الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاعمال أسباب لحصول المصالح، أو أسباب لحصول المفاسد، فصح بذلك ترتب الثواب والعقاب عليها، ولم يتناقض -على هذا- ما قررناه، والله أعلم.
القاعدة الثانية عشرة:
إعلم أنه، وإن كان الأصل كما قررنا أن ترتب الأحكام على حسب المصالح والمفاسد وبحسب مراتبها، فقد يخرج عن ذلك لا لما تقدم من المفاسد كما قررنَا في القاعدة التي تقدمت لنا، ولكن قد يجيء تخيير الشارع بين المصالح المتفاضلات وفعل الأفضل أولا كما قلنا، وذلك للرفق والتيسير علينا. وقد تكون الرخصة أفضل من العزيمة كتقصير الصلوات، وقد تكون العزيمة أفضل من الرخصة كتفريق الصلوات على الأوقات في الأسفار إلا بعرفة ومزدلفة، فإن تقدم العصر الى الظهر أفضل بعرفة، وتأخر المغرب أفضل بمزدلفة. وربّ عملٍ قاصر، أفضلُ من عَمَل متعدٍ، كالعرفان والإِيمان، وكذلك الحج والصلاة والصيام والأذكار وقراءة القرآن. ورُبّ عملٍ خفيف أفضلُ من عمل شاق لشرف الخفيف.
القاعدة الثالثة عشرة:
إعلم أن أحوال القلب في المعرفة أصل في أحواله من الخوف والرجاء وما أشبههما من المقامات، ولهذا من غلب عليه التطلع على نقمة الله كان حاله الخوف، ومن عرف سعة رحمة الله وغلب عليه النظر لها كان خاله الرجاء. ومن غلب عليه توحد الرب بالنفع والضر، والرفع والخفض، لم يتوكل في كل ذلك إلا عليه، ولم يفوض أمره إلا إليه. ومن عرف عظمته وجلاله كانت حاله الإِجلال والمهابة، ومن غلب عليه اطلاعه على أحواله استحيى منه أن يخالفه، ومن غلب عليه سماعه لأقواله استحيى أن يقول ما لا يرضيه، ومن غلب عليه إحسانه إليه كانت حاله المحبة، ومن غلب عليه التطلع على جماله وكماله كان حاله المحبة، وكانت محبته أفضل من محبة الذي قبله.
ثم أكثر ما تخطر هذه المعارف وتغلب بالاستحضارِ والأفكار. ثم كل حال من هذه الاحوال المذكورة ينشأ عنها من الأقوال والأعمال ما يطابقها ويوافقها، فمن حصل له الخوف كان منه الحزن والبكاء والانقباض، ومن كان حاله الرجاء
حصل له الانبساط، وترجية الناس وما أشبه (17) هذا. والحب ينشأ (18) عليه الشوق وخوف الفراق، وأنسُ التلاق، والسرور والفرح، والحياء يحمل على ألا يقع في مخالفته في قول ولا فعل، والحياء يحمل على الهابة والاجلال، وهما أعظم من الخوف والرجاء. ثم الآثار الظاهرةُ على الناس تعرف بمؤثراتها من أحوال ومعارف، فكانت كذلك تميز الفاضل من غير الفاضل، والأفضل من الفاضل، والأكمل من الكامل.
ثم إذا علمتَ أن الاعماق -وهي الآثار- مرتبة على الأحوال القلبية والمعارف فاعلَم أن درجات المحبة مختلفة باختلاف الأعمال. فليست درجات المجاهدين واحدة، بل تختلف بحسب مجاهداتهم. فللمجاهدين مائة درجة في الجنة، يترتب أعلاها على أعلى رتب الجهاد، وأدناها على أدناها، وكذلك رتب المصلين والصائمين والولاة المقسطين. وعلى هذه الدرجات يتزلب سبقهم إلى الجنات. فإذا تساوى اثنان في الإيمان والعرفان، فإن استويا في مقادير الإيمان (19) الحقيقي والحكمي، فدرجتهما واحدة فيما استويا فيه، وإن تقاربا في القِلة والكثرة، كانت درجة ذي الكثرة أعلى من درجة ذى القلة، ولو استوى اثنان في عدد الصلاة، فإن استويا في كمالها بسننها وآدابها وخضوعها وخشوعها، وفهم إدراكها، فهما في درجة واحدة، وإن تفاوتا في ذلك كان أكملها أعلى درجة من أنقصها.
وان استوى اثنان في جهاد الدفع، فإن استويا في الإخلاص وارادة اعلاء كلمة الله وفي المدفوع عنه فدرجتهما واحدة، وان تفاوتا في النية وكثرة من قتلا وفي شرف المدفوع عنه، كالدفع عن الأنبياء والأولياء، كان أشرفهما في الدرجة العليا، والآخر في الدنيا، وكذلك جميع ما يتقرب به إلى الله تعالى.
ومعنى تفاوت الدرجات، أن يكون لكل واحد من العاملين نصيبه من الجنة درجات مترتباتٍ على رتب أعماله: عاليات ودانيات، ومتوسطات، يتردد
(17) ن ح: وما ناسب.
(18)
ن ح: ينبني
(19)
ن ح: في الدِين.
بينها على ما تشتهيه نفسه وتلذ عينه. وقد صح أن الله أعد للمجاهدين في سبيله مائة درجة، بيْنَ كل درجتين مائة عام (20).
ولو آمن انسان قبل موته بلحظة لم يكن أجْرُهُ كأجر إيمان من آمن قبل موته بيوم، ولا أجر من آمن قبل موته بيوم كأجر من آمن قبل موته بشهر، ولا أجر من آمن قبل موته بشهر كأجر من آمن قبل موته بعام، فليس من طال عمرهُ في الطاعات والايمان كمن قصَر، ولهذا قال عليه السلام:"خيركم من طال عمرهُ، وحسُن عمله"(21). وقال: "لا يتمنين أحدُكم الموتَ لضر نزل به، فإنه لا يزيد أحدَكم عمرُهُ إلا خيرًا، إما محسنٌ يزداد، وإما مسئ فيستعتب"(22) ولمثل هذا
(20) ونصه بتمامه: عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال؛ : "من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان، كان حقا على الله أن يدخله الجنة، جاهدَ في سبيلِ الله أو جلس في أرضه التى وُلد في. فقالوا يا رسول الله، أفلا نبشر الناس؟ قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والارض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وأراه قال: وفوقه عرش الرحمان، ومنه تتفجر أنهار الجنة" .. رواه البخاري والترمذى رحمهما الله.
(21)
أخرجه الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي في كتابه الجامع الصغير نقلا عن المستدرك للحاكم، وَروايةً عن جابر ضى الله عنه بصيغة الجمع هكذا: خياركم أطولكم أعمارا، وأحسنكم أعمالا. وفي رواية أخرى للسيوطي عن الإمام البزَّار من رواية أبى هريرة رضى الله عنه:"خياركم أطولكم أعمارا، وأحسنكم أخلاقا .. " رحم الله جميع أهْل السنة والعلم والفقه في الدين، وجزاهم خيرا عن الإسلام والمسلمين.
(22)
أخرجه الإمام أحمد بن حنبل والبخارى، والنّسائي، روايةً عن أبى هريرة رضى الله عنه، وذكره في الجامع الصغير بهذه الصيغة: لا يتمنيَنْ أحدكم الموت، إما محسنا فلعله يزداد، وإما مسيئا فلعله يستعتب .. والملاحظ أن صيغة الحديث في ثنايا الكتاب جاءت في كلمة محسن ومسئ مرفوعة، وفي هذه الرواية جاءت منصوبة، فالأولى خبر لمبتدأ محذوف، والثانية خبر لكان المحذوفة مع اسمها.
ومن القواعد والأحكام النحوية الخاصة بكان أنها تحذف أحيانا ويبقى اسمها وخبرها، أو تحذف مع اسمها، ويبقى خبرها فقط، وخاصة بعد إن ولو، كا أنها قد تكون زائدة وسط الكلام، مثل زيادتها بين ما وفعل التعجب، وهو ما أشار إليه ابن مالك رحمه الله في ألفيته بقوله:
وقد تزاد كان في حشوك ما
…
كان أصحّ علمَ من تقدما
ويَحذفونها ويُبقون الخبر
…
وبعد إن ولو كثيرًا ذَا اشتهرْ
وبعد أن تعويضُ ما عنها ارتُكِب
…
كمثْلِ أمّا أنتَ بَرًا فاقترب
ومنه البيت القائل:
أبا خراشة أنا أنت ذَا نفر
…
فإن قومي لم تاكلهم الضبع
أي ما أصح علم من تقدما، ولا تخيفني ولا تفزعني لأن كنت ذا نفر وقوم، فإن قومي موجودون وحاضرون لم تأكلهم السباع، ولم تذهب بهم آفة من آفات الزمان، بل هم حاضرون أقولاء للنجدة في كل وقت وحال.
شح الأولياء على الأوقات أن يصرفوها في غير الطاعات. وكذلك ترتب عذاب جهنم على تزليب المفاسد وكثرتها وقلتها. فالعذاب على الزنى دون العذاب على القتل، والعذاب على أكبر الكبائر دون العذاب على الكفر، وليس من كفر قبل موته لحظة كمن أقام على الكفر يوما، وليس من أقام يومًا على الكفر، كمن أقام شهرا، وهكذا على الترتيب المذكور في الثواب، والله سبحانه أعلم.