة أول، وهو خروج المجازات المذكورة، ولم يستلزم

ص: 323

أن المجاز موضوع.

قيل: «أول» من الأمور الإضافية التي لا تعقل إلا بالنسبة إلى ثان، فيكون حد الحقيقة مستلزمًا لحد المجاز، فيتوقف عليه ويدور.

وجوابه بعد تسليم أن إضافي: أن يستلزم مفهوم الثاني، أو الوضع الثاني، وليس ذلك نفس المجاز ولا ملزومًا له.

ولو سلم، فغايته أن تصور الحقيقة والمجاز معًا ليس بمحال، وهذا التعريف يعم الحقائق الثلاث؛ لأن الوضع المعتبر فيه إما اللغة كالأسد للمفترس أو لا، وهو إما الشرع كالصلاة للركعات وقد كانت للدعاء أو لا وهي العرفية، وهذه إما من قوم مخصوصين وتسمى عرفية خاصة أو لا، وهي العامة، وغلب اسم العرفية فيها، اسم الاصطلاحية على الخاصة.

والمجاز: مفعل من الجواز بمعنى العبور، والمفعل للمصدر أو للمكان، ثم نقل إلى ما ذكره المصنف، فهو مجاز في الدرجة الأولى من جهتين:

الأولى: أنه انتقال الجسم من حيز إلى حيز، فإذا اعتبر في اللفظ كان شبيهًا.

الثاني: أنه اسم للمصدر أو للمكان، وقد أطلق بمعنى الفاعل؛ لأن اللفظ منتقل فكان مجازًا أيضًا، وهو مجاز لغوي، حقيقة عرفية.

ص: 324

واللفظ المستعمل كما مر وفي غير وضع أول يخرج الحقائق، ويشمل المجاز على مذهب من يرى أنه موضوع، وعلى مذهب من يرى الاكتفاء بالعلاقة في الاستعمال، ومن يرى أن بعضه موضوع دون بعض.

وقوله: (على وجه يصح) أي على وجه يكون بين الموضوع له أولًا والمعنى الثاني مناسبة يصح استعمال اللفظ فيه لأجلها، فيخرج استعمال لفظ الأرض في السماء / إذ لا علاقة، وتخرج الأعلام أيضًا، وفي المحصول:«أن الأعلام ليست بحقائق ولا مجازات» .

قال: (ولابد من العلاقة، وقد تكون بالشكل كالإنسان للصورة، أو في صفة ظاهرة كالأسد على الشجاع، لا على الأبخر لخفائها، أو لأنه كان عليها كالعبد، أو آيل كالخمر، أو للمجاورة مثل جرى الميزاب).

أقول: هذا بيان لقوله: (على وجه يصح) أي يشترط أن يكون بين المفهوم الحقيقي والمجازي مناسبة اعتبرت بحسب النوع في اصطلاح التخاطب لا كل مناسبة، ولو لم تشترط لجاز استعمال كل لفظ لكل معنى بالمجاز، وهو باطل.

ص: 325

وأيضًا: لو لم تكن العلاقة، لكان الوضع بالنسبة إلى الثاني أولًا، فكان حقيقة فيهما.

وشرط قوم اللزوم الذهني بين المعنيين وهو باطل، فإن أكثر المجازات المعتبرة عارية عن اللزوم الذهني، ولو كان شرطًا ما تحقق بدونه.

والعلاقة المعتبرة: قيل تنحصر بالاستقراء في خمسة وعشرين نوعًا.

والحق أن فيها تداخلًا.

وقيل: اثنا ع شر، وذكر الآمدي أن جميعها ترجح إلى ما ذكر المصنف، وفيه نظر.

فمنها: إطلاق اسم السبب على المسبب وعكسه.

وإطلاق اسم الكل على الجزء وعكسه.

ص: 326

وإطلاق اسم الملزوم على اللازم وعكسه.

وإطلاق اسم المطلق على المقيد وعكسه.

وإطلاق اسم العام على الخاص وعكسه.

وإطلاق اسم المحل على الحال وعكسه.

ومجاز الزيادة وعكسه.

وإطلاق اسم أحد الضدين على الآخر.

وإطلاق المعرف وإرادة المنكر كقوله: {ادخلوا الباب سجدًا} .

ص: 327

وإطلاق النكرة لإرادة العموم، كقوله تعالى:{علمت نفس ما أحضرت} .

ومنها الأربعة التي في الكتاب:

الأول: إطلاق اسم المشابه كالإنسان على الصورة المنقوشة لتشابههما شكلًا، وإطلاق الأسد على الشجاع لتشابههما في الشجاعة التي هي من الصفات الظاهرة للأسد، لا على الأبخر؛ لأنهما وإن تشابها فيه لكنها من الصفات الخفية للأسد، ويسمى هذا القسم استعارة.

الثاني: تسمية الشيء باسم ما كان عليه من صفة ظاهرة، كتسمية المعتق عبدًا.

الثالث: تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه، كتسمية العنب خمرًا.

الرابع: تسمية الشيء باسم مجاوره، مثل: جرى الميزاب.

وهذا قد يتناول ما يكون أحدهما جزء الآخر، ككون الجزء في الكل، أو الحال في محله، أو الظرف في ظرفه، وما لا يكون كذلك بل هما في محل واحد أو محلين متقاربين، بل والمتلازمين في الوجود كالسبب والمسبب، وفي الخيال كالضدين، وكل قسم مما ذكر فأقوى مما قبله.

وقد يتكلف لانحصار أنواع العلاقة بالأربعة المذكورة أن المعنيين إما أن

ص: 328

يكون بين ذاتيهما اتصال أو لا.

والأول المجاورة، والثاني إما أن يحصلا لذات أو لا.

والأول وصفان بينهما تقدم وتأخر، فإن استعمل المتأخر للمتقدم أو بالعكس، فهو ما كان عليه، وما يؤول إليه.

والثاني: أمران لا اتصال بينهما بالذات، ولا هما في محل.

فإن لم يكن لهما حال يشتركان فيها، فلا علاقة قطعًا، وتلك الحال إما صورة محسوسة وهو الشكل، أو غيرها وهو الصفة الظاهرة.

قال: (ولا يشترط النقل في الآحاد على الأصح.

لنا: لو كان نقليًا لتوقف / أهل العربية، ولا يتوقفون.

واستدل: لو كان نقليًا لما افتقر إلى النظر في العلاقة.

وأجيب: بأن النظر للواضع.

ولو سلم، فللاطلاع على الحكمة.

قالوا: لو لم يكن، لجاز: نخلة للطويل غير إنسان، وشبكة للصيد، وابن للأب، وبالعكس.

وأجيب: بالمانع.

قالوا: لو جاز، لكان قياسًا أو اختراعًا.

وأجيب: باستقراء أن العلاقة مصححة، كرفع الفاعل).

أقول: بعد الاتفاق على وجوب العلاقة في المجاز، وعلى اشتراط النقل في نوعها، مثلًا: إذا لم ينقل عن أهل اللغة اعتبار اسم الكل في الجزء، لم يجز لنا أن نطلقه عليه مجازًا.

ص: 329

اختلف، هل يشترط في آحاد النوع أن ينقل إلينا عن أهل اللغة أم لا، ويكتفى بالعلاقة في جواز التجوز وهو المختار.

لنا: لو كان نقليًا لتوقف أهل العربية أعني الأدباء في التجوز على النقل ومن استقرأ علم أنها لا يتوقفون ولا يخطئون المتجوز، ولذلك لم يدونوا المجازات تدوينهم الحقائق.

أما الملازمة؛ فلاستحالة وجود المشروط بدون الشرط.

قيل في بيان عدم التوقف: إن الخليل، وسيبويه أطلقوا رفع الفاعل، ونصب المفعول، وكذا أهل كل اصطلاح، ولم ينقل عن العرب.

قلت: فيه نظر؛ لا لما قيل: إنها بالنسبة إليهم حقائق عرفية؛ لأنها بعد صارت حقائق، بل قد يقال: إنها موضوعات مبتدأة، وإلا فأين نقل أصل أنواع هذه المجازات عن العرب؟ ومتى استعمل الدوران في معناه الآن؟ .

واستدل: لو كان النقل في الآحاد شرطًا في الاستعمال، لما افتقر

ص: 330

المستعمل إلى النظر في العلاقة عند الإطلاق، واللازم باطل، فالملزوم مثله.

أما الملازمة؛ فلأن المقصود من النظر فيها جواز الإطلاق، فإذا كان النقل عنهم شرطًا في الإطلاق، فلا حاجة إلى النظر فيها لحصول النقل عنهم المستلزم لحصولها.

وأما بطلان التالي؛ فلاتفاقهم على الافتقار إلى النظر فيها.

أجاب أولًا: بمنع انتفاء التالي، وأن المستعمل لا يفتقر إلى نظر فيها، وأن المفتقر إلى النظر هو الواضع.

سلمنا أن المستعمل مفتقر أيضًا، ونمنع الملازمة، والاستغناء عن النظر فيها في جواز الاستعمال لا يوجب الاستغناء مطلقًا، إذ قد يفتقر إليه في الاطلاع على الحكمة لا في الإطلاق، إذ الاطلاع لا يصلح شرطًا للإطلاق، لتقدير كونه نقليًا، وبالجملة النقل شرط ولا يلزم من وجوده وجود المشروط.

وقيل: المنع الأول راجع إلى الملازمة، والثاني منع لبطلان التالي، كأنه فهم لما افتقر بوجه، فمنع الملازمة للاتفاق على نظر الواضع فيها، لا أن المستعمل يفتقر.

سلمنا أن المستعمل أيضًا يفتقر، لكن للاطلاع لا للإطلاق.

واحتجوا بوجهين:

الأول: لو لم يكن النقل في الآحاد شرطًا، لجاز إطلاق اسم النخلة لكل

ص: 331

طويل غير إنسان للمشابهة الصورية، وجاز إطلاق الشبكة على الصيد للمجاورة، واسم الأب على الابن للسببية، وبالعكس للمسببية، واللازم باطل.

أما الملازمة؛ فلظهور العلاقة المعتبر نوعها في الصور المذكورة، والسببية والمسببية من المجاورة على ما تقدم، وما قيل من أنه من قبيل ما كان عليه، فيه نظر؛ لأن البنوة أمر ثابت لا يفارق إلا أن يريد بالابن الصغر، فيحسن ويترجح بعدم الإطلاق، إذ بالمعنى الأول لا يختلف في جواز الإطلاق /.

وأما بطلان؛ فبالاتفاق.

أجاب: بمنع الملازمة، وأن عدم جواز الاستعمال لثبوت المانع لا لعدم المقتضي، وخصوصية هذه المحال مانع من جواز استعمال اللفظ فيها، وأن أهل اللغة منعوا من الاستعمال في الصور المذكورة.

وفي هذا الجواب نظر؛ لأن المنع لم يثبت عنهم، وتجويز المانع مع ثبوت المقتضي لا يرفع جواز الاستعمال، فلم يبق المانع إلا عدم النقل وهو المدعى.

والأولى في الجواب: أنه لم يثبت المشابهة في الصور المذكورة في أخص الصفات وأشهرها، فلم يكن علاقة معتبرة، فيكون التخلف لعدم المقتضي.

الوجه الثاني: لو جاز الإطلاق في الآحاد بمجرد وجود العلاقة من غير سماع، لكان إما بالقياس أو الاختراع، فاللازم باطل، فالملزوم مثله.

أما الملازمة؛ فلأن إطلاق لفظ الحقيقة على تلك الصورة المعينة إما على جامع بينها وبين المجازات المسموعة أو لا، والأول قياس في اللغة، والثاني اختراع لغة، وكلاهما باطل.

ص: 332

والجواب: منع الملازمة، إذ لا حصر، فإن الاستقراء دل على أن العلاقة المعتبر نوعها كافية في جواز الاستعمال، كما نرفع فاعلًا لم نسمع رفعه من العرب باستقراء كلامهم، أن كلما أسند الفعل إليه فهو مرفوع، فلا يكون قياسًا؛ لأنه ليس لأجل اعتبار ذلك المعنى في الصورة الجزئية لخصوصها، بل فهم من العرب جواز الإطلاق بالاستقراء، فكان كالتنصيص على جواز إطلاق اسم الحقيقة على كل ما بينها وبينه علاقة مخصوصة.

قيل: تصحيح العلاقة لجواز الاستعمال إن لم يسند إلى النقل منع، وإلا لزم المدعى.

وجوابه: أنه يسند إلى النقل بطريق الإجمال، لا بطريق التنصيص على كل فرد.

قال: (قالوا: يعرف المجاز بوجوه:

بصحة النفي، كقولك للبليد: ليس بحمار، عكس الحقيقة، لامتناع ليس بإنسان، وهو دور.

وبأن يتبادر غيره لولا القرينة، عكس الحقيقة.

وأورد: المشترك.

فإن أجيب: بأنه يتبادر غير معين، لزم أن يكون للمعين مجاز.

أو بعدم اطراده، ولا عكس.

وأورد: السخي والفاضل لغير الله تعالى، والقارورة للزجاجة.

فإن أجيب بالمانع، فدور.

ص: 333

وبجمعه على خلاف جمع الحقيقة، كأمور جمع أمر للفعل، وامتناع أوامر، ولا عكس.

وبالتزام تقييده، مثل جناح الذل، ونار الحرب.

وبتوقفه على المسمى الآخر، مثل:{ومكروا ومكر الله} ).

أقول: قال الأصوليون: إذا ورد لفظ مستعمل في شيء ولم نعلم أهو حقيقة في ذلك المعنى أو هو مجاز فيه، عُرف [ضرورة] كونه حقيقة أو مجازًا بالنقل عن أئمة اللغة، وإن لم يوجد نقل عنهم، عُرف كونه مجازًا بالنظر بوجوه أي بعلامات؛ لأن بعض المذكور لم يثبت إلا لبعض المجاز، وإن كان لفظه هنا يشعر بالمعرف، وإيراده على عكسها أيضًا [يدل] في قوله:(وأورد المشترك) يدل عليه، إذ العلاقة لا يلزم فيها الاطراد.

ولفظ الإحكام: قد يعرف بوجوه، وهو خير وأتى «بقالوا» للاستبعاد إما لأن هذه الأحكام مردودة، أو لأن اللغة عنده لا تثبت إلا بالنقل.

الأول: صحة النفي في نفس الأمر، كقولنا: البليد ليس بحمار، وزاد في الإحكام:«في نفس الأمر» لأنه يقال للبليد: ليس بإنسان، فقد نفيت

ص: 334

الحقيقة، لكن ليس في نفس الأمر /؛ لأنه إنسان في نفس الأمر، وإنما نفى بطريق المجاز، وهي زيادة حسنة، وهذا بعكس الحقيقة، فإن من علامتها صحة النفي، إذ لا يقال: البليد ليس بإنسان في [نفس الأمر].

قال: وهو دور؛ لأن المراد بصحة السلب عن المجاز سلب المعنى الحقيقي عنه؛ لأن معناه المجازي لا يسلب عنه، ولا نعرف صحة سلبه حتى نعلم أن استعماله فيه في الإثبات ليس بطريق الحقيقة، وذلك لا يعلم حتى يعلم كونه فيه بطريق المجاز، فإثبات المجاز به دور.

قلت: وفيه نظر؛ لأن العلم بكونه ليس بحقيقة في الإثبات لا يستلزم كونه مجازًا، لجواز أن يكون من الأعلام.

قيل: صحة السلب تتوقف على معرفة كونه مجازًا؛ لامتناع سلب شيء عن شيء بدون تصوره، فلو عرف به لزم الدور.

قلنا: يكفي تصوره بوجه ما، لا من حيث كونه مجازًا.

قيل في دفع الدور: المراد بصحة النفي أن يكون سمع نفي ذلك المعنى عنه من العرب.

قلنا: لو كان ذلك لقال بالنفي، ولم يقل بصحة النفي.

وأيضًا: يفسد في الحقيقة، إذ العلم بعدم النفي لا سبيل إليه إلا بعدم وجدان النفي عنهم، ولا يلزم عدم وجوده، أما في المجاز فيمكن وجود

ص: 335

السلب في موارد استعمالاتهم.

الثاني: أن المجاز ما يتبادر غيره إلى الذهن عند عدم القرينة؛ لأنه عند القرينة يتبادر هو عكس الحقيقة، فإنها ما لا يتبادر غيرها عند عدم القرينة.

واعترض على عكسه بالمشترك إذا استعمل في معناه المجازي، إذ لا يتبادر غيره للتردد بين معانيه، وعدم تبادر شيء منها.

فإن أأجيب: بأنه يتبادر أحدهما لا بعينه، وهو غيره.

قلنا: إذا تبادر غير المعين، والمجاز ما تبادر غيره، لزم أن يكون اللفظ للمعين الغير متبادر مجازًا، فلا يكون مشتركًا بل متواطئًا؛ لأن حقيقته حينئذ أحدهما لا بعينه ومجازه المعين، فلا يكون مشتركًا لفظيًا؛ لأن المشترك اللفظي الموضوع لمعنيين فأكثر وضعًا أوليًا، وهذا موضوع لأحدهما لا بعينه، وهو معنى واحد، ومن هنا تعرف أن التزام صاحب الإحكام كونه مجازًا في المعين فيه ما فيه، على أنه قال: وفيه دقة.

قلت: وقد يوجه بأنه موضوع لكل واحد منهما من حيث هو واحد منهما، وذلك حقيقة، ومن حيث هو كذا معينًا يكون مجازًا، ولا كذلك المتواطئ؛ لأنه لم يوضع لأحدهما من حيث هو، بل للقدر المشترك.

واعلم أن هذا ليس بمعرف وإلا لدار؛ لأنه أخذ المجاز في تعريف الحقيقة وبالعكس فهو علامة، والعلامة لا يلزم فيها الانعكاس، كالألف واللام للاسم، ليس كلما انتفى عنه الألف واللام لا يكون اسمًا.

ص: 336

وهذا التقرير خير من إيراده على علامة الحقيقة؛ لأنه قال: عكس الحقيقة، فالحقيقة ما لا يتبادر غيره، أعم من أن تتبادر هي أو لا.

الثالث: عدم اطراده في مدلولاته، بمعنى أنه يستعمل في محل لوجود معنى، ولا يستعمل في كل محل وجد ذلك المعنى [فيه] ، كالنخلة للإنسان الطويل، ولا يقال لكل طويل: نخلة، ولا عكس أي لا يكون الاطراد علامة على الحقيقة، [فإن من المجاز ما يكون] مطردًا، كإطلاق اسم الكل على الجزء.

وقرر بوجه آخر: أن ما ليس بمطرد مجاز ولا عكس، أي ليس كل مجاز غير مطرد، فتكون العلاقة غير منعكسة، واحتاج إلى ذلك؛ لأن / العلاقة قد تكون منعكسة، فبين أن هذه غير منعكسة.

والأول أولى؛ لأنه لما ذكر العلامتين السابقتين قال: (عكس الحقيقة) بين هنا أنه لا يكون عكس الحقيقة.

وأورد على طرد هذه العلاقة: السخي والفاضل لغير الله تعالى، والقارورة للزجاجة؛ لأن السخي الكريم، والفاضل العالم، والقارورة لما يستقر فيه المائع، والله تعالى كريم عالم، ولا يقال له: سخي ولا فاضل.

والكوز لا يقال له: قارورة، مع وجود المعنى: فلم تطرد هذه الحقائق فلا يكون عدم الاطراد علامة المجاز.

ص: 337

فإن أجيب: بأن عدم الاطراد لا يكون علامة، بل العلامة عدم الاطراد لا لمانع من لغة أو شرع، وفي المذكور عدم الاطراد لمانع شرعي في الأولين، لأن أسماء الله تعالى توقيفية، وفي الأخير المنع من أهل اللغة، فدور.

وقرر من وجهين:

الأول: أن عدم الاطراد إنما يكون علامة للمجاز إذا علم كون عدم الاطراد لا لمانع، وعدم الاطراد لا لمانع لا يعلم إلا بعد العلم بالمجاز.

قلت: وله أن يمنع أن عدم الاطراد لا لمانع لا يعلم إلا بعد العلم بالمجاز؛ إذ المراد من عدم الاطراد [لا لمانع] ، ألا نجده في مجاري كلامهم مستعملًا في موارد المعنى، ولم ينصوا على منعه.

الثاني: أن العلاقة موجودة، فعدم الاطراد لا يكون لعدم المقتضي لوجودها فهو للمانع، وهو إما الشرع أو اللغة، والمقرر خلافه، ولا العقل قطعًا، فيكون عدم الاطراد لكونه مجازًا، فلو عرف المجاز بعد الاطراد لمانع هو المجاز، لزم الدور.

قلت: فيه نظر؛ لا لما قيل: إن عدم اطراد المجاز قد يكون لمانع من اللغة كما تقدم في عدم اطراد المجاز في الصور الأربعة السابقة، أعني النخلة للطويل إلى آخرها.

لأنا نقول: الاطراد لا لمانع علامة، لا أن كل مجاز فهو غير مطرد لا لمانع، بل منه ما يطرد، ومنه ما لا يطرد لمانع لغوي، [ومنه ما لا يطرد لا

ص: 338

لمانع لغوي] ، فحينئذ عدم الاطراد الذي لا لمانع من شرع أو لغة لا يكون لعدم المقتضي، فيكون لكونه مجازًا ويعود الدور.

ولا لما قيل: إنما يلزم ذلك لو كان عدم الاطراد معللًا بالمجاز، وليس كذلك؛ لأنه تعريف له، والتعريف لا يعلل.

وأيضًا: [إنما] هو عدمي، والعدمي لا يحتاج إلى علة.

لأنا نقول أولًا: ليس بتعريف بل علامة، والعلامة تعلل.

سلمنا، لكن المعرف خاصة فتعلل.

وقوله: العدمي لا يعلل.

قلنا: كل ممكن له علة ضرورة، بل النظر أن عدم الاطراد إما أن يكون لعدم المقتضي أو لوجود المانع، وقد فرض ألا مانع من لغة أو شرع، ولا من عقل قطعًا، ولا من عرف، وكونه مجازًا أيضًا لا يمنع الاطراد، وإلا لم يطرد مجاز، فهو لعدم المقتضي.

وقولهم: العلاقة المعتبر نوعها موجودة نمنعه، وسند المنع أنها لو وجدت والنقل لا يشترط في الآحاد والمنع لم يرد عنهم، لطرد أهل العربية التجوز، ومثل ذلك نقول على أصل الإيراد، وأن السخي لكريم يتصور منه البخل، والفاضل للعالم بالتعلم، وكذا في القارورة، فيسقط السؤال من أصله،

ص: 339

ويلزم مما ذكرنا أن لا عدم الاطراد علامة، لكن لا من الوجه الذي ذكره المصنف، ولأن القول به لا يجتمع مع القول / بعدم اشتراطه النقل في الآحاد.

الرابع: أن يكون مجموعًا على خلاف جمع الحقيقة، يعني إذا استعمل لفظ في معنى واتفق على كونه حقيقة فيه، كالأمر في القول المخصوص، واستعمل في غيره، ولم ندر أهو حقيقة فيه أيضًا أم هو مجاز.

فإن سمع منهم جمعه على خلاف جمع المتفق على كونه حقيقة، كأمر بمعنى الفعل، مثل:{وما أمر فرعون} ، فإنهم جمعوه على أمور، ومنعوا جمعه على أوامر، واختلاف الجمعين علامة المجاز.

قال: (ولا عكس) أي ولا يلزم أن تكون الحقيقة ما كان جمعه غير مختلف، ويحتمل ولا عكس لهذه العلامة، أي ليس كل مجاز يجمع على خلاف جمع الحقيقة.

قيل: هذه العلامة غير مطردة، لجمعهم عودي اللهو والخشب على عيدان في الأول، وأعواد في الثاني.

رد: بأن اختلاف الجمعين لاختلاف المسمى.

وقولهم: الجمع للاسم لا للمسمى، فاختلافه لا يؤثر في اختلاف الجمع، نمنعه.

الخامس: التزام تقييده عند استعماله في ذلك المعنى؛ لأنهم لما استعملوه

ص: 340

غير مقيد في معنى، فإذا استعملوه في غيره مقيدًا بذلك الغير أو بلوازمه، علم أنه مجاز، كنار الحرب، وجناح الذل؛ لأن الغرض من وضع اللفظ أن يكتفى به في الدلالة على المعنى، فإذا قيدوه عُلم أنه استعمل في غير الموضوع إذ لم يكتفوا بذلك اللفظ، فكان ما اكتفوا فيه به حقيقة إذ هو الأغلب، أو لأن عادتهم ألا يستعملوا الحقائق مقيدة، ويستعملون المجازات مقيدة.

وقال: (بالتزام تقييده) لأن المشترك قد يقيد لكن لم يلتزموا تقييده [والمثال معترض بقوله تعالى: {واخفض جناحك للمؤمنين}].

السادس: أن يكون اللفظ المستعمل في موضعين يتوقف استعماله في أحدهما على استعماله في الآخر، وعبر عنه في المنتهى بأن يكون إطلاقه لأحد المسميين متوقفًا على تعلقه بالمسمى الآخر، فالمتوقف مجاز، كالمكر بالنسبة إلى الله تعالى، لما كان متوقفًا على تصور مسمى المكر من الخلق كان مجازًا، وما ذكر من الآية ليس استدلالًا على التوقف، لجواز أن لا يكون متوقفًا، بل قد وقع مثل:{أفأمنوا مكر الله} ، بل الدليل النقل عن أهل اللغة أنهم لا يسندون المكر إلى الله قبل أن يسندوه إلى غيره.

قال: (واللفظ قبل الاستعمال ليس بمجاز ولا حقيقة.

وفي استلزام المجاز الحقيقة خلاف، بخلاف العكس.

المستلزم: لو لم يستلزم لعري الوضع عن الفائدة.

ص: 341

النافي: لو استلزم لكان لنحو: قامت الحرب على ساق، وشابت لمة الليل حقيقة. وهو مشترك الإلزام، للزوم الوضع.

والحق أن المجاز في المفرد، ولا مجاز في التركيب.

وقول عبد القاهر في نحو: أحياني اكتحالي بطلعتك: «إن المجاز في الإسناد» ، بعيد لاتحاد جهته.

ولو قيل: لو استلزم لكان للفظ الرحمن حقيقة، ولنحو: عسى كان قويًا).

أقول: اللفظ قبل الاستعمال لا يتصف بكونه حقيقة ولا مجازًا لانتفاء حديهما عنه، واتفقوا على أن الحقيقة لا تستلزم المجاز، إذ قد يستعمل اللفظ فيما وضع له ولا يستعمل في غيره البتة، واختلفوا في المجاز، هل يستلزم الحقيقة؟ .

فذهب بعض الحنفية إلى أن كل لفظ استعمل في غير ما وضع له، لابد وأن يكون مستعملًا فيما وضع له أولًا.

وذهب الأكثر إلى أنه لا يستلزم ذلك.

احتج القائل بالاستلزام: بأنه لو لم يستلزم، لعري / الوضع عن الفائدة، واللازم باطل.

ص: 342

بيان اللزوم؛ أن فائدة الوضع للمعنى إفادة ذلك المعنى من ذلك اللفظ، فإذا لم يستعمل فيه، عري الوضع الأول عن الفائدة.

وضعفة بين، ولذلك لم يتعرض له المصنف.

وبيانه: منع الملازمة، إذ الفائدة لا تنحصر فيما ذكر، ومن فوائده أن يتجوز عنه.

سلمنا، ونمنع بطلان التالي، وليس كلما يقصد به فائدة تترتب عليه.

احتج النافي للاستلزام: بأنه لو استلزم المجاز الحقيقة، لكان لنحو: قامت الحرب على ساق، وشابت لمة الليل، ونحوها من المركبات حقائق، واللازم باطل. أما الملازمة؛ فلأن المذكور مجاز بالنسبة إلى ما استعمل فيه، مع أنه لم يستعمل في غيره.

وأجاب عنه بنقيضين: إجمالي وتفصيلي، وهو أن المجاز مسبوق بالوضع لمعنى اتفاقًا، فيجب أن تكون هذه المركبات موضوعة لمعنى، وليس كذلك.

وهو إلزامي، يعني نفس هذا الدليل يمكن به إلزام الخصم بالمعارضة، إما في المقدمة، أو في الحكم.

أما أولًا: فبأن نقول: ما ذكرت ليس مجازًا، وإلا لكان موضوعًا لمعنى للزوم سبق الوضع على المجاز.

أو نقول: لو لم يستلزم، لكان ما ذكرت موضوعًا لمعنى.

ثم أجاب بالجواب الحق وهو: أن قولك: لكان لنحو قامت الحرب حقيقة يعني مفرداته، نسلم الملازمة ونمنع بطلان التالي، فإن «قام» وضع

ص: 343

أولًا للإخبار عن انتصاب قامةٍ في زمن ماض واستعمل فيه، و «الساق» للعضو المخصوص، و «شاب» للإخبار عن اختلاط سواد الشعر ببياضه، و «اللمة» للشعر المحاذي لشحمة الأذن، وهي مستعملة في ذلك.

وإن عنيت لابد لها مركبة من حقائق من حيث هي مركبة، منعنا الملازمة، إذ لا مجاز في المركب، ويكون «قام» استعمل للشدة، فهو في غير ما وضع له، فيكون مجازًا لغويًا في المفرد.

ثم أورد على نفسه سؤالًا وهو: أن عبد القاهر الجرجاني من أئمة البيان، قال في نحو «أحياني اكتحالي بطلعتك»: إن المجاز في الإسناد، فإن الإحياء بمعنى المسرة مجاز، والاكتحال بمعنى الرؤية مجاز، وإسناد أحدهما إلى الآخر مجاز، إذ فاعل السرور هو الله تعالى.

أجاب: بأنه قول بعيد؛ لأن الإسناد المذكور لو كان مجازًا لكان له جهتان: جهة كونه مجازًا، وجهة كونه حقيقة، كالأسد للمفترس وللشجاع، لكن جهة وضعه الأول ليس إلا إسناد الإحياء إلى الاكتحال؛ لأن هذا الإسناد موضوع لذلك وضعًا أوليًا وهو ظاهر، ولو كانت تلك الجهة هي جهة كونه مجازًا لاتحدت جهة الإسناد، فيكون الإسناد الواحد من

ص: 344

جهة واحدة مجازًا غير مجاز، فحينئذ يكون التجوز في إضافة الفعل إلى السبب العادي.

واعلم أن العلماء اختلفوا في نحو: أنبت الربيع البقل، لعدم كون الربيع فاعلًا حقيقة، فلابد من تأويل في اللفظ، أو في المعنى، أو في التركيب، فهذه أربع:

الأول: التأويل في المعنى، وهو أنه أورده ليتصور، فينتقل الذهن منه إلى إنبات الله فيه فيصدق به، وهو قول الإمام فخر الدين، وأن المجاز عقلي لا لغوي.

الثاني: أن التأويل في أنبت، وهو السبب العادي، وإن كان موضوعًا للسبب الحقيقي، وهو قول المصنف.

الثالث: التأويل في الربيع، بأن يتصور بصورة فاعل حقيقي، فأسند إليه كما يسند إلى الفاعل الحقيقي، وهو قول السكاكي.

الرابع للجرجاني: التأويل في التركيب، وهو أن كل هيئة تركيبية وضعت بإزاء تأليف معنوي، وهذه وضعت لملابسة / الفاعلية، فإذا

ص: 345

استعملت لملابسة الظرفية كان مجازًا، نحو: صام نهاره، وقام ليله.

والحق أنها تصرفات عقلية، ولا حجر فيها، والكل ممكن، وإذ قد ظهر المقصود، فيصح حمل كلام المصنف (لا مجاز في التركيب) أي المجاز الغير عقلي، ومراد عبد القاهر المجاز العقلي، ولا محذور؛ لأن جهة إسناد المجاز العقلي هو خلاف ما عند المتكلم من الحكم، وجهة الإسناد الحقيقي العقلي هي ما عند المتكلم من الحكم، ضرورة أن المجاز العقلي هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم لضرب من التأويل، إفادة للخلاف لا بتوسط وضع، والحقيقي هو المفاد به ما عند المتكلم من الحكم فيه، والظاهر أن النزاع في أن المجاز يستلزم الحقيقة إنما هو في المفرد لا في المركب، وظهر أن المجاز في المفرد يخالف المجاز في المركب وكذا الحقيقة، ولا يدخلان تحت حد واحد، وأن المجاز العقلي سمي مجازًا لتعدي الحكم فيه عن مكانه الأصلي، لا لكونه مستعملًا في غير ما وضع له، وسمي عقليًا لعدم رجوعه إلى الوضع، إذ صيغ الأفعال والفاعلين غير منقولة، فليس المجاز إلا في نسبته تلك الأفعال إلى أولئك الفاعلين، وذلك أمر عقلي.

ثم قال: (ولو قيل: لو استلزم المجاز الحقيقة لكان للفظ الرحمن حقيقة) لأنه مجاز في الباري تعالى [لأنه من الرحمة] وهي رقة القلب، وذلك محال على الله تعالى، فيكون مجازًا، وأيضًا: فعلان وضع للمذكر حقيقة،

ص: 346

فإطلاقه على الله تعالى مجاز، وعسى فعل حقيقة للحدث والزمان، فإذا أطلق للحدث مجردًا، كان من إطلاق الكل للجزء وهو مجاز.

وقولهم: رحمان اليمامة، من كفرهم وتعنتهم، إذ لم يقصدوا به حقيقة ذلك، وإنما تسمى باسم الله.

وأما عسى فلم يسمع مستعملًا فيما وضع له.

قيل: عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.

قلنا: المراد العدم في الجملة، وقد ثبت.

قال: (مسألة: إذا دار اللفظ بين المجاز والاشتراك، فالمجاز أقرب؛ لأن الاشتراك يخل بالتفاهم، ويؤدي إلى مستبعد من ضد أو نقيض، ويحتاج إلى قرينتين.

ولأن المجاز أغلب، ويكون أبلغ وأوفق وأوجز، ويتوصل به إلى السجع، والمقابلة، والمطابقة، والمجانسة، والروي.

وعورض: بترجيح الاشتراك باطراده فلا يضطرب، وبالاشتقاق فيتسع، وبصحة المجاز فيهما فتكثر الفائدة، وباستغنائه عن العلاقة، وعن الحقيقة، وعن مخالفة ظاهر، وعن الغلط فيهما عند عدم القرينة.

وما ذكر من أنه أبلغ إلى آخرها، فمشترك فيهما.

والحق أنه لا يقابل الأغلب شيء مما ذكر).

ص: 347

أقول: التعارض بين المجاز والاشتراك يُتصور إذا عُلم أن اللفظ حقيقة في شيء ثم استعمل في غيره، وخفيت العلاقة السابقة أو عدمت، وترددنا بين أن يكون وضع للآخر أيضًا فيكون مشتركًا، أو تُجوز عن الموضوع له إلى هذا المعنى فيكون مجازًا.

قال المصنف: (فالحمل على المجاز أقرب) لمفاسد الاشتراك، وفوائد المجاز.

لا يقال: لا يتصور هذا التعارض؛ لأنه إن تبادر الذهن إلى ذلك الموضوع فهو مجاز في الآخر، وإلا فهو مشترك.

لأنا نقول: ليس بعلامة على ما سبق، أو قد يكون مفقودًا، إذ لا يلزم انعكاسها.

لا يقال: إن كانت بينه وبين الأول علاقة فمجاز وإلا فمشترك؛ لأن العلاقة قد تكون بين المشتركين، فلا نعرف هل الاستعمال لأجل العلاقة أو للوضع.

الأول: أن الاشتراك / يخل بالتفاهم عند عدم القرينة إذ لا يفهم منه شيء، ولا كذلك المجاز؛ لأنه مع القرينة يحمل عليه، وعند عدمها يحمل على الحقيقة.

ص: 348

الثاني: أن المشترك إذا فهم منه المراد يكون مؤديًا إلى مستبعد، وهو حمل الكلام على ما لا يناسب مراد المتكلم من ضد أو نقيض؛ لأنه قد يكون مشتركًا بين الضدين، كما لو قال: لا تطلق في القرء، ففهم الطهر، فطلق في الحيض، ولا كذلك المجاز، إن حمل على غير المراد لم يكن مستبعدًا، ضرورة المناسبة بين مفهوميه.

وفيه نظر؛ لأنه لا يؤدي عند القرينة، وأما عند عدمها فلا نفهم شيئًا، وإلا لم يخل بالتفاهم، وأيضًا: قد يتجوز عن أحد الضدين إلى الآخر.

وما قيل: إنه لما اعتبرت فيه المناسبة بين مفهوميه، فحمله على غير المراد وإن كان هذا غير مستبعد لأنه حمل على المناسب، ساقط.

الثالث: أن المشترك يحتاج في استعمال كل من معنييه إلى قرينة خاصة، بخلاف المجاز فإنه تكفي فيه قرينة واحدة عند استعماله في المفهوم المجازي، وكلما كان احتياجه أكثر كان محذوره أشد.

لا يقال: قد تكون له مجازات فيحتاج إلى قرائن؛ لأن المراد الأمر اللازم.

ثم شرع في فوائد المجاز منها:

- أنه أكثر وقوعًا في اللغة، والأكثر أرجح، ولذلك قيل: من أحب شيئًا أكثر من ذكره، حتى قيل: أكثر اللغة مجاز؛ لأنك إذا قلت:

ص: 349

ضربت زيدًا، إنما ضربت بعضه.

- ولأنه أبلغ؛ لأن قولنا: زيد أسد، أبلغ في وصفه بالشجاعة [من قولنا: زيد شجاع] ، ومن قولنا: زيد كالأسد.

- ولأن المجاز قد يكون أوجز، كقوله تعالى:{الحج أشهر معلومات} ، وقوله:{أو لامستم النساء} ، وإن كان لفظ الحقيقة تارة أوجز، مثل: جدارًا مائلًا، لكن عدل عنه لفائدة في {يريد أن ينقض} مفقودة في الحقيقة.

- ولأنه قد يكون أوفق، إما للطبع لثقل لفظ الحقيقة، أو عذوبة في المجاز، وإما للمقام.

- إما لتعظيم يقتضيه الحال أو لتنزيه السماع، كقوله تعالى:{هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} ، وكذا {أو جاء أحد منكم من الغائط} ، وإما لإهانة يقتضيها الحال.

- ومنها أنه يتوصل به إلى السجع، كقوله تعالى:{إن الأبرار لفي نعيم} ، لو قال: لفي الجنة، فات السجع.

-

ص: 350

والمقابلة، كقولك: اتخذت للأشهب أدهمًا، ولو قلت: قيدًا، فاتت المقابلة.

- والمطابقة، كقوله تعالى:{أو من كان ميتًا فأحييناه} ، لو قال: فهديناه، فاتت المطابقة.

- والجناس، كقولك: سبع سباع، لو قلت: شجعان، فات الجناس.

والروي بأن يكون لفظ المجاز يوافق روي القصيدة دون لفظ الحقيقة وهو ظاهر.

وهذه الوجوه ذكرت أسبابًا للعدول عن الحقيقة، وذكرها المصنف مرجحات.

وعورض: بأن الاشتراك أولى أيضًا لفوائد فيه، وخلوه عن مفاسد يشتمل عليها المجاز.

- منها: أن المشترك حقيقة ومن علاماتها الاطراد، والمجاز غير مطرد،

ص: 351

وما يكون مطردًا لا يكوم مضطربًا، وقد علمت أن بعض المجازات مطرد.

- ومنها: أن الحقيقة من خواصها الاشتقاق، فيشتق عن كل واحد فتتسع العبارات، وذلك أمر مطلوب، بخلاف المجاز.

وفيه نظر؛ لأن المجاز يجمع، وهو نوع من الاشتقاق.

- ومنها أن المشترك يتجوز عن كل واحد من مفهوميه، بخلاف الآخر إذ لا يتجوز إلا عن المفهوم الحقيقي، فتكثر الفوائد فيكون أولى.

- ومنها: خلو الاشتراك عن مفاسد المجاز؛ لأن المشترك يستغني عن العلاقة بين مفهوميه للوضع / لكل واحد منهما، بخلاف المجاز فإنه لا يتجوز إلا بعد ملاحظة العلاقة.

- ومنها: أنه لا يفتقر إلى وضع سابق عنه، بخلاف المجاز.

وكلام المصنف إنما يتم على القول بالاستلزام، بخلاف ما ذكرنا، وعن مخالفة ظاهر، فإن استعمال اللفظ في مفهومه المجازي استعمال في غير الظاهر لأن ظاهره ما وضع له، وعن الغلط لأن المشترك عند عدم القرينة لا يحمل على شيء فلا يقع غلط، ولا كذلك المجاز؛ لأنه عند عدم القرينة يحمل على الحقيقة، وقد يكون المراد المجاز.

ثم قال: (وما ذكرنا من أن المجاز أبلغ

إلى آخر الوجوه) ، فقد يكون للمشترك؛ لأنها أمور تابعة للبلاغة التي تكون للحقيقة والمجاز، فيكون أبلغ إذا اقتضى المقام الإجمال وأوجز، كالعين للجاسوس، ويتوصل به أيضًا إلى المذكور.

ص: 352