الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال:
(ابتداء الوضع
ليس بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية.
لنا: وضع اللفظ للشيء ونقيضه، وضده، وبوقوعه كالقرء والجون.
قالوا: لو تساوت لم تختص.
قلنا: تختص بإرادة الواضع المختار).
أقول: البحث الثالث في ابتداء الوضع، زعم عباد بن سليمان الصيمري وأهل تكسير الحروف، وبعض المعتزلة، أن بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية.
واعلم أن اختصاص دلالة اللفظ بمعنى دون آخر أمر ممكن يحتاج إلى مؤثر مخصص، وذلك المخصص إما ذات اللفظ أو غيره، فذهب بعض السلف ومن تقدم ذكره إلى الأول.
واحتج المصنف على فساده: بأنا قاطعون بجواز وضع اللفظ للشيء
ونقيضه وضده، وبوقوعه كالقرء الموضوع للطهر والحيض، والجون الموضوع للأسود والأبيض، وحينئذ يلزم أن يكون الشيء يناسب بطبعه النقيضين وما بالذات لا يتخلف، فيلزم من ثبوت اللفظ ثبوت المعنى وانتفاؤه ويلزم أن يكون لشيء واحد لازمان متنافيان، مع أنه لو كان كذلك ما اختلفت اللغات باختلاف الأمم؛ لأن ما بالذات لا يزول كحرارة النار، ويلزم امتناع نقل اللفظ إلى معنى آخر لا ينتقل الذهن عند سماعه إلى المعنى كما في المجاز المنقول والأعلام؛ لأن ما بالذات لا يتغير.
وأشار صاحب المفتاح إلى أن هذا تنبيه على ما دعاه أهل الاشتقاق وأهل التكسير من أن للحروف في أنفسها خواص بها تختلف، كالجهر والهمس والشدة والرخاوة، وأن الواضع لاحظ تلك المناسبة بين اللفظ ومدلوله حين [الوضع] ، فوضع للأمر الذي فيه شدة كلمة حروفها شديدة، وللأمر الذي فيه رخوة كلمة حروفها رخوة، كالفصم مثلًا بالفاء الذي هو حرف رخو لكسر الشيء من غير بينونة، والقضم / بالقاف الذي هو حرف شديد للكسر مع البينونة، فيكون لأنفس الكلم تأثير في اختصاصها بالمعاني، وهذه المناسبة هي المرجحة لإرادة الواضع في تخصيصه بعض الألفاظ ببعض المعاني، فحينئذ لا يلزم المحال المذكور؛ لأنه يكون ببعض الحروف مناسبًا لمعنى، وببعضها مناسبًا لآخر، أو تكون جهة مناسبة اللفظ لمعنيين متعددة من غير تناف بين الجهتين، وبأن يدل مثلًا على شيء وبالوضع على آخر،
ولم سلم الاتحاد أو التعدد مع التنافي، لكن لا يلزم من مناسبة الشيء بطبعه للمتنافيين حصول طبيعتهما فيه؛ لأن المناسبة الطبيعية بين نسبتين عبارة عن اتحادهما في إضافة تقتضيانهما، ولا يلزم منه حصول طبيعة أحدهما في الآخر، ولا يخفى ما فيه مما تقدم.
احتج عباد وأتباعه: بأنه لو لم يكن بين اللفظ والمعنى مناسبة طبيعية، لكان نسبة اللفظ إلى جميع المعاني على السوية فلا يختص معنى بلفظ، وإلا كان ترجيحًا من غير مرجح.
أجاب: بمنع الملازمة؛ إذ لا ينحصر المخصص في المناسبة، وإرادة الواضع المختار تصلح مخصصة من غير انضمام شيء إليها، كتخصيص الله إيجاد العالم في وقت دون آخر، وكتخصيص الناس الأعلام بالأشخاص.
قال: (مسألة: قال الأشعري: علمها الله بالوحي، أو بخلق الأصوات، أو بعلم ضروري.
البهشمية: وضعها البشر واحد أو جماعة، وحصل التعريف بالإشارة والقرائن كالأطفال.
الأستاذ: القدر المحتاج في التعريف توقيف، وغيره محتمل.
وقال القاضي: الجميع محتمل ممكن، ثم الظاهر قول الأشعري.
قال: {وعلم آدم الأسماء كلها} .
قالوا: ألهمه أو علمه ما سبق.
قلنا: خلاف الظاهر.
قالوا: الحقائق، بدليل {ثم عرضهم} .
قلنا: {أنبؤني} يبين أن التعليم لها، والضمير للمسميات.
واستدل: بقوله تعالى: {واختلاف ألسنتكم وألوانكم} ، والمراد اللغات باتفاق.
قلنا: التوقيف والإقدار في كونه آية سواء).
أقول: لما كانت الدلالة وضعية، قال الأشعري، وابن فورك، وبعض الفقهاء: الواضع هو الله تعالى، والعلم به بالتوقيف الإلهامي، ولهذا سمي هذا المذهب توقيفًا، والتوقيف إما على طريق الوحي، أو بخلق الأصوات والحروف في بعض الأجسام ويسمعها لواحد أو جماعة إسماع قاصد للدلالة على المعاني، مع خلق علم ضروري في ذلك السامع بدلالة تلك الألفاظ على تلك المعاني، وأنها موضوعة لها، أو لا هذا ولا ذاك بل بأن يخلق فيهم علمًا ضروريًا أن هذا اللفظ وضع لهذا المعنى.
وذهب أبو هاشم وأتباعه إلى أنها اصطلاحية وضعها البشر واحد أو جماعة، بأن انبعثت دواعيهم إلى وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني للفائدة
السابقة في مبادئ اللغة، وحصل التعريف للباقين بالإشارة والقرائن، كما يحصل التعريف بذلك للأطفال.
قيل: تعريف الأطفال يجوز أن يكون بعلم ضروري فيهم، والإشارة والقرائن شرطه هنا.
قلنا: اعتراض على المثال، والمصنف نسب إلى أبي هاشم فقال:«بهشمية» ؛ لأن النسب إلى الكناية على وجهين: ينسب إلى / الثاني فتقول في النسب إلى أبي بكر: بكري، وقد يصاغ منهما اسم فينسب إليه، كما يقال في النسب إلى امرئ القيس، مرقسي، وهنا صاغ منهما بهشمي ونسب إليه.
وذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني إلى أن القدر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى الوضع توقيف، وغيره يجوز أن يكون اصطلاحيًا وأن يكون توقيفيًا.
وقال القاضي أبو بكر: كل واحد من المذاهب الثلاثة لو فرض لم يلزم منه محال، ولا شيء من أدلة المذاهب المذكورة بمفيد للقطع، فوجب الوقف، اللهم إلا أن يكون النزاع في الظهور لا في القطع، فالظاهر قول
الأشعري لظهور أدلته.
قال الله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} والتعليم ظاهر في التفهيم بالخطاب، وأنه تعالى الواضع لا البشر، فكذا الأفعال والحروف إذ لا قائل بالفرق، ولأن التكلم بالأسماء وحدها يعسر؛ ولأن الجميع أسماء في اللغة ومن حيث إنها ترفع المسمى إلى الأذهان والتخصيص اصطلاح نحوي، فيكون المعنى: وعلم آدم أسماء المسميات، فحذف المضاف إليه لدلالة الاسم على المسمى وعوض منه الألف واللام، مثل:{واشتعل الرأس شيبًا} والمخالف تارة تأول التعليم، وتارة تأول ما وقع فيه التعليم.
أما الأول فقالوا: المراد بقوله تعالى: {وعلم آدم} أي ألهمه أن بضع، مثل:{وعلمناه صنعة لبوس لكم} ، أو علمه ما سبق وضعه من خلق قبل آدم.
أجاب: بأنه خلاف الظاهر، إذ المتبادر من تعليم الأسماء تعريف وضعها لمعانيها، والأصل عدم وضع سابق.
وأما تأويلهم ما وقع فيه التعليم، فقالوا: المحذوف المضاف لا المضاف إليه.
والمعنى: وعلم آدم مسميات الأسماء، يدل عليه {ثم عرضهم} ؛ لأن ضمير المذكر لا يصلح لأسماء، فهو للمسميات التي دل عليها الأسماء، ولما كان في المسميات العقلاء أغلبهم مذكر.
أجاب: بأن التعليم متعلق بما ت علق به الإنباء، والذي تعلق به الإنباء الأسماء، لقوله:{أنبؤني بأسماء هؤلاء} ، {أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم} ، ويحققه أن الكلام في معرض الامتنان على آدم بأنه علمه ما لم تعلم الملائكة، وإنما يتبين ذلك إذا سأل الملائكة عما علمه آدم، أما لو سألهم عن شيء آخر، لم يتم الإلزام، لجواز أن يكونوا عالمين بما علمه آدم.
وأما الضمير في {ثم عرضهم} فللمسميات وإن لم يتقدم لها ذكر؛ لأن القرينة الدالة على المسميات وهي كالأسماء مذكورة.
ولو قيل: المراد بالأسماء سمات الأشياء وخصائصها، كان متجهًا.
لا يقال: المراد في الجميع الحقائق.
لأنا نقول: يلزم تكثر المجاز وإضافة الشيء إلى نفسه.
واعلم أن ما ذكروه على الآية إن لم يقدر على أنه معارضة في المقدمة، وإلا كان الجواب كلامًا على المستند.
واستدل على أنها توقيفية بقوله تعالى: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم} وليس المراد الجارحة، إذ لا كبير اختلاف في العضو، وإذ بدائع الصنع في غير اللسان من العين والأذن أكثر، بل المراد اللغات تسمية للشيء باسم محله، أي من آياته خلق اختلاف لغاتكم، وكونه فاعلًا لاختلاف الألسنة من غير واسطة أبلغ، وإلا كانت من آيات غيره /.
أجاب: بأن الحقيقة التي هي الجارحة لما لم تكن مرادة، جاز أن يكون المراد من الألسنة القدرة على الوضع، وحينئذ التوقيف عليها بعد الوضع وإقدار الخلق على وضعها في كون اختلاف الألسنة آية من آيات الله سواء.
لا يقال: الحمل على اللغات أولى لما ذكرنا أولًا، ولأنه مجاز مشهور ولزيادة الإضمار في الحمل على الإقدار؛ [إذ المعنى حينئذ]: ومن آياته [الإقدار على وضع لغاتكم، ولما يلزم من اختلاف الإقدار]، لقوله:{واختلاف ألسنتكم} وهو واحد؛ لأنه معارض بأن القدرة على اللغات أقرب إلى المفهوم الحقيقي؛ لأن القدرة واسطة بين المفهوم الحقيقي واللغات، والأقرب إلى الحقيقة أولى، فتتعارض وتبقى المساواة.
قلت: والحق أن قوله: والمراد اللغات باتفاق لا يصح.
نعم الجارحة ليست مرادة باتفاق، لكن لا يلزم إرادة اللغات؛ لأنه
أظهر في اختلاف النغمات وأجناس النطق وأشكاله، إذ لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد، أو جهارة واحدة، أو رخاوة واحدة، أو فصاحة، أو لكنة، أو نظم، أو أسلوب، يدل عليه اختلاف ألوانكم، إذ لا ترى لونين من ألوان البشر متفقين، ولا كذلك اللغات؛ لأن الخلق الكثير تكون لهم لغة واحدة، ولو كان المراد اللغات لكان التوقيف أظهر من الإقدار لكثرة وجوه ترجيحه كما تقدم.
قال: (البهشمية: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} ، دل على سبق اللغات، وإلا لزم الدور.
قلنا: إذا كان آدم هو الذي علمها، اندفع الدور.
وأما جواز أن يكون التوقيف بخلق الأصوات أو بعلم ضروري، فخلاف المعتاد.
الأستاذ: إن لم يكن القدر المحتاج في التعريف توقيفًا لزم الدور، لتوقفه على اصطلاح سابق.
قلنا: يعرف بالقرائن والترديد كالأطفال).
أقول: احتج القائلون بأنها اصطلاحية بقوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} أي بلغتهم، فدل على أن اللغة سابقة على الإرسال، فلو كانت بالتوقف، وهو متوقف على الإرسال، لزم الدور.
أجاب: بمنع الملازمة؛ لأن الله تعالى علمها لآدم كما تقدم، [ولا
قوم] له، فتأخرت اللغات عن نبوته وتقدمت عن بعثة جميع الرسل، وإن صح إطلاق القوم على بنيه الذين أرسل إليهم، فالله تعالى علمه ذلك قبل نزوله إلى الأرض، ثم بعد نزوله وحدوث بنيه وإرساله إليهم، أرسل إليهم باللسان الذي علمهم آدم، فهو لسان قومه، وهو مما علم آدم قبل ذلك بالتوقيف، فلا دور.
قال في المنتهى: وأما الجواب بأنه يجوز أن يكون التوقيف بغير الرسل من خلق الأصوات أو خلق علم ضروري كما تقدم فلا يلزم الدور، بخلاف المعتاد، وإن كان جائزًا لكنه خلاف الظاهر، إذ المعتاد في التعليم هو التفهيم بالخطاب، على أن الكلام في شيء غير معتاد، فيصلح ما ذكروه لدفع الدور.
احتج الأستاذ: بأن القدر المحتاج إليه في التنبيه على الاصطلاح، وهو القدر الذي به يدعو الإنسان غيره إلى الوضع، لو لم يكن توفيقًا لزم الدور، أما الملازمة؛ فلأنه / لو كان الجميع اصطلاحيًا، لاحتيج في تعليمها إلى اصطلاح آخر سابق عليه، لتوقف الاصطلاح على سبق معرفة ذلك القدر، والمفروض أنه يعرف بالاصطلاح، فيلزم توقفه على سبق الاصطلاح على معرفته، وذلك دور.
قيل: المراد من قوله: على اصطلاح سابق، أي موصوف بالسبق لا
أنه يحتاج إلى اصطلاح آخر سابق عليه بالزمان، وإلا لكان اللازم التسلسل لا الدور.
وفيه نظر؛ لأن الدور لازم أيضًا، لأنا نقول: لو كان الجميع اصطلاحيًا، احتيج في تعلمها إلى اصطلاح آخر سابق، وذلك الاصطلاح يعرف باصطلاح آخر سابق، ولابد أن يعود إلى الأول، ضرورة تناهي الاصطلاحات، فيلزم الدور.
أجاب: بمنع توقفه على اصطلاح سابق، لجواز أن يعرف قصدهم إرادة الوضع بالإشارة والقرائن، كما تعرف الأطفال بها لغة آبائهم.
لا يقال: هو معارض بمثله، أي لو لم يكن القدر المحتاج اصطلاحيًا لزم الدور؛ لتوقف التوقيف على معرفة كون تلك الألفاظ للدلالة على المعاني، وذلك لا يعرف إلا بأمر خارج عن تلك الألفاظ، فإن كان توقيفًا فالكلام فيه كما مر، ويدور أو يتسلسل.
وجوابه: أنه يجوز أن يكون بعلم ضروري، أو بالإشارة العقلية لا الحسية لاستحالتها.
قال: (طريق معرفتها التواتر فيما لا يقبل التشكيك كالأرض، والسماء، والحرّ، والبرد، والآحاد في غيره).
أقول: لما كان العقل لا يستقل بمعرفة الموضوعات اللغوية، كان طريق معرفتها النقل، فما لا يقبل التشكيك أي يعلم وضعه لما استعمل فيه قطعًا
كالأرض، والسماء، والحرّ، والبرد، طريقه التواتر.
وما يقبل التشكيك، فما يظن وضعه لما استعمل فيه طريق الآحاد، والنقل يحتاج في إفادته العلم بالوضع إلى ضميمة عقلية، إذ صدق المخبر لابد منه، وهو أمر عقلي، فليس المراد بالنقل أن يكون مستقلًا بالدلالة من غير مدخل للعقل، فحينئذ إذا علم بالنقل [أن الجمع] المعرف باللام يدخله الاستثناء، وعلم به أيضًا أن الاستثناء إخراج ما لولاه لوجب دخوله، استنبط العقل من هاتين المقدمتين أن الجمع المعرّف باللام للعموم.
فهذا طريق من الطرق المثبتة للغة، وقد صرح به المصنف في قوله:(إلا بنقل أو استقراء التعميم).
وفي غير ما موضع يقول: لنا الاستقراء، وقال: قلنا ثبت بالاستقراءات المتقدمة.
قال: (الأحكام: لا يحكم العقل بأن الفعل حسن أو قبيح في حكم الله تعالى، ويطلق لثلاثة أمور إضافية: لموافقة الغرض ومخالفته، ولما أمرنا بالثناء عليه والذم، ولما لا حرج فيه ومقابله.
وفعل الله تعالى حسن بالاعتبارين الأخيرين.
وقالت المعتزلة والكرامية والبراهمة: الأفعال حسنة وقبيحة لذاتها، فالقدماء من غير صفة، وقو بصفة، وقوم بصفة في القبيح، والجبائية بوجوه واعتبارات.
لنا: لو كان ذاتيًا لما اختلف، وقد وجب الكذب إذا كان في عصمة نبي، والقتل والضرب وغيرهما.
وأيضًا: لو كان ذاتيًا لاجتماع النقيضان في صدق من قال: لأكذبن غدًا، وكذبه).
أقول: هذا هو القسم الثالث / من الاستمداد، وهو مبادئ الأصول من الأحكام، والحكم يستدعي حاكمًا، ومحكومًا فيه، ومحكومًا عليه.
أما الحاكم فهو الله تعالى، فلا حكم للعقل بحسن أو قبح في شيء من أفعال المكلفين المتعلقة بحكم الله تعالى الوضعي والتكليفي إذ لا حكم فوقه، فالنبي هو الموصل إلى معرفة حسن الأحكام وقبحها، ومعنى هذه العبارة على ما فيها: أن يكون الفعل متعلق المدح أو الذم عاجلًا أو آجلًا، وكونه على
وجه فيه حرج، أو لا يثبت إلا بالشرع ولا استقلال للعقل فيه.
وهذه العبارة وقع للشهرستاني ما يشابهها، وهو أبين.
قال: «مذهب أهل الحق أن العقل لا يدل على حسن شيء ولا على قبحه في حكم التكليف من الله تعالى شرعًا» ، يريد أنه يحكم العقل بذلك بمعنى موافقة الغرض ومخالفته، ولا يحكم به بهذا المعنى الآخر.
ثم حقق محل النزاع، فأشار إلى أن الحسن والقبح عند الأصحاب يطلق لإرادة ثلاثة أمور إضافية لا حقيقية.
يطلق الحسن لفعل وافق الغرض والقبيح لفعل خلافه، والغرض ما لأجله يصدر الفعل من الفاعل المختار، وهذا ليس بذاتي لتبدله واختلافه؛ لأن موافقة غرض شخص قد يكون مخالف غرض آخر، فهو إضافي لحسنه
بالنسبة إلى من وافق غرضه، وقبحه بالنسبة إلى من خالف غرضه.
الثاني: يطلق الحسن لفعل أمر الشارع الثناء على فاعله، ويدخل فيه أفعال الله تعالى، والقبيح لفعل أمرنا الله تعالى بذم فاعله، وذلك يختلف باختلاف ورود أمر الشارع في تلك الأفعال بحسب الأشخاص والأوقات فيكون إضافيًا.
الثالث: يطلق الحسن لفعل لا حرج في الإتيان به، والقبيح لفعل في الإتيان به حرج، وهذا أيضًا يختلف بالأزمان والأشخاص فيكون إضافيًا.
وفعل الله تعالى لا يوصف بالحسن بالاعتبار الأول عندنا؛ لأنه منزه عن أن يفعل لغرض، ويكون حسنًا بالأخيرين، أما بالثالث فطلقًا، وأما بالثاني فبعد ورود الشرع لا قبله، وأفعال العقلاء موصوفة بالحسن والقبح بعد ورود الشرع بالاعتبارات الثلاث، وقبله بالاعتبار الأول والثالث، والحسن بالتعبير الثاني أخص منه بالثالث؛ لتناوله بالثالث المباح والمكروه.
وإنما قال: «وفعل الله تعالى حسن» ، ولم يقل: غير قبيح؛ لأن ذلك يقتضي عدم قبح أفعال العباد؛ لأنه هو الفاعل لأفعالهم.
نعم بالنسبة إليه لا يقبح شيء، وبالنسبة إلى العبد يقبح، والفعل في نفسه موصوف بالقبح.
قيل: لو قال الموافق الغرض ومخالفه لكان أولى؛ لأنه في بيان الحسن
والقبح، ولا يلزم؛ لأن اللام للتعليل، أي يطلق عليه حسن لأجل موافقة الغرض.
واعلم أنه لا نزاع في أن الحسن [والقبح] بالمعنى الأول بما يستقل فيه العقل، وإنما النزاع فيه بالاعتبارين الأخيرين، فقال الأصحاب: لا استقلال للعقل فيه بهما.
وقال المعتزلة، والكرامية، وبعض الخوارج، والبراهمة من الكفار: الأفعال الاختيارية حسنة وقبيحة لذاتها، أي من ذات الفعل لا
من الشرع، لكن منها ما يدرك حسنه وقبحه بضرورة العقل، كحسن الإيمان وقبح الكفر، ومنها ما يدرك حسنه بنظر العقل، كحسن الصدق المضر، وقبح الكذب النافع، ومنها ما يدرك حسنه وقبحه بالسمع، كحسن صوم آخر / يوم من رمضان، وقبح صوم أول يوم من شوال، فالشارع كاشف الحسن والقبح لا موجب لهما عندهم.
ثم القائلون بالحسن والقبح الذاتيين اختلفوا، فذهب قدماء المعتزلة إلى أن الأفعال حسنة وقبيحة لذاتها، بمعنى أنه ليس في العقل صفة توجب الحسن أو القبح، بل ذات الفعل موجبة لأحدهما.
وقال قوم منهم: الفعلُ يقتضي لذاته صفة، وتلك الصفة تُوجب حسن الفعل وقبحه، كالصوم المشتمل على كسر الشهوة المقتضي عدم المفسدة، وكالزنا المشتمل على اختلاط الأنساب المقتضي ترك تعهد الأولاد.
وقال قوم: إن القبح لصفة تقتضيه، والحسن لذات الفعل، ووجه هذا التخصيص أن المعتزلة يرون أن الذوات متساوية والتمييز إنما هو بالصفات، فلو كانت الأفعال قبيحة لذاتها لزم قبح أفعال الله تعالى، لتساوي الأفعال عندهم في الذوات.
وقال الجبائي وأتباعه: الفعل يحسن بصفة موجبة، لكنها صفة غير حقيقة، ويقبح لصفة توجبه وليست أيضًا صفة حقيقة، وإنما هو وجوه واعتبارات، كلطم اليتيم للتأديب أو للتعذيب، والفرق بين الوجه [والاعتبار أن الوجه هو الصفة المفارق، لكنها صفة للفعل لا بالقياس إلى غيره، والاعتبار الصفة الغير اللازمة، لكن تعرض للفعل باعتبار غيره، وظاهر الإحكام أن مذهب الجبائي هو الثاني.
ثم احتج على إبطال المذاهب الثلاثة الأُوَل بوجهين:
الأول: لو كان الفعل يقتضي الحسن لذاته أو لصفة لازمة لذاته، لما اختلف الفعل الواحد فكان مرة حسنًا ومرة قبيحًا.
أما الملازمة؛ فلاستحالة انفكاك اللازم لذات الشيء عن الشيء، أعم من أن يكون لزومه بوسط هو لازم وبغير وسط.
وأما بطلان التالي؛ فإن الكذب قبيح وقد يحسن، فإنه يجب إذا كان فيه عصمة نبي من ظالم، وكذا يجب في إنقاذ برئ ممن يقصُدُ سفك دمه،
وكذلك القتل والضرب وغيرهما مما يجب تارة ويحرم أخرى.
وأيضًا: لو كان كذلك لاجتمع النقيضان.
بيان اللزوم؛ أن من قال: لأكذبن غدًا] فهذا خبر لا يخلو عن الصدق والكذب؛ لأنه إن وقع منه الكذب في الغد يلزم قبحه لكونه كذبًا وحسنه لاستلزامه صدق الخبر الأول، والمستلزم الحسن حسن، فيكون الكذب حسنًا وقبيحًا، وإن صدق في الغد يلزم كذب قوله: لأكذبن غدًا والمستلزم للقبيح قبيح، ويلزم حسنه لصدقه، فيجتمع النقيضان.
قيل على الأول: لا نسلم بطلان التالي؛ إذ لا يتعين الكذب في الصورة المذكورة بخلاص النبي؛ لإمكان تخليصه بالمعاريض.
سلمنا تعيينه، ونمنع حُسْنُه بل هو قبيح، لكّنا ارتكبناه لأن القبح الناشئ من تركه أعظم، أو نقول: الحسن خلاص النبي اللازم للكذب، وحسن اللازم لا يوجب حسن الملزوم، وأيضًا: لم لا يجوز اقتضاء الشيء الأمرين المتنافيين، أو يكون مشتملًا على صفتين إحداهما تقتضي الحسن والأخرى تقتضي القبح.
وجواب الأول: أنه إن التجأ إلى حيث لا تكون المعاريض كافية، تعين الإخبار.
ثم نقول: لا تجوز المعاريض.
والحديث الوارد فيه، لا يفيد إلا الظن، وهو معارض بما هو أقوى، إذ لو جازت لم / يحكم على خير بكونه كذبًا، إذ ما من كلام إلا ويمكن أن يضمن فيه ما يصير به صدقًا، مع أن ذلك يوجب عدم الجزم بفهم الحقيقة من شيء من ألفاظ لجواز أن يكون فيه مصلحة تقتضي صرفه عن ظاهره ولا سبيل إليه، أي إلى العلم بعدمها، وحينئذ يرتفع الوثوق [عن الشرع] ، فلابد من صريح الأخبار.
وجواب الثاني: أن ارتكابه واجب، فلو كان قبيحًا لكان حسنًا قبيحًا لذاته أو لصفة لازمة لذاته، وهو باطل قطعًا، لكن بعضهم يقول: لم يزل قبيحًا ووجوبه لكونه أخف المحذورين لا يقتضي حسنه، إذ ليس كل واجب حسنًا، وحسن اللازم يقتضي حسن الملزوم؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به
واجب عقلًا عندهم.
وجواب الرابع: أن تنافي اللوازم يقتضي تنافي الملزومات، فحينئذ يكون ملزوم المحال محال بالضرورة.
لا يقال: اتصف الفعل بصفة اقتضت حُسْنه ثم زالت، واتصف بأخرى تقتضي قُبْحه، إذ الفرض أن الصفة لازمة.
قال: (واستدل: لو كان ذاتيًا لزم قيام المعنى بالمعنى؛ لأن حسن الفعل زائد على مفهومه، وإلا لزم من تعقل الفعل تعلقه ويلزم وجوده لأن نقيضه: لا حسن، وهو سلب، وإلا استلزم حصوله محلًا موجودًا ولم يكن ذاتيًا، وقد وصف الفعل به، فيلزم قيامه به.
واعترض: بإجرائه في الممكن.
وأجيب: بأن الإمكان أمر تقديري لا وصف وجودي.
واعترض: بأن الاستدلال بصورة النفي على الوجود دور؛ لأنه قد يكون ثبوتيًا أو منقسمًا، فلا يفيد ذلك.
واستدل: بأن فعل العبد غير مختار، فلا يكون حسنًا ولا قبيحًا لذاته إجماعًا؛ لأنه إن كان لازمًا فواضح، وإن كان جائزًا فإن افتقر إلى مرجح عاد التقسيم، وإلا فهو اتفاقي وهو ضعيف، لأنا نفرق بين الضرورية والاختيارية ضرورة، ويلزم عليه فعل الباري تعالى ولا يوصف بحسن ولا قبح شرعًا، والتحقيق أنه يترجح بالاختيارية).
أقول: استدل أيضًا على إبطال مذاهبهم الثلاثة: بأن الحسن لو كان
ذاتيًا على الوجه المذكور، لزم قيام المعنى بالمعنى، واللازم باطل.
أما الملازمة؛ فلأن حسن الفعل زائد على مفهومه، إذ لو كان نفسه أو جزؤه، لزم من تعقل تعقله، لكنا نتعقل الفعل ويتوقف حسنه وقبحه على النظر، كحسن الصدق الضار، فثبت أنه زائد على الفعل، وهذا مستغنى عنه، إذ لا نزاع أنه زائد على ما فسرنا به الذاتي هنا وهو وجودي والدليل عليه أن نقيضه: لا حسن، ولا حسن عدمي لوجهين:
الأول: أنه لو كان وجوديًا لاستدعى محلًا موجودًا لكونه عرضًا، فلم يصدق على المعدوم، لكنه يصدق: المعدوم لا حسن.
الثاني: لو لم يكن لا حسن عدميًا لكان ثبوتيًا، فيكون الحسن عدميًا لوجوب عدمية أحد النقيضين، وحينئذ لا يكون وصفًا ذاتيًا إذ العدم لا يكون صفة ذاتية للذات، لأن السلب ليس من الصفات الحقيقية للذات.
[والحق أن لا يحتاج إلى إثبات كون الحسن ثبوتيًا؛ لأن المعتزلة ما عدا الجبائية يسلمون أن ثبوتي، وإذا كان نقيضه سلبًا، كان هو موجودًا، وإلا ارتفع النقيضان / ، فثبت أنه زائد وجودي، وهو معنى والفعل موصوف.
لأنا نقول: الفعل حسن، فيلزم قيام الحسن بالفعل؛ لامتناع] أن يوصف الشيء بمعنى يقوم بغيره، والفعل معنى فيلزم قيام العرض بالعرض.
وأما بيان بطلان التالي؛ فلأنه يلزم إثبات الحسن لمحل الفعل لأنهما معًا قائمان بالجوهر، لما تقرر في علم الكلام من امتناع قيام العرض بالعرض.
واختلف الشراح في قوله: (ولم يكن ذاتيًا).
فبعضهم جعله دليلًا على أن لا حسن يصدق على المعدوم، وإلا لصدق نقيضه عليه وهو الحسن، فلا يكون الحسن وصفًا ذاتيًا، إذ لا يكون الصفة الحقيقة الذاتية لما لا ذات له ولا حقيقة.
وبعضهم جعله دليلًا ثانيًا على أن الحسن وجودي، إذ لو لم يكن كذلك لم يكن ذاتيًا؛ لأن السلب ليس من الصفات الذاتية.
وبعضهم جعله بيانًا لكون الحسن زائدًا، أي ليس نفس الفعل ولا جزؤه ولا عدميًا.
أما الأول: فلإمكان تعقل الفعل بدون تعقل حسنه.
وأما الثاني: فلأن حسن الفعل يقع صفة له، وكل ما كان صفة لشيء لا يكون جزءًا له، قال: وهذا معنى قوله: ولم يكن ذاتيًا.
وأما الثالث: فلأن نقيضه لا حسن
…
إلخ، وهذا أبعدها، فإنه حمل الذاتي على جزء الماهية وليس مرادًا هنا، والذي دعاه إلى ذلك أن العدمي قد يكون من الصفات الذاتية للوجودي، فإن الإنسان مقتضيًا لاتصافه بلا فرس والمصنف ما ادعى صحته، لأنه مزيف عنده، غايته أنه ذكر نقضًا إجماليًا أبطل به الدليل، وذكر نقضًا تفصيليًا على أحد الوجهين الدالين على أن لا حسن عدمي، ولم يذكر نقضًا على الوجه الآخر، إما استغناء بالإجمالي أو لظهور فساده، وما ذكرنا أسعد باللفظ؛ لأنه يكون نقضًا على قوله: وإلا استلزم حصوله محلًا موجودًا.
ثم قال: (واعترض بإجرائه في الممكن) أي لو صح ما ذكرتم، لزم أن لا يكون الإمكان ذاتيًا للمكن، فلا يكون الفعل ممكنًا، وإلا لزم قيام العرض بالعرض.
وتقريره: أن الإمكان زائد كما تقدم وهو وجودي؛ لأن نقيضه لا إمكان، والإمكان عدمي إذ لو كان وجوديًا، استلزم حصوله محلًا موجودًا فيمتنع حمله على المعدوم إلخ.
وأيضًا: لو كان لا إمكان وجوديًا، لكان الإمكان عدميًا، فلا يكون ذاتيًا للممكن؛ لأن العدمي لا يكون ذاتيًا للأمر الموجود، أو نقول: الدليل المذكور يجري في أن الإمكان وجودي، فإنه نقيض الإمكان
…
إلخ، وليس بوجودي قطعًا وإلا وجب أو تسلسل، والتقرير الأول هو ظاهر المنتهى.
وأما النقض التفصيلي، فتقريره أن نقول: ما ذكرتم لبيان كون الحُسْن ثبوتيًا ملزوم للدور؛ لأنه لما لم يثبت كون الحسن موجودًا، لم يلزم أن يكون مقابله عدميًا فيتوقف الشيء على نفسه، وذلك أن صورة النفي قد تكون ثبوتية كلا معدوم، فإن اللامعدوم صورة نفي ولا يكون إلا موجودًا، أو قد تكون صورة النفي منقسمة إلى الوجودي والعدمي كالامتناع الصادق على الممكن المعدوم والممكن الموجود، فلا يفيد الاستدلال بمجرد صورة النفي كون الحُسْن موجودًا.
وبعضهم جعل الضمير في (لأنه قد يكون ثبوتيًا) عائدًا على المنفي لكونه ضميرًا مذكرًا، ومثل المنقسم بلا معلوم، فإن المعلوم منقسم إلى الوجودي والعدمي، وردّ في المنتهى النقض / الإجمالي، فإن الإمكان تقديري فنقيضه سلب التقدير وليس بعدمي، فلا يلزم من وصف الفعل به قيام العرض بالعرض، وأيضًا: الإمكان ليس عدميًا لموجود حتى يكون نقيضه الذي هو الإمكان موجودًا.
قيل: والاعتراض على الدليل المذكور أن يقال: لا نسلم أن الحسن ثبوتي.
قوله: لأن لا حُسْن عدمي، يمنعه قوله: لو كان وجوديًا لم يحمل على المعدوم، مسلّم إن عنى بحسب العدول، إذ الحمل بهذا الاعتبار يقتضي وجود الموضوع، وإن عنى بحسب السلب منعناه، إذ لا يستدعي وجود الموضوع، وفيه نظر.
سلمنا أن لا حسن عدمي، قوله: فيكون الحسن ثبوتيًا نمنعه، ولا يلزم أن يكون أحد النقيضين وجوديًا كالامتناع ولا امتناع فإنهما متناقضان، ولا يصدق على الممكن المعدوم إلا أحدهما ولا تحقق لشيء منهما في الخارج فيه.
سلمنا، ونمنع بطلان التالي، فإن السرعة قائمة بالحركة كما تقول الحكماء [قد مرّ].
قيل: هذا الدليل يقتضي ألا يكون الحسن والقبح شرعيين، لأنه لو
كان شرعيًا، لزم قيام العرض بالعرض
…
إلخ.
وجوابه: أن الشارع حسنه أو قبحه أو جعله متعلق الحسن والقبح، فليس صفة لازمة للفعل حتى يلزم قيام العرض بالعرض.
واستدل أيضًا للمذهب المختار: بأن فعل العبد واقع بغير اختياره، وكلما كان كذلك لا يكون حسنًا ولا قبيحًا عقلًا إجماعًا.
أما عندنا، فلعدم اتصاف الفعل بهما لذاته، سواء كان الفعل مختارًا أو لا، وأما عندهم؛ فلأنه إنما يتصف به [الفعل إذا كان الفاعل قادرًا عل الفعل عالمًا به.
وأما الصغرى؛ فلأن الفعل إن كان لابد من وقوعه من المكلف بحيث لا يتمكن من تركه فواضح أنه اضطرار، وإن كان جائزًا وجوده وعدمه من المكلف بحيث يسعه تركه، فإن افتقر صدوره إلى مرجح يعود التقسيم بأن يقال: الفعل مع المرجح إن كان لازم الوقوع فهو اضطراري] ، وإن كان جائز الوقوع عاد التقسيم، فإما أن ينتهي إلى ما يكون لازمًا فيثبت الاضطرار أو إلى ما لا يفتقر إلى مرجح بل يصدر عنه تارة ولا يصدر عنه أخرى، مع تساوي الحالين من غير تجدد أمر من الفاعل فيكون اتفاقيًا، فلا يوصف بحسن ولا قبح إجماعًا أيضًا، أو لا ينتهي فيلزم التسلسل.
وردّه المصنف من أربعة وجوه:
الأول: أنه تشكيك في الضروريات، لأنا نفرق بالضرورة بين الأفعال الضرورية والاختيارية، كالسقوط والصعود، وكحركتي الاختيار والارتعاش فلا يستحق جوابًا، وتقرر على أنه نقض تفصيلي، وهو أن نقول: إن أردتم في قولكم: إن كان لازمًا فواضح، أي أنه غير مختار كحركة المرتعش الصادرة لا عن إرادة فممنوع، لأنا ندرك بالضرورة أن أفعالنا ليست كذلك، وليس في دليلكم ما يدل على أنها كذلك، وإن أردتم به أن يكون واجب الصدور، فإن كان مع الإرادة فمسلّم، لكن لا نسلم أنه لا يقبح عقلًا بالإجماع، إذ الاتفاق إنما هو على ما كان اضطراريًا بالمعنى الأول.
والثاني: لو صح ما ذكرتم، لزم ألا يكون الله تعالى مختارًا بعين ما ذكرتم، وذلك كفر.
الثالث: لو صح ما ذكرتم، لزم ألا يتصف الفعل بحسن ولا قبح شرعًا لأن فعل العبد غير مختار كما ذكرتم، وغير المختار لا يتصف بالحسن والقبح شرعًا، إذ لا تكليف بغير المختار.
ثم أشار المصنف إلى الجواب الحق؛ لأن الأول لا يدفع الشبهة؛ لأن المشكك يقول: / إن كان ما أوردته صحيح النظم والإنتاج، لم تكن تلك
القضية ضرورية فلابد من حل الشبهة، وكذا الثاني والثالث لأنهما إلزاميان. فأجاب بالنقض الذي هو الحق، وذلك أن فعل العبد جائز صدوره ولا صدوره، ويفتقر في صدوره إلى مرجح وهو مجرد الاختيار عندنا، أو مع القدرة عند المعتزلة، سواء قلنا: يجب به الفعل أو لا، فإن الفعل يكون اختياريًا إذ لا معنى للاختياري إلا ما يترجح بالاختيار، وإن وجب فوجوب الشيء شرط إرادته لا ينافي القدرة، والمصحح للمقدورية نسبة الإمكان الذاتي إليه، وإلا لزم نفي قدرة الله تعالى، لوجوب صدور معلوماته عنه بشرط إرادته الجازمة.
قيل عليه: إذا كان ما يجب الفعل عنده من الله تعالى، بطل استقلال العبد به، فلا اختيار.
قلنا: بطلان الاستقلال لا ينافي الاختيار؛ لأن فعل الواقع منه إن كان تابعًا لإرادته فهو معنى الاختيار، وما تعلقت به إرادته وقوي عليه عزمه ولم يقع، فهو لعدم إرادة الله تعالى، لا يؤاخذ بتركه.
قيل على الوجه الأول: الضروري وجود القدرة لا أثرها، وعلى الثاني: إن تعلق إرادته قديم فلا يحتاج إلى مرجح مجرد فلا تسلسل، وعلى الثالث: إن الأفعال عندنا توصف بهما شرعًا وإن لم يكن العبد مختارًا، وعندهم لولا الاستقلال بالفعل لقبح التكليف عقلًا، فإذا استقل فهو مختار
فيتصف بهما شرعًا أيضًا.
قال: (وعلى الجبائية: لو حسن الفعل أو قبح لغير الطلب، لم يكن تعلق الطلب لنفسه، لتوقفه على أمر زائد، وأيضًا: لو حسن الفعل أو قبح لذاته أو لصفته، لم يكن الباري تعالى مختارًا في الحكم؛ لأن الحكم بالمرجوح على خلاف المعقول فيلزم الآخر فلا اختيار.
ومن السمع: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} ، لاستلزام مذهبهم خلافه).
أقول: لما كان ما تقدم لا ينهض على الجبائية؛ لأنه إذا كان بوجه واعتبار اندفع الأول بجواز الاختلاف والثاني بجواز الاجتماع، احتج الآن عليهم بالعقل والنقل. أما العقل فوجهان:
الأول: لو حسن الفعل أو قبح لأمر حاصل للفعل غير أمر الشارع ونهيه، لم يكن تعلق الطلب بالفعل لذات الطلب، واللازم باطل.
أما الملازمة؛ فلتوقف تعلق الطلب حينئذ على الوجه والاعتبار الزائدين على الفعل.
وأما بيان بطلان التالي؛ فلأن الطلب من حقيقته التعلق، لأن الطلب صفة ذات إضافة تستلزم مطلوبًا عقلًا، ولا تتعلق إلا متعلقة بمطلوب، وما هو للشيء بالذات لا يتوقف على أمر زائد، ثم التعلق نسبة بين الفعل
والطلب، والنسبة عقلًا وخارجًا لا تتوقف على غير المنتسبين.
قيل عليه: تعلق الطلب يتوقف على الفعل، والطلب يتوقف على الاعتبار الحاصل للفعل الموجب للحسن أو القبح، والمتوقف على المتوقف متوقف، فحينئذ لا نسلم بطلان التالي.
وردّ: بأن الوجه حادث والطلب قديم، والقديم لا يتوقف على الحادث فالتوقف إنما يكون للتعلق، على تقدير كون الجهة موجبة للحسن، لأنه ما لم تكن الحجة لم يتعلق الطلب به، فيعود السؤال.
قلت: وفيه نظر؛ لأنا نريد التعلق العقلي، فحينئذ يكون أيضًا عقليًا، فلا يلزم توقيف القديم على الحادث، ويكون أحد المنتسبين الفعل الموصوف بتلك الصفة، فما لم / تحصل لا يتعلق الطلب بالفعل، واستلزم الطلب المطلوب عقلًا إنما يدل على وجوب تعلقهما معًا لكونهما إضافيين، لا عدم توقف تعلق الطلب بالمطلوب في الخارج على أمر زائد.
قيل: الضمير في نفسه يعود على الفعل، والتقرير
…
إلخ.
وقيل: إن عاد إلى الطلب كان دليلًا على الجميع، وإن عاد على الفعل كان دليلًا على الجبائية فقط.
واستدل الأصحاب أيضًا بدليل ينهض على جميعهم، تقريره: لو حسن الفعل أو قبح لذاته أو لصفة لازمة أو عارضة، لم يكن الباري تعالى
مختارًا في الحكم، واللازم باطل إجماعًا.
بيان اللزوم؛ أن الأفعال حينئذ غير متساوية بالنسبة إلى الأحكام؛ لأن الفعل الحسن يكون راجحًا على القبيح في كونه متعلق الوجوب، والقبيح راجح على الحسن في كون متعلق التحريم والحكم بالراجح متعين لأن الحكم بالمرجوح خلاف صريح العقل، فلا يتمكن من تحريم الحسن ولا من إيجاب القبيح فلا يكون مختارًا لوجوب حكمه بالبعض وامتناع حكمه بالبعض.
قيل: إنما يتم لو كان ترك الراجح مطلقًا قبيحًا، أما لو لم يكن كذلك بل كان تركه مع الإتيان بالمرجوح قبيحًا فلا.
وهو فاسد؛ لأنه قبيح مطلقًا عندهم، ثم قد لا يكون بينهما واسطة.
قيل: الوجوب بالغير الذي هو الحسن لا ينافي الاختيار.
قلنا: إن كان الحكم فيه لكونه على وفق الحكمة، لزم تعليل أحكامه تعالى بالحكم والأغراض وهو باطل، وإن لم يكن لذلك كان منافيًا للاختيار وهو الجواب على قول من قال: امتناع الفعل لقيام صارف القبح لا ينافي الاختيار، نعم يقال من جانب الجبائية: الحكم بالمرجوح الاعتباري غير ممتنع وبالراجح الاعتباري غير لازم.
احتج الأصحاب أيضًا على إبطال مذاهب جميع المعتزلة بدليل من السمع تقريره: أن العقل لو كان مدركًا للأحكام، لزم التعذيب بمباشرة بعض الأفعال وترك بعض قبل البعثة، واللازم باطل.
أما الملازمة؛ فلتحقق الوجوب والتحريم قبل البعثة على ذلك التقدير، وهما يستلزمان التعذيب عندهم؛ لأنهم لا يجوزون العفو عن الكبائر قبل التوبة.
وأما بطلان اللازم؛ فلقوله تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} ، ومعنى لاستلزام مذهبهم خلافه، أي في عدم جواز العفو؛ لأن حسن بعض الأفعال وقبح بعضها قبل البعثة مستلزم لوجوب بعضها وحرمة البعض، ومن ترك الواجب أم فعل الحرام عذب، والتعذيب قبل البعثة مناف لمقتضى الآية الثابت، فيبقى مذهبهم وهو إلزامي؛ لأن استحقاق العذاب عن الترك هو لازم الوجوب لا وقوع العذاب، والآية لم تدل على نفي استحقاق العذاب، لكن لما كان لازم الوجوب عندهم العقاب على الترك انتهض عليهم.
أو نقول: وقوع العذاب وإن لم يكن لازمًا لهما، فعدم الأمن من العذاب لازم؛ لترك الواجب وفعل المحرم، وقد دلّت الآية على نفيه قبل الشرع؛ لأن الله تعالى أمنهم من العذاب قبل البعثة بإخباره بذلك، وعلى هذا يكون إلزاميًا، بل برهانيًا.
قيل: المقصود من الرسول العقل، أو المقصود وما كنا معذبين بالأوامر والنواهي الشرعية، أو في الأوامر التي لا يستقل بها العقل، حتى نبعث رسولًا.
قلنا: خلاف الظاهر، فلا يصار إليه لمجرد الاحتمال.
قال: (قالوا: حسن الصدق النافع والإيمان وقبح الكذب الضار والكفران، معلوم بالضرورة من غير نظر إلى عرف أو شرع أو غيرهما.
والجواب: المنع، بل بما ذكر.
قالوا: إذا استويا في المقصود مع قطع النظر عن كل مقدر، آثر العقل الصدق.
وأجيب: بأنه تقدير مستحيل، فلذلك يستبعد منع إيثار الصدق، ولو سلّم فلا يلزم في الغائب، للقطع بأنه لا يقبح من الله تعالى تمكين العبد من المعاصي، ويقبح منّا.
قالوا: لو كان شرعيًا لزم إفحام الرسل، فيقول: لا أنظر في معجزتك حتى يجب النظر ويعكس، أو لا يجب حتى يثبت الشرع ويعكس.
والجواب: أن وجوبه عندهم نظري، فلقوله بعينه، على أن النظر لا يتوقف على وجوبه، ولو سلّم فالوجوب بالشرع نظر أو لم ينظر، ثبت أو لم يثبت.
قالوا: ولو كان كذلك لجازت المعجزة من الكاذب، ولامتنع الحكم بقبح نسبة الكذب إلى الله تعالى قبل السمع، والتثليث، وأنواع الكفر من العالم.
وأجيب: بأن الأول إن امتنع فلمدرك آخر، والثاني ملزم إن أريد التحريم الشرعي).
أقول: احتج المعتزلة على إثبات حكم العقل بوجوه:
قالوا: حسن الصدق النافع والإيمان وقبح الكذب الضار والكفران، معلوم بالضرورة من غير نظر إلى عرف أو شرع أو مصلحة أو مفسدة، ولذلك اتفق عليه العقلاء مع اختلاف عرفهم وشرعهم وغرضهم يدل على أنه ذاتي، وإذا كان ذاتيًا في البعض كان ذاتيًا في الجميع، إذ لا قائل بالفرق.
أجاب: بمنع كونه معلومًا بالضرورة، بل بأحد ما ذكر من الشرع أو العرف أو غيرهما، أو لقول بمنع الضرورة في حسنه وقبحه بالمعنى المتنازع فيه.
نعم بمعنى موافقة الغرض ومخالفته مسلّم، لأنا لو قدرنا أنفسنا خالية عن المذكور، لم يحصل لنا جزم بحسنها ولا قبحها بالمعنى المتنازع فيه.
احتجوا ثانيًا: بأنه إذا استوى الصدق والكذب في جميع الأمور التي يمكن أن تكون متعلق الغرض العاقل بحيث لا يختلفان، إلا أن أحدهما صدق والآخر كذب، مع قطع النظر عن كل مقدر يصلح مرجحًا للصدق من شرع أو عرف أو مصلحة أو مفسدة، آثر العقل الصدق، ولولا أن الحسن ذاتيًا للصدق لما آثر العقل الصدق.
أجاب: لا استواء في نفس الأمر؛ لأن لكل واحد منهما لوازم وهما أيضًا متنافيان، ومحال تساوي المتنافيين، فحينئذ تقدير تساويهما تقدير مستحيل، فيمتنع إيثار الصدق على ذلك التقدير استبعاد منعه في نفس الأمر وإنما يلزم لو كان ذلك التقدير واقعًا.
سلمنا أن ذلك التقدير ممكنًا، فيكون دليلًا على أن حسن الصدق في الشاهد ذاتي، ولا نسلم أنه كذلك في حق الغائب الذي النزاع فيه، إذ الكلام في الحسن والقبح بالإضافة إلى أحكام الله تعالى، إذ لا دليل عليه إلا القياس على الشاهد، والقياس متعذر لانعقاد الإجماع على الفرق بأنه لا يقبح من الله تعالى تمكين العبد من المعاصي لأنه واقع، والقبح منه تعالى لم يقع، ويقبح من السيد تمكين عبده منها، وإذا جاز ألا يكون الشيء قبيحًا منه وكان ذلك الشيء قبيحًا منا، لا يثبت قياس حسن الصدق في حقه على حسن الصدق في حقنا.
قيل عليه: منع إمكان استوائهما في المقصود مكابرة.
وأيضًا: اختلاف حسن الصدق بالنسبة إلى الغائب والشاهد فيه نظر؛ لأن الذاتي لا يختلف بالنسبة إلى الأشياء.
قولكم: «لأنا نقطع
…
إلخ».
قلنا: هو واقع بقدرة العبد لا بقدرة الله، وعند النظام: الله تعالى غير قادر على منعه منها.
وأجيب عن الأول: أن إيثار العقل الصدق عند استوائهما في المقصود بمعنى الملائكة والمنافرة مسلّم، وبمعنى الثواب والعقاب ممنوع.
وعن الثاني: لو ثبت أنه ذاتي لم يختلف، لكن النزاع فيه، ثم نفس التخلية بين العبد وبين المعاصي وافق جمهورهم عليه، وهو غير قبيح / منه تعالى، ويقبح من السيد التخلية مع العلم والقدرة.
احتجوا ثالثًا: بأنه لو كان الحسن والقبح شرعيين، لزم إفحام الرسل أي قطعهم وعدم تمكينهم من إثبات نبوتهم، واللازم باطل.
أما الملازمة؛ فلأن الرسول إذا ادّعى النبوة وأتى بالمعجزة على وفق دعواه، وقال للمعاند: انظر في معجزتي كي تعلم صدقي، فله أن يقول: لا أنظر حتى يجب عليّ النظر ويعكس، أي ويقول: لا يجب عليّ النظر حتى أنظر، لتوقف جميع الواجبات بتقدير كون الحسن والقبح شرعيين على ثبوت الشرع المتوقف على النظر في المعجزة، وذلك دور مفحم فيلزم الانقطاع، أو يقول المعاند: لا أنظر في معجزتك حتى يجب عليّ النظر، ولا يجب عليّ النظر حتى يثبت الشرع، ضرورة توقف الوجوب عليه على ذلك التقدير، ويعكس بأن يقول: ولا يثبت الشرع ما لم يجب عليّ النظر، لأنه لا يثبت إلا بنظري، وأنا لا أنظر حتى يجب النظر، وهذا القول حق ولا سبيل للرسول إلى دفعه، فهو حجة عليه، وذلك معنى الإفحام.
أجاب عنه بنقيضين: إجمالي وتفصيلي:
أما الإجمالي: فبأنه مشترك الإلزام، لأن وجوب النظر وإن كان عقليًا عند المعتزلة، لكنه ليس بضروري لتوقفه على إفادة النظر العلم، وعلى أن
المعرفة واجبة، وعلى أنها لا تحصل إلا بالنظر، وعلى أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والكل مما لا يثبت إلا بأنظار دقيقة، وإذا كان وجوب النظر لا يعلم إلا بالنظر، فنقوله نحن بعينه عليهم، أي لو كان الحسن عقليًا لزم الإفحام بعين ما ذكرتم، بأن يقول للمعاند للرسول: لا أنظر حتى يجب النظر ولا يجب النظر حتى أنظر، أو يقول: لا يجب النظر ما لم يحكم العقل بوجوبه، ولا يحكم العقل بوجوبه ما لم يجب، فيلزم الإفحام أيضًا، فكلما تجعلونه جوابًا عنه فهو جواب لنا.
وأما التفصيلي: فهو أن نقول: قولك: لا أنظر حتى يجب عليّ النظر غير صحيح؛ لأن النظر لا يتوقف على وجوب النظر، لجواز أن ينظر المعاند قبل وجوب النظر أو قبل العلم بوجوب النظر، بسبب خطور إمكان الوجوب بباله واستلزام ترك ذلك إمكان العقاب، أو سبب آخر.
لا يقال: نحن ما ادعينا توقف حصول النظر على وجوبه حتى يدفع بأن النظر لا يتوقف على وجوبه، بل للمكلف أن يمتنع عن النظر حتى يعلم وجوبه. لأنا نقول: قوله «لا أنظر» إن كان معناه لا يقع مني النظر حتى يجب فممنوع، والسند ما مرّ، وإن كان معناه لا أتوجه إلى النظر حتى يجب عليّ النظر، فوجوب النظر لا يتوقف على التوجه إلى النظر، لجواز أن يحصل من غير توجه إليه، مع أنه لا يلزم من امتناع المكلف من النظر بقوله:«لا أنظر» عدم النظر فلا إفحام، ولو سلّم أن النظر يتوقف على وجوب النظر لكن وجوب النظر لا يتوقف على النظر، بل المتوقف على النظر العلم بوجوب النظر لا وجوب النظر.
فقوله: «لا يجب حتى أنظر، أو لا يجب حتى يثبت الشرع» غير صحيح؛ لأن الوجوب عندنا ثابت بالشرع نظر أو لم ينظر، ثبت الشرع عنده أو لم يثبت، وتحقق الوجوب لا يتوقف على العلم به، لأن العلم بالوجوب يتوقف على الوجوب ضرورة أن العلم تابع للمعلوم، فلو توقف الوجوب على العلم به لزم الدور، بل شرط الوجوب تمكن المخاطب من العلم به وهو حاصل لأنه إذا نظر في المعجزة علم صدق النبي، وبعد ذلك يعلم وجوب النظر، فليس من تكليف العاقل في شيء، لأنه يفهم التكليف وإن لم يصدق به.
قال نصير الدين الطوسي: أهل السنة يقولون: [استماع] الأمر بالوجوب وإمكان العلم به يوجبان في المستمع التفحص، فإذا تفحص حصل له العلم السمعي بالوجوب، قال: وهو المراد من قولهم: وجوب المعرفة سمعي.
ثم قال: والصواب إمكان العلم بصدق / الأوامر السمعية، يقتضي وجوب النظر فيها.
احتجوا رابعًا: بأنه لو كان شرعيًا، لجاز إظهار المعجزة على يد الكاذب ويلزم انسداد باب إثبات النبوة.
أما الملازمة؛ فلانتفاء القبح الذاتي الموجب لامتناع إظهاره على يده، أو نقول: لو كان شرعيًا لحسن من الله تعالى كل شيء، ولو حسن منه كل شيء لجازت المعجزة من الكاذب.
وأيضًا: لو كان الحسن والقبح شرعيًا، امتنع الحكم بقبح نسبة الكذب إلى الله تعالى قبل ورود السمع، واللازم باطل.
أما الملازمة؛ فلما تقدم، وأما بطلان التالي؛ فلأنه يلزم ألا نجزم بصدقه أصلًا؛ لأنه مما لا يمكن إثباته بالسمع؛ لأن حجية السمع فرع صدقه تعالى، إذ لو جاز كذبه لم يكن تصديقه للنبي إلا على صدق النبي، فيستد باب إثبات النبوة وترتفع الثقة عن كلام الله تعالى. وأيضًا: لو كان شرعيًا امتنع الحكم بقبح التثليث وأنواع الكفر، كنسبة الزوجة والولد إليه تعالى وغير ذلك من العلم قبل ورود السمع، واللازم باطل.
أما الملازمة؛ فلما تقدم، وأما بطلان التالي؛ فلأن العقلاء لا يحكمون بقبح ذلك، وبعضهم شرحه: وأنواع الكفر من العالم بقبح ذلك بكسر اللام، وأكثرهم شرح بفتحها، والكل صحيح.
أجاب المصنف: لا نسلم امتناع إظهار المعجزة على يد الكاذب امتناعًا عقليًا، ولو سلّم امتناعه فلا نسلم أن القبح العقلي استلزم انتفاء الجواز أن يمتنع لمدرك آخر، إما لأنا نعلم علمًا عاديًا امتناع المعجزة على يد الكاذب،
أو امتنع [لالتباس النبي بالمتنبي المؤدي] إلى سدّ باب إثبات النبوة.
وأما عن الملازمة الثانية، فالجواب: أنا لا نسلّم انتفاء التالي؛ لأنه إن أريد بقبح هذه الأمور التحريم الشرعي وهو المنع من الله تعالى الذي الراجح فيه التزامنا عدم قبحه، وإن أريد غيره لم يضر؛ لأنه إثبات لغير المتنازع فيه، أو نمنع اللزوم لجواز أن يحكم بقبح هذه الأشياء لكونها صفة نقص، والعقل يحكم بالقبح بهذا المعنى.
قال: (مسألتان على التنزل، الأولى: شكر المنعم ليس بواجب عقلًا لأنه لو وجب لوجب الفائدة، وإلا كان عبثًا وهو قبيح، ولا فائدة الله تعالى لتعاليه عنها، وإلا للعبد في الدنيا لأنها مشقة ولا حظّ للنفس فيه ولا في الآخرة، إذ لا مجال للعقل في ذلك.
قولهم: الفائدة الأمن من احتمال العقاب في الترك وذلك لازم الخطور مردود، وبمنع الخطور في الأكثر، ولو سلّم فمعارض باحتمال العقاب على الشكر؛ لأنه تصرف في ملك الغير، أو لأنه كالاستهزاء، كمن شكر ملكًا على لقمة، بل اللقمة بالنسبة إلى الملك أكثر).
أقول: لما بطل حكم العقل، لم يجب شكر المنعم قبل ورود الشرع، ولم يكن للأشياء حكم قبل ورود الشرع، لكن عادة كثير من متأخري
الأصحاب فرض الكلام مع المعتزلة في هاتين المسألتين، إظهارًا لما يختص بهما من المناقضة، ولسقوط كلامهم فيهما بعد تسليم الحسن والقبح.
ومعنى التنزل: الانحطاط عن المذهب الأشرف.
المسألة الأولى: شكر المنعم ليس بواجب عقلًا، فلا إثم على من لم تبلغه دعوى النبوة خلافًا للمعتزلة، وشكر المنعم: صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من القوى الظاهرة والباطنة فيما خلقت لأجله، كصرف النظر إلى مشاهدة مصنوعاته.
واحتج عليه: بأنه لو وجب عقلًا لوجب لفائدة، واللازم باطل.
أما الملازمة؛ فلأنه لو وجب لا لفائدة لكان عبثًا وهو ممتنع على الحكيم.
وأما الثانية؛ فلأن الفائدة إما لله وإما للعبد، والثاني إما في الدنيا أو في الآخرة، والثلاثة منتفية.
أما الأول: فلتعاليه عن الفائدة.
وأما الثاني: فلأنه مشقة وتعب ناجز ولا حظّ للنفس فيه؛ لأنها حرمت الشهوات واللذات.
وأما الثالث: فلأن أحوال الآخرة غيب، ولا مجال للعقل في الجزم بإيجاب الفائدة، لاحتمال العقاب على الشكر.
واعترض / المعتزلة الدليل المذكور: بمنع بطلان التالي.
قولكم: لا فائدة للعبد في الدنيا نمنعه؛ لأن الأمن من احتمال العقاب بتقدير ترك الشكر فائدة، والاحتمال المذكور لازم الخطور ببال كل عاقل لأنه إذا رأى النعم التي أنعم الله بها عليه التي لا تحصى، علم أنه لا يمتنع كون المنعم بها ألزمه الشكر، وأنه إن لم يشكر عاقبه.
وردّه المصنف من وجهين:
الأول: أنا نمنع لزوم خطوره بالبال، لأنا نعلم أن ذلك ما خطر قط لأكثر الناس ببال وإنما يخطر بالبعض، وأنتم أوجبتم الشكر على الكل.
سلمنا لزوم الخطور، لكن خوف العقاب على الترك معارض لاحتمال العقاب على الشكر، إما لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذن المالك وهو محتمل للعقاب عليه، وإما لأنه كالاستهزاء كمن شكر ملكًا عظيمًا على لقمة بل اللقمة بالنسبة إلى الملك أعظم، بل لا نسبة بينهما، وإذا كان كالاستهزاء فلا يأمن من العقاب بفعله.
وقدح بعضهم في الدليل المذكور: بأن الكلام على التنزل، وحينئذ تمنع الملازمة؛ لجواب أن يكون الشكر لنفسه، كما أن تحصيل المصلحة ودفع المفسدة [مطلوب] لنفسه.
سلمنا الملازمة، ونمنع بطلان التالي؛ لأن العقل لما استقل بإدراك حسن بعض الأفعال الموجب للثناء، فالعقل مستقل بإدراك الفائدة الأخروية.
سلمنا، وذلك لازم عليكم في الوجوب الشرعي؛ لأنا نقول: لو وجب لوجب لفائدة
…
إلخ.
وأجيب: بأن نفس الشكر ليس فائدة لما مرّ، وليس المراد لوجب لفائدة زائدة بل أعم، وحصول المنفعة ودفع المفسدة نفسه فائدة.
وعن المعارضة: بأن الوجوب الشرعي لا يستدعي غرضًا، ولو سلّم فالشرع الموجب مستقل بإدراكها، وهنا العقل لا يستقل بإدراكها، ويستحيل أن يوجب العقل شيئًا لفائدة لا يعلمها.
قال: (الثانية: لا حكم فيما لا يقضي العقل فيه بحسن ولا قبح.
وثالثها لهم: الوقف عن الحظر والإباحة.
وأما غيرها فانقسم عندهم إلى خمسة، لأنها لو كانت محظورة وفرضنا ضدين لكلف بالمحال.
الأستاذ: إذا ملك جواد بحرًا لا ينزف، وأحب مملوكه قطرة، فكيف يدرك تحريمها عقلًا؟ .
قالوا: تصرف في ملك الغير.
قلنا: ينبني على السمع.
ولو سلّم، ففي من يلحقه ضرر ما.
ولو سلّم، فمعارض بالضرر الناجز.
وإن أراد المبيح ألا حرج، فمسلّم.
وإن أراد خطاب الشارع، فلا شرع.
وإن أراد حكم العقل بالتخيير، فالفرض أنه لا مجال للعقل فيه.
قالوا: خلقه وخلق المنتفع به، والحكمة تقتضي الإباحة.
قلنا: معارض بأنه ملك غيره، وخلقه ليصبر فيثاب، وإن أراد الواقف أنه وقف لتعارض الأدلة، ففاسد.
وإن أراد أنه وقف لتوقف الحق فيه على السمع، فهو حق).
أقول: الثانية في حكم أفعال العباد قبل الشرع.
وقد قسّم المعتزلة الأفعال الاختيارية لا الاضطرارية - كالتنفس في الهواء فإنه مقطوع بإباحته عندهم - إلى ما لا يهتدي
العقل فيه إلى حسن ولا قبح.
ولهم فيه ثلاثة مذاهب: الحظر، والإباحة، والوقف.
وما يقضي العقل به بحسن أو قبح ينقسم عندهم إلى الخمسة؛ لأنه إن اشتمل أحد طرفيه على مفسدة، بأن كل المشتمل فعله، فحرام.
وإن كان المشتمل تركه، فواجب.
وإن لم يشتمل عليها بل اشتمل على مصلحة، فإن كان المشتمل فعله
فمندوب، وإن كان المشتمل تركه فمكروه، وإن لم يشتمل على مصلحة ولا مفسدة فمباح.
قلت: لم تظهر هنا فائدة للتنزل؛ لأن ما يقضي العقل فيه بحسن أو قبح لم يتكلم المصنف على إبطال مذهبهم فيه بعد تسليم الحسن والقبح، وما لا يقضى فيه بحسن ولا قبح لا أثر للتنزل أيضًا فيه، لأنهم ما بنوه على التحسين والتقبيح، ضرورة أن العقل / لا يقضي فيه بحسن ولا قبح، فلم يحكم فيه حكمًا تابعًا للحسن والقبح، وإنما حكم لأمر آخر.
إما للحظر، فأخذًا بالاحتياط والأشد استبراء للنفس.
ومن أباح قال: لو حرمه لنصب عليه دليل عقلي أو شرعي.
والواقف لتعارض الأمرين، وهذا أمر لا شك فيه؛ لأن الفرض أنها مما لا يقضي العقل فيها بحسن ولا قبح، ولا يلزم ألا يقضي فيها بحرمة؛ لأن التحريم ليس بملزوم للقبح عندهم، وروي أيضًا الوقف عن الأشعري.
ولأصحابنا المالكية الأقوال الثلاثة فيما لا مستند له من كتاب ولا سنّة ولا إجماع.
أما التحريم فأخذًا بالأحوط؛ لأن الله تعالى بّين الأشياء، فإهماله حكم هذا الشيء يكون عن قصد، فاجتراؤنا على الإقدام عليه لا يقتضيه الشرع.
وأما الإباحة؛ فلأنها لو حرمت لبّين تعالى ذلك، إذ يبعد تحريم شيء من غير بيان.
وأما الوقف؛ فلأن الله تعالى قال: {أحل لكم} ، وقال:{حرم عليكم} ، فلو كانت على الحظر ما قال: حرّم عليكم، ولو كانت على الإباحة ما قال: أُحلّ لكم.
احتج المصنف على القائل بالحظر فيما لا يقضي العقل فيه: بأن الأفعال لو كانت محظور وفرضنا ضدين يمتنع الخلو عنهما كالحركة والسكون، لزم التكليف بالمحال، بيان اللزوم؛ أن العقل إذا لم يقض في الحركة ولا في السكون وقلنا بالحظر، كان كل من الحركة والسكون حرامًا، فالتكليف بتركهما تكليف بالمستحيل، إذ لا يمكن تركهما، والتكليف به قبيح لذاته، وفي إطلاق الضدين على المذكور مسامحة، ثم لهم أن يقولوا في ضدين لا واسطة بينهما بحكم العقل بإباحة أحدهما قطعًا، وأيضًا: لا يلزم من انتفاء
المجموع المركب من كونها محظورة ومن ضدين كما ذكر انتفاء كونها محظورة، لجواز أن يكون انتفاء المجموع بانتفاء الضدين، لا يقال: فرض الضدين كما ذكر ممكن، ولذلك قال: وفرضنا ضدين، فلو كانت محظورة لزم إمكان التكليف بالمحال لأنا نقول: فرضها كما ذكر ممكن ذهنًا، ولا نسلم أنه ممكن في الخارج بحيث لا يستلزم محال.
سلمنا أنه ممكن في الخارج بحيث لا يستلزم محال.
سلمنا، ولا نسلم إمكان التكليف بالمحال قبيح عقلًا، إذ لا استحالة في إمكان أن يقال لشخص في زمان واحد تحرك واسكن، والقبيح هو التكليف به لا إمكان التكليف به.
احتج الأستاذ على القائلين بالحظر بما لا يفيد إلا استبعاده وهو: أن من ملك بحرًا لا ينزف أي لا يذهب ماؤه، وكان جوادًا، واحتاج مملوكه إلى قطرة من ذلك البحر، فكيف يتصور منع الجواد ذلك المملوك من تلك القطرة، فالجواد المطلق أولى، وهو من قياس الغايب على الشاهد.
ولقائل أن يقول: لا نسلّم أنه لا يدرك عقلًا تحريمه، ولا يلزم منه القبح حتى يخرج عن محل النزاع.
احتجوا: بأن مباشرة الأفعال المذكورة تصرف في ملك الغير بغير إذنه فيكون حرامًا، كما في الشاهد، أو عقلًا ولا يلزم قبحه كما مرّ.
أجاب: بأن التصرف في ملك الغير حرام عقلًا ممنوع، ولولا ورود السمع به ما علم، ولا يستقيم هذا المنع على التنزيه، ولا يلزم من الحرمة القبح، ولو سلم أنه حرام عقلًا / ففي من يلحقه ضرر ما بالتصرف في ملكه ولذلك لا يقبح النظر في مرآة الغير، وشم عطره، والاستظلال بجداره،
والاصطلاء بناره، والله تعالى منزه عن الضرر، ولو سلّم أنه حرام عقلًا مطلقًا لجواز تضرر المتصرف آجلًا، فمعارض بما في المنع من الضرر الناجز ودفعه عن النفس واجب عقلًا، مع أن اعتبار الحاضر أولى.
لا يقال: فرض تضرره في الحال يصيرها مما يقضي العقل فيها بقبح، فيخرج عن محل النزاع.
لأنا نقول: المراد بالضرر الناجز جوازه لا الجزم بتحقق الضرر الناجز؛ لأن العقل وإن لم يجزم فيها بقبح لكن لا يجزم بعدم احتمال الضرر الناجز.
ثم استفسر المصنف المبيح فقال:
إن أردت لا حرج في الفعل ولا حرج في الترك فمُسلّم، إذ الحرج إنما يحصل من الشرع ولا شرع، وإن أردت خطاب الشرع بذلك، فالفرض أنه مما لا يحكم العقل فيه بحسن ولا قبح في حكم الشارع، وذلك معنى عدم حكم العقل بحسنه أو قبحه، وقد فرضته كذلك فيتناقض، هذا على النسخ التي فيها «وإن أراد خطاب الشارع فالفرض أنه لا مجال للعقل فيه» ، وعلى النسخ التي فيها «وإن أراد خطاب الشرع فلا شرع» ، أي وإن أراد الإذن الشرعي فلا إباحة قبل الشرع، إذ لا شرع، وإن أراد بالإباحة حكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك فلا إباحة أيضًا، إذ الفرض أنه من الأفعال التي لا مجال للعقل فيها.
وفيه نظر على النسختين معًا؛ إذ لا يلزم من كونه لا مجال للعقل فيه بحسن أو قبح ألا يحكم فيه بالإباحة.
احتج المبيح: بأن الله تعالى خلق العبد وخلق ما ينتفع به، فالحكمة تقتضي إباحه له، تحصيلًا للمقصود من خلقهما، وإلا كان عبثًا.
أجاب: بالمعارضة بأنه ملك الغير فيحرم، وأيضًا لا يلزم من عدم الإباحة عبث؛ لأنه ربما خلقها ليشتهيها فيصبر عنها فيثاب عليها.
واعلم أن المعارض مرفوعة بما تقدم، مع أنها تنافي تسليم المصنف الإباحة بمعنى لا حرج، وإنما قال: فالحكمة تقتضي الإباحة، توهمًا أنه لو قال: فالفعل يقتضي الإباحة، خرج عن موضوع المسألة، ولسي كذلك لما عرفت. ثم استفسر القائل بالوقف، فقال: إن توقف على الحكم لتوقف الحكم على السمع فهو حق، وإن توقف لتعارض الأدلة ففاسد، لأنا تبينا بطلانها فلا تعارض.
والحق أن الوقف لتوقف الحكم على السمع باطل، إذ الحكم قديم فلا يتوقف تعلقه على البعثة، نعم الوقف لتوقف العلم صحيح؛ إذ للواقف أن يقول: أردت أن ثمَّ حكمًا بأحدهما في نفسه، فالبعض مباح والبعض محظور ولا أدري أيهما هو الفعل المعني.