الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخبر
، وفيه قاعدتان:(1)
القاعدة الأولى:
في الفرق بين الرواية والشهادة
، (2) فأقول:
لا شك أنهما اجتمعا في الخبرية لقبول القسمين الصدقَ والكذِب، ثم الفرق أن الرواية هى خبر عن أمر عام لا يتعلق بشخص مُعَين، والشهادة تعلقها بشخص معين، فالرواية كقوله عليه الصلاة والسلام:"إنما الأعمال بالنيات" والشهادة كقول الشاهد: لزيد عند عَمْرو كذا.
(1) الخبر - كما يعرفه علماء الأصول والبلاغة والمنطق في تعريفهم هو الكلام المحتمِل للصدق والكذب لذاته (أي لذات الخبر)، بقطع النظر عن المخبِر به، والخبر في نفسه. ويقابله الإنشاء، وهو الكلام الذى لا يحتمل الصدق والكذب لذاته، مثل الأمر والنهي والاستفهام، كصيغ العقود في قولك: بعْتُ، واشتريت وتزوجتُ، وأنت تقصد إنشاء البيع والشراء والتزويج، وهكذا .. ومباحثه مستوفاة في العلوم المشار اليها.
(2)
هى موضوع الفرق الأول من كتاب الفروق، وقد كشف مؤلفه الإمام العلامة شهاب الدين أبو العباس احمد بن إدريس القرافي رحمه الله عن السبَب الباعث له على ابتداء كتابه بهذا الفرق فقال:
"ابتدأت بهذا الفرق بين هاتين القاعدتين، لأني أقمت أطلبه نحو ثمان سنين فلم أظفر به، وأسأل الفضلاء عن الفرق بينهما وتحقيق ماهية كل واحدة منهما، فإن كل واحدة منهما خبر، فيقولون: الفرق بينهما أن الشهادة يشترط فيها العدد والذكورية والحرية، بخلاف الرواية فإنها تصح من الواحد والمرأة والعبد، فأقولُ لهم: اشتراط ذلك فيها فرع تصورها وتمييزها، فلو عُرِفتْ بأحكامها وآثارها التي لا تُعرف إلا بعد معرفتها لزم الدّورُ، وإذا وقعت لنا حادثة (نازلة) غير منصوصة، من أين لنا أنها شهادة حتى يشترط فيها ذلك؟ فلعلها من باب الرواية التي لا يشترط فيها ذلك، فالضرورة داعية لتمييزهما .. إلى أن قال رحمه الله:
ولم أزل كذلك كثير القلق والتشوف إلى معرفة ذلك حتى طالعت شرح البرهان للمازري رحمه الله، فوجدته ذكر هذه القاعدة وحققها، وميز بين الأمرين من حيث هما، واتجه تخريج تلك الفروع تخريجا حسنا، وظهر أي الشبهين أقوى، وأى القولين أجح، وأمكننا من قِبلِ أنفسنا إذا وجدنا خلافا محكيا ولم يذكر سبب الخلاف فيه أن نخرجه على وجوه الشبهين فيه إن وجدناهما، ونشترط ما نشترطه، ونسقط ما نسقطه، ونحن على بصيرة في ذلك كله، فقال رحمه الله:
ثم إن الشهادة يشترط فيها العدد والذكورية والحرية، بخلاف الرواية ومَا كان كذلك.
أما العددُ فلأِن إلزام المعيّن يتوقع فيه عداوة باطنة لم يطلع عليها الحاكم، حملت الشاهد على التزام ما لا يلزمه، فاحتاط الشارع لذلك واشترط معه آخر،
= "الشهادة والرواية خبران، غير أن المخبَرَ عنه، إن كان أمرا عاما لا يختص بمعَين فهو الرواية، كقوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات"، و "الشفعة فيما لم يقسم"، لا يختص بشخص معين، بل ذلك على جميع الخلق في جميع الأعصار والأمصار، بخلاف قول العدل عند الحاكم: لهذا عند هذا دينار، إلزام لمعين لا يتعداه إلى غيره، فهذا هو الشهادة المحضة، والأول هو الرواية المحضة، ثم تجتمع الشوائب بعد ذلك
…
الخ.
وهنا علق الشيخ قاسم بن الشاط رحمه الله على هذه الفقرة بقوله:
قلت: لم يقتصر الإِمام (أي المازرى) في مفتَتَحِ كلامه الذى نقل منه الشهاب ما نقل على الفرق بالعموم والخصوص، ولكنه ذكر مع الخصوص قيدا آخر، وهو (مكان الترافع إلى الحكام والتخاصم وطلبِ فَصْلِ القضاء، ثم اقتصر في مختتم كلامه. على الخصوص والعموم، والأصح اعتبار القيد المذكور، ويتضح لك ذلك بتقسيم حاصر وهو: أن الخبر إما أن يقصد به أن يترتب عليه فصل قضاء، وإبرامُ حكم، وإمضاء أو لا، فإن قصد به ذلك فهو الشهادة، وإن لم يقصد به ذلك، فإما أن يقصد به ترتب دليل حكم شرعي أو لا، فإن قصد به ذلك فهو الرواية، وإلا فهو سائر أنواع الخبر، ولا حاجة بنا إلى بيان تفاصيلها، لِأن المقصود إنما هو بيان ما يجوز في اصطلاح الفقهاء والأصوليين واعتباراتِهِمْ
ودليل صحة اعتبار القيد المذكور (أي إمكان الترافع والتخاصم والتقاضي في الشهادة) أن المخبِر بأن لزيد قِبل عَمْرو دينارا، غير قاصد بذلك الخبر أن يترتب عليه فصل قضاء، لا يسمى في عرف الفقهاء والأصوليين شاهدا على جهة الحقيقة بل يسمى مخبرا، وكذلك المخبر عن الأمور الواقعة التي لا يستفاد منها تعريف دليل حكم شرعي لا يسمى عندهم على جهة الحقيقة راوياً، وإن سمي كما في الأقاصيص ونحوها فهو مجاز من جهة أنهم لا يشترطون فيه ما يشترطون في رواة تعريف أدلة الأحكام". انتهى كلام الفقيه ابن الشاط، وتعليقه على كلام الإِمام المازرى، ونقلِهِ من طرف الإِمام القرافي.
وانما نقلت في هذا التعليق كلام هذين الإمامين الجليلين بتمامه وعلى طوله نظرا لأهميته ونفاسته، ولأن الاطلاع على كلامهما وعلى كلام الشيخ البقوري في هذا الاختصار والترتيب للفروق يُلْقِي ضوءا كاشفا، ويعطي بيانا واضحا ما عليه من مزيد في معرفة وإدراك الفرق بين الرواية والشهادة، ولأن الإتيان بهذه الفقرة مطولة بهذا التعليق الذى ليس في ترتيب الفروق قد يغني القارئ والمطلع عن البحث عنها والرجوع إليها إذا لم يكن بَيْنَ يديه كتاب الفروق للإِمام القرافي رحمه الله ورحم كافة علماء المسلمين ورضي عنهم أجمعين.
طرداً لذلك الاحتمال، فإن بإجماعهما يغلب ظن الصدق وبُعْدُ الكذب، وليس في الرواية ما يثير العداوة، فلم يحتج إلى العددِ فيها.
والذكورية اشترطت، لأن الإلزام سلطة وقهر واستيلاء، تأبَى النفوس الْأبية من ذلك، وإبايتها عنها من النساء أشَدُّ، لنقصانهن، فخفف ذلك عن النفوس برفع الْأنوثة. وأيضا فهن ناقصات عقل ودين، فناسب (3) ألّا يُنصَبْنَ نصبا عاما، بل في موضع الضرورة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:"أما نقصان عقلكن فشهادة رجل واحد تعدل شهادة امرأتين"(4)، والرواية بخلاف ذلك، لِأن الأمور العامة تتسلى فيها النفوس بعضها ببعض، فخفّ الألم، وتقع المشاركة غالبا في الرواية، لعموم الكشف والحاجة، فروى (5) مع المرأة غيرُها، فيقِل احتمال الغلط، (6) ويطول الزمان في الكشف عن ذلك إلى يوم القيامة، فيظهر مع طول السنين خلل إن كان، بخلاف الشهادة تنقضى بانقضاء زمانها، ولا يُتَّهَم أحد في عداوة جميع الخلق، فيكتفى بالواحد فيها. (7)
(3) في نسخة ح: فناسبن .. وعبارة القرافي: "فناسب ألا ينصبن نصبا عاما في موارد الشهادات، لئلا يعمَّ ضرَرُهَنَّ".
(4)
إشارة إلى جزء من حديث مطول صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ جَزْلَةٌ (أي فصيحة بليغة): وَمَا لَنَا يا رَسُولَ اللهِ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: "تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ (أي الخصام والشتم والطعن والكلام فى الناس)، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ (أي تنكرن خير الزوج)، وَمَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ، قَالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ، وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ؟ قَالَ:"أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ: فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ، فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِيَ مَا تُصَلِّي، وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ (أي بسبب الحيض) فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ".
وفي هذا الحديث إشارة إلي الآية الكريمة 282 من سورة البقرة، وفى قوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} .
(5)
في نسخة ح، ونسخة أخرى: "فيروى مع المرأة غيرها (بصيغة المضارعة).
(6)
في نسخة ح: اللفظ، والصواب كلمة الغلط، وهو ما في نسخة ع، وغيرها، ويقتضيه المعنى وهو كذلك ما عند القرافي حيث قال: فيبعد احتمال الغلط.
(7)
قال ابن الشاط هنا: هذا صحيح، وهو الفرق بين الشهادة والرواية.
وأما الحرية فالنفوس الأبية تنقبض من سلطة العبد عليها، ويخف ذلك عليها بالأحرار. وأيضا فالرق سبب للحقد، فربما بعث العبدَ ذلك على الكذب على المعين، وقصد أذية الجمهور يبعد، فوقع الخلاف بين الرواية والشهادة. (8).
وحيث تبين هذا فلنقل: الخبر ثلاثة اقسام: رواية محضة كالأحاديث النبوية، وشهادة محضة كإخبار الشهود عن الحقوق على المعَيّن عند الحكام، ومركَّبٌ من الشهادة والرواية، وله صور:
إحداهما: الإخبار عن رؤية هلال رمضان، فمن أجْل أن الصوم لا يختص بشخص معيَّن، كان رواية، ومن أجل أن الهلال هو لرمضان ذلك العامَ لا لغيره كان شهادة. (9)
قلت: اعتبار الرواية في هذه الصورة من أجل تعلق الصوم لا بشخص معين، اعتبار بعيد، فإن الإخبار إنما وقع عن رؤية شخص معين، فمحله محل
(8) علق ابن الشاط على كلام القرافي هنا، فقال: كلامه الأول صحيح مستقل بالتعليل كما في المرأة، بل أولى، والثاني (وهو أن الرق يوجب الحقد والضغائن) محتمل أن يكون تعليلا مستقلا أيضا لعدم قبول شهادة العبد، ويحتمل أن يكون غيرَ مستقل من جهة أن احتمال العداوة لم يثبت علة في عدم قبول الشهادة في الحُرِّ.
ولقائل أن يقول: إن بين الحر والعبد فرقا من جهة أن في الحر مجرد احتمال العداوة، وفي العبد تحقق سبب العداوة، والله أعلم.
(9)
علق الفقيه المحقق ابن الشاط على ما جاء عند الإِمام القرافي في هذه الصورة فقال:
أما قوله: إنه (أي الإخبار عن رؤية هلال رمضان) رواية، فإن أراد أن حكمه حكم الرواية في الاكتفاء فيه بالواحد عند من قال بذلك فصحيح، وإن أراد أنه رواية، حقيقة، فذلك غير صحيح، لأنه لم يتقرر ذلك في إطلاق أحد فيما علمت، وأما قوله: أنه شهادة، فإن أراد أيضا أن حكمه حكم الشهادة عند بعض العلماء في اشتراط العدد فذلك صحيح، وإن أراد أنه شهادة حقيقة، فليس كذلك، لأنه قد تقرر أن لفظ الشهادة إنما يطلق حقيقة، في عرف الفقهاء والأصوليين على الخبر الذى يقصد به أن يترتب عليه حكمٌ وفصل قضاء. ثم زاد ابن الشاط رحمه الله فقال في هذا:
قلت: والذي يَقوى في النظر أن مسألة الهلال حكمها حكم الرواية في الاكتفاء بالواحد، وليست رواية حقيقة، ولا شهادة أيضا، وإنما هى من نوع آخر من أنواع الخبر، وهو الخبر عن وجود سبب من أسباب الأحكام الشرعية. ولا شك أنه لا يتطرق إليه من الاحتمال الوجب للعداوة ما يتطرق في فصل القضاء الدنيوي. اهـ.
معَيَّنٌ، فهو أشبه شيء بالإخبار عن مائة دينار قِبَلَ فلان المعيَّن، فإن كان اعتبار الأشخاص الذين يصومون ليسُوا معَيَّنين في الصوم فالدراهم أو الدنانير التي تؤدَّى في الدَّين ليست بمعَينة، وهذا الاعتبار هنا لا يرده للرواية، فكذلك الآخر، والله أعلم.
لكنه يمكن أن يقال في الجواب: هذه مُغالطة أو غلط، فقد قدمنا أن الفرق بين الرواية والخبر هو من حيث أن الرواية خبر عن أمْر عام لا يتعلق بشخص معين، والشهادة متعلَّقها شخص معين، والصوم لا خفاء أنه لا يتعلق بشخص معين فهو إلى الرواية أقْربُ، وغاية ما يرد عليه أنه ينتقض بالشهادة على قتل الخطأ فإنها شهادة، وإن كان الحكم المتعلق بتلك الشهادة تعلّقَ لا بشخص معين، والله أعلم.
= قلت: والذي عليه فقهاء المالكية، واعتمدوه في مختلف مؤلفاتهم الفقهية أن خبر الهلال في الصيام والإفطار لَا يثبت ويعم إلا بِعَدليْنِ، وهذا يعني أنه عندهم من باب الشهادة، ولذلك قال الشيخ أبو الوليد ابن رشد الجد:"ولا يجب صيام شهر رمضان إلا برؤية الهلال او إكمال شعبان ثلاثين يوما. ورؤية الهلال تكون على وجهين: رؤية عامة (وهي الرؤية المستفيضة من جمع كثير من الناس يستحيل تواطؤهم على الكذب)، ورؤية خاصة (وهي النفر اليسير من الناس)، ثم قال ابن رشد: وهذه الرؤية الخاصة تختص بالحكام، فإذا ثبت عند الإِمام رؤية الهلال بشهادة شاهدين عدلين أمرَ الناس بالصيام أو الفِطر، وحمل الناسَ عليه. وهذا هو ما اختصره الشيخ خليل بن إسحاق المالكي في مختصره الشهير حيث قال "باب، يثبت رمضان بكمال شعبان أو برؤية عدلين أو جماعة مستفيضة
…
الخ .. "، وذكره ونص عليه كذلك الفقيه المالكي محمد بنِ جزي في كتابه القوانين الفقهية فقال: يجب صوم رمضان وإفطارُ يوم الفطر برؤية الهلال، فإن غُمَّ أُكمل ثلاثين يوما، ثمَّ ذكر ذكر أنواع الرؤية: أنْ يرى الإنسان هلال رمضان فيجب عليه الصوم عند الجمهور، ولا يجوز له الإفطار، فإن رأى هلال شوال لم يفطر عند مالك، خوف التهمة، وسداً للذريعة. والوجه الثاني أن يشهد برؤيته شاهد واحد فلا يجب به الصوم، ولا يجوز به الفطر (أي بالنسبة لعامةِ أهْل البلد). والوجه الثالث أن يشهد شاهدانِ عدلان خاصة عند الإِمام، فيثبت بهما الصوم والفطر في الغيم إجماعا، فإن كان الصحو، والمصر كبير، ثبت بهما على المشهور. والرابع أن يراه الجمُّ الغفير من الناس رؤية عامة فيثبت وإن لم يكونوا عدولًا، ولا يفتقر إلى شهادة. والوجه الخامس أن يخبر الإِمام بثبوته عنده (أي فيتعين على رعيته الأخذ به). ثم فرع ابن القيم على أوجه الرواية السبعَة فروعا أربعة، منها:
الفرع الأول إنْ غُمَّ الهلال أُكملت العدة ولم يُلتفت إلى قول المنَجِمين، خلافا لقوم.
الفرع الثاني: إذا رآه أهل بلد لزم الحكم غيرهم من أهل البلدان، وفاقا للشافعي، وخلافا لابن الماجشون، ولا يلزم في البلادِ البعيدة جدا كالأندلس والحجاز إجماعاً.
الصورة الثانية: القائف المثبت للأنساب بالخلْق (10)، هل يشترط فيه العدد أوْلَا؟ قولان: والظاهر الأرجح شبهه بالشهادة، فإنه خبر متعلق بشخص معين. وإنما شبهوه بالرواية، لأنه منتصب انتصابا عاما، فيقال: وكذلك الشاهد منتصب انتصابا عاما.
فإن قيل: القائف لما كان مستندا في ذلك إلى جعل الحاكم (أي تعيينه في ذلك) خفَّت الضغائن، وضعفت العداوة الحاملة على ظن الكذب، بخلاف الشاهد، فإنه لا يستند في شهادته إلى أمر الحاكم له، قلنا: هذا لو كان لا يقبل قول القائف إلا بعد جعل الحاكم، فَهُوَ يُقبَلُ بجعل الحاكم وبغير جعله، بدليل قبول رسول الله صلى الله عليه وسلم له لما قال في أسامة بن زيد ما قال، ولم يامرْه النبي صلى الله عليه وسلم بشي في ذلك. (11)
(10) القائف كما جاء في تعريفه هنا هو المثبت للأنساب بالخلْق، وهو مشتق وماخوذ من القيافة، وفي تتبع الأثر، والتعرف على نسبة الولد إلى أبيه من خلال النظر والتأمل بحذق ونباهة في خلقته وملامحه، وإدراك ما بينهما من شبه، فينسب المولود إلى أبيه من خلال ذلك كما سيأتي فى آخر الكلام على هذه الصورة من الإشارة إلى ذكر قصة أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
وعقب ابن الشاط على كلام القرافي فى مسألة القائف هذه، فقال:
ذكر فيه القرافي شبه الشهادة، ولاخفاء على ما تقرر قبلُ في أنه من نوع الشهادة، وذكر شبه الرواية وهو ضعيف لاخفاء به، وذكر السؤال الذى أورده، وهو ضعيف أيضا، وذكر الجواب عنه وهو صحيح لا ريب فيه.
(11)
إشارة إلى الحديث الصحيح المتفق عليه عن عاثشة رضي الله عنها قالت: "دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسروراً تبْرُق أسارير وجهه (أي يتهلل وجهه من الفرح والاستبشار)، فقال: يا عاثشة، ألمْ تَرَىْ أن مجززاً المدلجي دخل على فرأى أسامة وزيدا، وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما، وبَدتْ أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض".
فزيدٌ هذا كان مولى للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد تبناه (أي اعتبره ابناً له حتى كان يُدْعى زيد بن محمد) واستمر ذلك حتى نزلت آية تحريم التبني في الإسلام بقوله تعالى في أوَّل سورة الاحزاب، {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وكان لون زيد بن حارثة أبيض، ولون ابنه أسامة أسود، لأن أمه بركة الحبشية كانت سوداء، وكان هذا يسوء ويقلق النبي صلى الله عليه وسلم لنسبهم زيدا إليه، فلما دخل القائف المدلجي وقال فى حق زيد وأسامة ابنه: هذه الأقدام بعضها من بعض، أي أحَدُ هذين الرجلين ولد للآخر، فرح النبي صلى الله عليه وسلم، وفرحُه لا يكون إلا لحق.
الصورة الثالثة: المترجم للفتاوى والخطوط، قال مالك: يكفي الواحد، وقيل: لابد من اثنين. ومنشأ الخلاف اعتبار الشبهين، والأمر فيه كالقائف على السواء. (12)
الصورة الرابعة: المقوم للسلع في أُروش الجنايات والسرقات والغصوب وغيرها، (13) فقال مالك: يكفى الواحد في التقويم، إلا أن يتعلق بالقيم حد كالسرقة فلا بد من اثنين، وروى لابد من اثنين في كل موضع، فشبه الشَّهادةِ فيهِ ظاهر، وقيل: يشبه الرواية من حيث الوجه المذكور في القائف، وقد قلنا بضعفه ثمَّة، فكذلك هنا في هذه الصورة، الشبه بالحاكم، لأن حكمه ينفذ في القيمة، والحاكم ينفذه.
الصورة الخامسة، القاسم، قال مالك: يكفي الواحدُ، والأحسَنُ اثنان، وقال أبو إسحاق التونسي: لابد من اثنين، وللشافعى في ذلك قولان. ومنشأ
= قال بعض شراح هذا الحديث: فقول القائف حجة، وبه حكم عمر وابن عباس، وعليه عطاء ومالك والشافعي وأحمد وعامة المحدثين. وقال الحنفية: لا عِبرة بقول القائف لأنه حكم بالظن، والظن يصيبُ ويخطئ. اهـ.
(12)
علق ابن الشاط على كلام القرافي في هذه المسألة والصورة الثالثة فقال: لم يحرر الكلام في هذا الضرب، فإنه أطلق القول فيه، والصحيح التفصيل، وهو أن الترجمة تابعة لما هي ترجمة عنه، فإن كان من نوع الرواية فحكمه حكمها، وإن كان من نوع الشهادة فكذلك، وهذا واضح، بناء على ما تقرر قبل. وما ذكر فيه من شبه الرواية لنصبه نصبا عاما فضعيف، وكذلك ما ذكره من شبه الشهادة بكونه يخبر عن معين من الفتاوي والخطوط. وما ذكره من وُرُودِ السؤال والبحث فيه كما في القائف، صحيح. اهـ.
(13)
الأرش، جمعه أروش، مثل نفس ونفوس، وهو تعويض الجناية على عضو من الجسم، أو على متاع في ملك الغير، سواء عن عَمْدٍ أو خطأ، إذ العمد والخطأ في أموال الناس سواء كما يقول الفقهاء، ويكون ذلك تعويضا عما أصاب العضو والمتاع من آفة أو نقص في وظيفته وقيمته.
وقد علق ابن الشاط على كلام القرافي في هذه الصورة الرابعة فقال: ذكر فيه شبه الرواية وهو ضعيف كما قال، وشبه الحكم وهو ضعيف ايضا، والصَّحيح أنه من نوع الشهادة لترتب فصل القضاء بإلزام ذلك القدر المعيَّن من العوض عليه
…
الخ.
الخلاف شبه الشهادة أو الرواية أو الحكم، والأظهر شبه الحكم، لأن الحاكم استنابه في ذلك. وهو المشهور عندنا وعند الشافعية ايضا. (14).
الصورة السادسة: الإخبار عن قِدَم العيب أو حدوثه في السلع عند التحاكم في الرد بالعيب، أطلق الأصحاب فيه أنه شهادة، وأنه يشترط فيه العدد، لأنه حكم جرى على شخص معين لشخص معين، لكنهم قالوا: إذا لم يوجد فيه المسلمون قُبِلَ فيه أهل الذمة من الأطباء، قاله القاضى أبو الوليد وغيره، قالوا: لأن طريقه الخبرُ فيما ينفردون بعلمه، وهذا مشكل من حيث إن الكفار لا مدخل لهم في الشهادة ولا في الرواية (15).
الصورة السابعة: قال ابن القصار: يجوز تقليد الصبى والأنثى والكافر الواحد في الهدية والاستئذان، وهذا على خلاف الأصل، لأنه خبر تعلق بمعينين، فإن المهدى والمهدى إليه معين، فكان من باب الشهادة.
وأجاب الشافعية عنه بأن القرائن لما احتفت بهذا الخبر قُبِل مع دعوى الضرورة في ذلك أيضًا، إذ لو كان لا يدخل أحد بيت صديقه حتى يأتي بعدلين يشهدان له بإذنه لشق ذلك. (16)
(14) قال ابن الشاط: ذكر القرافي في هذه الصورة أن مشأ الخلاف شبه الحكم أو الرواية، وليس ذلك عنده بصحيح، بل منشأ الخلاف شبه الحكم أو التقويم، وقد تقدم أن الصحيح أنه نوع من الشهادة، فمن نظر إلى أن القَسْم من نوع الحكم اكتفَى بالواحد، ومن نظر إلى أنه من نوع التقويم وبنى على الأصح، اشترط العدد، والله أعلم.
(15)
قال ابن الشاط عن هذه الصورة: ما حكاه القرافي عن الأصحاب من أنه شهادة، صحيح، وما استشكله من قبول بعضهم أهل الذمة، مشكل كما قال. اهـ.
(16)
قال ابن الشاط في هده المسألة: ليس هذا من نوع الشهادة، لأنه لا يقصد به فصل قضاء، فهو في حكم الرواية، وجَازَ فيه ما لا يجوز في الرواية من قبول خبر الصبي والكافر، لإلجاء الضرورة إلى ذلك من جهة لزوم المشقة على تقدير عدم التجويز، مع ندور الخلو عن قرائن تُحَصَّلُ الظن.
وقال في الصورة الموالية المتعلقة بقبول قول المرأة فى (هدية الزوجة لزوجها ليلة العرس). هذه المسألة في معنى التي قبلها كما ذكر.
الصورة الثامنة: نقل ابن حزم في مراتب الإجماع إجماع الأمة على قبول المرأة الواحدة في إهداء الزوجة لزوجها ليلة العرس، مع أن الأصل فيه ألا يقبل إلا رجلان، لأنها شهادة متعلقة بالنكاح، لكنه جاز ذلك، للقرائن المنضافة إلى ذلك الخبر، التي يبعد معها التدليس (17) والوقوع فيما لا ينبغي، ويكفي هذا القدر فيما أردنا بيانه.
تنبيه: قال ابن القصار: قال مالك: يقبل قول القصاب في الذكاة، ذكرا كان أو أنثى، مسلما أو كتابيا، ومن مِثله يَذبح، وليس هذا من باب الرواية أَو الشهادة، بل القاعدة الشرعية أنَّ كل واحد، مؤتمنٌ على ما يدعيه مما هو تحت يده. فإذا قال الكافر: هذا مالى صُدِّق، وكذلك إذا قال: هو مُذَكّىً صُدِّق، ولا يُعَد ذلك شهادةً ولا رواية، فليس هذا من الفروع المترددة بين القاعدتين. (18)
فإن قلت: ما قررته من الفرق ينتقض بالشهادة بالوقف على الفقراء
(17) هكذا جاءت العبارة في جميع النسخ بتذكير اسم الموصول، وتأنيث العائد عليه، وهو غير متناسب، فلعله من الناسخ، فإما أن يعود الضمير بالتأنيث على اسم الموصول المؤنث التي فيكون وصفاً للقرائن، وإما أن يكون العائد مذكرا مطابقا لاسم الموصول الذى هو وصف للخبر، إذ القاعدة إن اسم الموصول تأتي بعده جملة صلة لا محل لها من الإعراب، وتكون مشتملة على ضمير مناسب له في التذكير والتأنيث، والإفراد والتثنية والجمع، وهو ما أشار إليه محمد بن مالك. في بيت من ألفيته حيث قال:
وكلّها يلزمُ بَعْدَهُ صِلَة
…
على ضِميرٍ لائقٍ مشتملةٌ
(18)
قال ابن الشاط هنا: هذه المسألة وإن لم تكن من تينك القاعدتين فهي من جنس المسألتين قبلها. وما ذكره القرافي فيها من أن كل واحد، مؤتمن على ما يدعيه مما هو تحت يده ومصدَّق فيه، معناه أنه لا يتعرض له برفع يديه عنه، وليس المعنى بذلك أنه محق عندنا في دعواه، ومسألة القصاب مع ذلك ليست من هذه القاعدة، بل هي من جنس المسألتين اللتين قبلها:(مسألة تقليد الصبي والأنثى، ومسألة قبول قول المرأة الواحدة في هدية الزوجة لزوجها) كما تقدم ذكره، لأن المقصود من هذه المسألة ليس تركه وما يدعيه بالنسبة إلى ملك ما تحت يده، بل المقصود منها، هل يستباح أكلها، بناء على خبره أم لا؟ ، فلا أعْلم لتجْوِيز الاستباحةِ بناء على ذلك إلا إلجاء الضرورة إلى ذلك، للزوم المشقة عند عدم التجويز، مع ندور الخلو عن القرائن المحصلة للظن كما سبق، والله أعلم.
والمساكين إلى يوم القيامة، (19) فهي شهادة تعلقت بكلي لا بمعين، وكذلك كون الأرض عنوة أو صُلْحا (20) أو غير ذلك، من النظائر.
وأما الرواية فهي أيضا في الأمور الجزئية كالإخبار عن النجاسة وأوقات الصلوات وأشياء أيضًا كثيرة، (21) قلنا: أما ما ذكر من فروع الشهادة، فالعموم فيها إنما جاء بطربق العرض والتبع، ومقصودها الأول إنما هو جزئي.
(19) هذا التساؤل من كلام القرافي، وليس من كلام الشيخ البقوري وتعقيبه كما قد يتبادر إلى الذهن. والمراد ما ذكرهُ القرافي من كون حقيقة الشهادة تتعلق بجزئى، والرواية حقيقتها التعلق بكلي لا يطرد ولا ينعكس، حيث إن الشهادة تقع في أمر كلي كالشهادة بالوقف على الفقراء والمساكين ،والرواية تقع في أمر جزئي كالإخبار عن أوقات الصلاة وغيرها، فأجاب القرافي عن ذلك بقوله فيما بعد: قلت أما ما ذكر من فروع الشهادة فالعموم فيها إنما جاء بطريق العَرَض والتبع إلى آخر ما ذكره، واختصره تلميذه البقوري.
(20)
أي كون الأرض فُتحَتْ من طرف المسلمين عنوة وبالقوة والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته، أو فتحت بالصلح والتصالح مع ساكنيها من غير المسلمين، حيث يدخلون في ذمة المسلَمين ويؤدون لهم الجزية المشروعة في ذلك.
(21)
كثيرا ما ترد في علم أصول الفقه والمنطق كلمات الكلي والجزئي، والكلية والجزئية، والكل والجزء، وهي كلمات إصطلاحية ذات مفاهيم ودلالات ومعاني خاصة، يجدر التذكير بها في هذا الموضوع، والتعليق عليها، تيسيرا على المطلع والباحث.
فالكلي هو اللفظ الذى لا يمنع نفس تصور معناه من وقوع الشركة فيه بين أفراد عديدين. وبعبارة أخرى: هو الذى لا يمنع نفس تصور معناه وحصوله في الذهن من فرض صدقه على كثيرين، لقبوله الشركة فيه، كإنسان وأسد، فإن كلا منهما يصدق على أفراد متعددة تشترك في معناه.
والكلي يقابله الجزئي، وهو اللفظ الذى يمنع نفس تصور معناه من وقوع الشركة فيه بين اثنين فأكثر، مثل زيد، وعمرو، وبكر، وغيرها من أسماء الأعلام الشخصية، وهو الجزء الحقيقي، في مقابلة الجزئي الإضافي، وهو الذى يندرج تحت غيره بأن يكون أخص منه، مثل زيد وعلى بالنسبة للإنسان.
أما الكل، ويقابله الجزء، فهو المركب من أجزاء، كجسم الحيوان المركب من عدة أعضاء، وجسم غيره من الكائنات الحية الأخرى.
وبتعريف آخر عند العلماء المنطق: الكل هو الموضوع المحكوم عليه بحكم من الأحكام من حيث هو مجموع أفراد دون أن يستقل كل فرد من أفراده بالحكم، نحو المثل المشهور عندهم وهو قولهم: كل بني تميم يحملون الصخرة العظيمة، أي هيئتهم المجتمعة من عدة أفراد لا كل فرد على حدة، ومنه الآية الكريمة في سورة الحاقة:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} .
أما الوقف فالمقصود بالشهادة فيهِ الواقف وإثبات ذلك عليه، وهو شخص معين ينتزع منه مال معين، فكان ذلك شهادة، ثم اتفق أن الموقوف عليه، فيه عموم، وليس ذلك من لوازم الوقف، قد يكون على معين وقد يكون على غير معين، وهكذا في كل شيء، الأصل ما ذكرناه، وغيره جاء بالعَرَضِ، ولا يلتفت إليه. غير أن كون الأرض عنوة أو صلحا يمكن أن يقال: هو من باب الرواية، ويمكن أن يقال: هو من باب الشهادة لكون الأرض جزئية لا يتعداها الحكم إلى غيرها.
= أما الجزء فهو على عكس الكل، هو الذى يتركب منه ومن غيره من الأجزاء الأخرى كل، مثل الوجه، واليد، والرجل بالنسبة لجسم الإنسان الذى هو كل، ومثل الرجل والمرأة من قبيلة معينة. أما لفظ الكلية في اصطلاح المناطقة فهى القضية المسوَّرة بالسور الكلي (أي المحاطة به) مثل كل، ومن، وما من صيغ العموم، المحكوم فيها على كل فرد من أفرادها، مِثْل قوله تعالى: " {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} و {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}
ويقابلها الجزئية، وهي القضية المسورة بالسور الجزئي، المحكوم فيها على بعض أفراد الموضوع، مثل قول القائل: حضر بعض الطلبة في المحاضرة، أو بعض الإنسان كاتب، أو بعض الحيوان ليس بإنسان.
والملاحظ من خلال تعريف هذه الألفاظ والمصطلحات أن الكل والجزء، وكذا الكلي والجزئى يتعلق بالأسماء المفردة وينصَب عليها وعلى مدلولاتها، بينما الكلية والجزئية وصف للقضايا التركيبية والجمل المركبة، وتتعلق بها. وقد جمع هذه المصطلحات، ونظمها العلامة الأخضري فى منظومته المعروفة بالسلّم على المنطق، فقال فيها رحمه الله:
الكل حكمنا على المجموع
…
ك كل ذاك ليس ذا وقوع
وحيثما لكل فرد حكما
…
فإنه كلية قد علِمَا
والحكم للبعض هو الجزئية
…
والجزء معرفته جلية
وقول الناظم هنا: ككل ذاك ليس ذا وقوع، إشارة إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة الصحابى ذى اليدين، قال أبو هريرة: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر فسلم من ركعتين، فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ذلك لم يكن، فقال ذو اليدين: بل بعض ذالك قد كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصدق ذو اليدين؟ ، فقال الناس: نعَمْ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين أخريين ثم سلَّم، ثم كبَّر فسجد سجوده أو أطول، ثم رَفع" اهـ.
وإنما أتيت بهذا التعليق على ما فيه من طول، لاستحضار مصطلحات تلك الكلمات ومدلولاتها ومعانيها عند علماء الأصول والمنطق، وتيسير استذكارها عند ورودها في مثل هذه المؤلفات، وذلك بشيء من الإيجاز والاختصار، والتوسع فيها يستلزم من الدارس والباحث الرجوع إليها في مظانها من كتب أصول الفقه والمنطق. اهـ.
وأما ما ذكر من الرواية فنقول: شبِّه المخْبِرُ بالنجاسة وبأوقات الصلوات بالمفتى، غير أنه يفارقه في أن المفتى يذكر الحكم من حيث هو الحكم الذي يعم الخلائق إلى يوم القيامة ولا يذكرُ سبَبَه، وهو أن يذكر أن سببه من حيث وقوعه في شخص معين فأشبَه الشهادة بهذا الوجه، فكان فيه شائبتان وشبهان لسائر الصور المذكورة قبلُ. (22)
مسألة: ذكر شهاب الدين رحمه الله أن بعض شيوخه المعتَبرين رأى منقولا أن العبد إذا روى حديثا يتضمن عتقه تُقْبل روايته. (23).
مسألة: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: إذا تعارضت البينتان في الشهادة ففى الترجيح ثلاثة أقوال: قول بأنه يقبل الترجيح مطلقا، وقول بأنه لا يقبل مطلقا، والثالث المشهور أنه لا يرجح بكثرة العدد.
والفرق أن الحكومات إنما شرعت لدرء الخصوم ورفع المنازعة، وفي الترجيح بكثرة العدد إطالتها، لأنه إذا زاد الواحد يدعي الآخر الزيادة، وهكذا أبدا، بخلاف الترجيح بالعدالة، فإنها صفة راجعة إلى القاضى لا إلى صاحب الحق، والعدد يرجع إلى المتخاصمين، فقد يدعي كل واحد الزيادة وياتي بغير عدل. (24)
(22) قبل وبعد، كلمتان معربتان بالخفض أو النصب على الظرفية، حالة ذكر المضاف اليه، أو في حالة حذفه مع نية ثبوت لفظه، فلا يقع تنوينهما، أو مع عدَم نية المضاف إليه، فيقع تنوينهما، أو في حالة حذف المضاف إليه مع نية معناه دون لفظه، تُبنَيَانِ على الضم، كما هو مقرر في محله ويكونان مبنيتين على الضم في حالة انقطاعهما عن الإضافة على حد قوله تعالى:{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} .
(24)
أي أن الزيادة في عدد أفراد البينة على التوالى من كل واحد من المتخاصمين يطيل النزاع وينشر الشغب؛ ولذلكم جاء عند القرافي في مسألة تعارض البينتين قوله هنا: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: إذا تعارضت البينتان في الشهادة يقبل الترجيح بالعدالة، وهل ذلك مطلقا أو في أحكام الأموال خاصة؟ وهو المشهور، أو لا يقضى بذلك مطلقا؟ ثلاثة أقوال، والمشهور أنه لا يرجح بكثرة العدد والفرق أن الحكومات (أي التحاكم والتقاضى بالأحكام الشرعية أمام القضاء) إنما شرعت لدرء الخصومات ورفع التظالم والمنازعات، فلو رجحنا بكثرة العدد لأمكن للخصم أن يقول: أنا أزيد في عدد بينتي، فنمهله حتى يأتي بعدد آخر أيضا، فيطول النزاع ويبطل مقصود الحكم.
فوائد:
الأولى: الشهادة خبر، وكذلك الرواية، والدعوى، والإقرار، والمقدمة، والنتيجة، والتصديق والإنشاء، ولكل واحد من هذه خصوصية يتميز بها.
فالتصديق هو الواقع على القدر المشترك بين هذه كلها، من حيث إنه يلزمه أن نقيضه إنما هو التكذيب، ولكنه ذكر أحد النقيضين، والمقدمة جزء الدليل، والنتيجة هى القضية بعد أن صارت محققة بالدليل، وهى الدعوى والمطلوب قبل أن يستدل عليها.
الثانية: يقال: شهد بمعنى حضر، ومنه: فلان شهد بدْراً، (25) وبمعنى أخْبَرَ، ومنه: شهِد عند الحاكم، وبمعنى علمَ، ومنه قوله تعالى:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ، وقوله سبحانه:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ} (26)، يحتمل أن يكون من باب العلم، ويحتمل أن يكون من باب الإخبار.
الثالثة: روي معناه حمل، فراوى الحديث يحمله عن شيخه (أي بأخذه عنه، ويتلقاه منه)، ولهذا قال الناس: الراوية بناء مبالغة، هو حقيقة على الذي كثر منه الحمل، فهو - إذن - على المزادة التي فيها الماء بالمجاز، لمجاورتها للحامل، وذلك الجمل، فهو الذي يكثر منه الحمل.
= أما الترجيح بالأعدلية فلا يمكن للخصم أن يسعى في أن تصير بينته أعدل من بينة خصمه بالديانة والعلم والفضيلة، فلا تنتشر الخصومات ولا يطول نزاعها لانسداد الباب عليه.
وهنا قال ابن الشاط رحمه الله: ما ذكره القرافي من الفرق بين الترجيح بالعدالة ظاهر صحيح، وكذلك ما ذكره من الفوائد الثلاث التي ختم بها هذا الفرق، ظاهر، والله اعلم.
(25)
ومنه الآية الكريمة في الصيام، من سورة البقرة، وهى قول الله تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
(26)
القاعدة الثانية: (27)
نقرر فيها الفرق بين الخبر والإنشاء بعد تبيين كل منهما بخصوصيته، إذ قد تقدم لنا إجتماعهما في الخبريَّة في القاعدة التي قبل هذه.
ثم الخبَرُ هو المحتمل للتصديق والتكذيب لذاته، والتصديق هو قولنا: صدقتَ، والتكذيب هو قولنا: كذبتَ، وهما غيْرُ الصدق والكذب من حيث إنهما وجوديان، والصدق والكذب عدميان، إذ هما بن باب النِّسب. وقولنا لذاته، احترزنا به عما لا يقبل ذلك لأمر خارج فإنه خبرٌ، وهذا كخَبَر الله ورسوله لا يقبلان الكذب، كقولنا: الواحد نصف الإثنين. ومن الأخبار ما لا يقبل الصدق، كقولنا: الواحد نصف العشرة، لكنها لا لذاتها، بل كان هذا لشيء آخر، فإذا قلنا لذاته شمل جميع الأخبار: الصدق والكذب. (28)
فإن قيل: الأولى أن يقال: المحتمل للتصديق أو التكذيب، (29) فإن الصدق والكذب ضدان لا يجتمعان.
(27) هي موضوع الفرق الثاني بين قاعدتي الإنشاء والخبر، الذي هو جنس الشهادة والرواية والدعوى وما ذكر معها فيما تقدم. جـ 1 ص 18.
وقد أطال فيه الكلام شهاب الدين رحمه الله، كما أطاله في سابقه، وذكر في كل منهما فروعا ومسائل وجزئيات، اختصر منها ما اختصر تلميذه الشيخ البقوري في هذا الكتاب، رحمه الله.
(28)
كلمتا الصدق والكذب سقطتا في نسخة ح، وكذا في نسخة أخرى.
(29)
كذا في نسخة ع، وفي نسخة ح، ونسخة أخرى: المحتمل للصدق والكذب، وهذا التساؤل هو للإِمام القرافي رحمه الله، لا للشيخ البقوري رحمه الله كما قد يتبادر إلى الذهن، فقد جاء عند القرافي في أول كلامه على هذا الفرق قوله:
فإن قلت: الصدق والكذب ضِدان، والضِدان يستحيل اجتماعهما، فلا يقبل محلهما إلا أحدهما، أما هُما معاً فلا، فكان المتعين في الحدِّ هو صيغة أو التي هي لِأحد الشيئين دون الواو التي هي للشيئين معا، وهذا هو اختيار إمام الحرمين، والأول هو اختيار القاضى أبي بكر، ولأن الصدق والكذب نوعان للخبر، والنوع لا يعرف إلا بعد معرفة الجنس، فلو عُرف الجنس به لزم الدَّور.
قلت: الجواب عن الأول أن الصواب هو اختيار القاضى أبي بكر رحمه الله في صيغة الواو، لأنه لا يلزم من تنافي المقبولين تنافي القبولين، ألا ترى أن الممكن قابل للوجود والعدم معا
…
إلى آخر ما ذكره وتوسع فيه القرافي، ولخصه واختصره البقوري في هذا الترتيب رحمهم الله جميعا، ورحم كافة أهل العلم والفقه في الدين، وسائر المسلمين.
قلت: لا يلزم من تضاد المقبولين تضاد القبولين، ألا ترى أن الممكن قابل للوجود والعدم معا، وهما متناقضان، والقبولان يحسُن اجتماعها، لأنه لو وجد أحد القبولين دون الآخر للزم من نفي ذلك القبول ثبوت استحالة ذلك القبول، فإن كان ذلك المستحيل هو الوجود لزم أن يكون ذلك الممكن مستحيلا، والمقرر أنه ممكن، هذا خُلْف، وإن كان المستحيل هو العدم لزم أن يكون (30) واجب الوجود لا ممكنه، هذا خُلْف، فلا يُتَصَوَّرُ الإمكان إلا باجتماع القبولين وإن تنافى المقبولان، فببفى (31) الواو.
فإن قيل (32): التصديق والتكذيب نوعان للخبر، والنوع لا يعرف إلا بعد معرفة الجنس، فتعريف الجنس بهما دور، قلتُ: القصد بالحد شرْح لفظ المحدود وبيان نسبته إليه، فإن قولنا: الإنسان هو الحيوان الناطق حدّ صحيح، مع أن السامع يجب أن يكون عالما بالحيوان وبالناطق، وإلا لكان حدُّنا وقع بالمجهول، والتحديد بالمجهول لا يصحُّ، فهو حينئذ عالم بالحيوان والناطق، ومن كان عالما بهما كان عالما بالإنسان، فإنه لا معنى للإنسان إلا هُما، وإذا كان عالما بالإنسان تعيَّن انصراف التعريف بالحد إلى بيان نسبة اللفظ، لأنه حمع لفظ الإنسان فعَلِمَ أن له
= وقد عقب الشيخ ابن الشاط على كلام الإِمام القرافي هنا، فقال: تفريقه بين التصديق والتكذيب، والصدق والكذب، بأن أولهما وجودي والآخرُ عدمي، بناء على أنه إضافي، غفلة شديدة، وهل خبر المخبر إلا متعلق لتصديق المصَدَّق أو تكذيب المكذب، ومتعلقات الكلام بأسرها لا يلحقها من الكلام إلا أمر إضافي، فقد وقع فيما منه فرَّ .. إلى آخر ما قاله ابن الشاط هنا، فليتأمل.
(30)
الضمير في الفعل يكون عائد على الممكن، كما هو واضح في عبارة القرافي حيث قال: "وإن كان المستحيل هو العدم لزم أن يكون ذلك الممكن واجب الوجود لا ممكن الوجود، هذا خُلْفٌ، فلا يُتصور الإمكان إلا باجتماع القبولين وإن تنافى المقبولان، فتتعين الواو، فهذه الفقرة تزيد عبارة البقوري وضوحا.
(31)
كذا في نسخة ع. وفي نسخة ح، ونسخة أخرى وعند القرافي، فتعَيَّينَ الواو، أو فتتعين الواو، ولعل كلمة فتتعين أظهر وأنسب في السياق من كلمة يبقى، وهي على وجودها وبقائها كما في نسخة ح لا تناقض المعنى المستفاد من كلمة فتعيّن، أو تتعيَّينُ، والله أعلم.
(32)
هذا التساؤل والجواب عنه من أوله إلى آحره، هو مما أورده الإِمام القرافي هنا، ولخصه واختصره بشيء من التصرف الشيخ البقوري رحمه الله.
مسَمى مجْملا لم يُعْلم تفصيله، فبسطنا له ذلك المسمى، وقلنا: هو الحيوان الناطق الذي أنت تعرفه، ولم يحصل له بالحد إلا بيان نسبة اللفظ، وخروجنا من حَيِّز الإجمال إلى حيِّز التفصيل، ولذلك قال العلماء في حد الحد: هو القول الشارح، وبهذا يزول الدَّور عن حميع الحدود إذا كان مدركها هذا المدرك، نحو قولهم: العلم معرفة المعلوم، وما أشبه ذلك. (33)
وأما الإنشاء فهو القول الذي يوجد به مدلوله في نفس الأمر أو متعلقُه، وقولنا: بحيث يوجد به، ولم نقل: يوجب، احتراز من صيغ الإِنشاء إذا صدرت من سَفيهٍ، فإنه لا يترتب عليها وجود مدلولها.
وقَوْلُنا: في نفس الأمر، احتراز من الخبر، فإنه يترتب عليه وجود المدلول، لكن عند السامع لا في نفس الأمر، ولهذا يحتمل خبرُه الصدق والكذب، وقولنا: أو متعلقه، ليندرج في الإنشاء الانشآت النفسية، فإن الكلام يكون بالقول وبالنفس وهو لا دلالة فيه ولا مدْلول. (34)
ويقع الفرق بين الخبر والِإنشاء على هذا من أربعة أوجه:
الوجه الأول، أن الإنشاء سبب لمدلوله، والخبر ليس سببا لمدلوله، فإن العقود أسباب لمدلولاتها، بخلاف الأخبار.
الوجه الثاني أن الإنشاءات تتبعها مدلولاتها، والأخبار تتبع مدلولاتها، وهذا كالطلاق والملك إنما يقعان بعد صدور صيغة الطلاق والبيع، وأما أن الخبر تابع لمخبره، فيعنى أنه تابع لتقرير مخبره في زمانه، ماضيا كان أو حاضرا أو مستقبلا.
(33) عقب ابن الشاط على كلام القرافي هنا فقال: الذي ذهب إليه من أن الحد إنما هو شرح لفظ المحدود يعني اسمه، هو رأى الإِمام الفخر الرازي، وقد خولف في ذلك، وفي المسألة نظر يحتاج إلى بسط يطول ويعسُرُ، وصحة الجواب مبنية على ذلك.
(34)
عبارة القرافي هنا: فإن كلام النفس لا دلالة فيه، ولا مدلول، وإنما فيه متعلق ومتعلق خاصة، مما سيأتي بيانه في مسائل الإنشاء، فيقع الفرق على هذا البيان بين الخبر والإنشاء من أربعة أوجه
…
إلخ.
فقولنا: قام زيد، تبع لقيامه في الزمان الماضي، وقولنا: هو قائم، تابعٌ لقيامه في الحال، وقولنا: سيقوم، تابع لتقرير قيامه فى الاستقبال، وليس المراد بالتبعية التبعية في الوجود، وإلا لما صدق ذلك إلا في الماضى فقط، فبهذا المعنى يفهم معنى التبعية، ومثله قول العلماء رضي الله عنهم: العلم تابع للمعلوم، أي تابع لتقريره في زمانه.
الوجه الثالث: أن الإنشاء لا يقبل التصديق والتكذيب، (35) بخلاف الخبر.
الوجه الرابع: أن الإنشاء لا يقع إلا منقولا عن أصل الوضع في صِيغ العقود والطلاق والعتاق ونحوهما، وقد يقع إنشاء في الوضع الأول كالأوامر والنواهى فإنها تنشيء الطلب بالوضع الأول اللغوي، والخبر يكفي فيه الوضع الأول في جميع صوره، فقول القائل: أنت طالق ثلاثا، كان أصله الإخبار بوقوع طلاقها كذلك، ولكنه خرج عن ذلك ونقل إلى الإنشاء.
ذكر شهاب الدين رحمه الله هنا تنبيهين حسَنيْن.
فالأول منهما قال: إعتقدَ جماعة من الفقهاء أن قولنا في حد الخبر: إنه يحتمل الصدق والكذب، أن هذا الاحتمال استفاده الخبر من الوضع اللغوي، وليس كذلك، بل لا يحتمل الخبرُ من حيث الوضع اللغوي إلا الصدق خاصة، لإجماع النحاة أن معنى قولنا: قام زيد، حصول القيام لزيد في الزمان الماضي، ولم
(35) أي فلا يحسن لمن قال لزوجته: أنت طالق، أو قال لعبده: أنت حرٌّ، أن يقال له: صدق ولا كذب، إلا أن يريد به الإِخبار عن طلاق زوجته او عتق عبده، كما قال القرافي رحمه الله.
وقد عقب ابن الشاط على كلام القرافي الذي أورده البقوري في الأوجه الثلاثة فقال: "كلامه في هذه الأوجه الثلاثة ظاهر مستقيم.
وعلق على الوجه الرابع بقوله: لقائل أن يقول: بل يقع (أي الإنشاء) غير منقول على وجه الاشتراك، لكن يترجح قول المؤلف (القرافي) برجحان المجاز على الإشتراك.
يقل احدٌ: إن معناه صدور القيام أو عدمه، بل جزم الجميع بالصدور، فعلمنا أن اللغة إنما هي للصدق دون الكذب. (36)
قلت: يظهر لي أنه ليس فيما ذكره دليل على المطلوب، فإنى أقول له: سلمت أن القضية الثبوتية دلت على الصدور، والقضية المنفية دلت على عدم الصدور، وهذا هو مدلول الكلامين، ثم أقول: والصدق والكذب خلاف ذلك كله ومن ورائه، فأقول: دل قام زيد على حصول القيام من زيد في الزمان الماضي، وهل كان المدلول كذلك في الخارج؟
فإذا قيل لى: نعَمْ، قلت: صدَق هذا الكلام، وإن لم، قلت: كذَب هذا الكلام، فالاحتمالان على السواء، ولا يُنسبُ أحدهما لشيء والآخر لشيء آخر كما قال، الكذب من قبل المتكلم، والصدق من قبل الوضع.
قال في التنبيه الثاني: قولنا في حدِّ الخبر: إنه المحتمل للتصديق
والتكذيب، إنما يصح على مذهب الجمهور الذين لا يشترطون في حقيقة الكذب
القصد، وعلى رأى هؤلاء، الخبر صدق وكذب، وما ليس بصدق ولا كذب،
وذلك ما عَرِي عن القصد، قال: وعلى رأى هؤلاء يكون الحد غير جامع، فيكون
فاسداً. (37)
(36) في نسخة ح: الصدق دون الكذب.
وقال القرافي هنا: ونظير قولنا في الخبر: إنه يحتمل الصدق والكذب، قولنا: إنه يحتمل الحقيقة والمجاز، وأجمعنا على أن المجاز ليس من الوضع الأول، وكذلك الكذب، فالمجاز والكذب إنما يأتيان من جهة المتكلم لا من الوضع، والذي للوضع هو الصدق والحقيقة.
على أن ابن الشاط رحمه الله تعالى لم يسلم هذا الكلام عند القرافي ولم يصحح ما ذكره في هذا التنبيه، فقال: ما جاء عند القرافي في هذا التنبيه خطأ، فليس هناك أحد من أهل علوم اللسان قال: إن كل كاذب، متجوز في إطلاقه على معناه
…
الخ
(37)
عقب ابن الشاط على هذا الحد والتعريف للخبر بقوله: إنما يصح هذا على مذهب الجمهور وليس بصحيح، بل يصح على كل مذهب على تسليم صحة حدِّه، فإن خبر المخبر غير القاصد للكذب قابل للتصديق والتكذيب، كما أن خبر المخبر القاصد للكذب قابل لذلك، وإنما أوقعه فيما قاله ذهاب وهمه إلى الصدق والكذب عوض التصديق والتكذيب، فقد يصدق الكاذب ويكذب الصادق، ولا يلزم ألا يكذب إلا مَنْ قصَد الكذب، ومن أين يطلع على قصده لذلك، وما استدل به على صحة مذهب الجمهور. صحيح على تقدير إن المرام في المسألة الظن، وأما على تقدير أن المرام فيها القطع فلا
…
اهـ.
قلت: من قال بهذا القول فلفظ الخبر عنده يقال على هذين بالاشتراك المحْض، ولا فساد في الحد حينئذ، ثم أبطل هذا المذهب بقوله صلى الله عليه وسلم:"كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكل ما سمع، (38) وبقوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب عليَّ متَعمِّدا فليتبوأ مقعده من النار، (39) من حيث المفهوم.
قلت: هذا المفهوم لا حجة فيه، فإنه المفهوم الذي يخرج مخرج الغالب، وقد تقرر أنه لا حجة فيه باتفاق، قال (أي القرافي): واستدلوا بقوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} (40)؟ فقالوا: مقابله الكذب بالجنون الذي لا قصد معه يدل على أن الكذب ما كان القصد معه، وردَّه بأن قال: إنما نسبوه إلى الافتراء والجنون، والافتراءُ أخص من الكذب، فالافتراء لا يقال إلا على ما كان معه القصد، وليس الكذب كذلك، بل هو أعم، ولهذا انقسم الكذبُ إلى الافتراء وغَيْره.
فصل:
الإنشاء ينقسم إلى متفق عليه ومختلف فيه، فالمتفق عليه أربعة أقسام،
القسم الأول، قولنا: أقْسِمُ بالله لقد قام زيد.
(38) أخرجه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه، وذكره الحافظ السيوطى في كتابه الجامع الصغير، وأورده فيه بلفظ:"كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع"، فإن ذلك يفرض المحدث للكذب، والكذب ينشأ عنه الإثم. ووجه الاستدلال بالحديث أنه جعل المحدث والمتكلم بكل ما سمع كاذبا، لأنه في كلامه بذلك غير مطابق في الغالب، وإن كان لم يعرفه حتى يقصد إليه، فدل الحديث على عدم اعتبار القصد في الكذب، وهو قول الجمهور، فالحديث حجة لهم كما ذكره القرافي وأوضحه في بيان الاستدلال به.
(39)
أخرجه الإِمام البخاري عن سلمة بن الأكوع بلفظ: "من يقل عليَّ ما لمْ أقُلْ فليتبوأ مقعده من النار" وفي رواية أخرى عن علي رضي الله عنه: "لا تَكْذِبوا عليّ، فإنه من كذب على فليلجْ النار"، ورواه آخرون من أئمة الحديث بالصيغة المذكورة هنا في هذا الكتاب، وهو يُعد عند علماء الحديث من الأحاديث المتواترة.
ووجْه الاستدلال به أن مفهومه أن من كذب غير متعمد لَا يستَحِقُّ النار، فدَل على تصَوُّر حقيقة الكذب من غير قصد إليه، وهو المطلوب كما قال القرافي رحمه الله.
(40)
سورة سبأ، الآية 8.
قلت: عدُّ هذا في المتفق عليه لا يصح، فكثير من النحويين يقول: القسَمُ جملة يؤكَّدُ بها جملة أخرى، كلتاهما خبرية، والقليل قال بأن القسم جملة إنشائية.
قال (أي القرافي): القسم الثاني الأوامر والنواهى، وهذا من حيث إن الصدْق والكذب لا يتبعهما من حيث الإجمال، ويلزَمُ فيها جمع لوازم الإنشاء.
القسم الثالث: الترجى والتمني والعَرْض، فهي كالأوامر لا تحتمل تصديقا ولا تَكْذيباً، وهى للطلب ويتبعُها ويترتبُ عليها.
القسم الرابع: النداء نَحْوُ بَازيد، لا يحتمل صدقا ولا كذبا، سواء قلنا بتقدير الفعل فيها، وأن المراد أنادى زيدا، أولا، هى للإنشاء، فإن احتمال الصدق والكذب لا يكون فيه. (41)
وأما المختلَف فيه فصيغ العقود، نحو بعتُ، واشتريت، وأنت حُرٌّ وامرأتى طالق، وما أشبه ذلك، فالحنفية تقول: هى إخبارات، وقد بقيت على أصل وضعها ولم تُنقل، إذْ النقل خِلاف الأصْل.
وقال غيرهم: هى إنشآت منقولة عن الخبر إليها. فالقائل بالإنشاء يقول: لو كانت خبراً لكانت كاذبة، فإنها تقتضى أنه باع ولم يبع قبل ذلك الوقت، ولم يطلق، والكذب لا عبرة به، لكنها معتَبَرة فهي إنشآت.
(41) علق الشيخ ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذه الأقسام الأربعة المندرجة في المتفق عليه فقال: جميع ما قاله في ذلك ظاهر صحيح، غير قوله في القسم الأول:"فإن مقتضى هذه الصيغة (أقْسم بالله لقد قام زيد ونحوه) أنه أخبر بالفعل المضارع أنه سيكون منه قسمٌ في المستقبل " ليس بصحيح، مع تسليم ما حكاه من الإجماع عن أهل الجاهلية والإسلام أنه بهذا اللفظ أنشأ القسم. وإذا كان الأمر كما قال عندهم، وهم جميع أهل اللسان، فكون تلك الصيغة مقتضاها الإخبارُ، إنما يكون عند غير أهل اللسان، ولا اعتبار بهم ولا حجة فيهم. اهـ.
وثانيها لو كانت إخبارات للزم الدوْرُ من حيث إن الخبر الكاذب لا عبرة به، والصدق يستلزم تقديم تلك الأحكام، واللفظ يدل على تلك الأحكام، وذلك يدل على تأخر الأحكام فكان دَوْراً.
وثالثها، لو كانت إخباراتٍ، فإما أن تكون خبرا عن الماضى أو الحاضر، وحينئذ يتعذر تعليقها على الشروط، لأن من شرط الشرط أن لا يتعلق إلا بمستقبل أو خَبرٍ عن المستقبل، وحينئذ لا يزيدُ على التصريح بذلك، وهو لو صرَّح وقال لامرأته: ستصيرين طالقا لم تطلّق بذلك اللفظ.
ورابعها: أنه لو قال للرجعية: أنت طالق ألزمته طلقة أخرى، وذلك يدل على الإنشاء لا على الخبر.
وخامسها، أن الإنشاء هو المتبادر إلى الفهم في العرف فوجب أن يكون منقولا إليه.
قال: والجوابُ، (42) أما الأول فإنما يلزم الكذب لو لم يقدر فيها صاحب الشرع تقدم مدلولاتها بالزمن الفرد، وهو جائز ولا شيء فيه، فكان أوْلى من ادعاء النقل.
قلت: قد مضى ما في قاعدة التقدير.
وأجاب عن الثاني بأن حل الدور (43) من حيث قاعدة التقدير، فلا يتم هذا الجواب أيضا.
(42)(أيْ جواب الحنفية)، كما عند القرافي، حيث قال:"والجواب، قالت الحنفية: أما الأول فإنما يلزم"
…
الخ.
(43)
في نسخة ح: بأن حدِّ الدور، وفي نسخة أخرى: بأن حال، ويظهر أن كلمة حل الدور باللام أوضح في المعنى المراد، وهو رد القول بالدور في هذه المسألة. وعبارة القرافي أكثر ظهورا ووضوحا في المقصود حيث قال:"وأجاب عن الثاني بأن الدور غير لازم". والمجيب هنا غير المالكية والشافعية، وهذا الغير هم الحنفية القائلون بأن صيغ العقود إخبارات على أصلها اللغوي، فقال مخالفوهم: إنها إنشائية منقولة عن الخبر إليه، محتجين لقولهم هذا بأمور:
منها أنها لو كانت أخباراً لكانت كاذبة، لأنه لم يبع قبل ذلك الوقت، ولم يطلق قبل ذلك، والكذب لا عبرة به، لكنها معتبرة، فدل ذلك على أنها ليست أخبارا بل إنشاء، لحصول لوازم الإنشاء فيها من استتباعاتها لمدلولاتها وغير ذلك من اللوازم.
قلت: والجوابات كلها مبنية على التقدير، والقول به ما تمَّ ولا ثبت، فهذه الأجوبة كذلك.
قال شهاب الدين في الأجوبة كلها: إنها متجهة صحيحة، إلا الأخير فإن الجواب عنه لا يصح، إذ هو مكابرة، وقد قلنا ضعْفها من أين؟ وذكر أنه لم يَر هذه المباحث من الجهتين لأحد، وإنما هي من فضل الله عليه، فقد يريد أجوبة الحنفية التي ردها للتقدير، وأما المباحث التي قبلها فهي للإِمام فخر الدين صاحب المحصول، قدس الله روحه. (44)
= وثانيها: أي الأمور والوجوه المستدل بها على أنها إنشآت، أنها لو كانت أخبارا لكانت إما كاذبة فلا عبرة بها، أو صادقة فتكون متوقفة على تقدم أحكامِها، فحينئذ إما أن تتوقف عليها أيضا فيلزم الدورُ، أو لا تتوقف عليها فيلزم أن يطلق امرأته أو يعتق عبده وهو ساكت، وذلك خِلافُ الإجماع.
فأجاب غير القائلين بهذا القول والوجه، وهم الحنفية، بأن الدور هنا غير لازم، لأن النطق باللفظ لا يتوقف على شيء، وبعْدَهُ بقدر تقدم المدلول، وبعْد تقدير المدلول يحصُل الصدق ويلزَمُ الحكمُ، فالصدق متوقف مطلقا، واللفظ متوقف عليه مطلقا، والتقدير متوقف على النطق ويتوقف عليه الصدق، فهذه أمور ثلاثة مترتبة بعضها على بعض، وليس فيها ما هو قبل الآخَر وبعْدَه حتى يلزم الدّوْرُ، بل هي كالابن والأب والجد في الترتيب والتوقف، فاندفع الدَّور.
فهذا جواب الحنفية عن الوجْه أو الأمر الثاني الذي استدَلَّ به غيرهم على أن صيغ العقود إنشآءات، حيث ردوا في جوابهم هذا ما يلزمهم من الوقوع فى الدور حين قولهم بأن صيغ العقود إخبارات، وكذا التفصيل لكلام غير الحنفية وجوابهم، وتوضيحه يظهر ما قاله البقوري في هذا الموضوع، وذكره بإيجاز واختصار، إذ الاختصار يبقي الكلام ومعناه أحيانا غير واضح الدلالة والبيان والتصور في الأذهان، وذلك هو الباعث على نقل كلام القرافي فيه بالإكمال والتمام، والله الموفق والمستعان.
(44)
وقد عقب الفقيه ابن الشاط على قول الحنفية وغيرهم، واحتجاجات كل طرف لوجهة نظره ورأيه ومذهبه فى صيغ العقود، هل هي من قبيل الإنشاء أم من قبيل الخبر، فقال:
أما احتجاجات غير الحنفية فصحيحة على تقدير أن المرام الظن، حاشا الأخير منها فهو قوى، يمكن فيه ادعاء القطع، (وهو أن الإنشاء هو المتبادر (أي في العرف) إلى الفهم (من صيغ العقود)، فوجب أن يكون منقولا كسائر المنقولات الدَّالة على معان غير المعاني الأصلية لها في الوضع.
وأما جوابات الحنفية فضعيفة كما قال ابن الشاط رحمه الله، وأوضح وجه ضعفها.
وجميع الأقوال ووجوه الاستدلال لكل مبسوطة عند القرافي في الفرق ومسائله، وعند الشيخ ابن الشاط فى تعليقه وتعقيبه على كلام القرافي رحمهما الله ورحم سائر المسلمين.
ثم قال شهاب الدين رحمه الله: ولْنُرْدِفْ ذلك بمسائل جليلة ومباحث جميلة.
المسألة الأولى: ممَّا يتوهّم أنه إنشاءٌ وليس كذلك، بل هو خبر، الظهار في قول القائل لامرأته: أنت علي كظهْر أمّى، يعتقد الفقهاء أنه إنشاء للظهار، كقوله: أنتِ طالق، إنشاء للطلاق، وليسا سواء، وبَيانهُ من وجوه:
أحدها أنه قد تقدَّم أن من خصائص الخبَر قبولَ التصديق والتكذيب، والإنشاء بالعكس، والظهار موصوف بالكذب في القرآن من ثلائة أوجه: أحدها قوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ} فأكذبهم.
الثاني قولهُ: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ} ، والِإنشاء للتحريم لا يكون منكراً، بدليل الطلاق، وإنما يكون منكرا إذا جعلناه خبرا، فإنهُ حينئذ كذِبٌ.
الثالث قوله: {وَزُورًا} ، والزور هو الخبرُ الكذب. (45)
قلت: أما قوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} تكذيب، فليس بصحيح، لأنهم ما ادعوا أنهم أمهاتهم، بل قالوا: أنتِ علىّ كظهر أمّى، وإنما يكون تكذيبا لو قال الرجل: أنتِ أمّى لزوجه، وليس الظهار هكذا، وإنما المراد، هذا الحكم لا يلحقه، من حيث إنه ألحقه بعلة، وهى تشبيهُها بأمِّهِ، والأم حرمت بالعلّة التي فيها من الأمومة، وليس توجد تلك العلة في الزوجة أبدا. وقوله:{مُنْكَرًا} كذلك، حيث سوى بين المتنافيين. وقوله:{زُورًا} ، المراد بالزور، الباطل الذي هو أعم من الكذب لا الكذب.
(45) علق الفقيه ابن الشاط على هذا الوجه الثالث بقوله: "ما قاله القرافي في هذا الوجه ظاهر متَّجِهٌ. قلت: وهو بذلك يسير مع القرافي في قوله ومذهبه في اعتبار صيغة الظهار من قبيل الخبر لا من قبيل الإنشاء، على أنه سيأتي قوله في آخر تعليقه على ما ورد عند القرافي في الوجه الثاني المبيّن لكون الظهار من قبيل الخبر، فقد قال: وهو غير المذْهب. فلينظر وليتأمل
قال شهاب الدين: وثانيها أجْمعنا على أن الظهار يحرّمُ، وليس للتحريم مدْرَكٌ إلا أنه كذب، والكذب لا يكون إلا في الخبر، فيكون خَبَراً. (46)
قلت: قوله: "وليسَ للتحريم مُدْرك إلا أنه كذب، ممنوع، بل مُدْرَكه تشبيه الزوجة التي يحلُّ وطْؤها - وحثَّ الشرع على وطئها - بالأم التي حرم الشارع وطْأها، فكان قد أتى بحكم خالف حكم الله الذي انبنى على الحكمة، فهذا هو مُدْرَكُهُ، وهو الحق، لا ما ذكره، والله أعلم.
قال رحمه الله: وثالثها أن الله شرع فيها الكفارة، وأصل الكفارة أن تكون زاجرة ماحية للذنوب، فدل ذلك على التحريم، وإنما يثبت التحريم إذا كان كذباً.
قلت: قولك: "وإنما يثبت التحريم إذا كان كذبا، ممنوع، بل ثبت التحريم بما ذكرنا، وهو ظاهر، لا أنه كذب.
قال رحمه الله: ورابعها قوله تعالى بعد ذكر الكفارة: {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} (47)، والوعظ إنما يكون من المحرمات، (48) كذلك أيضا قال، يكون محرّما، وما ذلك إلا لأنه كذِبٌ.
قلت: قوله فيها (أي في هذه الوجوه الاربعة التي استدل بها على أن الظهار خبر) بأجمعها واحد، والرَّد عليه كذلك واحد.
(46) قال ابن الشاط معقبا على كلام القرافي هنا: لا نسلم أنه ليس للتحريم مدْرَك إلا أنه كذب، بل له مُدْرَك غيْرُه كما في الطلاق الثلاث، والجواب بأن الطلاق الثلاث هو المحرم لا لفظه به، ليس بصحيح، فإن المطلق ثلاثا في لفظ واحد يَصْدُر منه ما يتعلق به التحريم غير ذلك اللفظ، ولم يجمع بين الطلقات إلا باللفظ، أما بغيره فلا يتجه ولا يتأتى، بل يكون على قول من يلزمه بمجرد النية.
ثم زاد قائلا: وقول القرافي: وأما تحريم الظهار فلأجل اللفظ، قلت: هذه دعوى. وقوله: وليس في اللفظ ما يقتضى التحريم إلا كونه كذبا، قلت: هذه أخرى، وقوله: لأن الأصل عدم غيره (أي الكذب) قلت: هذا ممنوع، ولا يصح إلا على أن الظهار خبر وهو غيْرُ المذهب، فكيْفَ يبنى عليه الدليل. انتهى كلام ابن الشاط رحمه الله. فليتأمل فيه بفهم وبعد نظر.
(47)
سورة المجادلة، الآية 3.
(48)
كذا في النسختين: من المحرمات، وعند القرافي: عن المحرمات، ويظهر أن حرف عن أظهر، لما في معنى الوعظ من النهي والزجْر، وهو يتعدى بحر الجر عن.
كذلك أيضا ذكر استدلالا من حيث قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} ، وأنهما يستلزمان المعصية، ولا مُدْرَكَ للمعصية إلا الكذبُ، والرد عليه فيه واحد. فقد ظهر ضعف مقالِهِ هنا، وأن الحق ما يقوله الفقهاء أن الظهار إنشاء لا خبرٌ، واللهُ أعلم. (49)
ومما يُقَوى أنه إنشاء بكاء المرأة على النبي صلى الله عليه وسلم، التي ظاهَرَ منها زوجُها، وقوُلها له: إنّ لى صِبْيةً، إن أخذهم ضاعوا، وإن أخذْتهم جاعُوا، مع قوله عليه الصلاة والسلام:"ارجعى إلى ابن عمك" وغيرُ ذلك، فإن القصة تدلُّ على أن الظهار كان تحريما مؤبَّدًا، وهو المناسب للتشبيه بالأمّ، والأصل عدم النقل، فيبقى في الإسلام كذلك حتى يأتي ما يرفعه، والذي رفعه هو الكفارة، وأمّا قبل نزول الآية فكان على ما كان عليه في الجاهلية. وأيضا فهو لفظ يترتب عليه التحريم فيكون إنشاء (50)، إذ هذه خاصة الإِنشاء.
- وتكلّف شهاب الدين رحمه الله الجواب عن هذا، وما رأيت التطويل بذلك، لأن التكلف فيها بيّنٌ من أوّل المسألة، فالحَقُّ أنهُ إنشاءٌ.
قال: وأما قول الفقهاء: له صريحٌ وكناية، كما قالوا في الطلاق، فذلك ليس يدل على أنهم يعتقدون أنه إنشاء، بل المرادُ أن الظهار يتفاوت في مراتب الكذب، فالصريح أقبَحُ وأشنع.
(49) قلت: وقد سبق تعليق الفقيه ابن الشاط على أن اعتبار صيغة الظهار من قبيل الخبر غير المذهب، وهو مما يلمح إلى اعتبارها من قبيل الإنشاء ويدل عليه، وهو ما انتهى إليه الشيخ البقوري رحمه الله، وأخذ يأتي بما يدل له ويقويه، فخالف قول شيخه القرافي في هذه المسألة. وقصة المرأة وهي خَولَة بنتُ ثعلبة، زوجُ أوْسِ بن الصامت ذكرها علماء التفسير والحديث وتعرضوا لها بتفصيل في مطلع كلامهم عن سورة المجادلة، وفي مقدمتهم الحافظ ابن كثير في تفسيره الشهير. ومما ورد في كتبهم وكتب المحدثين والفقهاء أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فجعله الله تعالى في الإسلام تحريما تُحِلُّهُ الكفارة كما تُحِلُّ الرجعة تحريم الطلاق.
(50)
عبارة القرافي هنا رحمه الله: "فيكون سبباً له (أي للتحريم)، والإنشاء من خصائصه أنه سبب لمدلوله، وثبوت خصيصية الشيء يقتضى ثبوته، فيكون (أي الظهار) إنشاء كالطلاق، وهي تزيد عبارة الشيخ البقوري وضوحا وبيانا أكثر.
قلت: هذا من أبْعدِ شيء، بل الظاهر بالصريح ما يدل على القصد نصّاً، والكناية ما يدل على القصد من الظهار لا كذلك، كما الأمر في الطلاق.
ونقل شهاب الدين أقوالا للفقهاء، هي تدل بظاهرها على أن الظهار كالطلاق إنشاء وليس خبراً من الأخبار، وتكلم على ما نقل، رجاء أن يتحقق له ما ادعاه من أن الظهار خبر لا إنشاء، والظاهر خلاف ما يقول شهاب الدين في هذه المسألة، وقد اعترف بذلك آخر الفصل وقال: لم أر أحدا تعرض لأقاويلهم على هذا الوجه، ويريد بالتأويل، ثم قال: بل ظاهر كلامهم أن الظهار إنشاء كالطلاق، والله أعلم بمرادهم، غير أن الذي تقتضيه القواعد قد أوضحته لك غاية الإِيضاح.
قلت: قد ظهر إيضاحه أنه كلا إيضاح، واستدلاله ضعيف، والله أعلم.
المسألة الثانية: إذا قال لامرأته: أنت طالق ولا نية له، المتبادر إلى الأفهام أنه يلزم الطلاق بالوضع اللغوي، بخلاف الكنايات، وليس كذلك، بل إنما يفيده بالوضع العُرفي، وأصل وضعه لغة في إزالة القيد، كان ذاك القيد أي شيء، لا يتخصص بشيء ما، ثم تخصيص ذلك بإزالة قيد ما، نقل عن ذلك العام إِلى ذلك الخاص بالمجاز إن كان غير قيد العصمة، وبالعرف إن كان قيد العصمة، ولا يلزم أن يكون الناقل شرعا بل الناقل يكون شرعا أو غيره، ولهذا نقول: الحقائق أربعة: الحقيقة اللغوية، والحقيقة الشرعية، والحقيقة العرفية الخاصة، والعامة، فهذه حقيقة عرفية عامة، لأن العرب نقلت هذا النقل، والعرب هي التي جعلت أسماء العقود إنشاءات بعد أن كانت إخبارات (51).
(51) قال ابن الشاط هنا: لا نسلم له (للقرافي) أن قول القائل لامرأته: أنت طالق، عبارة عن إزالة مطلق القيد، بل الظاهر من اللغة أنه لفظ موضوع فيها لإزالة قيد عصمة النكاح أو للإخبار عن ذلك. وما استدل به من أن لفظ الطاء واللام والقاف موضوعة في اللغة لإزالة مطلق القيد لا يسلَّم أيضاً، وهو دعوى، وذلك هو المسمى عند النحاة بالاشتقاق الكبير، وليس بقوى عند المحققين. وما قاله من أن لفظ أنت طالق، دلالته على إنشاء إزالة قيد العصمة عرفية لغوية، يتجه لرجحان دعوي المجاز على دعوى الاشتراك. اهـ.
وفائدة الفرق بين أن يكون لفظ الطلاق يفيد الطلاق وضعا أو عرفا، أنا إذا قلنا: وضعاً، فالأصل أن يلزم به الطلاق حتى يأتي ما يدل على أنه لا يراد به ذلك، وإذا قلنا: عرفاً، فالأصل أن لا يلزم به الطلاق حتى يتحقق ذلك العرف في ذلك الزمان، فإن العرف يختلف بحسب العوائد (52).
المسألة الثانية: وقع لمالك في التهذيب وغيره أن قول القائل: "حبلك على غاربك" يلزمه الطلاق الثلاث، ولا تقبل نيته أنه أراد أقل منها. وقال ابن القاسم: قول القائل: أنا منك بائن، وأنت منى بائنة، لا يُنَوي قبل الدخول ولا بعده، بل يلزمه الثلاث. وإذا قال في الخلية والبرية والبائن: لم أرد طلاقا، فإن تقدم في كلامه ما يكون هذا جوابا له صدّقَ، وإلا فلا. وقال الشافعى: النية تابعة لما ينويه من العدد. وقال أبو حنيفة: إن نوى الثلاث لزمه الثلاث، أو واحدة فواحدة، وكذلك قولهما في حبلك على غاربك. وقال ابن حنبل: يقع الطلاق بالخلية والبرية والبائن، وحبلك على غاربك (53) والْحَقى بأهلك، والبتة، والبتْلة بغير
(52) ومثل هذا الكلام نجده هنا كذلك عند ابن الشاط بعد نفيه وسلبه الصحة عما جاء في كلام القرافي في المسألة، فقال: فإنه كما يتبدل العرف من العرف، كذلك يتبدل العرف من اللغة، وإلزام العقود من الطلاق وغيره مبنى على نية المتكلم أو عرفه، لا على اللغة ولا على عرف غيره، هذا فيما يرجع إلى الفتوى. وأما ما يرجع إلى الحكم فأمر آخر لمنازعة غيره له، فإنما يحكم بعرفه لا بنيته، لاحتمال كذبه فيما يدعيه من النية، فالحكم مترتب على العرف، سواء كان ذلك العرف ناقلا عن اللغة أم عرف سابق عليه ناقل عن اللغة.
وعلى الجملة، فالاعتبار بالاستعمال الجاري في زمن وقوع العقد، فإن كان لغة جرى الحكم بحسبه، وإن كان عرفاً ناسخاً لها أو لعرف ناسخ لها فكذلك، هذا إن لم يقصد ما رأيته، فإن لفظه فيه احتمال. انتهى كلام ابن الشاط رحمه الله، وهو كلام دقيق ومفيد، يفيد المفتى والقاضى في كثير من نوازل الأحكام والقضايا، لا في هذه المسألة فقط التي هي محل تعليقه وتحقيقه، والله أعلم.
(53)
الغارب في اللغة هو الكاهل، أو ما بين الظهر والسَّنام والعنق في الدابة. وأصل هذا التعبير أن راكب الدابة إذا أراد أن يطلقها تسير في المرعى كما شاءت، فإنه يطلق إمساكه بلجامها، ويضعه على ظهرها لتنطلق حرة في المرعى. وكذلك جاءت كلمة خلية من الخلو، وهو الفراغ، وبرية من البراءة، حيث تكون الزوجة خالية وفارغة من علاقتها وعصمتها الزوجية، وبريئة منها بحكم انحلال ميثاق الزوجية بالطلاق. وهذه الألفاظ والعبارات هي من ألفاظ الكناية الصريحة في الطلاق.
نية، لشهرتها، ويَلزم بالخلية، والبرية، والحرام، والحقي بأهلك، وحبلك على غاربك، ولا سبيل لي عليك، وأنت علي حرام، واذهبي، وتزوجي، وغط شعرك، وأنت حرة،
= فقد قسم الفقهاء ألفاظه إلى أربعة أقسام هي:
اللفظ الصريح، وهو ما فيه لفظ الطلاق، فيلزمه الطلاق بأية صيغة، مثل طلقتك، أو أنت طالق .. الخ
والثاني الكناية الظاهرة أو الصريحة، وهي التي جرت العادة أن يطلق بها بالشرع أو في اللغة، كلفظ التسريح أو الفراق، وكقوله لها: أنت بائن، أو بتَّة أو بَتلة (من البتل وهو القطع) ، وما أشبه ذلك، فحكم هذا كحكم الصريح. وقال الشافعى: يرجع إلى ما نواه ويصدق في نيته.
والقسم الثالث من ألفاظ الطلاق الكناية المحتملة كقوله لها: إلحقي بأهلك، واذهبى، وابعدي عني، وما أشبه ذلك، فهذا لا يلزمه الطلاق إلا أن نواه، وإن لم ينوه قبل قوله في ذلك.
والقسم الرابع ما عدا الصريح والكناية من الألفاظ التي لا تدل على الطلاق، نحو اسقني ماء، وإن أراد به الطلاق لزمه على المشهور، وإن لم يرده لم يلزمه.
وموضوع الطلاق وألفاظه ذكرها كثير من الفقهاء في كتبهم، وتوسعوا فيه ودققوا، فأعطوه حقه من البحث والدراسة واستخلاص الأحكام المتعلقة به، صونا للعلاقة الزوجية من أن تكون فيها شبهة، وصيانة للأنساب من الاختلاط، وصونا للأعراض من المساس بها فجزاهم الله خيرا.
قال الشيخ أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله في رسالته الفقهية الشهيرة: "ومن قال لزوجته: أنت طالق البتَّة فهى ثلاث، دخل بها أم لم يدخل
…
قال شارحها الشيخ أبو الحسن رحمه الله: "ولا ينوَّى" بضم الياء وفتح النون وتشديد الواو، أي لا يسأل عن نيته، ولا تطلب منه). وقال: ما ذكره هو مذهب المدونة، وشهره ابن بشير، وقيل: ينوَّى في التي لم يدخل بها، وشهره ابن الحاجب فيها وفي سائر الكنايات الظاهرة.
ثم قال ابن أبي زيد: فإن قال لها: أنت بريَّة أو خلية أو حرام، أو حبلك على غاربك، فهى ثلاث في التي دخل بها، وينوَّى في التي لم يدخل بها، أي ينوَّى في عدد الطلاق لا في إرادة غيره اهـ.
وقد أتى الشيخ علي العدوي الصعيدي رحمه الله في حاشيته على شرح أبي الحسن على الرسالة بمعانى هذه الكلمات، وبيان مدلولاتها فقال: برية من البراءة أي برية من الزوج، وخلية، أي خلا الجسم من عصمة النكاح، وحرام، أي ممنوعة منى للفرقة، وحبلك على غاربك، أصله أن يفسخ خطام البعير عن أنفه، ويلقى على غاربه، وهو مقدم سنامه، ويسيب للرعى، فكأن الزوج يقول لها: قد سيبتك وصرت مستقلة لا زوج لك.
قلت: وسيأتي كلام مهم جدا لكل من شهاب الدين القرافي، وقاسم ابن الشاط حول هذه الالفاظ وكناياتها، وإلى أي حد يمكن حملها على الطلاق في كل الأزمان والأحوال كما نص عليه الفقهاء في مختلف كتبهِم، وهو كلام يدعو إلى التأمل جيدا، وأخذه بعين النظر البعيد والتفكير السديد، وذلك في آخر التعليق رقم 59 من هذه المسألة الثالثة التي هي موضوع التعليقات.
الثلاث. وقال أبو حنيفة في ذلك كله بواحدة. وقال ابن العربي: الصحيح أن حبلك على غاربك، والخلية، والبرية، والبتة، والبتلة، واحدة، (أي طلقة واحدة).
وإذا قال الرجل: كل حلال علي حرام، حرم الأزواج، إلا أن يخرجهن بنيته أو بلفظه، ولا يخرج غيرهن، وقال ابن عبد الحكم: لا شيء عليه إذا كان من بلد لا يريدون به الطلاق. وقال صاحب الاستذكار (54). في الحرام أحد عشر قولا. قال الإِمام أبو عبد الله (55): وأصل اختلاف الأصحاب في الألفاظ، أن اللفظ إن تضمن البينونة والعدد، نحو أنت طالق ثلاثا لزم الثلاث. ولا ينوَّى -اتفاقا- في المدخول بها وغير المدخول بها، وإن دل على البينونة فقط فينظر، هل تمكن البينونة بالواحدة أو تتوقف على الثلاث إذا لم تمكن معاوضة، فإن أمكنت فواحدة، وإلا فالخلاف، فإن دل على عدد، غالبا، ويستعمل في غيره نادراً، فهل يحمل على الغالب عند عدم النية أو على النادر مع وجوده في الفتيا، وإن تساوى الاحتمال وتقارب قبلت نيته في الفتوى والقضاء، وإن عدمت النية فهل تحمل على الأقل، استصحابا للبراءة الأصلية، أو على الأكثر احتياطا (56).
(54) هو الحافظ الحجة، إمام الفقه والسنة، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمرى الأندلسي، المتوفى سنة 463. ويعتبر كتاب الاستذكار هذا من أجل وأعظم مؤلفاته العلمية القيمة، شرح به بعد التمهيد ما جاء في موطأ الإِمام مالك رحمه الله شرحا واسعا مفصلا، ومرتبا على أبواب الموطأ، ولم يطبع منه فيما أعلم إلا جزآن، والآثار، وليس هو اختصارا للتمهيد كما قيل، واختصره بعد ذلك في كتابه الكافي الذي طبع مؤخرا.
(55)
المراد به -كما صرح به القرافي هنا- أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمى المازري المتوفى سنة 536، أحد أعلام المذهب المالكي، مؤلف شرح البرهان، وشرح التلقين للقاضي عبد الوهاب البغدادى شرحا جليلا لا يزال في عالم المخطوطات.
(56)
قال القرافي هنا رحمه الله: والمشهور في الحرام أنها تدل على البينونة، وأنها لا تحصل في المدخول بها إلا بالثلاث، وفي غيرها بالواحدة، ولكونها غالبة في الثلاث حملت قبل الدخول على الثلاث، وينوَّى في الأقل. والقول بعدم البينونة بناء على عدم ثبوتها وعدم وضعها للثلاث في العرف، كقوله: أنت طالق ثلاثا. والقول بالواحدة البائنة مطلقا بناء على حصول البينونة قبل الدخول وبعد الدخول، وأنها لا تفيد عددا. ونقل عن ابن سلمة أنها واحدة رجعية، بناء على أنها كالطلاق. قال: وعلى هذه القاعدة تتخرج الفتاوى في الألفاظ، انتهى كلام القرافي رحمه الله.
إذا ثبت ما ذكره الفقهاء فنقول: ، (57)
إنما تصير هذه الألفاظ موجبة لما ذكره مالك رحمه الله بنقل العرف لها في رتب:
إحداها أن ينقلها عن الإخبار إلى الإِنشاء.
وثانيها أن ينقلها لرتبة أخرى، وهى إنشاء زوال العصمة الذي هو إنشاء خاص، أخص من مطلق الإِنشاء، فإن القاعدة أن الدال على الأعم غير دال على الأخص.
وثالثها: أن ينقلها العرف إلى المرتبة الخاصة من العدد، وهى الثلاث، فإن زوال العصمة أعم من زوالها بالعدد الثلاث، فلهذه الرتبة أشار الإِمام أبو عبد الله. لكنه بقي في القاعدة التي أشار إليها أغوار لم يفصح بهها وهو يريدها، وهي أمور.
= قلت: ومحل هذا -كما هو جلي وواضح من سياق الكلام، هو الطلاق بعد الدخول وقبله بلفظ الحرام وصيغته بأن يقول الزوج لزوجته: أنت على حرام. أما مجرد الطلاق بألفاظه وصيغه المعهودة شرعا ولغة كقوله لها: طلقتك، أو أنت طالق، فهو بعد الدخول يعتبر طلقة رجعية، وقبل الدخول يعتبر طلقة بائنة بينونة صغرى، يمكن معها للزوج أن يتراجع ويعقد على زوجِهِ من جديد مرة أخرى. وكل ما هناك أن المطلقة قبل الدخول لا عدة عليها، لقول الله تعالى في سورة الأحزاب:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} .
هذا وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن قانون مدونة الأحوال الشخصية المغربية التي صدر بها الظهير الشريف في غشت 1957، والمطبقة في أحكام الزواج والطلاق نصت في بعض فصولها على ما يأتي:
ف. 46: يقع الطلاق باللفظ المفهم له وبالكتابة، ويقع من العاجز عنهما بإشاراته المعلومة.
ف 60: الحلف باليمين أو الحرام لا يقع به الطلاق.
ف 61: الطلاق المقترن بعدد، لفظا أو اشارة أو كتابة، لا يقع إلا واحدا.
ف 62: الطلاق المعلق على فعل شيء أو تركه لا يقع. ومعلوم أن حكم الإِمام وقراره في المسألة الفقهية يرفع الخلاف الواقع فيها، ويعمل بحكمه فيها، كما نص على ذلك أهل العلم والفقه في الدين.
(57)
هذا الكلام للقرافي، وليس للبقوري كما قد يتبادر إلى الذهن.
أحدها أن هذه الإفادة عرفية لا لغوية (58)، وأنها نَقلتْهُ بالنقل العرفي لا باللغوي.
وثانيها أن مجرد الاستعمال وإن تكرر لا يكفى في النقل، بل لا بد من حالة لا يحتاج فيها إلى نية في فهم ذلك المعنى من ذلك اللفظ المنقول، فهذا هو المنقول.
فإذا تقررت هذه القاعدة على هذا، فظاهرٌ أن أكثر هذه الألفاظ لا نجد أحدا في بلدنا يذكرها، فضلا عن أن يعرف مقتضاها، فضلا عن أن ينوى بها شيئاً مَّا أم لا.
فإذا كنا نقول: إذا تكررت فلا يلزم بها شيء بمطلق التكرار إلا إذا نوى، فأحرى وأولى أن لا يلزم بها شيء في بلاد لا تستعمل فيها إذا لم ينو، ولفظ الحرام يستعمل وتختلف الحال فيه. ففى بلاد مصر هو دال على مطلق الطلاق. أما على الثلاث فلا، هكذا قال شهاب الدين رحمه الله. فلو كان إطلاقه في بلد يستعملونها فيها على الثلاث لزمه الثلاث. قال: وإياك أن تقول: إنا لا نفهم منه إلا الطلاق الثلاث، لأن مالكا قاله، أو لأنه مسطور في كتب الفقه، لأنه غلط، بل لا بد أن يكون ذلك الفهم حاصلا من جهة الاستعمال والعادة، ويحصل لك ولسائر العوام على السواء.
وإذا تقرر هذا فيجب علينا أمور:
أحدها أن مالكا وغيره إنما أفتوا بهذه الأحكام في هذه الألفاظ، لعوائد كانت في زمانهم اقتضت نقل تلك الألفاظ للمعانى التي أفتوا بها، صونا لهم عن الزلل.
وثانيها أنا إذا وجدنا زمانا عاريا عن تلك العادة وجب علينا أن لا نقضي
(58) عبارة القرافي: "أحدها أن هذه الألفاظ عرفية لا لغوية، وأنها تفيد بالنقل العرفي لا بالوضع اللغوي".
وعلق عليه ابن الشاط بقوله: ما قاله في ذلك صحيح ظاهر.
بتلك الأحكام (59)، كما نقول في النقود وغيرها، حيث نقضي بالسكة التي وقع التعامل بها في ذلك الوقت، وكذلك نفقات الزوجات تختلف بحسب العوائد.
وبالجملة، أشياء كثيرة يُقضَى فيها بحسب العوائد، فوجب أن تكون الفتوى متغيرة بحسب العادة، وإلا كان ذلك غلطا بينا بإحماع.
فعلى هذا، فالحق أن أكثر هذه الألفاظ التي تقدم ذكرها ليس فيها إلا الوضع اللغوي، وكانت حقيقة لا يلزم بها طلاق ولا غيره إلا بالنية، وإن لم تكن له نية لم يلزمه شيء حتى يحصل فيها نقل عرفي، ذلك النقل العرفي ثابت في ذلك الزمان، يوجب بها ذلك الطلاق، أي نوع كان، فيتبع على ما هو عليه.
فإن قلت: ما ذكرته من الحق يتعين اتباعه، فما سبب اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في هذه الألفاظ، ومن بعدهم من العلماء؟
(59) عبارة القرافي رحمه الله أتم وأكمل، وهي: إذا وجدنا زماننا عريا عن ذلك وجب علينا ألا نفتى بتلك الأحكام في هذه الألفاظِ، لأن انتقال العوائد يوجب انتقال الأحكام، كما نقول في النقود وغيرها.
وقد انتهى الإِمام القرافي في كلامه هنا إلى مراعاة العوائد في الفتوى، وأنه متى تغيرت العادة في المسألة تغير الحكم بإجماع المسلمين، وحرمت الفتيا بالأول. قال:"وإذا وضح لك ذلك اتضح لك أن ما عليه المالكية وغيرهم من الفقهاء، من الفتيا في هذه الألفاظ (أي ألفاظ الكناية الظاهرة مثل حبلك على غاربك، أو أنت برية أو خلية الخ) بالطلاق الثلاث هو خلاف الإجماع، وأن من توقف منهم عن ذلك ولم يجر المسطورات في الكتب على ما هي عليه، بل لاحظ تنقل العوائد في ذلك أنه على الصواب، سالم من هذه الورطة العظيمة" اهـ كلام القرافي.
وقد علق الفقيه المحقق قاسم بن الشاط على ذلك بقوله: ما قاله القرافي ظاهر صحيح. والله أعلم.
ثم قال ابن الشاط بعد ذلك: المستعمل لهذه الألفاظ، إن كان استعماله إياها، وفيها عرف وقتي لزم حملها عليه، وإلا فعلى الشرعي، وإلا فعلى العرفي، وإلا فعلى اللغوي. فإن أفتى الفقيه الوقتي بهذا الترتيب عند وجود العرف الوقتي فهو مصيب، وإن أفتى عند وجود العرف الوقتى باعتبار العرف الشرعى أو اللغوي العرفي أو اللغوي الأصلى وألغى العرف الوقتي فهو مخطئ. انتهى كلام ابن الشاط رحمه الله.
ومما ذكره الامام القرافي هنا، رحمه الله، وزاده توضيحا وبيانا وتفصيلا، واختصره الشيخ البقوري فلم يذكره، وهو كلام مهم ومفيد في هذا الموضوع قول القرافي رحمه الله:
قلت: سبب اختلافهم، اختلافهم في وقوع النقل العرفي، هل وجد فيتّبع، أو لم يوجد فيتبع موجِب اللغة؟ وإذا وجد النقل فهل في أصل الطلاق فقط، أو فيه مع البينونة، أو مع العدد، لما تقدم تقريره، وإذا لم يوجد نقل عرفي ونُفىَ موجب اللغة، فهل نلاحظ نصوصا (60) اقتضت حكما في مثل هذه، وتقاس هذه عليها أم لا؟ (61)
فإن قلت: فلعل مدرك مالك نصّ أو قياس، فتستمر فتاويه في جميع الأعصار والأمصار، ولا تتغير بتغير العوائد، وعلى هذا يكون المفتى بالمنقول في الكتب قال صوابا لا خطأ، ولم يجتمع مع مالك حتى يسأله عما في نفسه، ومع الاحتمالين لا تتعين التخطئة، ويجب اتباع موجِب المنقولات عن الأئمة من غير اعتراض، لأننا مقلدون لهم لا معترضون عليهم. قلت: الجواب عن هذا السؤال من وجوه:
= "ومن الأغوار التي لم ينتبه إليها الإِمام أبو عبد الله المازري أن المفتي إذا جاءه رجل يستفتيه عن لفظة من هذه الألفاظ، وعُرْفُ بلد المفتى في هذه الألفاظ الطلاق الثلاث أو غيره من الأحكام، لا يفتيه بحكِم بلده، بل يسأله: هل هو من أهل بلد المفتى فيفتيه حينئذ بحكم ذلك البلد، أو هو من بلد آخر، فيسأله حينئذ عن المشتهر في ذلك البلد فيفتيه به، ويحرم عليه أن يفتيه بحكم بلده، كما لو وقع التعامل ببلد غير بلد الحاكم حرم على الحاكم أن يلزم المشتري بسكة بلده، بل بسكة المشتري إن اختلفت السكتان، فهذه قاعدة لا بد من ملاحظتها. وبالإحاطة بها يظهر لك غلط كثير من الفقهاء المفتين، فإنهم يجرون المسطورات في كتب أئمتهم على أهل الأمصار في سائر الأعصار، وذلك خلاف الإجماع. وهم عصاة آثمون عند الله تعالى، غير معذورين بالجهل، لدخولهم في الفتوى وليسوا أهلا لها. ولا عالمين بمدارك الفتوى وشروطها واختلاف أحوالها.
فالحق أن هذه الألفاظ التي تقدم ذكرها ليس فيها إلا الوضع اللغوي، وانها كنايات خفية لا يلزم بها طلاق ولا غيره إلا بالنية، وإن لم تكن له نية لم يلزمه شيء حتى يحصل فيها نقل عرفي كما تقدم بيانه، فيجب اتباع ذلك النقل على حسب ما نقل اللفظ إليه من بينونة أو عدد أو غير ذلك، فهذا هو دين الله الحق الصريح، والفقه الصريح اهـ.
وقد رأيت أن أنقل هذا الكلام للقرافي، من كتاب الفروق على ما فيه من طول لأهميته ودقته، ولكن ما قاله في الألفاظ المستعملة في الكنايات الصريحة للطلاق، جاء على خلاف ما هو عِندَ جل الفقهاء في كتبهم دون تبيين وتفصيل في ذلك. فليتأمل، والله أعلم الحقِّ والصواب.
(60)
في نسخة ح: فهل يلاحظ نصوص (بالبناء للمجهول).
(61)
هذا التساؤل وأجوبته من كلام القرافي في هذا الموضوع، ليست من كلام البقوري، وإنما هو ناقل لذلك وملخص له.
وقد علق عليه ابن الشاط بقوله: سبق القول في ذلك، وأن المعتبر العرف الوقتي إن كان، وإلا فالشرعي، وإلا فاللغوي، وإلا فالأصلي، فإن أراد ذلك فما قاله صحيح.
أحدها أن المعرفة (62) بأن الألفاظ المذكورة هي في اللغة للإخبار، وما دلت على الإنشاء إلا بالنقل، وهي مما ندركه (63) إدراكا بينا. وأيضا لا يمكن أن يكون مدركهم القياس، فإنا نعلم ما يتعلق بالقياس من شرائطه وغيرها، وعلمنا بذلك يدفع ادعاء القياس. وأيضاً فالإمام أبو عبد الله المازرى ممن له الإمامة في العلوم والمشاركة، وقد تقدم ما قاله في هذه المسألة من القواعد، وأشار إلى ما قلناه من أن سبب الخلاف فيها راجع إلى العوائد، وأيضا فالناظر في المسائل الفقهية نظر تحقيق، ما يعرف أنه وجَد فيها مدرَكا مناسبا إلا العوائد، والخروج عنها التزام للجهالة من غير معنى مناسب (64).
المسألة الرابعة: إعلم أن الإنشاء كما يكون بالكلام اللسانى، كذلك يكون بالكلام النفسانى (65). وبيانه أن نقول: أن الألفاظ تابعة لما في النفس، فالذي يصدر منه الإنشاء باللفظ ما صدر منه إلا بعد تصور الإنشاء بباطنه، فإذا لم يكن فكيف يقع الكلام اللساني ترجمانا لما في النفس حتى تنتقل الأملاك عن طيب نفس (66) الذي لا يصح بغير طيب النفس.
(62) في نسخة ح: أن العرف.
(63)
في نسخة ح: مما يدركه (بالياء)، فيكون الضمير عائدا على الإِمام مالك أو المفتى في هذه المسائل، ويمكن أن يكون بصيغة الجمع (يدركونه) فيكون الضمير عائدا على مجموع الفقهاء المفتين في هذه المسائل على مقتضى مذهب الإِمام مالك، وصيغة الجمع تتناسب مع العبارة الآتية بعدها وهى:"وأيضا لا يمكن أن يكون مدركهم القياس .. "
(64)
قاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان في مجال المعاملات، قاعدة مقررة عند علماء الفقه والأصول، وقد توسع فيها وفي الحديث عنها أحد الأئمة والفقهاء الأعلام الحافظ الحجة ابن قيم الجوزية رحمه الله، وذلك في الجزء الأول من كتابه الشهير والذائع الصيت مشرقا ومغربا، أعلام الموقعين. فليرجع إليه من يرغب في التوسع في ذلك حتى يكون على بينة وبصيرة من أمره في هذه المسألة، وكذا في مسائل الفقه المتعلقة بهذا الموضوع وفي الفتوى في الدين.
(65)
ومنه البيت القائل:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
…
جُعِلَ اللسانُ على الفؤاد دليلا
(66)
هكذا في النسختين، ولعل في الكلام حذفا، تقديره هكذا:
ذلك النقل أو الانتقال الذي لا يصح بغير طيب النفس، ذلك أن كلمة طيب نفس، نكرة، واسم الموصول الذي معرفة، ومطابقة الصفة للموصوف في التعريف والتنكير، من القواعد النحوية المشهورة، فكان ذلك هو الباعث على ذلك التقدير، فلينظر وليتأمل.
قال شهاب الدين: ويدل على هذا أن الله تعالى أنشأ السببية في زوال الشمس لوجوب الصلاة، وأنشأ الأحكام، ثم أنزل القرآن دالا على ذلك ومترجما عليه (67)، وفرض القرافي سؤالين:
أحدهما: كيف يتصور إنشاء الأحكام في الأزل ولا محكوم عليه؟
والثاني: كيف يتصور الإِنشاء سابقا من غير طروّ على خبر؟ فقال:
يتصور الإِنشاء للإيجاب على نوع ما يوجب الوالد على ولده الذي هو في البطن إذا كان لم يوجد، واشتراط الطرو على الخبر، ذلك في الإِنشاء الكائن في الألفاظ لا في الكائن في (68) الكلام النفساني، وقال: ولا يصح أن تكون أخبارا، فإن من أطاعها أثِيبَ، ومن خالفها عوقب، لأنها لا تقبل صدقا ولا كذبا لذاتها. وأيضاً فكان يلزم الخلف لوقوع العفو عن العصاة، وأيضاً، فلو كانت أخبارا عن إرادته تعالى لوجب نفوذ مقتضاها. وذلك لا يصح، للإجماع على العفو (69).
قلت: مما يرد على شهاب الدين أن خاصية الإنشاء هو ما يترتب (70) عليه حكم من الأحكام، ولا شيء يترتب على الكلام النفساني من الأحكام،
(67) عبارة القرافي أكثر ظهورا ووضوحا حيث قال:
الصورة الأولى الدالة على أن الإنشاء كما يكون بالكلام اللساني يكون بالكلام النفساني، أنَّ الله سبحانه وتعالى أنشأ السببية في زوال الشمس لوجوب الظهر، وأنزل القرآن الكريم دالا على ما قام بذاته من هذا الإنشاء بقوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ، فإن الكتب المنزلة هي عندنا أدلة الأحكام لا نفس الأحكام، وإلا يلزم اتحاد الدليل والمدلول، وقس على ذلك جميع الأسباب الشرعية، وكذلك القول في الشروط كالحول في الزكاة، والطهارة في الصلاة، وكذلك الموانع الشرعية كالكفر مانع من الميراث، والحدث من الصلاة، وغير ذلك من الموانع، وما ورد من الكتاب والسنة في ذلك إنما هو أدلة على ما قام بذات الله تعالى.
الصورة الثانية: الأحكام الشرعية الخمسة وهي: الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة، كلها قائمة بذات الله تعالى عند أهل الحق والكتاب والسنة، وغير ذلك من أدلة الشرع إنما هي أدلة على ما قام بذات الله تعالى من ذلك.
(68)
في نسخة خ: عن الكلام.
(69)
قال ابن الشاط هنا: ما قاله القرافي في ذلك صحيح.
(70)
في نسخة ح: ما يترتب بصيغة المضارع، وهى متناسبة مع ما بعدها.
لا بحسَبِ الكلام القديم ولا بحسب الكلام الحديث، وإنما الترتب على الكلام اللساني.
المسألة الخامسة: اختلف العلماء في الطلاق بمجرد الكلام النفساني، فقال أبو الوليد بن رشد: إذا اجتمع الكلام اللساني والنفسي لزم الطلاق، فإذ انفرد أحدهما عن الآخر فقولان، وهذا بناء على أن الكلام النفساني يكون إنشاء كما يكون الكلام اللسانى. وكذلك اليمين أيضا وقع الخلاف فيها. هل تنعقد بإنشاء كلام النفس وحده أو لا بد من اللفظ (71).
قلت: أحد القولين مبنى على ما ذكره. ومن قال: لا يلزمه فما ذلك إلا لأنه لا إنشاء في النفس وإنما يكون الإنشاء في الكلام اللساني، إذ لو كان لترتب عليه أثره، وذلك باطل، فكلامه جل وعلا في القدم، ولم يترتب حكم من الأحكام إلا على القرآن من حيث اللسان العربي، وأما على النفسي فلا.
(71) ومما جاء له في المقدمات في هذا الموضوع قوله:
"واختلف بماذا يلزم (أي الطلاق المطلَق) على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يلزم بمجرد النية دون القول، وهي رواية أشهب عن مالك في كتاب الأيمان بالطلاق. والثاني أنه يلزم بمجرد القول دون نية. والثالث أنه لا يلزم إلا باجتماع القول والنية، وهذا فيما بينه وبين الله، وأما في الحكم الظاهر فلا اختلاف بين أهل العلم أن الرجل يحكم عليه بما أظهر من صريح القول أو كناياته، ولا يُصَدَّق أنه لم ينوه ولا أراده إن ادعى ذلك على مذهب من يرى أن الطلاق لا يلزم بمجرد القول حتى تقترن به النية.
وأما أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الحفيد، فقال في كتابه القيم: بداية المجتهد ونهاية المقتصد عن هذه المسألة ما نصه: قال في معرض كلامه عمن قال لزوجته: أنت طالق، وادعى أنه أراد بذلك أكثر من واحدة: اثنتين أو ثلاثا: فقال مالك: هو ما نوى وقد لزمه، وبه قال الشافعى، إلا أن يقيد فيقول: طلقة واحدة، وهذا القول هو المختار عند أصحابه. وأما أبو حنيفة فقال: لا يقع ثلاثا بلفظ الطلاق، لأن العدد لا يتضمنه لفظ الأفراد لا كناية ولا تصريحا، إلى أن قال (أي ابن رشد): وهذه المسألة اختلفوا فيها، وهي من مسائل شروط ألفاظ الطلاق، أعني اشتراط النية مع اللفظ أو بانفراد أحدِهما. فالمشهور عن مالك أن الطلاق لا يقع إلا باللفظ والنية، وبه قال أبو حنيفة. وروى عنه أنه يقع باللفظ دون النية، وعند الشافعي أن لفظ الطلاق الصريح لا يحتاج إلى نية، فمن اكتفى بالنية احتج بقوله صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات " ومَنْ لَمْ يعتبِرْ النية دون اللفظ احتج بقوله صلى الله عليه وسلم:"رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسُها" والنية دون قول، حديث نفس، قال: وليس يلزم من اشتراط النية في العمل فى الحديث المتقدم أن تكون النية كافية بنفسها.
قال شهاب الدين رحمه الله:
وبعض الناس قاس لزوم الطلاق على لزوم الكفر بالكلام النفسى، قال: وهو غلط، لأن الكفر لا يقع بالِإنشاء، إنما يقع بالإِخبار والاعتقاد، وكذلك الإِيمان والاعتقاد من باب المعلوم والمظنون لا من باب الكلام، وهما بابان مختلفان، فلا يقاس أحدهُما على الآخَرِ.
قال: ومِن وجه آخر أن الصحيح أن الإيمان لا يكفى فيه مجرد الاعتقاد، بل لا بد من النطق باللسان، فينعكس على هذا، ويقال له: لا بد من النطق باللسان كما الأمر في الإِيمان إن سُلِّمَ أن الباب واحد (72).
المسألة السادسة: في الفرق بين الصيغ التي يقع بها الإنشاء (73).
الواقع اليوم أن الشهادة تصح بالمضارع دون الماضى واسم الفاعل، فيقول الشَّاهِدُ: أشهد بكذا عندك أيدك الله. ولو قال: شهدت بكذا أو أنا شاهد
(72) كلام القرافي هنا رحمه الله يزيد القارئ وضوحا وبيانا أكثر، وهو قوله: ومن وجه آخر هو أن الصحيح في الإيمان لا يكفى فيه مجرد الاعتقاد، بل لا بد من النطق باللسان مع الإمكان، على مشهور مذاهب العلماء كما حكاه القاضى عياض في الشفا وغيره، فينعكس هذا القياس على قائسه على هذا التقرير، ويقول: وجب أن يفتقر (أي الطلاق بالكلام النفسى) إلى اللفظ قياسا على الإيمان بالله تعالى إن سُلِّم له أن البابين واحد، فكيف وهما مختلفان، والقياس إنما يجري في المتماثلات.
وقد علق الفقيه ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذه المسألة الخامسة وحكايته لاختلاف الأئمة والعلماء في الطلاق، واستحسانه لعبارة بن الجلاب، القائلة بأن من نوى طلاق امرأته وعزم عليه وصمم، ثم بدا له العدول عنه، لا يلزمه طلاق إجماعا، قال ابن الشاط:
ما قاله القرافي في هذه المسألة إلى آخرها صحيح ظاهر.
أقول: وفي مسألة الإيمان والجمع فيه بين الاعتقاد بالجَنَانِ، والنطق باللسان، والعمل بالجوارح والأركان، تحضرنا عبارة الشيخ ابن أبي زيد القيروانى رحمه الله حين قال في الباب الأول المتعلق بالتوحيد من رسالته الفقهية الشهيرة:"وأن الإيمان قولٌ باللسان، وإخلاص بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصانها، فيكون فيها النقص وبها الزيادة، ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل، ولا عمل وقول إلا بالنية".
(73)
هذا الفرق ورد ذكره عند الإِمام القرافي في هذه المسألة: جـ 1 ص 53 من كتاب الفروق. الطبعة الأولى 1344 هـ.
بكذا لم يقبل منه. والبيع يصح بالماضى دون المضارع عكس الشهادة. فلو قال: أبيعك بكذا، أو أبايعك بكذا (74) لم ينعقد. وإنشاء الطلاق يقع بالماضى نحو طلقتك، واسم الفاعل على نحو: أنت طالق ثلاثا، دون المضارع نحو: أطلقك ثلاثا.
وسبب هذا الفرق هو الجرى على العادة في العرف، فإن العرف هو المتبع فى هذا، وإن صار العرف إلى عكس تلك الأشياء تبعناه (75).
(74) في كل من نسخة ع، وح: أبايعك، وكذا في طبعة كتاب الفروق، ويظهر أن هناك تصحيفا للكلمة في المخطوطتين، وكذا في طبعة الكتاب الأصلي، وأن الصواب أنا بائعك (أي بائع لك) بصيغة اسم الفاعل التي هي موضوع الكلام والسياق، حيث ذكر إن الشهادة تصح بالمضارع دون الماضى واسم الفاعل، والبيع يصح بالماضى دون المضارع (أي واسمُ الفاعل كذلك، عكس الشهادة)، ذلك أن اسم الفاعل يدل حقيقة على الحال، كما يدل عليه المضارع المجرد عن الحروف التي تصرفه للاستقبال كالسين وسوف ولن.
أمّا استعمال الفعل أبايع من الفعل بايع الرباعى بمعنى باع، وتبايع فإنه ينشأ عنها لتمثيل بفعل المضارع مرتين، دون ذكر مثال لاسم الفاعل،
(75)
عبارة القرافي هنا: وسبب هذه الفروق بين الأبواب، النقل العرفي من الخبر إلى الإنشاء، فأى شيء نقلته العادة لمعنى، صار صريحا في العادة لذلك المعنى بالوضع العرفي، فيعتمد الحاكم عليه لصراحته، ويستغني المفتى عن طلب النية معه لصراحته أيضا، وما لم تنقله العادة لإِنشاء ذلك المعنى يتعذر الاعتماد عليه لعدم الدلالة اللغوية والعرفية، فنقلت العادة في الشهادة المضارع وحده، وفي الطلاق والعتاق اسم الفاعل والماضى، فإن اتفق وقت آخَرُ تحدث فيه عادة أخرى تقتضى نسخ هذه العادة وتجدُّدَ عادةٍ أخرى اتبعنا الثانية وتركنا الأولى، ويصير الماضي في البيع، والمضارع في الشهادة على ما تجدده العادة، فتأمل ذلك واضبطه. فمن لم يعرف الحقائق العرفية وأحكامها يشكل عليه هذا الفرق، وبهذا التقرير يظهر قول مالك رحمه الله: ما عده الناس بيعا فهو بيع، نظرا إلى أن المدرك هو تجدد العَادَة.
وقد علق الفقيه ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذه المسألة بقوله: ما قاله القرافي في هذه المسألة من اعتبار معينات الألفاظ مبنى على مذهب من يشترطها كما قال، فيصح تنقل العادات فيها بحسب العرف الحادث كما ذكر، والله أعلم.
ومبحث الفرق بين كلمات العادة والعرف والعمل ودلالتها بشيء من الدقة والتوسع يرجع فيه إلى كتب أصول الفقه، خاصة منها كتب مقاصد الشريعة الإسلامية، وكذا الدراسات المختصة بهذا الموضوع كأطروحة الأستاذ الدكتور عمر الجيدي في موضوع العرف والعمل في المذهب المالكي، وغيره من المؤلفات قديما وحديثا في هذا المجال المتعلق بالعرف والعادة والعمل على اختلاف أقاليمه ومناحيه.
قال شهاب الدين رحمه الله:
قد ذيلنا الإِنشاء بمسائل، فلنذيل الخبر بمسائل (76):
المسألة الأولى: إذا قال: كل ما قلته في هذا البيت كذِب، ولم يقل شيئاً في ذلك الوقت قبل هذا القول، يلزم منه شيئان: أحدهما رفع الصدق والكذب عن الخبر معا، والثاني ارتفاع النقيض، وذلك كله لا يصح.
أما أنه لا يكون صدقا فلأن الصدق هو الخبر المطابق، ولا شيء كان ثمة يطابقه، وأما أنه ليس كذبا فلذلك المعنى أيضا. وأما ارتفاع النقيض فذلك من حيث إن الصدق عبارة عن المطابقة، والكذب عبارة عن عدم المطابقة، وهما نقيضان وقد ارتفعا.
وأجاب شهاب الدين رحمه الله بأن الخبر كذب، وكان فيه عدم المطابقة، وعدم المطابقة يصدق بوجهين:
أحدهما ألا يوجد المخبرُ عنه، والثاني أن يوجد مخالفا، وهي ها هنا بالوجه الأول، وهذا جواب عن الإشكالين. قال: ومثل هذا الخبر قوله: كل ما تكلمت به في جميع عمري كذب، وكان لم يكذب قط، والجواب كالجواب. فإن كذب في جميع عمره أو في الثلث ثم قال: كل ما تكلمت به في جميع عمري أو في البيت صدق، فهذا الخبر كذب قطعا.
(76) عبارة القرافي رحمه الله: قد تقدم تذييل الإِنشاء بمسائل توضحه، وهي حسنة في بابها، فنذيل الخبر أيضا بثمان مسائل غريبة مستحسنة في بابها تكون طرفة للواقف، ثم أخذ في ذكر المسائل كما هي عند البقوري هنا في هذا المختصر والترتيب.
وقد علق ابن الشاط على المسألة الأولى بقوله: ما قاله القرافي من لزوم ارتفاع الصدق والكذب ظاهر.
المسألة الثانية: هل يجوز الخلف في الوعيد أو الوعد (77)؟ والوعد والوعيد خبران، ولا يصح الخلف على الله في واحد منهما، قال بعض العلماء بالتفريق. والصحيح أنه لا يجوز فيهما معا، وهو مما يلزم منه ألَّا يبقى وثوق بشيء من وعيده، وذلك مضاد للحكمة التي الرجوع إليها أولى من ملاحظة باب الكرم، والله أعلم (78).
قلت: ذكر شهاب الدين أنه إن أريد بالوعد والوعيد صورة اللفظ وما دل عليه بوضعه اللغوي من العموم فهما سواء في جواز دخول التخصيص،
(77) من المعروف المسلم به أن كلمة وعد تستعمل في الخير، وكلمة الوعيد تستعمل في الشر والتهديد، ومنه قول القائل، يمدح نفسه بحسن الخلق، والوفاء بالوعد في الخير، وبخُلْفِ الوعيد منه في الشر، وذلك شأن الكرام ذوي النفوس المؤمنة الكريمة والهمم العالية الطيبة.
وإني إذا أوعدته أو وعدته
…
لَمُخْلِفُ إيعادي ومنجز موعدي
والكلمتان وردتا في القرآن الكريم، ومِنْ ذلك قول الله تعالى:"وعْدَ اللهِ لا يخلف الله وعده". وقوله سبحانه: "فذكر بالقرآن من يخاف وعيد"(أي وعيدي).
(78)
قال شهاب الدين القرافي في أول هذه المسألة الثانية: وقع لابن نباتة في خطبة:
الحمد لله الذي إذا وعد وفى، وإذا أوعد تجاوز وعفا، وحسَّنَ ذلك عنده ما جرت به العوائد به من التمدح بالوفاء في الوعد، والعفو في الوعيد، وأتى بالبيت السابق الذكور. قال: وقد أنكر العلماء على ابن نباتة ذلك.
ووجه الإنكار وتقريره أن كلامه هذا يشعر بثبوت الفرق بن وعد الله ووعيده، والفرق بينهما محال عقلا إلخ
…
وعلق ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي في المسألة، فقال: جزم الشهاب بخطإ ابن نباتة، ويمكن أن يخرج لكلامه وجه، وهو أن وعد الله لا يخصصه إلا الردة لا غير، ووعيده يخصصه الإِيمان والتوبة، والشفاعة، والمغفرة، ولا مقابل لها في جهة الوعد، فلما كان الوعد، مخصصاته أقل من مخصصات الوعيد صح أنْ يفرق بينهما، بناء على ذلك، وما ذكره من إيهام العفو عمن أريد بالوعيد ليس من الإيهام الممنوع، والله أعلم.
والمعنى أن وعد الله لعبده المؤمن بالثواب والأجر على العمل الصالح، لا يحرمه منه ولا يحُولُ دون تحققه فيه إلا ردة الإنسان عن دينه، كفْرُه به، لقول الله تعالى:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} كما أن وعيد الله لعبده الكافر وتهديده له بالعقاب والعذاب الأليم لا ينجيه منه إلا إيمان الإنسان بربه، ودخوله في عاده المسلمين الصالحين.
وهذا لا يصح أن يكون مرادا في المسألة بوجه، ثم قال: وإن أريد بالوعد والوعيد من أريد بالخطاب مَمن قُصد بالإخبار عنه بالنعيم أو العقاب فمستحيل أن من أراده الله بالخير ألا يقع مُخْبَرُه، وإَلا لحصل الخلف، ثم قال: فإذا أريد بالوعد هنا وبالوعيد صورة العموم صح التفريق.
قلت: قد مضى أن صورة العموم لا تصلح في الاعتبار.
المسألة الثالثة: إذا فرضنا رجلا صادقا على الإطلاق وهو زيد، فقلنا: زيد ومسيلمة صادقان، أو زيد ومسيلمة كاذبان (79)، فالقضية ليست بصادقة، ولا كاذبة، ولزم الإشكالان المتقدمان.
فأجاب الإِمام فخر الدين بأن قال: هذه القضية في قوة قضيتين: الواحدة صادقة، والأخرى كاذبة، والتقدير: زيد صادق، ومسيلمة صادق. والواحدة صِدق، والأخرى كذب، فقال شهاب الدين رحمه الله: فوضع (80) المسألة على أن الِإخبار عن المجموع لا عن الفردين (81)، فقال: والجواب الحق أني
(79) المراد به مسيلمة بن ثمامة، أحد بني عدي بن حنيفة، كان ممن وفَدُوا من بني حنيفة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يطمع في أن يجعل له النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بعده لكي يؤمن به ويتبعه، فلما يئس من ذلك ورجع مع قومه إلى بلده اليمامة (وهي بين نجد والبحرين)، استمر في كفره وعصيانه وادعى النبوة، فلذلك عُرِفَ واشتهر بمسيلمة الكذاب، وتبعه قومه في جهله وضلاله، وراسله النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام والهدى، وذلك بعد رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه أبو بكر رضي الله عنه جيشا بقيادة عكرمة بن أبي جهل، وشرحبيل بن حسنة، ثم بعث إليه بعدهما جيشا كبيرا من المهاجرين والأنصار بقيادة خالد بن الوليد، فحاصره مع المرتدين معه حتى قيل فيه: مسيلمة الكذاب، وانتهى أمره، واستراح المسلمون من ضلاله وادعائه وشره.
(80)
في نسخة ح: فوقع، والأولى أوضح في المعنى.
(81)
عبارة القرافي هنا أظهر، وهي قوله: وهذا الجواب (أي جواب فخر الدين الرازي) يبطل بتضييق الفرض بأن نقول: المجموع صادق أو كاذب، ونجعل الخبر عن المجموع، وهو مفرد في اللفظ، أو يقول المتكلم: أردت المجموع والإِخبار عنه، ولم أرد الإخبار عن كل منهما، فيبطل هذا الجواب. والجواب الحق أن نلتزم في قولنا: هما صادقان، أنه كذب، ووجْهه وتقريره أن الكذب نقيض الصدق كما تقدم تقريره، فإنه عدم المطابقة، الذي هو نقيض المطابقة، والتكلم أخبر عن حصول المطابقة في المجموع، وفي كل واحد منهما، وليست كذلك، لأن الحقيقة تنتفى بانتفاء جزئها. فتنتفى المطابقة في المجموع بنفيها في أحدهما، ولا نشك أنها منفية في أحدهما فيكون الحق نفي المطابقة في المجموع، فيكون الخبر كذبا.
ألتزم من قولي: صادقان، أنه كذب، وهذا لأن القضية المركبة تُعدَم لعدم جميع أجزائها ولعدم جزء من أجزائها، فيقع عدم المطابقة، وذلك الكذب.
المسألة الرابعة: إذا قلنا: الإنسان وحده ناطق، وكل ناطق حيوان، فينتج: الإنسان وحده حيوان، وهو كذب، مع أن المقدمة صحيحة، فكيف يُنتج الصادق الكاذبَ (82) وذلك يبطل الاستدلال.
والجواب أن الفساد إنما جاء من جهة أن المقدمة الأولى هي مقدمتان: إحداهما سالبة والأخرى موجبة، فإن قولنا: الإنسان وحده ناطق، معناه أنه ناطق، وغيره غَيرُ ناطق، هذا هو مدلول وحده لغة، فإن جعلنا مقدمة الدليل من الموجبة وحدها صح الكلام، فإنه يصير: الإنسان ناطق، وكل ناطق حيوان، نتج: كل إنسان حيوان، وهذا صحيح. وإن جعلنا مقدمة القياس هي السالبة لم يصح الإنتاج لفوات شرطه، فإن الشكل الأول، من شرطه أن تكون صغراه موجبة، وهذه سالبة، فلا يصح الإنتاج، وإن جعلنا مجموع المُقَدمتين مقدمة واحدة امتنع أيضاً، فإنه لا قياس عن ثلاث مقدمات (83).
المسألة الخامسة: نقول: الفول يغذي الحمام، والحمام يغذي البازي، المقدمتان صادقتان، والنتيجة كذِب، إذ لا يأكل إلا اللحم.
والجواب أن الفسادَ جاء من جهة عدم اتحاد الوسط، فإن قولنا: الفول يغذي الحمام، الأصل أن يقال: وكل ما يغذي الحمام يغذي البازي، ولم نأخذه بل أخذنا مفعول المحمول الذي هو الوسط، ولم يؤخذ معناه.
المسألة السادسة: تقول: كل زوج عدد، والعدد إما زوج أو فرد، ينتج: الزوج إما زوج أو فرد، وذلك كاذب مع أن المقدمات صادقة.
(82) كذا في نسخة ع، وعند القرافي: فكيف ينتج الصادق الخبر الكاذب. وفي نسخة ح: والكاذب بالواو، وهو يبدو خطأ من الناسخ.
(83)
عقب ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي بقوله: ما قاله جواب حسن، بناء على أن الخبر لا بد أن يكون صدقا أو كذبا، وأما على أنه يخلو منهما فلا إشكال.
والجواب أن المحال إنما نشأ من جهة أن المقدمة الثانية، من شرطها أن تكون كلية، وهي هنا مهمَلة، والمهملة في قوة الجزئية، وأيضا فقولنا: العدد إما زوج أو فرد، قضية مبعَّضة (84).
وقال أرباب المنطق: إنما تكون كلية بأزمانها وأوضاعها، فإنْ لم تقع الإشارة إلى أن ذلك ثابت لذلك المحكوم عليه في جميع الأحوال على جميع التقادير وإلا لم تكن كلية (85).
إذا تقرر هذا، فنقول: ما تريد بقولك: العدد إما زوج وإما فرد؟ تريد به في أي حالة كان أو من حيث الجملة، فإن أردت الأول كان معناه العدد في حالة
(84) في هذه المسائل تعرض الإِمام القرافي وكذا تلميذه البقوري في هذا الاختصار إلى كلمات ومصطلحات منطقية، يستعملها علماء المنطق في هذا العلم والفن وهي القضايا والمقدمات، والنتائج، والمحمول والوسط، والقضايا الجزئية والمهملة (أي الخالية من السور الذي هو كلمة كل)، وقد تعرضت لما يتعلق ببعض المصطلحات من الكلي والكلية، والجزئي والجزئية، وبينته في قاعدة سابقة.
أما المقدمات والنتيجة، فهي تتصل بموضوع القياس الاقترافي، والقياس عند المناطقة بصفة عامة: عبارة عن قول مؤلف من قضيتين أو أكثر، متى سلمت لزم لِذاتها قول آخر، فيشمل القياسَ الاقتراني والاستئناف، والاقتراني هو الذي لم تذكر فيه النتيجة ولا نقيضها بالفعل، بل بمادتها ومعناها، مثل: العالم متغير، وكل متغير حادث، يعطي العالم حادث.
ففي هذا المثال قضية صغرى، وهي الجملة الأولى، وقضية كبرى مسوّرة بالسور الكلى وهي الجملة الثانية الكبرى، ونتيجته هي الجملة الثالثة. ويلاحظ أن آخر الجملة الأولى، وهي كلمة متغير، ويُسمى المحمول، وأول الجملة الثانية وهي:"وكل متغير" ويسمى المحمول عليه، أنه قد حذف ذلك الوسط وألْغِي من النتيجة التي قيل فيها: العالم حادث.
والتوسع في هذه المصلحات ومدلولاتها يطول، فيرجع إليها في علم المنطق وفنه، لأنها تساعد على فهم كلام الإِمام القرافي والشيخ البقوري رحمهما الله. وقد أشار إلى ذلك في إيجاز واختصار العلامة الأخضري في متن السلم فقال:
وما من المقدمات صغرى
…
فيجب اندراجها في الكبرى
وذاتُ حدٍّ أصغر صُغراهما
…
وذاتُ حدٍّ أكبرٍ كبراهما
وأصغرٌ فذاك ذو اندِراج
…
ووسطٌ يلغَى لدى الإنتاج
(85)
يبدو الكلام غير تام لعدم وجود جواب الشرط الذي يتوقف عليه تمام الكلام والمعنى. فالأوجه والأنسب كما جاء في الأصل عند التعليق على هذه المسألة. حذف كلمة وإلا من قوله: "وإلا لم تكن كذلك" فيبقى الكلام هكذا، "لم تكن كذلك"، على أنها جواب الشرط فيتضح المعنى.
كونه زوجا هو منقسم إلى الزوج، والفرد وذلك كاذب، وإن وقع في حالة كونه فردا انقسم إليها أيضا وذلك كاذب، فالمقدمة كاذبةً، ضرورةً على هذا التقدير، وإن أردت بالعدد العدد من حيث الجملة فهو إشارة إلى الفرض المشترك بين جميع الأعداد فذلك صادق.
لكنها إذا صدقت على هذا التقدير كانت جزئية، فإن المشترك يكفي في تحققه صورة واحدة، ويبطل حينئذ شرط الإنتاج لأنها جزئية، فهي -إذن- كاذبة أو فات فيها شرط الإنتاج، وعلى التقديرين لا تصح النتيجة (86).
المسألة السابعة، تقول: الوتد في الحائط، والحائط في الأرض، فالوتد في الأرض، وهو كذب. والجواب أن الكلام فيه توسع، وهو قولك: الحائط في الأرض، فإنه لم يغب بجملته في الأرض، بل أساسه، فهو من باب إطلاق الجزء على الكل، فلو صدق اللفظ حقيقة بأن يكون جملة الحائط في الأرض لكان الوتد في الأرض جزما وكان الخبر حقا، كقولنا: المال في الكيس، والكيس في الصندوق، وهذا حق لأنه لا توسع فيه.
فإن قلت: المراد بقولنا: الحائط في الأرض أن بعضه في الأرض حقيقة، ولا يلزم من هذه العبارة الإحاطة، قلنا: إذا كان كذلك فأقول: الوتد في الأرض أيضا، وصدق بلا إشكالٍ.
المسألة الثامنة، قولنا: هذا الجبل ذهب، لأن كل من قال: انه ذهب قال: إنه جسم، وكل من قال إِنَّهُ جِسم، صادق فكل من قال: إنه ذهبٌ، صادق، وهذا الخبر كاذب مع صدق المقدمات، وبهذا النمط يستدل على أن كل ما في العالم ذهب وياقوت وحيوان، وجميع أنواع المحالات نقررها بهذا الدليل، وهذه مغالطة عظيمة.
والجواب من وجوهٍ:
(86) عقب ابن الشاط على جواب القرافي وكلامه في هاتين المسألتين: الخامسة بقوله: جوابه صحيح ظاهر.
أحدها أن قول القائل: هذا الجبل ذهب، محال وكذب، والمحال يجوز أن يلزمه المحال، فيكون المحال في النتيجة إنما نشأ من هذا المحال، فنحن نلتزم أنه ذهب على هذا التقدير المحال ولا محذور، وإنما المحذور أن يكون ذهبا في نفس الأمر.
الثاني: أنا لا نسلم صحة المقدمات، لأن قولنا: إنه ذهب، محال، والقول بأنه جسم، صِدْقٌ، والله الموفق للصواب (87).
(87) عقب ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هاتين المسألتين: السابعة والثامنة، بأن أجوبته صحيحة.
قلت: وهذه المسائل كما سبق التنبيه إليه هي مسائل عقلية تعتمد اصطلاحات وكلمات منطقية، وهي مسائل تستهدف أولا وقبل كل شيء وعلى ما يظهر، استعمال العقل وشحذ الذهن، وتقوية الفكر والْمَلَكَةَ للمناقشات العقلية المنطقية، والمناظرات الجدلية التي تقع أحيانًا بين العلماء وبعضهم، بالإضافة إلى ما يحتاج إليه الإنسان من هذه القواعد والقضايا المنطقية في مسائل فقهية وأحكام شرعية، فهي ليست من ترف العلم كما قد يظن وَيبدُو لأول وهْلةٍ، أو من باب استخدام الألفاظ والعقليات لمجرد أنها كذلك، ولكنْ لها أهداف شريفة ومقاصد نبيلة، وهي في نفس الوقت تدُلُّ على تمكن علمائنا رحمهم الله من مختلف العلوم النقلية والعقلية، ومدى رجاحة عقولهم وسعة أفقهم لإدراك هذه المسائل وفهمها والاستنباط منها واستخدامها عند الحاجة العلمية لها.
فرحمهم الله رضي عنهم أجمعين، ونفعنا بعلمهم آمين، وجعل صِلةَ الخلف الصالح من العلماء بالسلف الصالح من العلماء موصولة ومستمرة إلى يوم الجزاء والدين.