الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصوم
قاعدتان:
القاعدة الأولى (1): نقرر فيها لِمَ كانت الخصوصية العظيمة للصوم، المذكورة في قوله تعالى:"كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"(2).
ويُلحَق بهذا أيضًا الكلامُ على قوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعهُ بست من شوال، فكأنما صام الدهر (3) "، فنقول:
أما الحديث الأول فذكر العلماء في ذلك وجوهًا:
أحدها أنه أمر خفي، لا يمكن أن يُّطلَع عليه، بخلاف الصلاة وغيرها.
ويَرِدُ عليه الإِيمانُ والاخلاص وأعمال القلب الحسنةُ كلها، والحديثُ تناولها سوى الصوم (4).
(1) هي موضوع الفرق العشرين بين قاعدة الصوم وقاعدة غيره من الاعمال الصالحة". جـ 1 ص 132.
(2)
حديث قدسي صحيح، رواه الشيخان وغيرهما بروايات متعددة، وهذه رواية الامام الترمذي، كما أوردها الحافظ المنذري، وتمامه في هذه الرواية: والصوم جُنة (من النار)، (والجنة بضم الجيم هي الحفظ والوقاية). ولخلوف الصائم أطيب عد الله من ريح المسك. (والخلوف بضم الخاء رائحة الفم) وان جهل على أحدكم جاهل، وهو صائم فليقل: إني صائم، إني صائم
…
ومعلوم أن الحديث القدسي يقال عد روايته: قال الله تعالى فيما رواه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه.
(3)
حديث صحيح أخرجه الامام مسلم، وبعض أصحاب السنن عن أبي أيوب الانصارى رضي الله عنه.
(4)
أي تناول الحديثُ القدسي المذكورُ بعمومه أعمال القلب الحسنة كلها ما عدا الصوم. فإنه مستثنى ومختص بثواب كبير وأجر عظيم عند الله تعالى.
وقد علق الفقيه ابن الشاط رحمه الله وعقب على ما جاء عند القرافي رحمه الله في الوجه الاول، فقال: قلتُ: أحسن ما قيل في ذلك عندي القول الذي افتتح به، وهو أنه أمرٌ خفي لا يمكن
وثانيها أن جَوف الانسان يبقى خاليا، فيحصل له شبه بصفة الربوبية، فإِن الصمد هو الذي لا جوف له على أحد الأقوال. ويرد عليه الاشتغال بالعلوم، والعِلْمُ من أجل صِفات الربوبية (5).
وثالثها أنه اختص بذلك لترك الشهوات العظيمة، ويرد عليه الجهاد فإنه أعظم من ذلك.
ورابعها أن جميع العبادات وقع التقرب بها لغير الله تعالى إلا الصوم، فإنه لم يتقرب به لغير الله. ويرد عليه أن الصوم وقع لِلْكَوَاكِبِ من أرباب الاستخدامات لها.
وخامسها أن الصوم. يوجب تصفية الفكر وصفاء العقل، ولهذا،
قال صلى الله عليه وسلم: "لا تدخل الحكمة جوفًا مُلِئَ طعاما"، وصفاء العقل يوجب حصول المعارف الربانية ويرد عليه أن الصلاة ودوام الذكر والمراقبة، والتزام الأدب، توجب المعارف الربانية، لقوله تعالى:"والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"(6)، وهذا أحسن ما ذكر في هذا الحديث، وقد رأيت ما ورد على كل واحد.
= الاطلاع عليه حقيقة لغير الله تعالى، وما أورد عليه من النقض بالإِيمان وسائر أعمال القلوب يجاب عنه على أن المراد به الاعمال الظاهرة لا الباطنة، وأن الصوم اختص دونها بهذه المزية. ولا يرد عليه كون الصلاة افضل منه، لانه لا تعارض بين المزية والأفضلية على ما قرر هو بعد هذا، والله أعلم.
(5)
زاد القرافي هنا رحمه الله: فمن حصله فقد حصل له شبه عظيم. وكذلك الانتقام من المجرمين، والاحسان إلى المؤمنين، وتعظيم الاولياء والصالحين. وكل ذلك إذا صدر من العبد كان فيه التخلق بأخلاق رب العالمين، ، ومع ذلك فالصوم مفضل عليها بعموم الحديث المتقدم" اهـ.
أقول: ولعله كان من الأنسب في خصوص مسألة الصوم هنا تشبيه الصائم في خُلُوِّ جَوفِهِ عن الطعام، وصفاء روحه بالصيام، بالملائكة الكرام، فإنهم أجسام نورانية، لا ياكلون ولا يشربون، وهم بذلك في عالم السمو والروحانية، في الملأ الاعلى عند الله، وتشبيه المخلوق بالمخلوق في بعض الصفات والخصال أصلحُ وأنسب، وأولى وأقرب، وهذا لا يتنافى مع ما جاء في الحديث الوارد، تخلقوا بأخلاق الله، والله سبحانه أعلى وأعلمُ.
(6)
سورة العنكبوت: الآية: 69، وتمامها، "وإن الله لمع المحسنين".
قلت: يمكن أن يقال: كان هذا في الصوم دون غيره، لمجموع ما ذكر فيه في هذه (7) الوجوه، إذْ لا يلزم النقض من حيث الأفراد أن يكون النقض يَرِدُ بذلك عند اعتبار المجموع.
ويمكن أن يقال: لأنه أصل التزكية (8) كلها، فالصوم مِلَاك الخير كله، ولا شيء يوجد مثله في ذلك، والله أعلم.
وأما الحديث الآخر ففيه أسئلة:
الأول: لِمَ قال: "بستِ (9) "، والصومُ لا يكون في الليالي وإنما يكون في النهار؟
الجواب أن العربَ تؤرخ بالليالي دون الأيام.
الثاني: لِمَ قال: "بست"، وهل لست، مزية على الخمس والسبع؟
الثالث: هل لشوال خصوصية في ذلك؟
الرابع: كيف حصلت المساواة في الثواب بين الكل والبعض؟
(7) في نسخة ح: مِن هذه الوجوه.
(8)
كذا في نسخة ع، وفي نسخة ثالثة: التزكية، والذي في نسخة ح: البركة، ويظهر من خلال السياق والمعنى، أن كلمة البركة أنسب وأظهر وأصوب، بمعنى أن الصيام أصل البركة في العمل والكسب والطاعة، يفهم من قوله في آخر هذا السطر:"فالصوم مِلاك الخير كله".
على أنه يكون لكلمة التزكية هنا مدلول ووجه خاص، وهي التزكية من الله تعالى لعبده المؤمن الصالح، والمكانة والحظوة التي ينالها عنده، على قدر نية العبدِ وإخلاصه في عمله وعبادته لربه وخالقه. فقد قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} ، وقال سبحانه:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . وقال جل علاه: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} .
(9)
ذلك أن العدد هنا مذكر، والفروض في معدوده أن يكون على عكسه مؤنثا، وهو الليالي. وَلَا يصح أن تكون مقصودة هنا، لأن الليالي ليست ظرفا ووقتا للصيام، وإنما ظروفه النهار، فكان يمكن أن يقال في الحديث: "وأتبعه بستة .. اي بستة ايام، وذلك تمشيا مع ما هو مقرر في فصيح وبليغ الكلام العربي بالنسبة للعدد مع معدوده، وقرره علماء النحو في القواعد اللغوية المطردة. والنبي صلى الله عليه وسلم أبلغ البلغاء وأفصح الفصحاء، أوتي جوامع الكلم وفصْل الخطاب. فكان الجواب السليم عن التساؤل واكتشاف سر ذلك التعبير النبوي هنا أن العرب تؤرخ بالليالي دون الأيام، والله أعلم وأحكم.
الخامس: هل دخول مَا وسقوطها على السواء أم لا؟
السادس: صوم الدَّهر، المعتبر فيه على حالةٍ مخصوصة أو كيف كان؟
السابع: هل بين هذه الأيام الستة والأيام المذكورة في قوله تعالى:
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} (10) فرق أم لا؟
الجواب عن الأول أن العرب تؤرخ بالليالي دون الأيام.
وعن الثاني: إنما قال: "من شوال"، رفقا بالمكلف، لأنه حديثُ عهد بالصوم فيكون عليه أسهل، وتأخرها عن رمضان أفضل عند المالكية، لئلا يطول الزمان فيلحق برمضان عند الجهال (11). ويدل على حسن هذا النظر واعتباره، قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أصاب اللهُ بك يا ابن الخطاب"، لما قال لرجل صلى الفرض فقام ليتنفل عقِب فرضه: اجلس حتى تفصل بين فرضك ونفْلك، فبهذا هلك من كان قبلنا.
وقالت الشافعية: خصوص شوال مرادٌ، لما فيه من المبادرة إلى العبادة، لقوله تعالى:"سارِعوا" و"سابقوا".
وعن الثالث، أن مزية الستِ على غيرها من حيث إن شهرا بعشرة أشهر، وستة أيام بستين يوما، فمن فعل ذلك في سنة فهو بمنزلة من صام تلك السنة،
(10) الأعراف: الآية 54، وسورة يونس: الآية 3.
(11)
وفي ذلك قال أبو الوليد ابن رشد رحمه الله في كتابه: (المقدمات الممهدات): "فكرِه مالك رحمه الله ذلك، مخافةَ أن يُلحِق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء. وأما للرجل في خاصة نفسه، فلا يكره له صيامها، كما كره (أي مالك) أن يتعمد المرء صيام الأيام الغر (جمع أغر، وهي البيضاء)، وهي ثلاثة عشر، وأربع عشر، وخمسة عشر على ما روى فيها، مخافة أن يجعل صيامها واجبا. وعيت الأيام البيض لكون لياليها تكون بيضاء باكتمال البدر وإشراقه وسطوع نوره فيها.
وقد عبر عن ذلك الشيخ خليل بْنُ اسحاق المالكي، وأوجزه في عبارة مركزة من مختصر الفقهي للمدونة حيث قال:"وكره البيض كستة من شوال". (أي كره صيام الأيام البيض كستة من شوال".
وقوله هنا: لئلا يطول الزمان، تعليل وتوجيه لاُفضلية تأتيرها عن رمضان عند المالكية، وذلك بِوصل صيامها بعد إفطاره يوم العيد الذي يحرم صيامه، والشروع في صيام الأيام الست من شوال، في اليوم الثاني منه والثالث مثلا، لِمَا في ذلك مِنْ اتصال الصيام لها بعد رمضان، فيطول الزمان بالانسان. والله أعلم.
فإذا تكرر ذلك في جميع عمره كان كمن صام الدهر. والمراد بالدهر عمره إلى آخره، وبهذا يحصل المطابقة لا ازيدُ ولا أنقَصُ، وبالأزيدِ أكثرُ من الدهر، وبالأنقصِ أقلُّ من الدهر.
وعن الرابعِ أن صيام سنة لَا يعدل عند الله تعالى صيام شهر وستة أيام، فإنما معنى هذا الحديث أن صيام رمضان من هذه الأمة، وستة أيام من شوال يُشْبه من صام سنة من غير هذه، إذْ تضعيف الحسنات من خصائص هذه الأمة، وعلى هذا ما شبه إلا المثل بالمثل من غير زيادة ولا نقص.
وعن الخامس أنه لو قال صلى الله عليه وسلم: "فكأنه صام الدهر"، لكان بعيدا عن المقصود، فإن المقصود تشبيه الصيام في هذه المسألة - إذا وقع على الوضع المخصوص - بالصيام في غير هذه الملة، لا تشبيه الصيام بغيره، فلو قال: فكأنه، لكانتْ أداة التشبيه داخلة على الصّائم، فكان يلزم أن يكون هو محل التشبيه لا الصوم. والمقصودُ الفعل بالفعل، لا الفاعل بالفعل، وإذا قال: فكأنما وكفَّتْ بما، دخلت أذاة التشبيه على الفعل نفسه، ووقع التشبيه بين الفعل باعتبار الملتين.
وعن السادس أن المراد صوم الدهر على حالة مخصوصة لا الدهر كيف كان، وذلك أن صوم رمضان واجب، وصوم السِّتَّةِ مندوب، فيكون صوم الدهر إنما كان، من حيث إنَّ الستة التي تناسب الشهر، والسنَّةَ خمسة أسداسها فرض، وسُدسها، وهو الشهرانِ، نفل، فهذا هو المراد لا غيره.
وعن السَّابع أن السِت في هذا الحديث قد تقدمت حكمتها، وهي كونها يكمل بها السنة من غير زيادة ولا نقص.
وأما الستة في الآية، فقال بعض الفضلاء: الأعداد ثلانة أقسام:
عدد تام، وعدد زائد، وعدد ناقص.
والعدد التام هو الذي إذا اجتمعت أجزاؤه استقام منها ذلك العدد
كالستة، فإن أجزاءَهَا النصف ثلاثة، والثلث اثنان، والسدس واحد، فلا جزء لها غير هذه، ومجموعها ست، وهو أصل العدد من غير زيادة ولا نقص. والأربعة لها نصف وربع خاصة، مجموعها ثلاثة، فلم يحصل ذلك العدد، فالأربعة عدد ناقص. والعشرة لها نصف وهو خمسة، ولها خمس وهو اثنان. ونصف خمس وهو واحد، فالعدد الناقص عندهم كآدمي خُلق بنقص عضو من أعضائه، فهو معيب، والزائد أيضا معيب. والعدد التام كإنسان خلِق سويا، وهو أفضل الأعداد. وإذا تقرر أنه عدد تام، فهو، أعني، الستة، أول الأعداد التامة، وفيه تنبيه على أن الحساب جميل.
القاعدة الثانية: (12)
نقرر فيها الفرق بين الصوم المتتابع الظهار وبينه في غير الظهار.
كالنذر للصوم المتتابع وغيره، حتى كان الفقهاء يقولون في كفارة الظهار: من أفطرَ فيها ناسيا أو مُكْرَها، فهو كمن أفطر عامدا غير مُكْرَه، يستأنف الصوم ويبطل التتابع، ولا يطأ حتى ياتي بصوم متتانم كامل، ويقُولُون في النذر وما أشبهه مما فيه التتابع خلاف الظهار: إذا كان نسيانا أو إكراها، لمرض أو غيره، فإنه لا يحتاج إِلى الاستئناف، بل يصل ذلك الصوم بصوم بعد اليوم الذي نسي صيامه، وإنما يبتدىُّ إذا كان عامداً قادراً، فنقول (13):
(12) هي موضوع الفرق الثالث والسبعين والاثة بين قاعدة ما يُبطِل التتابع في صوم الكفارات والنذور وغير ذلك وبين قاعدة ما لا يبطل التتابع، جـ 3 ض 194.
(13)
قال في أوله القرافي رحمه الله: إعلم أن هذه من المواضع المشكلة، فإن مالكا رحمه الله تعالى قال في المدونة: إذا أكل في صوم الظهار أو القتل أو النذر المتتابع ناسيا أو مجتهدا أو مكرها، أو وِطئَ نهارا غير المظاهَرِ منها ناسيا، قضى يوما متصلا بصومه، فإن لم يفعل ابتدأ الصوم من أوله، فإن وطئ الظاهَرَ منها ليلا أو نهارا أولَ صومه أو آخره ناسيا أو عامداً ابتداً الصوم، وقال الشافعي رحمه الله: إن وطئها ليلا لم يتصل صومه، ووافقنا أبو حنيفة في هذه المسألة.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: الفِطر يبطل التتابع مطلقا، وخالفهما أحمد بن حنبل، وعللا ذلك بأن الفطر باختياره، بخلاف المرض، والإغماء عند الشافعي كالمرض، خلافا لأبي حنيفة، وكذلك الحامل والمرضع كالمريض عنده .. الخ.
الفرق بينهما أن الخطاب الوارد بهذا الصوم هو خطاب تكليف لا خِطابُ وضع، وخطاب التكليف يشترط فيه العلم وإلقدرة، فالعالم القادر وجد شرط التكليف فيه، فكان إذا أفسد ياتي باستئناف الصوم، لأن الواجب هو الصوم المتتابع ولم يات به، وهو عليه واجب، فيستأنف، وأما الناسِي أو المريض فقدْ اختل شرط الوجوب في حقه من حيث عدم العلم أو من حيث عدم القدرة، فإذا وجد الشرط عاد الواجب، فوصل الصوم بالصوم وكان ذلك متتابعا، وما كان قبله من فطر لم يفسد التتابع بين الصومين لفقد شرط الوجوب، بخلاف فطر المتعمد القادر، فبان وجه القول في غير الظهار.
وأما الظِهار ففيه ما في النَّذْرِ وزيادةُ شرط تقدم التتابع على إباحة الوطء، بل واشتراط أن لا يتخلل الوطء بين الصوم، وهذا لِأجل قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ
= وقد استشكل القرافي رحمه الله تعالى هذه الفتاوى، وقال: هي كلها مشكلة، من جهة أن لفظ الكتاب العزيز متعلق بطلبٍ، وهو قوله تعالى:"فصيامُ شهرين متتابعين" ومعْنَاهُ لِيَصُمْ شهرين متتابعين، فيكون خيرا معناه الأمر، أو يكون التقدير: فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين، وهذا هو الاظهر، لأنه أقرب لموافقته الظاهر من بقاء الخبر خبرا على حاله
…
ثم قال بعد ذلك: والذي يظهر في بادى الرأي أن التفريق (أي بين الصوم المتتابع) مَتَى حصل بأي طريق كان، وجب ابتداء الصوم كما قلناه في جميع النظائر المتقدمة. لأن الصوم بوصف التتابع لم يحصل، ومتى لم يحصل المطلوب الشرعي مع إمكان الاتيان به، وجب الاتيانَ به، هذا هو القاعدة، ثم قال: والجواب عن هذا الاشكال ببيان قاعدة، وهي أن الاحكام الشرعية على قسمين: خطاب وضع وخطاب تكليف، فخطاب الوضع هو نصب الأسباب والشروط والموانع والتقديرات الشرعية (أي مِن قبل الشارع الحكيمِ)، وخطاب التكليف هو الأحكام الخمسة: الوجوب والتحريم، والندب والكراهة، والاباحة إلى اخر ما ذكره القرافي واختصره اليقوري هنا. رحمهم الله.
وقد علق الفقيه ابن الشاط على ما جاءَ عند القرافي في هذا الفرق بقوله: جميع ما قاله فيه صحيحٌ، الا قوله، فالفهوم من قوله تعالى في الظهار:"من قبل ان يتماسا" أنه يصوم شهرين متتابعين ليس قبلهما وطء ولا في أثنائهما وطء، فإنه ظهر منه بحسب مساق كلامه أن الآية تقتضى عدمَ تقدم الوطءِ مطلقا، وهذا لَا يصِحُّ ان تقتضِيهُ الآية لاشمالها على من تقدم وطؤها، وإنما المراد بالآية أن لا يتقدم الصومَ وطءٌ بعد الظهار، والله أعلم. اهـ.
يَتَمَاسَّا} (14). فلما اشترط هذا لم يصح له اباحة الوطء الا بأن يستأنف الصوم، ولم يكن كالنذر، والله أعلم.
وها هنا مسألة هي مثل ما ذكرناه باعتبار، وهي أن التطوعات عند مالك، من الصوم أو الصلاة أو غيرهما، شأنها أنها تجب بالشروع، ثم مع هذا يقول مالك فيها: إن كان افسادها لعذر واضح كالنسيان فلا قضاء فيها، وإن كان لا لعذر فالقضاء، وقاعدة الوجوب في القضاء ألَّا نفرق بين نسيانه وعمده.
فالجواب أن الفطر إذا كان نسيانا أو لعدم قدرة، ما كان الإِتمام واجباً، ولَمَّا لم يكن واجبا لم يكن القضاء مرتَّبا، فلما لم يكن عذر بشيء من ذلك فالوجوب ثابت في الإِتمام لوجود شرط الوجوب، فإذا وقع الفطر في الصوم فالقضاء، كما قال صلى الله عليه وسلم لحفصة وعائشة:"أفطرا واقضِيا يوماً مكانه".
قلت: ونلحق هنا مسألة وهي: لِمَ كان الفرض يُقضَى مطلقا، وكان النفل يفرق فيه، بل كان القياس يقتضى ألَّا قضاء في النفل مطلقاً، لإِظهار رتبة الفرض، فنقول: إنما وقع التفريق لأنه بالشروع لحق بالفرض فوجب أن يحكم له فيه بحكمه ما لم يعارضه معارض، وهو ما قلناه في المسألة قبل هذه، فأوجب ذلك الفرق.
قلت: وهنا سؤال، وهو: لِمَ كان التطوع في الصوم يفرق في قضائه بين العذر وغيره كما تقدم، وكان الاعتكاف يتعين فيه القضاء، وكل واحد من الصوم والاعتكاف وجب بالشروع فيه، والوجوب سببُ القضاء؟ فأجيب بأن الاعتكاف اختص بأشياءَ ليست في غيره فغُلِّظَ حكْمُه.
قلت: ونذكر هنا أيضاً مسألة، وهي: لِمَ كان الأفضل الصوم في السفر، والأفضل قصر الصلاة في السفر، وكلاهما رخصة في عبادة؟
(14) سورة المجادلة، الآية 3، 4، وأولها:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} .
فقيل: الفرق بينهما أن العبادة إذا ذهب وقتها صارت قضاء، وإذا عملت في وقتها كانت أداء. والأداء أفضل من القضاء، ووقت الصوم هو الشهر، فيكون الصوم فيه أداء، والأداء أفضل كما قلنا، وليس كذلك الصلاة، بل اجتمع فيها الأمران: الأداءُ والأخذ بالرخصة لأنها في الوقت.
قلت: وينتقض هذا بالحائض، فإن الأداء لا يصح منها، فضلا عن أن يقال: إنه أفضل، والمريض المرض الشديد فإن القضاء أفضل، ولو أتى المريض به لصح، لكنه يقال: كلامنا حيث كان الأفضل الصوم في السفر، والحالتان ليستا كذلك.
قلت: ومما يرد أيضا على التعليل أن يقال: والإتمام أكثر عملا، وقال صلى الله عليه وسلم:"أكثركم ثواباً أجهدكم عملا". والأظهر أن يقال: ترجيح الصوم (15) من حيث إنه فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا، ومن حيث إن فيه تعجيل براءة الذمة والبدار إلى الخير، والتأخير للحضر فيه خلاف ذلك، فكان مرجوحاً. والصلاةُ، القصر فيها أفضل، لأنه فعلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يذكر عنه غيره، وفيه مع هذا براءة الذمة، والبدار إلى الخير كما كان في الصوم في السفر، لا أنه نقصه ذلك (16)، والله أعلم.
(15) الذي في نسخة ع، وح: القصر، وفي نسخة أخرى: الفطر.
ولعل الصواب الذي يقتضيه سياق الكلام ومعناه هو كلمة الصوم، لا القصر، ولا الفطر، عملا بالآية الكريمة:"وأن تصوموا خير لكم"، قال بعض العلماء: الصيام في السفر أفضل لمن كان قادرا عليه بغير مشقة كبيرة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم شرع في الصوم عام فتح مكة حتى بلغ الكديد، فأفطر وأمر بالإفطار، تشريعا للمسلمين ورفقا بهم، وتبييناً لمضمون الآية الكريمة، وكذلك الاحاديث التي جاء فيها الترخيص بالفطر للمسافر، فكلمة الفطر تنسجم مع الفقرة والكلام الوارد فيها من جهة، وكلمة القصر تتعلق بالصلاة، وما يتعلق بها وارد في الفقرة الاخيرة الموالية بعد هذه، فلا يقع حينئذ تكرار إذا كانت كلمة الصوم في محل النص. مما يدل على أن الصواب هو كلمة الصوم، وأن ما عداها إنما هو خطأ نسخ في النسخ الثلاث، فليتأمل ذلك وليحقق، والله أعلم.
(16)
في نسخة ع: لأنه نقصه ذلك، وفي نسخة ح: لا أنه نقصه ذلك، بالنفي، وفي نسخة ثالثة حذف هذه الجملة بالمرة، وهو أظهر وأوضح في المعنى من ذكرها، والله أعلم. فليتأمل.