الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المتعلق منها بالعموم والخصوص وما يناسبها:
تسع قواعد
القاعدة الأولى: (1)
نقرر فيها أن المفرَدَ المعرَّف بالألف واللام يفهَم منه العمومُ، وأن ما قاله الفقهاء في الطلاق جاء على غير الأصل، فنقول:
أمّا أنّها تفيد العموم فظاهر من قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) إذ لَو لم تكن للعموم لمَا صَح الاستثناء الآتي بعد ذلك. وكذلك - أيضًا - قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (3)، وكذلك قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (4).
قلت: المشهور عن الأصوليين أن المفرد المعرّف بالألف واللام لا يفيد العموم، فإن جاء العموم في بعض المواضع فما ذلك لِلألِف واللام، فإنه لو كان لها لا طرَّد كما الألف واللامُ مع الجمع، وسيأتي تحقيق لهذه المسألة في موضع آخر بعدها. (5).
(1) هي موضوع الفرق الثالث والسبعين بين قاعدة المفرد المعرف بالألف واللام يفيد العموم في غير الطلاق، نحو {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} ، وبين قاعدة المعرَّف بالألف واللام في الطلاق لا يفيد العموم". جـ 2، ص 94.
(2)
سورة العصر: الآية 2
(3)
سورة الأنعام الآيه 151.
(4)
سورة البقرة: الآية 275.
وقد علق الفقيه ابن الشاط على ما جاء عند الإِمام القرافي ولخصه البقوري رحمه الله في هذه المسألة، فقال: ما قاله صحيح إلا في قوله. {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} أنه للجنس، فإنه إن كان يعني الحقيقة فذلك صحيح، وإن كان يعني أنه للاستغراق فلا، اهـ. رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين وعن سائر علماء المسلمين.
(5)
العام عند علماء الأصول، وكما عرفه تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي رحمه الله في كتابه الشهير، جمع الجوامع في أصول الفقه: هو لفظ يستغرق الصالح له من عير حصر". ثم قال عن صيغ العموم: "والجمعُ المعرف باللام أو الاضافة للعموم، والمفرد المحلى باللام مثله، خلافًا للإِمام الرازي".
قال شهاب الدين رحمه الله: والفقهاء خالفوا هذه القاعدة في لفظ الطلاق، فإذا قال الرَّجل: الطلاق يلزمني ولا نية له حملوه على طلقة واحدة، وكان حق هذا اللفظ أن يحمل على عدد لا نهاية له، لولا أن الشرع جعل آخر الطلاق هو الثلاث، كما إذا قال: طلقتك مائة تطليقة يحمل على الثلاث. وسبب هذا أنَّهم رَأوا الألف واللام في المفرد، تارةً للجنس، كقوله تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (6)، وترِدُ تارةً للعهد، كقوله تعالى:{فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} ، وترد لمعقول الجنس، كقولهم: أكلتُ الخبز، كقوله عليه الصلاة والسلام:"إذا ولغ الكلب. في إناء أحدكم"(7) فقال الفقهاء: المراد بها في الطلاق معقول الجنس وهو المشترَك، والمشترَك يحصل بفرد من أفراده، وهذا كله من حيث إنهم رأوا العرف
= وبعبارة أخرى أوسع وأوضح: هو اللفظ الذي يتناول ويستغرق، دفعة واحدة وفي إطلاق واحد، جميع الأفراد التى تشترك في مفهومه من غير حصر لأفراد مدلوله باعتبار اللفظ ودلالة العبارة لا باعتبار الواقع
ومنْ صِيَغهِ الألف واللام إذا أريدَ بها الاستفراق دون العهد ودخلت على الاسم، فإنها تفيد العموم فيما دخلت عليه، سواء اكان جمعا، مثل {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} أو كان مفردًا، مثل:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} .
وقد رأيت أن أنقل هذا التعريف، وأورده هنا بقصد التذكير به، والبيان للقاعدة، إذ الحكم على الشيء فرع عن تصرره، والمصطلحات الأصولية والمنطقية والبلاغية والنحوية، وغيرها من مصطحات العلوم وقواعدها قد تغيب أحيانًا عن بعض الأذهان إذا لم يقع التعهد لها والتمرس بها بين الحين والآخر، فإن العلم يحصل ويرسخ بذلك، ويزداد بالعطاء والانفاق منه كما يقول العلماء.
(6)
سورة المزمل، الآية 16. وأولها:{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} : الآيتان: 15، 16. فالعهد هنا بال ذكرى، في مقابلة العهد الذهني، والحضوري. ذلك أن كلمة رسول سبق ذكرها نكرة وأعيدت معرفة بأل، فهي نفس الأولى وعينها، كما تقول القاعدة النحوية المقررة، والتسمية نظمها بعضهم في بيتين فقال:
ثمَّ من القواعدِ المشتهرة
…
إذا أتتْ نكرة مكرَّرة
تخالَفا، وأن يُعَرَّفْ ثانٍ
…
توَافَقَا كَذا المعَرّفان
(7)
أخرجه الشيخان: البخاري ومسلم، وبعض أصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه، ونصه بتمامِه: إذا ولغ الكلبُ في إناء أحدكم فَلْيُرقْه، ثم ليغسلهُ سبعًا، أُولاهن، أو إحداهن، أو السابعة بالتراب .. على اختلاف في روايات هذا الحديث الصحيح المتفق عليه.
غلب عليها في هذا القسم فقالوا بمقتضى العرف، وكأن القائل قد قال حقيقةً: جنس الطلاق يلزمني، والعرف يقضي على اللغة، ولا تقضي اللغة عليه. (8)
قلت: شهاب الدين رحمه الله يقول في مواضع أخرى: المفرد الذي تدخله الألف واللام يختلف، فإن كان مثل مال، فالألف واللام إذا دخلت على مثله للعموم، فقبضْت المال، المراد جميعُه، وإن كان مثل رجل، فالألف واللام في مثله لا يَعُم. والمراد بمثل مال ما يتصف بالكثرة والقلة، وبمثل رجل مالاً يتصف بذلك.
(8) قال القرافي هنا رحمه الله: "إذا تقرر أن لام التعريف تستعمل في أحد الأمور الثلاثة: لاستغراق الجنس، وللمعهود من الجنس، ولحقيقة الجنس، كقول السيد لعبده: (الإنسان لخادمه مثلاً: إذهب إلى السوق فاشترِ لنا الخبز واللحم، يريد إثبات هذه الحقيقة ولا يربد العموم، فما علم أن أهل العرف قد نقلوها بحقيقة الجنس دون استغراق الجنس، فيصير معنى كلام المطَلق أن حقيقةَ جنس الطلاق تلزمني، وإذا لزمته هذه الحقيقة، وهذه الحقيقة تصدُق بفرد، لم يلزمه إلا فرد وهو طلقة واحدة، لأن الأيمان مبنية على العرف في اليمين بالله والطلاق وغيره. فإذا حدث عرف بعد اللغة قدم عليها، لأنه ناسخ لها، والناسخ مقدم على المنسوخ. وهاتان القاعدتان في الاصول خالفهما الفقهاء في الفروع، وهما: قاعدة: الإستثناء من النفي إثبات، ومن الأثبات نفي، ولم يقولوا بذلك في الأيمان على ما تقدم من الخلاف، وقاعدة المعرف بلام التعريف، قالوا: لأنه للعموم ولم يقولوا به في الطلاق، والسبب ما تقدم بيانه.
وقد علق ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي، فقال: تبين أن الحقيقة الكلية لا وجود لها في الخارج (اى خارج الذهن، وفي الواقع)، فلا يمكن أن تكون هي المقصودة في قوله: الطلاق يلزمني، ولكن يمكن أن يكون المقصود الاستغراق أو العهد، فعل هذا كان ينبغي أن نُلزمه الثلاث احتياطًا، كمن طلق ولا يدرى أواحدة أم ثلاثًا، نلزمه الثلاث احتياطًا، ولكن لا اعلم أحدًا ألزم الطلاق بذلك اللفظ، فهو عرف في مطلق الثلاث، والله أعلم.
القاعدة الثانية (9)
نقرر فيها أنَّ الأعمّ، منه ما يستلزم الْأخص عَينا، ومنه ما لا يستلزم الْأخص عينا، ولكن مطلق الأخص.
وبيان ذلك أنَّ الأعمّ على قسمين: عام تحته أمور متباينة، كقولنا: الحيوان، تحته الإنسان وغيره من الأنواع، فهذا النوعُ من العام لا يستلزم إلَّا مطلق الأخص لا أخص معَيَّنا، واستلزام مطلق الأخصّ من حيث إنَّ الكلي المجرد لا وجود له فى الخارج، وإنما يوجد من حيث وجود شخص، أيّ شخص كان، فقد يكون هذا الشخص من نوع الإنسان أو من نوع غيره.
(9) هى موضوع الفرق الواحد والخمسين بين قاعدة الأعم الذي لا يستلزم الأخص عينا، وبن قاعدة الأعم الذي يستلزم الأخص عينًا"، جـ 2. ص 13.
قال عنه القرافي رحمه الله: أشهر بين النظار والفضلاء في العقليات والفقهيات أن الأعم لا يستلزم أحدَ أنواعه عينا، وإنما يستلزم الأعم مطلقَ الأخص لا أخص معيَّنا، وإنما يستلزم مطلق الأخص، لضرورة وقوعه في الوجود، فإن دخول الحقائق الكلية في الوجود مجردةً، محالٌ، فلا بد لها من شخص تدخل فيه ومعه، فلذلك صار اللفظ الدال على وقوعها في الوجود يدل بطريق الالتزام على مطلق الأخص، وهو أخص مالا أخص معينًا، وهذا القول المطرد بين الفقهاء والنظار لا يكاد يختلف ذلك اثنان، وليس الأمر كذلك، بل الأمر في ذلك مختلف، وهما قاعدتان مختلفتان.
وتحرير ضبطهما والفرقِ بينهما أن الحقيقة العامة، تارة تقَع في رتب مرتّبة بالأقل والأكثر، والجزء والكل، وتارة تقع في رتب متباينة، فمثال الأول مطلق الفعل الأعم من المرة الواحدة والمرات، فالمرة رتبة دُنيا، والمرات رتبة عليًا
…
الخ. اهـ.
وقد علق الفقيه ابن الشاط على قول الإمام القرافي هنا: "وليس الأمر كذلك، بل الأمر في ذلك مختلف، وهما قاعدتان مختلفتان"، بقوله: بل الأمر كذلك، ليس الأمر في ذلك بمختلف، وليس ها هنا قاعدتان بوجه، بل هي قاعدة واحدة، فهذا الفرق باطل يقول ابن الشاط. رحمه الله، ثم قال بعد ذلك:"وقوله: وتحرير ضبطهما والفرق بينهما أن الحقيقة العامة، تارة تقع في رتب مترتبة بالأصل والأكثر، والجزء والكل، وتارة يقع في رتب متباينة": ذلك مسَلَّمٌ.
قلت: ولم يظهر جيدا وجه التوفيق بين قول ابن الشاط: "ليس هنا قاعدتان بوجه، بل هي قاعدة واحدة، فهذا الفرق باطل"، وبن تسليمه لما قاله القرافي بعد ذلك من تحرير وضبط الفرق بين القاعدتين المذكورتين، مما يدل على صحة الفرق لا على بطلانه، فليتأمل وليصحح، فلعل كلام كل من القرافي وابن الشاط. يحتاج إلى تأمل وتمعن يهدى به المرء إلى إدراكه وفهْمِ مقصوده من ذلك.
والقسم الثاني عامٌّ تحته أمور غير متباينة، وإنما اختلافها بالْأقل والْأكثر، والجزء والكل، فهذا العام يستلزم الأخص معينًا. ومثال هذَا، المال الداخل تحت هذا العام هو بالْأَقل والأكْثر يختلف فيستلزم الأقل، كذلك مطلق الفعل أعم من المرة والمرات، فيستلزم المرةَ الواحدة، لما قلناه.
قال شهاب الدين رحمه الله:
وهذه القاعدة تُظهر بطلان قول الفقهاء فى أن القائل إذا قال لوكيله: بعْ، من غير أن يذكر زائدًا على ذلك، ان اللفظ غير دال على أخصّ، وإنما القاعدة عينَّت ثمن المثل، فإنه يقال لهم: بل دل هذا اللفظ على الثمن البخس، (10) وهو أقل ما يكون ثمنا، ولكن العادة منعَتْ من حمل اللفظ عليه وعيَّنتْ ثمن المثل.
القاعدة الثالثة: (11)
نقرر فيها الفرق بين قول العلماء: حكاية الحال إذا تطرق إليها الاحتمال سقط بها الاستدلال، وبين قولهم: حكاية الحال إذا ترك فيها الاستفصال تقوم مقام العموم في المقال، فنقول:
(10) كلمة البخس ناقصة في نسخة ح.
(11)
هي موضوع الفرق الحادى والسبعين بين قاعدة حكايته الحال إذا تطرق إليها الاحتمال سقط بها الاستدلال، وبين قاعدة حكايته الحال إذا تُرِكَ فيها الاستفصال تقوم مقام العموم في المقال ويحسن بها الاستدلال" جـ 2. ص 87.
قال القرافي رحمه الله في أول كلامه عن هذا الفرق: هذا موضع نُقل عن الشافعي فيه هذان الأمران على هذه الصورة، واختلفت أجوبة الفضلاء في ذلك، فمنهم من يقول: هذا مشكلَ، ومنهم من يقول: هما قولان للشافعي. والذي ظهر لي أنهما ليستا قاعدة واحدة، فيها قولان، بل هما قاعدتان متباينتان، ولم يختلف قول الشافعي ولا نناقضَ، وتحرير الفرق بينهما ينبنى على قواعد
…
الخ. اهـ.
وعقب ابن الشاط رحمه الله على قول القرافي: "بل هما قاعدتان متباينتان" بقوله: إن أراد بذلك أن معناهما واحد فليس قوله بصحيح، وإن أراد بذلك أنهما متساويتان في كون كل واحدة منهما قاعدة مستقلة مساوية للأخرى في الاستقلال، فقوله صحيح
…
اهـ.
وتجدر الإشارة إلى أن عبارة ابن الشاط هنا جاء فيها قوله "بل هما متساويتان" بدل: بل هما متباينتان، مما جعل محقق الفروق يقول: الذى فى نسخ الأصل الذي بين أيدينا متباينتان، فتأمل، اهـ، ولعل التعبير بكونهما متباينتين أنسب وأظهر في المعنى من كونهما متساويتَيْن ..
هذا الفرق ينبنى على قواعد:
القاعدة الأولى أن الاحتمال المرجوح لا يقدح في حكايته اللفظ، وإلا سقطت الأدلة بأجمعها، لاحتمال المجاز والاشتراك، وذلك باطل، فالاحتمال المعتبر إنما هو الاحتمال المساوى أو القارب، وأما المرجوح فلا. (12)
القاعدة الثانية أن كلام الشارع إذا كان محتملاً احتمالين على السواء صار مُجْمَلاً (13).
القاعدة الثالثة أن لفظ الشارع إذا دخل على جنس، فتردد ذلك الجنس بين سائر أنواعه، وكذلك على نوع فتردد ذلك النوع بين أشخاصه لا يُصَيِّره مجملاً، وهذا كقوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ، تصدق الرقبة على الطويلة والقصيرة، والذكر والأنثى. (14)
(12) عبارة القرافي في هذه القاعدة الأولى هي: أن الاحتمال المرجوح لا يقدح في دلالة اللفظ، وإلا لسقطت دلالات العمومات كلها، لتطرق احتمال التخصيص إليها، بل تسقط دلالة جميع الأدلة السمعية لتطرق احتمال المجاز والاشتراك إلى جميع تلك الألفاظ، لكن ذلك باطل، فتعين أن الاحتمال الذي يوجب الإجمال إنما هو الاحتمال المساوي والمقارب، أما المرجوح فلا.
وعلق ابن الشاط على كلام القرافي في هذه القاعدة فقال: ما قاله في ذلك صحيح، وكذلك ما قاله في القاعدة الثَّانية.
(13)
المجمل في اصطلاح علماء الأصول، كما عرفه بإيجاز واختصار، ابن السبكي في جمع الجوامع حيث قال: هو ما لم تتضح دلالته"، وعرفه أبو الوليد ابن رشد الجد في كتابه المقدمات الممهدات بقوله: "فأما المجمل فهو مالا يفهم المراد من لفظه ويفتقر في البيان إلى غيره، مثل قوله تعالى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ، فلا يفهم من لفظ الحق جنسه ولا مقداره إلا بعد بيانه، ومثل قوله
تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} .
وبعبارة اخرى لبعض العلماء: المجمل هو كل ما دل من الأقوال أو الأفعال أو غيرها دلالة غير واضحة على أحد الأمرين أو أكثر، من غير أن تكون لأحدهما مزية على الآخر، بحيث يستوفيه الأمر أو الأمور من غير ترجيح لأحدهما على الآخر فيما يرجع إلى الدلالة، لدوران الدال بين احتمالين فصاعدًا على السواء.
(14)
علق ابن الشاط على كلام القرافي في هذه القاعدة الثالثة فقال: ليس ما مثل به للجنس بصحيح، فإنه ليس لفظ الرقبة في هذا الموضع جنسا، ولكنه واحد غير معيَّن من الجنس، وكذلك قوله:"المطلقات الكليات التى تقدم أنها عشرة، ولم يظهر في شيء من مثلها قدح ولا إجمال" فإن المطلقات ليست الكليات، وقد تقدم التنبيه على ذلك مرارًا، يقول ابن الشاط رحمه الله.
إذا تحررت هذا القواعد، فنقول:
الاحتمالات، تارة تكون في نفس كلام الشارع فتقدح، وتارة تكون في محل مدلول اللفظ فلا تقدحُ. (15)
فمن القسم الأول أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الوضوء بنبيذ التمر فقال: "تمرة طيبة وماء طهور"، فتمسكت الحنفية به، فقلما لهم: قوله عليه الصلاة والسلام هذا يحتمل أن يكون لا قبل تغيُّر الماء بالحلاوة، ويحتمل أن يكون لا بعده، فهذا اللفظ عام بالنسبة إلى الحالتين، وهو يَصْدُق عليهما، والدليل الأعمُّ غير قال على الأخص، فيسقط الاستدلال.
فهذا اللفظ عام بالنسبة إلى الحالتين، وهو يصدق عليهما، والدليل الأعم غير قال على الأخص، فيسقط الاستدلال.
قلت: هذا ضعيف جدًا، فالجواب مرتب على السؤال، وهو: نبيذ التمر هل يتوضأ به؟ فقد عين الحالة الواحدة، فإن من شرط الجواب أن يطابق السؤال (16)
(15) قال ابن الشاط عن هذه الفقرة: ما قاله القرافي هنا صحيح.
(16)
علق ابن الشاط على كلام القرافي في هذه المسألة حين قال: "قوله عليه الصلاة والسلام: "تمرة طيبة وماء طهور" لم يتعرض في ذلك لما قبل التغير ولا لما بعده"، فقال ابن الشاط: لا يجوز على الشارع صلوات الله وصلامه عليه أن يسأل عن شيء ثم لا يجيب عنه، ولا يجوز عليه أن يخبر بما لا فائدة فيه، وهو صلى الله عليه وسلم إنما سئل عن الوضوء بالنبيذ، والنبيذ اسم الماء المستنقع فيه التمر حتى يتغير حقيقة، أما قبل التغير فلا يسمى نبيذا إلا مجازًا، بمعنى أنه يؤول إلى ذلك، فلا شك أن ظاهر الحديث أنه أراد أن أصل النبيذ تمرة طيبة وماء طهور، وأنه باق على حكم الأصل من الطِّيب والطهورية
…
اهـ.
فليتأمل هذا التعقيب والتعليق من ابن الشاط على كلام القرافي، فإنه دقيق وهام في توضيح المسألة كسائر تعليقاته التي يأتي بها، تكميلا وتصحيحا لما عند القرافي من القواعد والمسائل المتفرعة عنها، ويستعين بها المطلع على فَهْمِ ما اختصره ولخصه البقوري منها. رحمهم الله تعالى ورضي عنهم أجمعين، ونفع بعلمهم آمين.
ومن القسم الأول ايضاً أنه قال صلى الله عليه وسلم: "الخير بيديك، والشر ليس إليك"(17)، فاستدلت المعتزلة على الأشعرية به، من حيث إنه سَلْبٌ عام، فنقول: قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس إليك" يحتمل أن يكون كما قلتم - ليس منسوبًا إليك، ويحتمل أن يكون ليس قُرْبةً إليك، وهذا لأن الملوك يتقرب إليها بالشر، إلا الحق سبحانه وتعالى (18)، وهما (أي الاحتمالان) على السواء، فيسقط الاستدلال (19).
قلت: قوله صلى الله عليه وسلم: "الخير بيديك" يرجح احتمال المعتزلة، ويضعف الاحتمال الآخر، فأين السواء؟
ومن القسم الأول قوله صلى الله عليه وسلم في المُحْرِم الذى وقصَت به ناقته: "لا تمسوه بطيب، فإنه يُبْعَثُ يوم القيامة ملبيًا، هل النظر إلى صفته، فيكون كل
(17) جاءت هذه الجملة في تلبية الحج من قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(18)
كذا في كل من النسختين المعتمدتين في التحقيق: ع، وح:"وهذا لأن الملوك يتقرب اليها بالشر، إلا الحق سبحانه وتعالى" وهو ما عند القرافي كما أوردناه في هذه المسألة في التعليق بعد هذا. وفي نسخة أخرى من تونس: "وهذا لأن الملوك لا يتقرب اليها بالشر، كيف الحق سبحانه" .. وهذا المعنى وإن كان في حد ذاته سليمًا إلا أن المعنى الأول هو ما يتناسب مع السياق الذي جاء فيه الاستدلال بالحديث، فليراجع وليتأمل، والله أعلم.
(19)
عبارة القرافي في هذه المسألة تزيدها وضوحًا وبيانًا حيث قال في أولها: استدلت المعتزلة على أن الشر من العبد لا من الله، بقوله عليه الصلاة والسلام لذلك الحديث. فكان جوابهم عن ذلك أن الجار والمجرور لا بد له من عامل يتعلق به، تقديره عند المعتزلة الشر ليس منسوبًا إليك حين يكون من العبد على زعمهم، وتقديره عندنا: الشر التي ليس قربة إليك، لأن الملوك كلهم يتقرب الهم بالشر، إلا الله تعالى لا يتقرب إليه إلا بالخير، وهذا معنى حسن جميل يحمل اللفظ عليه، وعلى هذا يكون لفظ صاحب الشرع محتملاً لما قلناه ولما قالوه، ليس اللفظ ظاهرًا في أحدهما من حيث الوضع، بل الاحتمالان مستويان، فيسقط استدلال المعتزلة به، لحصول الاجمال فيه".
وقد رجح الشيخ البقوري احتمال المعتزلة كما سبق في تعقيبه على هذه المسألة، وهو ما نجده عند الشيخ ابن الشاط في تعقيبه كذلك على هذه المسألة حيث قال: الأظهر أن ما قدرته المعتزلة أظهر، ولكن المسألة قطعية لا يكفي فيها بالظواهر، مع ان الدليل العقلى القطعي قد ثبت أن الشر بقدرته، كما أن الخير كذلك. فبطل مقتضى ذلك الظاهر وتعين التأويل. وما قاله في المسألة الثالثة: مسألة المحرم الذي وقصت به ناقته والمسألة الرابعة مسألة الوتر بركعة، والمسألة الخامسة مسألة إمساك أربع نسوة فقط. ومفارقة سائرهن، صحيح ظاهر، والله أعلم.
مُحْرم يتفق له الموت على حالة الإحرام كذلك، أو هذا متعلق بعين ذلك المحرم؟ يحتمل المعنيين) (20).
قلت: هذا أقرب شيء لهذا القسم، بخلاف المثالين الأولين.
ومن القسم الأول أيضاً قالت الحنفية: لا يجوز أن يوتر بركعة واحدة بل بثلاث بتسليمة واحدة، لنهيه عليه الصلاة والسلام عن البتراء، وهي الركعة الواحدة المنفردة (21)، قلنا: يحتمل ما قالوه، ويحتمل أن يريد ركعة منفردة ليس قبلها شيء، والاحتمالان ظاهران.
قلت: الاحتمالان ظاهران، ويترجح ما قلناه بالحديث الآخر:"فإذا خشى أحدكم الصبح فليصل ركعة واحدة توتر له ما قد صلى".
ومن القسم الثاني قوله عليه الصلاة والسلام لمن أسلم على عشر نسوة: "أمسك أربعًا وفارق سائرهن"(22). قال أبو حنيفة: إن عقد عليهن عقودا مرتبة لم يجز له أن يختار من المؤخَّرات، لفساد العقد عليهن، والخيار في الفاسد لا يجوز. وإن كان عقد عليهن عقدًا واحدًا جاز له الخيار لعدم التفاوت بينهن، وسوَّى
(20) أخرجه الشيخان: البخاري ومسلم، وكذلك الإمام الترمذي رحمهم الله عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: إن رجلاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقصته ناقته (أي وهو محرِم، فمات، وقال صلى الله عليه وسلم: إغسلوه بماء وسِدْر، وكفنوه في ثوبيه، فإنه يُبْعَث يوم القيامة مُلَبِّيًا.
(21)
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "صلاة الليل مَثْنى مثنى (أي ركعتين ركعتين)، فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر لك ما قد صليت".
(22)
هو غيلان بن سلمة الثقفي، رواه الترمذي وابن ماجه رحمهما الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. ومثله حديث أبى داود رضي الله عنه أن قيس بن حارث أسلم وعنده ثمان نسوة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعًا.
فالوقوف عند حد أربع نسوة، وعدم تجاوزه إلى أكثر هو أمر صريح واضح شرعًا، من خلال هذه الأحاديث النبوية، والتى هي تفسر وبيان لقوله تعالى في محكم كتابه الحكيم:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} ، أي أبيح لكم التزوج بما طاب لكم من النساء في حدود اثنتين إلى ثلاث أو أربع، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربع نسوة هو خصوصية من خصوصياته عليه الصلاة والسلام بإجماع علماء المسلمين سلفًا وخلفًا، وتلك حدود الله وشرعه الحكيم وسبيل المؤمنين.
مالك والشافعي، لأنه عليه الصلاة والسلام أطلق في القضية ولم يستفصل، فكان
ذلك كالتصريح بالعموم، ولو أراد أحد القسمين لاستفصل.
فإن قيل: لعله عَلِمَ حال غيلان، قلنا: الأصل عدم العلم. وأيضًا فهذه قضية يتقرر حكمها بحسب الكل لا بحسب غيلان، ومثل هذا شأنه البيان والإِيضاح.
ومن القسم الثانى أيضًا قوله عليه الصلاة والسلام للمفَرط في رمضان: "أعتق رقبة"، فهو ظاهر في وجوب الإعتاق، ولا إجمال فيه من حيث احتمال الرقبة أن تكون سوداء أو بيضاء، أو ذكرًا أو أنثى، وهذا لأن الاحتمالات في محل الحكم لا في دليله (23).
ومنه أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا شهد عدلان فصوموا وأمسكوا"، فالعدلان يحتمل أن يكونا عربيين أو عجميين، أو شيخين، أو غير ذلك فلا يعتير، لأن الاحتمال في محل الحكم لا فى الدليل (24).
ومنه أيضاً قول الله عز وجل: "فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم"، والمرجوع إليه يحتمل المشرق والمغرب وغير ذلك، فلا اعتبار به، فظهر الفرق بين المعنيين، والله أعلم (25).
(23) علق ابن الشاط على هذه المسائل الثلاث المذكورة في هذا القسم الثاني، فقال: هذه المسأله (أي مسألة عتق الرقبة من المفطر في رمضان) والمسألتان بعدها ليست من مسائل ما يجرى مجرى العموم لترك الاستفصال، بل هي مسائل الإطلاق المقتضى تخيير المكلف في مختلف الأشخاص والصفات والأحوال، فليس ما أورده القرافي من هذه المسائل الثلاث لما وقع تصديق الكلام به بمثال، والحمد لله الكبير المتعال.
(24)
عن حسين بن الحارث قال: خطب أمير مكة (وهو يومئذ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ثم قال: عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية (أي أن نتعبد الله إذا رأينا الهلال بعبادة الصوم أو الحج في شهره)، فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما، (أي اعتمدناها في الرؤية وأخذنا بها وعملنا بها) رواه أبو داود والدارقطني، وصححه، رحمهما الله ورحم سائر أئمة الحديث وأهل العلم والفقه في الدين ورحم كافة المسلمين.
(25)
سورة البقرة: الآية 196.
القاعدة الرابعة: (26)
نقرر فيها الفرق بين الاستثناء من النفي فى الشرط، ومنه في غير الشرط، فنقول:
الاستثناء من النفي فيما عدا الشرط إثبات، إذ لو لم يكن كذلك لما كان قولنا: لا إله إلا الله قولاً مثبِتًا للتوحيد، وذلك باطل، فالقول بأن الاستثناء من النفى ليس بإثبات، باطل. وأما أنه في الشرط ليس كذلك، فذلك لما تقدم تقريره من أن السبب هو الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم، والشرط يلزم من عدمه عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجود المشروط. نعم وجود المشروط متوقف على وجوده، والمانع بالعكس من الشرط، وقد مضى هذا مقررًا أول الكتاب.
ومن حيث هذا الاعتبار كان قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة إلا بطهور"(27) لا يلزم منه قبول الصلاة بالطهارة، لأنها قد لا تقبل، لفقد سببها، وهو دخول الوقت مثلاً. أو لغير ذلك. وكذلك قوله عليه الصلاة
(26) هي موضوع الفرق الرابع والسبعين بين قاعدة: الاستثناء من النفي إثبات في غير الشرط، وبين قاعدة: الاستثناء من النفي ليس بإثبات في الشروط خاصة دون بقية أبواب الاستثناء" جـ 2، ص 95.
قال عنه القرافي في أوله رحمه الله: هذا الفرق مبنى على قاعدة، وهي أن السبب يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، والمانع يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم. وهذه الحقائق تقدم بسطها وتحريرها والفرق بينها في الفروق التاسع والعاشر والحادي عشر من كتاب الفروق.
(27)
حديث صحيح، وفي رواية أخرى:"لا تُقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غُلُول". والغلول هو الخيانة والسرقة من مال الغنيمة في الجهاد قبل قسمها من طرف الخليفة بين المجاهدين، أو من المال العام للأمة، والمؤتمن عليه من قبل الدولة، أو غيره من المال الخاص. وقد جاء في الحديث النبوي الشريف التنبيه إلى ذلك والتحذير منه في قول النبي صلى الله عليه وسلم. "من استعملناه على عمل فرزقناه منه رزقًا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول وخيانة". وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161](أي أن يسرق منه شيء). {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} .
والسلام: "لا نكاح إلا بولي"(28)، لا يلزم من بطلان النكاح بلا ولي لفقد الشرط، صحة النكاح لوجود ذلك الشرط الذي هو الولي، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام:"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"(29). لا يقتضي حصول الصحة أو الفضيلة له إذا صلى في المسجد، لجواز أن يصليها في المسجد وتكون باطلة. والسر في ذلك كله واحد، وهو أن الشرط لا يلزم من وجوده شيء.
قلت: هذا ما قرره شهاب الدين رحمه. وحقه أن يقول: الاستثناء من النفى إثبات في الشرط مطلقًا، وفي الْأَيمان عند مالك ومن قال بقوله، فإنه قال في فرق آخر، وهو الثاني والسبعون (30)، هذا، فقال رحمه الله: ذهب مالك إلى أن الاستثناء من النفى ليس بإثبات فى الأيمان، وذهب غيره إلى أنه إثبات. فمالك يقول: إذا قال أحد: والله لا لبست ثولاً إلا كتانًا، إذا لبس الكتان فلا حنث عليه، وإذا لبس غيره حنث، فإذا جلس عريانًا فلا يحنث عنده، ويحنث عند غيره بأن يجلس عريانًا، وبأن يلبس غير الكتان، وهذا لأن الكتان قد استثني من النفى السابق، فيكون إثباتا، فيكون كلامه جملتين: جملة سلبية، وجمله ثبوتية بحسب ما قبل الاستثناء وما بعده. وقد دخل القسم عليهما فيحنث بوجهين. وعند مالك لا يحنث إذا بقي عريانًا، وإنما يحنث إذا لبس غير الكتان. ولنا وجوه:
(28) رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن عن أبي بردة بن أبي موسى عن أَبيه رضي الله عنهما. وقال عنه الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني كتابه الشهير: سبل السلام على شرح (بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام) للحافظ ابن حجر العسقلانى، رحمهما الله جميعًا: والحديث دل على أنه لا يصح النكاح إلا بولي، لأن الأصل في النفي نفي الصحة لا الكمال، فالجمهور على اشتراطه، وأنه لا تزوج المرأة نفسها، وحكى عن ابن المنذر أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، وعليه دلت الأحاديث، وقال الحنفية أنه لا يتشرط، محتجين بالقياس على السلع، فإن للمرأة الرشيدة أن تبيع سلعتها من متاع وغيره بنفسها، قال الإمام الصنعاني: وهو قياس فاسد الاعتبار، إذ هو قياس مع نص".
(29)
أخرجه الإِمام الدارقطني عن جابر وأبي هريرة رضي الله عنهما، ورمز له الإمام السيوطي بالضعف في كتابه الجامع الصغر.
(30)
هو الفرق الثاني والسبعون بين قاعدة: الاستثناء من النفي إثبات في غير الأيمان، وبين قاعدة الاستثناء من النفي ليس بإثبات في الأيمان، جـ 2. ص 93.
الأول أنّ إلّا تُسْتَعمل للإخراج وللوصف كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (31)، فهي ها هنا للوصف لا للإخراج، فلا ثبوت بها بعد النفي (32).
الثاني أنا لو سلمنا أنها للإِخراج نقول: القسم يحتاج في جوابه إلى جملة واحدة، وقد حصل بقوله: لا لبست ثوبًا، إذ لو سكت ثمة لكان مجزيا، والأصل عدم تعلقه بالجملة الثَّانية التي بعد إلا، وإذا لم يتعلق بها القسم كان لبس الكتان غير محلوف عليه، فلا يحنث إذا جلس عريانًا، وهو المطلوب.
قلت: ليس المطلوب الحنث ولا عدمه هنا، إنما الطلوب الاستثناء من النفى، إثبات أم لا؟ ، والحِنْثُ وعَدَم الحِنْثِ من لوازم ذلك. وهذا الدليل الثاني جاء لا على المطلوبِ الذى وقع فيه النزاع.
ثم أنه قد مضى لنا فيما تقدم من القواعد أنه إذا أضيف مالا يستقل بنفسه إلى ما استقل بنفسه صيَّر المستقِل غير مستقل. فأنت إذا قلت: والله لا لبِست ثوبًا، هُوَ وإن كان مستقلاً، إذا قلت: إلَّا كتانا صار غيرَ مستقل، وكذا الشرط، ومع هذا كيف يقال هذا الذي ذكره هنا؟ والله أعلم.
قال: الثالثُ: سَلّمنا أنه (أي الاستثناء من النفى) يتناول الجملتين، لكن الاستثناء في هذه الصورة عندنا من إثبات فيكون نفْيًا.
بيانه أن معنى الكلام أن جميع الثياب محلوف عليها إلا الكتان، فكأنه قال: أحْلف عليه، لأن الاستثناء من الحلف الذى هو ثبوتي يكون نفْيًا، وإذا كان الكتان غير مُقْسمٍ عليه لا يحنث بتركه وهو المطلوب.
(31) سورة الأنبياء: الآية 22.
(32)
أي فيكون تفسير الآية ومعناها: لو كان فيهما (أي في السماء والأرض) آلهة غير الله لفسدتا، لكنهما لم تفسدا في وجودهما ونظام تدبيرهما، فليس فيهما إلا الله وحده، فهو الخالق الموجد لهما والمبدع لهما على غير سبق مثال، والمدبر لهما ولما فيهما من مخلوقات، وكائنات حية في مختلف الاعصار والاجيال، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. فهذه الآية الكريمة جمعت بين كونها دليلاً نقليا لكونها آية من كتاب الله العزيز، ودليلا عقليا لما فيها من مخاطبة العقل عن طريق الاستدلال العقلي على طريق القياس.
مسألة: حكى ابن العربي (33) أن رجلين كانا يلعبان الشطرنج، فقال أحدهما: والله لا لعبتُ غيرَ هذا الدَّسْتِ، فجاءَ رجل ونفَض الرقعة، وجهلا ترتيبها، فامتنعَ من تكميل ذلك الدست، (34) فسأل الفقهاء، فاختلفوا في تحنيثه على قولين، واختار أبو الوليد الطرطوشي عدم حنثه.
قلت: وهذه هي المسألة بعينها، فقال أبو الوليد (اي ابن رشد الجد). بقول مالك.
مسألة: لو قال: والله لأعطينك في كل يوم درهمًا من دَيْنك إلا في يوم الجمعة، فأعطاه في يوم الجمعة مع سائر الأيام، فإن الخلاف المتقدم يجري فيه وإن كان استثناء من إثبات، لأن إلا بمعنى سِوىَ، ولا يفهمون من قول هذا القائل أنه منع نفسه من الإعطاء في يوم الجمعة، بل استثناه توسِعَةً، وأن المقصود أنه لو أعطى فيه لم يضُرّه، وإنما المقصود من اليمين أنه لا يخِلُّ بالإِعطاء في غير يوم الجمعة، هذا المقصود باليمين لا يوم الجمعة. (35).
قلت: وذكر أيضا صاحب الفروق فرقًا آخر، وهو التاسع والعشرون والمائة (36) في قاعدة الاستثناء وقاعد المجاز، ورأيت إلحاقه بهذه القاعدة، بل كان
(33) المراد به أبو بكر ابن العربي المعافري المفسِر والمحدث، والأصولي والفقيه، المشارك الضليع في كل العلوم العربية والاسلامية، كما تشهد بذلك كتبه الجليلة القيمة في مختلف ميادين المعرفة، وهو أشهر من أن يعرف به، فكتب الأعلام المالكية لا يخلو منها كتاب لترجمته، وليرجع الحد وإلى مؤلفاتها من أراد أن يتعرف على هذه الشخصية العبقرية الفذة، وما حكاه مذكور في كتاب القبس على شرح موطأ مالك بن أنَس حيث قال القرافي في هذه المسألة: حكى صاحب القبس أبو بكر ابن العربي، وذكر القصة التي أوردها الشيخ البقوري، فليرجع إليه من أراد التوسع في ذلك.
(34)
الدست لَه معانِ، منها ما يقال في لعبة الشطرنج: الدستُ له، أي غلَبَ مُنافسه، والدسْتُ عليه (أي كان مغلوب فيه).
(35)
عبارة القرافي هنا أظهر واوضح وهي: فغير يوم الجمعة هو المقصود باليمين لا يوم الجمعة. جـ 2 ص 94.
(36)
الفرق التاسع والعشرون والمائة بين قاعدة الاستثناء وقاعدة المجاز في الأيمان والطلاق وغيرهما. جـ 3 ص 63
الأظهر أن لو بدأتُ بهذا الفرق، ولكنه لم يظهر لي هذا إلا بعد الكتب لما قبله، فنقرر أولا معنى الاستثناء فنقول:
الاستثناء: إخراج ما وجب دخوله تحت اللفظ الأول بإلا أو ما يقوم مقامها. والمجازُ هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينهما.
ثم إنهما بحسب مواردهما، كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه، وأخصُّ من وجه.
وضابط الأعمِ من وجهٍ والأخص من وجه أن يكون كل واحدٍ منهما بوجهٍ منفردًا ومع الآخر، فينفرد كل واحد منهما بصورة ويجتمعان بصورة، كالحيوان والأبيَض.
ومثال الصورة التي يدخلها الاستثناء دون المجاز، فإنه لا يصح فيه، أسماءُ الأعداد، فلا يجوز إطلاق العشرة ويريد بها أقل من ذلك أو أكثر، ويجوز الاستثناء. ومثال الصورة التي يدخلها المجاز ولا يدْخلُها الاستثناء، المعطوفاتُ، إذا قال أحدٌ: رأيتُ زَيدًا وعَمْرًا إلا عمرًا، لا يجوز، لما فيه من الاستغراقِ، بخلاف أعْطه ثلاثة دراهم. إلا درهمًا.
ويجوز المجاز في المعطوفات، وذلك بأن يريد الثاني غير الأول، كقوله تعالى:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} . (37)، هذا في الألفاظ المترادفة. وفي المتباينة كقولك: رأيت زيدًا والأسدَ، وتريد بالأسَدِ زيدًا لشجاعَتِهِ.
ومثال اجتماعهما في صحة الدخول والاستعمال، كأن تقول: رأيت إخوتك إلا زيدًا، وتقول: رأيت إخوتك، وأنت تريد دار إخوته أو أمِيرَ إخوتِهِ، أو ما أشبه ذلك، فالعمومات (38) يجوز فيها الوجهان، وكذلك الظاهر الذي ليس
(37) سورة يوسف. الآية 86.
(38)
في نسخة ع، في العمومات، وفي نسخة جـ: فالعمومات" وهي أصح وأسلم، واكثر وضوحا وظهورا في المعنى.
بعامٍّ، نحو لفظ الأسد والفرس. وجميع أسماء الأجناس يدخلها المجاز والاستثناء. فقد ظهرت لك هذه الصور، وهذا هو معنى الأعم والْأخص، ويفيد هذا نفعا عظيمًا في الأيمان والطلاق وغيرهما. فإنَّ من استعمل واحدًا منهما في مكان لا يجوز بطل استعمالُه فيه، ولزمه أصل الكلام الأول بمقتضى وضع اللغة.
القاعدة الخامسة (39)
نقرر فيها الفرق بين ما يدخله المجاز في الأيمانه، وبين مالا يدخله المجاز (40) والتخصيص فنقول:
الألفاظ على قسمين: نصوص وظواهر: فالنصوص قسمان: الأول أسماء الأعداد، نحو الخمسة والعشرة وغير ذلك فلا يدخلها المجاز، كأن تطْلق تسعة وأنت تريدُ بها عشرة، ولا التخصيص، كأن تطلقَ تِسعةَ وأنت تريد بها خمسة، والتخصيص مجاز إذا نظِر بأنَّه استعمال اللفظ لِغَيْر ما وضع له، ولكنه فيه إبقاء بعض، فالتخصيص أخصُّ من المجاز، فكل تخصيص مجاز، وليسَ كل مجاز تخصيصا.
والقسم الثاني: الإسْمان الكريمان: اللهُ والرحمان، لا يجوز استعمالهما فى غير الحق جل وعلا، فالمانع من هذا القسم شرعي، ومن الأول لغوي.
وأما الظواهر فهي ما عدا هذين القسمين من العمومات وأسماء الاجناس، فيجوز المجاز فيها والتخصيص.
(39) هي موضوع الفرق الثامن والعشرين والمائة بين ما يدخله المجاز في الأيمان، والتخصيص، وقاعدة مالا يدخله المجاز والتخصيص. جـ 3، ص 60.
ولم يعلق عليه الفقيه ابن الشاط بشيء.
(40)
المجاز كما عرفه الإِمام القزويني في كتابه التخليص هو: الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب على وجه يصح، مع قرينة عدم إرادة المعنى الحقيقي، فلا بد - إذن - من العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، ليخرج الغلط والكناية الخ .. ومبحثه من مباحث علم البيان من علوم البلاغة، فليرجع إليه من أراد التوسع والتفصيل في ذلك وفي انواعه.
لكنه يرِدُ علينا سؤالٌ، وهو أن اسم العدد جاء فيه المجاز، كقوله تعالى:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} (41)، قال العلماء: المراد الكثرة كيف كانت، وكذلك قوله تعالى:"سَبعُين ذِراعًا"(42)، أي طويلة جدًا، فخصوص السبعين ليس مرادًا، بل المراد المراتُ الكثيرة جدًا. ومن كلام الناس: سألتك ألف مرة فما قضيتَ لي حاجة. فعلى القاعدة المقررة في الموضعين: إذا حلف ليَعتَقن ثلاثة عبيد اليوم، فأعتق عبْدَيْن، وقال: أردتُّ بذلك عبْدَين لم تُفِدْهُ نيتُه، وحنث إذا خرج اليومُ ولم يَعتِقْ الثالثَ. فإذا قال: والله لأعتقن عبدي (43) وقال: أردت بالعتق البيع، وبالعبيد الدواب لأفاده ذلك، لأن المجاز هنا يصلح، وهنالك لا يصلح. فإذا قال: والله لأعتقن ثلاثة عبيد، وقال: أردتُّ به بيع ثلاث دواب جاز، لأن المجاز لا يمنع فيها إلا من حيث العدد.
ونظيره من الطلاق: أن يقال: أَنْتَ طالق ثلاثا، فلا يفيده أن يريد بذلك طلقتين، فإن قال: أردت بذلك أنك طلقت من الولادة (44) ثلاث مرَّات أفادهُ.
وقد أشكل ذلك على ناسٍ فقالوا: أفادته النية في الكل، ولم تُفده في البعض، وهو خَلاف القواعد.
(41) سورة التوبة: الآية 80، في المنافقين. وتمامها:"فلن يغفر الله لهم".
(42)
سورة الحاقة: الآية 32. في معرض من أوتي يوم القيامة كتابه بشماله، فكان محكوما عليه بالعذاب والشقاء في الآخرة، مصداقا لقوله تعالى مخاطبا ملائكة العذاب بأمره سبحانه، {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ}.
(43)
في نسخة عبيدًا (بالتنوين)، والذي في نسخة أخرى وفي الأصل عند القرافي عبيدى، (بياء الإضافة)، وهو أنسب وأظهر، لأن الجامع بين الحقيقة، التي هي العبيد، والمجاز الذي هو الدواب، هو الملك في كل، والملك مستفاد أكثر من الإضافة لا من التنكر، على اعتبار أن المرء لا يعتق في الغالب، إلا ما يملك من العبيد، وقد يعتق منهمْ غير ما يملك في النادر، وبذلك يبقى للتنكير في كلمة العبيد وجه وإن كان مرجوحا، والله أعلم.
(44)
كذا في ثلاث نسخ من الترتيب: "من الولادة" على أن من ابتدائية.
والذي رأيته في الأصل الذي هو كتاب الفروق هو كلمة من الولد. والمعنى متقارب فيما يظهر،
وجوابه أن النية إنما أثرَتْ في لفظ المعدود فقط وهو الطلاق، وأما اسم العدد فباق على حالة، غير أنه لما تغير المعدود وانتقل، انتَقَل العدد معه على حالة، وهو ثلاث من غير تغيير لمفهوم الثلاث. فالمجاز كان خاصًا باسم الجنس لا بالعدد.
وكذلك ايضا لو قال: واللهِ أو الرحمان، وقال: أردت بذلك بعض المخلوقات، من باب إطلاق الفاعل على أثره، لما بينهما من العلاقة لم ينفعْه، ولزمته الكفارة، بخلاف ما لو قال: والعليم والعزيز، وقالَ: أردت بعض المخلوقات، لكان له ذلك، ولم يلزْمه كفارة، وإنما لا ينفعه هذا في الاسمين خاصةً، لما تقدَّمَ من أنَّهما نصانِ شرعًا، كما أن أسْماءَ الأعداد لا يكون فيها المجازُ لغةً.
القاعدة السادسة (45)
نقرر فيها الفرق بين استثناء الكل من الكل، وبين استثناء الوحدات (46) من الطلاق، ونقرر فيها ايضا الفرق بين الاستثناء من الذوات والاستثناء من الصفات (47) فنقول:
إعْلَمْ أنَّهُ قد تقدم أن من شرط الاستثناء أن لا يكون مستغرقا، ولأجْل ذلك لم يَلحق المعطوفات، فلا يجوز: قام زيد وعمرو وخالد إلا خالدًا، لأنَّ فيه الاستغراق. وعلى سياق هذا يجب أن لا يجوز: أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة
(45) هي موضوع الفرق الرابع والستين والمائة بين قاعدة استثناء الكل من الكل وبين قاعدة استثناء الوحدات من الطلاق" جـ 3، ص 168، ولم يعلق عليه ابن الشاط بشيء.
(46)
هكذا بصيغة الجمع في نسخة ح، وكذا في هذا الفرق عند الإمام القرافي، وفي نسخة ع: الواحدةِ (بالمفرد).
(47)
هو موضوع الفرق الثالث والستين والمائة بين قاعدة الاستثناء من الذوات وبين قاعدة الاستثناء من الصفات، جـ 3، ص 166.
وقد علق عليه ابن الشاط بقوله: هذا الفرق يحتاج إِلى تأمل ونظر. وكذلك الفرقان اللذان بعدها: 164، و 165 فلينظر وليتأمل في كلام القرافي فيها، وفيما لخصه البقوري فيها، فلعل المرء يهتدى بها إلى ما جعل ابن الشاط يقول فيها إنها تحتاج إلى تأمل ونظر.
إلَّا واحدة، لأنه استثنى جملة المنطوق به وهو المعطوف. غير أن الأصحاب جوزوه، وما علمت فيه خلافًا، ويعللونه بأن الثلاث لها عبارتان: أنت طالق ثلاثًا، وأنت طالق واحدة وواحدة وواحدة، فكما يصح من الجارة الواحدةِ يصح من الأخرى.
قال شهاب الدين رحمه الله:
ويلزم على سياق هذا التعليل - إذا قال: لِلَّه علي درهم ودرهم ودرهم إلا درهمًا - لا يلزمه إلا درهمان، لأن الدراهم والدنانير لا تتعيَّن وإن عُيِّنت.
وأما الاستثناء من الذوات فكأنْ يقول مررت بالقوم إلا زيدا. وأما الاستثناء من الصفات فيتصور بوجوه مختلفة:
أحدها أن يستثني جملة الصفة، كقولك: أنتِ طالقٌ واحدةً إلا واحدة.
الثاني أن يستثني بعض الصفة كقوله تعالى: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى} (48).
الثالث أن يستثنى بعض متعلقها كقول الشاعر: قاتل ابن البتول إلَّا عليّا، فإن المراد أنَّ فاطمة رضي الله عنها بَتلتْ نفسها عن الأزواج إلا من علي فقط.
وذكر شهاب الدين رحمه الله هنا مسألة فقهية، هي:
إذا قال: أَنْتَ طالق واحدةً إلا واحدةً، معناه طلقة واحدة، فهنا مصدر موصوف، فإن قَصد رفْع الصفة دون الموصوفِ، فقد رفع بعض ما نطَق به. فيلْزَمُهُ طلقتَان، لأنه رفع بعض ما نطق به. ومَعَنا قاعدة عقلية، وهي: أن كل ضِدين لا ثالث لهما، إذا رفع أحدهما تَعَيَّنَ ثبوتُ الآخَر، فهو لمَّا رفع الواحدة
(48) سورة الصَّافات: الآية 57، 58.
ثبتت الكثرة، والكثرةُ محصورة في اثنتين، فلو قصد رفع الموصوفِ لم ينفعه الاستثناء، لما تقدم من الاستغراق. (49)
القاعدة السابعة (50)
نقرر فيها الفرق بين العرف القولي، يُقضَى به علي الألفاظِ وَيخصِّصها، وبيْن العرف الفِعْلى، لا يُقضَى به على الألفاظِ ولا يخصصا.
فالعرف القولي - أولًا - يكون في الفرد كالدابة للحمار، والغائط للنجْوِ، ويكون في المركبات كقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (51)، و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (52)، هذا وأمثاله كان أصلُه في اللغة أن يستعمل مع الأفعالِ لا معَ الأعيان، فيقال: حُرِّم عليكم أكل كذا وما أشبه ذلك، ولكن العُرف غلبَ عليه حتى كان يضاف إلى الأعيان، والمراد الأفعال الضافة إليها، وليس المراد كل الأفعال، بل أفعال خاصة. ومن ذلك قولهم في العُرف: أكلت رأسا، فهم يريدون رؤوس الأنعام دون غيرها إذا استعملوا الأكل معها، بخلاف ما إذا قالوا رأيت رأسًا فهم يركبونه مع رؤوس الأنعام وغيرها.
ومن هذا الباب قولهم: قتلَ زَيْدًا عَمْرًا، هو في اللغة موضوعٌ لإذْهاب الحياة، وغلب استعماله في بلاد المصريين على الضرْبِ خاصة. فيقولون: قتلتُه مائة قتلة، أي مائة ضربةٍ. ومن هذا الباب: فلانٌ يعصر الخمر، وإنما يعصر العنب
(49) ذكر الإمام القرافي هنا في هذا الفرق رحمه الله أنه بسط مسائل الاستثناء في كتاب له هو: الاستغناء في أحكام الاستثناء، وقال عنه: إنه مجلد كبير، أحد وخمسون بابا واربعمائة مسألة، ليس في جميع ذلك إلا الاستثناء، والاستثناء من الصفة من أغرب أبوابه، وقد بسطته لك هنا (اى في هذا الفرق) بهذه المسائل، وظهر لك معنى هذه المسائل في الطلاق بسببه، ولولاه لم يُفهَمْ أصلاً البتة، فنفائس القواعد لنوادر المسائل، وجميع ذلك من فضل الله تعالى على خلقه، هدانا الله سواء السبيل في القول والعمل .. هـ كلامه رحمه الله ورحم كافة علماء المسلمين، والمؤمنين أجمعين.
(50)
هي موضوع الفرق الثامن والعشرين بين قاعدة العرف القولي يُقضى به على الألفاظ ويخصصها، وبين قاعدة العرف الفعلي لا يُقضَى به على الألفاظ ولا يخصصها. جـ 1 ص 171.
(51)
سورة النساء، الآية 23.
(52)
سورة المائدة: الآية 3.
لغةً، ومن هذا الباب قَتلَ فلانٌ قتيلا، وطحن دقيقا، والقتيل لا يُقْتَل، والدقيق لا يُطْحَن بحسب اللغة. فأهل اللغة يقدِّرون مضافًا محذوفا، به يصح عندهم الكلامُ، وأهل العرف لا يعرجون على هذا، ولا يقَدِّرُون شيئاً، وصار هذا قد غلب على معنى صحيح عندهم في غير تقديرهم حذفًا، وقد يجتَمع المجازُ في التركيب والمفرد معا، كقولك: أرْوَاني الخُبْزُ، وأشْبَعنى الماءُ، والثاني مجاز في التركيب فقط، والأول مجاز في المفرد فقط.
ثم هذه المجازات غَلَبَتْ عُرفا حتى صارت مقدَّمة على الحقائق اللغوية وناسخةً لها، فهذا هو معنى قولنا: العُرف القولي يُقْضى به على الألفاظ ويخصصها (53).
وأما العُرف الْفِعْلي فمعناه أن يوضع اللفظ لمعنى يَكْثُرُ استعمال أهل العُرف لبعض أنواع ذلك المسمى دون بقيَّتةِ. مثاله أن لفظ الثوب صادقٌ لُغَةً على ثياب الكتان والقطْن والحرير والوَبَر والشعَر، وأهل العرف إنما يستعملون الكتان والقطن والحرير دون الوبر والشعر، فهذا عرف فِعلي. وكذلك لفظ الخبْزِ يصدق لغةً على خُبْز الفُولِ والحِمّص وغير ذلك، ولا يصْدُق عليهما بحسب العُرْف، فوقوع الفِعل في نوع دون نوع لا يُخِلُّ بوضع اللفظ للجنس كله. وقد نقل بعض الناس الإجماع في أن العُرف الفعلي لا يؤثر، بخلاف العرف القولي. (54).
قال شهاب الدين رحمه الله: ولنذكر مسائل تُوَضح الفرق بينهما.
المسألة الأولى: إذا فرضنا مَلِكًا أعْجَميا يتكلم بالعجمية، وهو يعرف اللغة العربية، غير أنه لا يتكلم بها لثقلها عليه، فيحلِفُ أن لا يأكل خُبزُا، ولا
(53) علق ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في أول هذا الفرق إلى قوله: الحقائق العرفية مقدمة على الحقائق اللغوية، فقال: جميع ما قاله القرافي في ذلك ظاهر.
(54)
قال ابن الشاط: ما قاله القرافي من أن العرف الفعلي لا يؤثر في وضع اللفظ للجنس، كله صحيح، غير أن ما أراد بناءه على ذلك من أن من حلف لا يلبس ثوبا، وعادته لبس ثوب الكتان دون غيره، بحيث يحنث بلبس غير الكتان، ليس بمسَلَّم له على ما ياتي بيانه إن شاء الله. اهـ.
يلبَسَ ثوْبًا، فحلف بهذه الألفاظ التي تجْرِ لهُ عادة باستعمالها، وعادَتُهُ في غذَائهِ لا يأكل إلا خبزَ الشعير، ولا يلبس إلا ثياب القطن، فإنَّا نُحنِّثُهُ بأي ثوب لبسه، وبأي خبز أكَلَهُ، فلا نَلتفِتُ للعرف الفعلي، ولم يكن له عرْفٌ قولي يِخصص، فلزم حِنْثُهُ لما قلنا، والله الموفق للصواب. (55)
المسأله الثانية: إذا قال الحالف: والله لا آكل رؤوسا. قال ابن القاسم: يحنث بجميع الرؤوس، وقال أشهب: لا يحنث إلا برؤوس الأنعام خاصة.
فأشهب رأى أن اللفظ صار منقولاً عُرْفا إلى رؤوس الأنعام، وابن القاسم قال: ما بلغ حد النقل وإن كان كثر استعمالهم لذلك، لكنه بقى مجازًا على نوع كَثُرَ استعماله كالأسدِ للشجاع. (56).
قلت: وقد مضى لنا قاعدة الفرق بين المنقول وما كثر استعماله، وأن كثرة الاستعمال لا توجب النقل.
وضابط ما بينهما فهْم المعنى بالقرينة أوْ دُون القرينة، فالتوقف على القرينة مجاز، والآخَرُ منقول، وهذا هو سببُ الخلاف بين ابن القاسم وأشهب، ولم يلتفت واحد منهم إلى العرف الفعلي ولا عرَّج عليه، وإنما هما مع تحقق النقل، وجِدَ أمْ لا؟ . (57)
(55) قال ابن الشاط هنا معلقا على كلام القرافي هنا: لا نُسلم له تحنثِيه، بل لقائل أن يقول: اقتصاره على أكل خبر الشعير ولبس ثياب القطن مقيِّدٌ لمطلق لفظه، ويكون ذلك من قبيل بساط الحال، فإن الايمان إنما تعتَبَرُ بالنية ثم ببساط الحال، فإذا عُدِمّا حينئذ تعتبر بالعرف، ثم باللغة إن عدم العرف.
(56)
في نسخة ح: على نوع كثرة استعماله، والأولى أي نسخة ع أظهر وأبينُ.
(57)
كلام الإمام القرافي هنا رحمه الله يزيد المسألة وضوحا وبيانا حين قال:
وضابط النقل أن يصر المنقول إليه هو المتبادر الأول من غير قرينة، وغيرُه هو المفتقر إلى القرينة، فهذا هو مُدْرَك القولين، فاتفق اشهب وابن القاسم على أن النقل العرفي مقدّم على اللغة إذا وجد، واختلفا في وجوده هنا، فالكلام بينهما في تحقيق المناط.
المسألة الثالثة: إذا حلف بأيمان المسلمين فحنِث، فمشهور فتاوى الأصحاب أنها تلزمه كفارة يمين، وعتق رقيقه وإن كثروا، وصومُ شهرين متتابعين، والمشىُ إلى بيت الله في حج أو عمرة، وطلاق امرأته، واختلفوا، هل يكون ثلاثًا أو واحدة، والتصدق بثلث المال، ولا يلزمه غير ما ذكِر. والسببُ في ذلك أن العادة جرتْ بالحلف بهذه الأشياء دون غيرها، إلا أن هذه الأشياء تُفْعل، وغيرها لا يُفْعَلُ، فالاعتبار عندهم للعرف القولي لا للعرف الفعلي.
قال شهاب الدين رحمه الله:
وينبغى للمفتى ألا يطردَ الفتوى أبدًا بهذا، بل يعتبر العرف، إن تغير تغيرت فتواه لأجله، وكذلك الاقاليم المختلفة لا يفتيهم حتى يعرف عُرْفهم، وبحَسَبِه يجيبُ، وإلَّا كان فعله خطأ، وبهذا الوجه يصير التصريحُ في الطلاق كِنايَةً، وتصير الكناية صريحًا، (58) والله أعلمُ.
ومثل هذا إذا قال: أيْمَان البيْعَة تَلْزَمُني، يُنظَرُ إلى عُرفه في العصْر وفي
= ولو قال القائل: رأيت رأسًا لم تختلف الناس أن اللفظ لا يختصُّ برؤوس الأنعام بل يصلح ذلك لكل ما يسمى رأسًا، لغة، بسبب أن هذا التركيب الذي هو رأيت رأسًا لم يكثر استعماله في نوع معين من الرؤوس دون غيره حتى يصير منقولاً، بخلاف أكلت رأسًا، فيقر اللفظ على مسماه اللغوي من غير معارض ولا ناسخ، وكذلك خلق الله رأسًا، وسقطت ووقَعَتْ رأسٌ، وهذه رأس، وفي البيت رأس، جميع هذه التراكيب ونحوها لم يقع فيها نقل عرفي، بخلاف قوله: أكلت رأسًا ونحوه من صِيَغِ الأكل، فإن أهل العرف كثُر: استعمالهم له حتى صار إلى حيز النقل، فقدم على اللغة عند من ثبث عنده النقل، فتأمل هذه المسألة، فكثير من الشراح والفقهاء إذا مر بهذه المسألة يقول فيها: لا يَحْنَثُ بغير رؤوس الأنعام، لأن عادة الناس يأكلون رؤوس الأنعام دون غيرها ، ولا تجدُ في الكتب الموضوعة للشراح غير هذه العبارة وهي باطلة، لأنهم يشيرون إلى العرف الفعلىَ الملغى بالإجاع، وإنما المدرك العُرف القولي على ما تقدم تحريره. وقد علق الفقيه ابن الشاط رحمه الله على كلام القرافي هنا بقوله: جميع ما قاله في هذه المسألة صحيح، غير قَوله:"ولا تجد في الكتب الموضوعة للشراح غير هذه العبارة وهي باطلة"، فإنه غيرُ مسَلمٍ، بما سَبَق من أن الاقتصار على بعض مسمى اللفظ في الاستعمال الفعلي من جنس البساط، والله أعلمُ. اهـ.
(58)
عقب ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذه المسألة، ونقله البقوري فيها، بقوله: ما قاله في ذلك صحيح من جهة أن لفظ الأيمان لابد أن تجرى على عادة الحالف أو أهْل بلده تسميَته يمينًا، والله أعْلَمُ.
الوضع الذي كان فيه هذا الحالف، فما كانوا يحملون عليه تلك اليمين لزمه، كالأيمان تلزمه، وإن تغيرتْ العادة تغيرت الفتوى، وإن لم يكن الأمر كذلك، اعتبرت نيتُهُ أو بِساط يمينه، فإن لم يكن شيء من ذلك فلا شيء عليه. (59).
المسألة الرابعة، قال شهاب الدين: الْأَكْثرُ من الأصوليين يحملون اللفظ العام على عمومه (60) لا يقصُرونه على سببه، وقال عز الدين بن عبد السلام: ينبغى أن يُسْتَثْنى من هذا ألا يكون السبب شرطًا، فإنه يُحْمَل على سببه، كقوله تعالى:{إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} (61) والله أعلم.
= فائدة هامة:
قال القرافي رحمه الله في آخر الكلام على هذه المسألة المتعلقة بالحلف بأيمان المسلمين ولزومها لصاحبها
…
إلخ
واعلم أن في هذه المسأله غوْرًا آخر، وهو أن لفظ اليمين في اللغة هو القسم فقط، ثم إن أهل العرف يستعملونه في النذر ايضا وهو ليس قسَمًا، بل إطلاق اليمين عليه إما مجاز لغوى أو بطريق الاشتراك، وعلى التقديرين، فجمْعُ الأصحاب في هذه المسألة بين كفارة يمين وبين هذه الأمور التي جرتْ عادَتُهَا تنذر كالصوم، ونحْوه، والطلاقِ الذي ليس هو قسما ولا نذرا، يقتضي ذلك استعمال اللفظ المشترك في جميع معانيه إن قلنا إن لفظ اليمين حقيقة في الجميع، أو الجمع بين المجاز والحقيقة، وهي مسألة مختلف فيها بين العلماء، هل تجوز أو لا؟ أعنى هل يكون ذلك كلامًا عربيًا أو لا؟ ، والمنقول عن مالك والشافعي وجماعة من العلماء جواز ذلك، فهذه القاعدة لابدَّ من ملاحظتها في هذه المسألة.
وقد عقب عليه ابن الشاط بقوله: لقائل أن يقول: ليس في ذلك استعمال اللفظ المشترك في في جميع معانيه، ولا الجمع بين الحقيقة والمجاز، بل صارتْ تلك الأمور كلها تسمى في العرف أيْمانا، وإن كان الأصل في اللغة ما ذكر، والله أعلم. اهـ.
(59)
علق ابن الشاط على كلام القرافي في هذه المسألة (مسألة أيْمان البيعة) بقوله: ما قاله القرافي في ذلك صحيح، غير أن ما ذكره من حَمْل يمينه (أي الحالف بأيمان البيعة)، على النية، ثم على البساط، فيه نظر، فإنه لا يخلو أن يترتب على يمينه تلك حكم أولاً يترتب، فان لم يترتب عليها حكم فالمعتبر النية ثم السبب أو البساط، ثم العرف ثم اللغة، وإن ترتب عليها حكم فالمعتبر العرف ثم اللغة لا غيْرُ، والله أعلم.
(60)
عرفه تاج الدين ابن السبكي رحمه الله بقوله: "والعامُّ (الوارد) على سبب خاص، معتبر عمُومه عند الأكثر، فإن كانت قرينة التعْميم فأجْدر". ومن هنا قرر علمًا الأصول القاعدة المشهورة القائلة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(61)
سورة الإسراء. الآية 25.
القاعدة الثامنة (62)
نقرر فيها الفرق بين النية المخصصة وبين النية المؤكدة.
وقد وقع الغلط للفقهاء بسبب عدم تحقيق هذه القاعدة، فالحالف إذا جآءهم وقال: حلفتُ لا لبِست ثوبًا ونويتُ الكتان يقولون له: لا تحنثُ بغير الكتان. وهو خطأ بالإِجماع.
وطريق كشف الغطاء في ذلك أن الحالف إذا أطلق اللفظ العام وقد نوَى جمج أفراده فلا كلام أنه حانث بكل فَرْدٍ من الأفْرَادِ، لوجود اللفظ العام والنية الموكِّدَة لصيغة العموم، فإن اطلق اللفظ العام من غير نية، ولا بساط، (63) ولا عادة مقيدة حنَّثْناه كذلك، للوضع الصريح، فإن أطلق اللفظ العام ونوى بعض
(62) هي موضوع الفرق التاسع والعشرين بين قاعدة النية المخصصة وبين قاعدة النية المؤكدة، جـ 1، ص 172. قال عنه الإِمام القرافي في أوله:
هذا الفرق ايضا ذهل عنه كل من يفتى من أهل العصر، فلا يكادون يتعرضون عند الفتاوى للفرق بينهما إلى آخر كلامه في هذا الفرق، مما اختصر، الشيخ البقوري في هذه القاعدة الثامنة. وقد عقب ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي فقال: ما قاله من تحنيث الحالف المطلق اللفظ العام، الناوي لبعض ما يتناوله، الغافل عن سواه، فيه نظر، فإن النية هي أول معتبر في الحالِف ثم السبب والبساط، وهُما إذا اقتضيا تقييد اللفظ أو تخصيصه نزل لفظ الحالف المطلق ذلك ولم يحْنَثْ بما عداه. ولم يكن ذلك كذلك، إلا لأن السبب والبساط يدلان على قصده التقييد والتخصيص، فإذا نوى أحدهما فهو ما يدل على السبب والبساط، فلأن يعتبر التقييد والتخصيص المنويان أولى من المستدل عليهما بالسبب والبساط.
فليتأمل كلام القرافي وتعقيب ابن الشاط عليه في هذا الفرق وفي هذا الموضوع المتعلق باليمين وما يترتب عليها من حنث أو عدمه، فإنه موضوع هام ودقيق جدًا، قد يغفل عنه كثير من الفقهاء كما قال القرافي رحمه الله.
(63)
البساط في اصطلاح الفقهاء هو السبب المثير للحلف واليمين، ويسمى بساط الحال، وبه يستدل على نية الحالف إذا غابَتْ، فهو أحد الأمور الأربعة التي تحمل عليها اليمين، وهي: النية إذا كانت مما يصلح لها اللفظ، والثانى بساط الحال كما بيناه، والثالث العرف، أي ما يقصده الناس من عرف حلفهم وايمانهم. الرابع مقتضى اللفظ لغة وشرعًا، وفي ترتيب هذه الأمور أقوال أربعة: المشهور أنها على الترتيب الذي ذكرناه كما ذكره وأوضحه الفقيه المالكي الشهير ابن جُزي في كتابه القوانين الفقهية، وكذا غيره من الفقهاء في مؤلفاتهم وكتبهم الفقهية، فليرجع أيها من أراد التوسع في ذلك.
مقتضاه وغفل عن البعض الآخر حنثناه في الذي نوى، بمقتضى اللفظ والنية المؤكدة وحنثناه في الذي خول عنه بمقتضى عموم اللفظ، فإن أطلق ونوى بعض مقتضاه وإخراج البعض الآخر حنثناه بما نوى دون ما أخرج، فهذه هنا نية مُخصِّصَةٌ، وظهر لك ايضا النية المؤكدة وما يترتب على كل واحدة (64).
فقد ظهر لك الفرق بين أن يقصد إخراج البعض وبين أن يغفل عن البعض، وكان هذا من حيث إن المخصص، من شرطه أن يكون نافيا للعام، وإلا لم يكُنْ مخصِصا، فإذا نوى البعض وأخرج البعض فالمنافاة حاصلة، فيقال لهذه: نية مخصصة، وإذا نوى البعض وغفل عن البعض فلا منافاة، بل هو مؤكد للبعض المنوى، وبحسَبَ البعض الآخر لا أكَّدَه ولا نفاه، فلم يجد حقيقة اللفظ المخصص لفوات شرطه، وذلك المنافاة. (65)
ونظير هذا من المخصصات اللفظية أن يقول الله تعالى، أقتلوا الكفار، أقتلوا اليهود، فلا تخصيص في قوله: أقتلوا اليهود، لقوله: أقتلوا الكفار، بل مؤكد لعموم اللفظ في بعض أنواعه وهم اليهود، ولو قال لا تقتلوا الذمى كان مخصصا للعموم، ولحصول النافاة بينهما، فكذلك النية.
(64) عبارة الإِمام القرافي رحمه الله في هذا الموضع وخلاصته فيه هي كما قال: "فالمعتَبَرُ في التخصيص في الأيمان إنما هو القصد إلى إخراج بعض الأنواع عن العموم، لا القصد إلى دخول بعض الأنواع في العموم، فإن الأول منافٍ ومخصِص، دون الثاني فإنه موافق مؤكد، ففات فيه شرط التخصيص فلا يكون ذلك مخصصا، وانظر ذلك من المخصصات اللفظية
…
إلخ. إلى آخر ما ذكره القرافي في هذا الفرق، ولخصه وأوجزه البقوري في هذا المختصر والترتيب رحمهما الله جميعا.
(65)
قال ابن الشاط هنا: هذا هو الاستثناء بالنية دون النطق، وفيه خلاف. قال صاحب الجواهر: منشؤه النظر إلى أنه من باب تخصيص العموم فيجزئ بالنية، أو النظر إلى حقيقة إلا سناء فلا يجزئ إلا نطقًا، ثم قال ابن الشاط: فتأمل كيف جعل صاحب الجواهر التخصيص بالنية أصلاً، وذلك مشعر بعدم الخلاف فيه، وجعل الإستثناء فرعا محمولاً على أنه تخصيص على قول، وعلى أنه استثناء على آخر، وذلك عكس ما قالهْ شهاب الدين، فإنه سَاقَ التخصيص بالنية مساق المختلف فيه، وصوب القول بعدم التخصيص بها حملا على التأكيد، وساق الإسّتثناء بالنية مثاق المختلف منه. اهـ.
ويرِدُ على هذا أن قول القائل: والله لا لبست ثوبًا كتانا، وهو غافل عن غير الكتان فإنه لا يحنث بغير الكتان إجماعًا، فكذلك ما نحن فيه.
قال شهاب الدين رحمه الله: هذا القياس باطل، بسبب قاعدة تقدَّم تقريرها، وهي أن ما لا يستقلُّ بنفسه إذا أضيف إلى ما يستقل بنفسه صيَّره غير مستقل بنفسه، وهذا كقولهم: عندي عشرة دراهم إلا درهمًا (66)، وإذا كان هذا هكذا في الاقرارات ففى الأيمان أحْرى. وإذا كان الأمر كذا فلا عموم فيه، وإنما العموم في قولك: والله لا لبست ثوبًا، فالفرق بيْنَ الموضعين بيِّنٌ، فلا قياس.
فإن قلت: فلم لمْ تُجعَلْ الصفة اللاحقَة للعموم مؤكدةً للعموم في بعض أنواعه، وهو الكتان، (67) ويبقى اللفظ على عمومه في غير الكتان فيحنث بغيره كما قلتم في النية، فالتأكيد كما يتصور بالنية يتصور باللفظ، وإن يَجئ اللفظ مؤكدا لكثير (68) فقد جاء بالحروف وبالأسماء وبالأفعال وبالجمل (69).
(66) في نسخة ع، إلا درهم، وهو غير صواب، والصواب: إلا درهمًا بالنصب، إذ القاعدة أن المستثنى بإلا يكون منصوبًا إذا كان الكلام موجبًا (اى غير منفي)، وكان الكلام تامًا (بأن ذكر المستثنى منه) وفي ذلك يقول امام النحوي عصره محمدْ بن عبد الله بن مالك الأندلسي في ألفيته النحوية:
ما استثَنت إلا معْ تمام ينتصبُ
…
وبَعدَ نفْي أو كنفْي انتخب
ابدالُ ما اتصل وانصبْ مما انقطعْ
…
وعن تميم فيه إبْدال وقَع
(67)
هذا التساؤل من كلام القرافي في هذا الفرق، وليس من تعقيب أو إضافة الشيخ البقوري رحمه الله كما قد يتبادر، وكما هي عادته في أكثرية مثل هذه العبارات وأغلبها، حيث يوردها لاضافة شيء أو تعقيبه على مسألة أو قاعدة عند نسخه القرافي رحمهما الله جميعا.
(68)
في نسخة ح: وأن يجئ اللفظ مؤكدًا كثير"، على اعتبار أن كلمة كثير، هي خبر للمبتدأ المؤول بالمصدر، (اى مجيء) على حد قوله تعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ، أي صيامكم خير لكم. فحرف أن من الحروف التي تؤول مع مما بعدها بالمصدر، وقد جمعها بعضهم في بيت فقال: مصدرُنا الحرفِيُّ أن، أن، ولَو
…
وكي، وما، وفي الذي خُلْف حكَوا. وعلى نسخة ع: "وإن يجئ اللفظ مؤكدًا لكثير، فقد جاء بالحروف
…
الخ.
وفي الجملة شرط وجوابُه، والمعنى صحيح وسليم على كلتا النسختين، وإن كانت عبارة نسخة ح أظهر وأبين.
(69)
قال القرافي هنا قبل الجواب عن السؤال: هذا السؤال حَسَنٌ وقويٌّ، وقلَّ من يتفطن له.
قلنا: الفرق بين الصفة والنية أن الصفة لفظ له مفهوم (اي مفهوم المخالفة)، بخلاف النية، فكان دالا بمفهومه على عدم اندراج غير الكتان في اليمين، والنيةُ لا تدل كذلك.
فإن قلت: اعتمدت في الجواب على القول بدلالة المفهوم، فمن لا يقول به لا يتم له الجواب، لكن الإجماع منعقد ها هنا عند من يقول بالمفهوم، وعند من لا يقول به أنه لا يحنث بغير الكتان إذا قال: والله لا لبست ثوبًا كتانا، فيحتاج إلى الفرق بين هذا وبين الصفة في غيره، فإن الصفة - ها هنا - ظهر اعتبار المفهوم فيها عند من لا يقول به في غير هذه الصورة، قلنا: الفرق عند القائل بعدم المفهوم هو أن هذه الصورة لم تستقل فيها الصفة بنفسها، فصيرت الأصل غير مستقل، ورجع الكل كلامًا واحدًا دالا على ما بقى، ومخرجا لغير الكتان.
وأما إذا قال صاحب الشرع: "في كل اربعين شاةً شاةٌ"، فهذا عموم مستقل، ولم نجد معه ما يجب أن يصيره غير مستقل بنفسه، مثبت العمل بجميع أفراده، فإذا ورد بعد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:"في الغنم السائمة الزكاة"، (70) فالقائل بأن المفهوم ليس بحجة لا يخصص ذلك العامّ به، وإنما يخصصه من يقول به، والله الموفق للصواب.
(70) حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري وبعض اصحاب السنن: بنص: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة، شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين". شاتان إلخ، والسائمة من الإبل والبقر والغنم والمعز هي التي ترعى في المرعى، ولا اعتبار بهذا الوصف في مذهب الإمام مالك، ولا يوخذ منه مفهوم المخالفة، فالزكاة في الماشية من الأنعام واجبة، سواء في السائمة (أوالمعلوفة، وهو المعتمد في المذهب المالكي، وهو ما أفصح عنه الشيخ خليل بن إسحاق المالكي رحمه الله تعالى حين قال في اول الزكاة، من مختصر الشهير: "باب، تجب زكاةُ نصاب النعَم بملْك وحول كملا، وإن معلوفة وعاملة ونتاجا"، والزكاة في النعم (من الإَبل والبقر والغنم)، ولو كانت معلوفة، وفي السائمة منها من باب أولى وأحرى، إذ هي محل اتفاق واجماع.
القاعدة التاسعة (71)
نقرر فيها الفرق بين حمل المطلق على المقيد في الكلي، وبين حمل المطلق على المقيد في الكلية فنقول:
الموجود في كتب الأصوليين كفخر الدين قدس الله روحه الخلاف في هذه القاعدة من غير تفريق، فأنكر البعض كل المطلق على المقيد، قالوا: لما يُفْضي إليه من إلغاء الدليل الدَّال على الاطلاق، وليس الأمر كذلك، بل يحمل المطلق على المقيَّد في المطلق الذي دل على القدر المشترك، وهو المسمى بالكلي، كما إذا قال الشارع: أعْتِقْ رقبَةً، وقال في موضع آخر: أعتق رقبة مومنةً، حُمل المطلق على ذلك المقيد ولمْ يكنْ إلغاءً لأحد الدليلين. وهذا من حيث ان قوله: أعتق رقبة، دلَّ على لزوم رقبة مبهمة، وذلك القدر المشترك بين سائر الرقاب، وهو المراد بالكلي، فإذا قال: رقبة مومنة، فقد أوجب رقبة من حيث القدر المشترك كما قلنا، وزاد الخصوصية، وذلك الايمانُ، فكُنَّا عاملين بالدليلين معا، وهكذا يكون
(71) هي موضوع الفرق الواحد والثلاثين بين قاعدة حمل المطلق على المقيد في الكلّي، وبين قاعدة حمل المطلق على المقيد في الكلية، وبينهما في الأمر والنهي والنفي. جـ 1 من الفروق ص 190.
قال القرافي رحمه الله في أول الكلام على هذا الفرق:
إعلمْ أن العلماء أطلقوا في كتبهم حمل المطلق على المقيد، وحكوا فيه الخلاف مطلقًا، وجعلوا أن حمل المطلق على المقيد يفضى إلى العمل بالدليلين: دليل الإطلاق ودليل التقييد، وأن عدم العمل يفضى إلى الغاء الدليل الدال على التقييد، وليس الأمر كما قالوا على الإطلاق، بل هما قاعدتان متباينتان في هذه الأبواب المتقدم ذكرها.
وبيان ذلك أن صاحب الشرع إذا قال: أعتقوا رقبة ثم قال في موطن آخر: "رقبة مؤمنة"، فمدلول قوله رقبة، كلي وحقيقة مشترك فيها بين جميع الرقاب، وتَصْدق بأي فرد وقع منها، فمن أعتق رقبة فلان، فقد أعتق رقبة وإذا كانت مؤمنة، فقد وفي بمقتضى الإطلاق والتقييد وجمع بين الدليلين، وهذا كلام حق
…
الخ.
وقد عقب ابن الشاط على كلام القرافي هنا فقال:
قوله: مدلول رتبة كلي، وحقيقة مشترك فيها بين جميع الرقاب، ليس بصحيح، بل مدلول لفظ رقبة مطلق لا كلي، والمطلق إنما هو الواحد المبهم مما فيه الحقيقة، والكلي هو الحقيقة الواقع فيها الاشتراك عند من يقول: بإثبات الحقائق المشترك منها. وقوله: "وتَصْدُق (أي الرقبة) بأي فرد منها" صحيح، لكن لا من الوجه الذي أشار إليه، ولكن من جهة أن مقتضى الإطلاق، الأمر بواحد غير معين، فإذا اوقعه أجزأ، والوجود اقتضى التعبير لا الوجوب.
الأمر في الثبوت لو قال أحدٌ: جاء رجل، وقال آخر جاء رجل مومن، والجائى واحدٌ، لحملنا ذلك المطلق على ذلك المقيد، وكان تصديقا للخبرين وعملًا بهما معا، فلو كان النهيُ أو النفْي لما صحّ حمل المطلق على المقيّد، وهذا من حيث أن النكرة في سياق النفي تعُمُّ. فلو قيل: لا تُعْتق رقبة، لدَلَّ على العموم كما يدل عليه النفىُ في قولك: ما أعْتقَ رقبة، فإذا جاء اللفظ المقيَّد مع هذه، كان مخصّصا، إذ قولك: لا تُعْتق رقبة، نَهْيٌ عن عتق رقبة من الرقاب بأى وصف اتصفت. وقولك بعد هذا: لا تعتق رقبة مومنة، تخصيص للنهى بالموصوفة بذلك الوصف، والتخصيصُ خلاف التعْميم، ولا يجْمَعُ معه كما يُجمع عتْقُ الرَّقَبَة المطلَقَة مع عِتق الرقبةِ المقيَّدة بالايمان، فإن المومنة هى رقبة وزيادة، وهذا لا يتجه فيما قلناه. ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم:"في كل أربعين شاةً، شاةٌ"، فَقَوْلُه صلى الله عليه وسلم بعد هذا:"في الغنم السائمة، الزكاة"(72)، من حمل فيه المطلق على المقيد فقد أخطأ، بسبب أن المقيد خصص المطلق، وأخْرج منه المعلوفة، والعموم في قولهِ: في كل أربعين، يَقْتضي وجوبَ الزكاة فيها، فليس جامعا بين الدليلين كما هو في الصورة التي قبلها. وهنا يصدق قول المعترض: فيه إلغاء أحد الدليلين، وإنما يرجع مثل هذا إلى قاعدة أخرى، وهى تخصيص العموم بذكر بعضه، والصحيح عند العلماء أنه باطل، ولا يتخصص بذلك، لأن البعض لا ينافي الكل، فظهر من هذا أن حمل المطلق على المقيد يصح في الكلي المطلق، ولا يصح في الكلية. (73).
إذا اتضح هذا فهنا أربع مسائل:
المسألة الأولى (74): ذكر شهاب الدين رحمه الله تعالى: أنه سمع قاضي القضاة صدر الدين الحنفي رحمه الله يقول يوما: إن الشافعية تركوا أصلهم
(72) في نسخة ح: في النعم، وهي شاملة للابل، والبقر والغنم من الضأن والمعز، فتكون رواية النعم أعم من رواية الغنم.
(73)
علق ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذا الموضوع من أوله فقال: ما قاله في هذا الموضع مسلَّم.
(74)
قال ابن الشاط: ما قاله القرافي في هذه المسألة والتي بعدها صحيح.
في حمل المطلق على القيد لا لموجب، وذلك فيما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب"، وورد أولاهن بالتراب، فكان حقهم أن يقيدوا إحداهن بأولاهن، قال شهاب الدين رحمه الله: فأجبته بأنهم ما خرجوا عنه إلا لموجب، وذلك أنه جاء أولاهن بالتراب، وجاء:"أخراهن بالتراب"، فلما تعارض التقييدان لم يكن تقييدهم بأحد القيدين أولى من الآخر، فأبقوا المطلق على إطلاقه.
المسألة الثانية.
جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم النهي عن بيع ما لم يضمن (75)، وأَخذَ الشافعى بعموم هذا الحديث. وجاء نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الطعام قبل قبضه، فخصَّص أصحابنا ذلك الحديث بهذا، وجوزوا بيع الطعام قبل قبضه. ثم منهم من يقول: هو من باب حمل المطلق على المقيد، وهو لا يصح، لأن الكلية لا تقيد، إذ هو عام. ومنهم من يقول: الأول عام والثاني خاص، وهذا أيضا لا يصح، لأن من شرط المخصص للعام أن يكون منافيا له. وأما بعض الشيء فيجوز ذكره ولا يكون مخصصا، لأنه ليس منافيا لما هو له بعض، وكذلك هو ها هنا.
(75) كذا في نسخة ع، ونسخة ح، ونسخة ثالثة: ما لم يضمن.
والذي عند القرافي رحمه الله هو قوله: ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله - أنه نهى عن بيع ما لم يقبض. ونصه في الموطأ عن عبد الله بن عمر أن رسول الله قال: من ابتاع طعاما فلا يقبضه حتى يستوفيه (أو حتى يقبضه)، وأخرجه كذلك الامام البخاري رحمه الله. على أن ما فيِ نسخ ترتيب الفروق هنا من عبارة ما لم يضمن لها أصل فيما روي أصحاب السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن، أو عن بيع ربح ما لم يضمن، وهذا فى المدلول والمعنى يؤول إلى رواية النهي عن بيع ما لم يقبض فهو بمعناها إلا أنها أعم من رواية النهي عن بيع الطعام، ولذلك جاء في شرح العلامة الزرقاني على الموطأ أن الامام مالكا رحمه الله ألحق بالابتياع سائر عقود المعاوضة (أي النهي عن البيع فيها قبل الاستيفاء) كأخذه مهراً أو صلحاً، وكدفعه عوضا من مهر أو خلع أو هبة ثواب أو صلح أوْ إجارة فيمنع ذلك قبل قبضه، فإذا ملك الشيء بلا معارضة كهبة وصدقة وسلف جاز بيعه قبل قبضه. الخ
…
المسألة الثالثة.
قال مالك رحمه الله: من ارتد حبط عمله. وقال الشافعي: بشرط الوفاة على الكفر. وهذا لأن قوله تعالى {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (76) وإن كان مطلقا فقد تقَيَّدَ بقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} . (77)
والجواب أن الآية الثانية لا يصح أن تكون مقيدة للأخرى، لأنها ترتب فيها مشروطان، وهما الحبوط والخلود على شرطين، وهما: الارتداد والموتُ على الكفر. وإذا كان كذلك أمكن التوزيع، فيكون الحبوط لمطلق الردة، والخلود لأجل الوفاة على الكفر، ويبقى المطلق على إطلاقه. (78)
المسألة الرابعة.
جاء قوله عليه الصلاة والسلام: "وجُعِلَتْ لي الأرض (79) مسجدا وطهورا"، وورد:"وترابُها طهورُ". فقال الشافعية: هو من باب حمل المطلق على
(76) سورة الزمر: الآية: 65 وأولها: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} الآية 66.
(77)
سورة البقرة: الآية 217: وتمامها: {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
وقال ابن الشاط في هذه المسألة الثالثة: ما قاله الشافعية هو الأصح، والله أعلم.
(78)
قال ابن الشاط: ليس هذا الجواب عندى بصحيح. وقوله: "واذا رتِّب شرطان على مشروطين (أمكن التوزيع" صحيح، لكن بشرط أن يصح استقلال كل واحد من المشروطين عن الآخر، أما إذا لم يصح الاستقلال فلا، والمشروطان مما فيه الكلام من الضرب الثاني الذى لا يصح فيه استقلال أحد المشروطين عن الآخر، لأنها سبب ومسبب، والسبب لا يستغني عن مسببه وبالعكس. فالأمر في جوابه ليس كما زعم، والله أعلم.
(79)
هو جزء من حديث صحيح عن جابر رضي الله عنه، وتمامه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:«أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا" (أي مطهرة بالتيمم عند انعدام الماء أو العجز عن استعماله) فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ مِن أُمَّتى فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لي الغنائم وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى الناس عامة» رواه الشيخان البخاري ومسلم، وكذا الترمذي والنسائي رحمهم الله ورضي عنهم اجمعين.
المقيد. فيحمل الأول على الثاني، فلا يجوز التيمم بغير التراب، وهذا لا يصح، فإن الأول عام كلية، ولا يصح فيها حمل المطلق على المقيد، لما تقدم. وقالوا أيضا: هو من باب تخصيص العموم بذكر بعضه، وهو - أيضا - لا يجوز، لما تقرر. فأصاب الشافعي في هذه المسألة ما أصاب المالكية في بيع الطعام قبل قبضه حرفا بحرف (80).
قلت: ولنذكر ها هنا أمثلة ذكرها شهاب الدين رحمه الله في غير هذا الوضع، نختم بها الكلام على العموم فنقول:
قال رحمه الله: جرت عادة الفقهاء في الكفارات، هل هي على التخيير أو الترتيب، أن يقولوا: إذا ورد النص بصيغة أو فهي على التخيير، كقوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أو إطعام كذا، وإن كان بصيغةِ مَن الشرطية فهي على الترتيب، كقوله تعالى:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} ، قال: وهو غير صحيح.
بيانه أن مقتضى ما ذكروه أن يكون قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (81) ألَّا يجوز إشهاد رجل وامرأتين إلا عند عدم رجلين، والإحماع على خلاف ذلك، فنستفيد من هذه الآية سؤالين عظيمين: أحدهما أن الصفة لا تقتضى الترتيب. وثانيهما أنه لا يلزم من عدم الشرط عدم المشروط، وهو خلاف الإجماع، وهو ها هنا كذلك.
فأجاب بأن قال: المرادُ في الآية انحصار الحجة التامة من الشهادة بعد الرجلين في (82) الرجل والمرأتين، فإنه لا حجة تامة من الشهادة في الشريعة إلا الرجلان، والرجُلُ والمرأتان، هذا هو المجمع عليه.
وأما شهادة الصبيان وشهادة أربع نسوة عند الشافعي، وشهادة امرأتين وحدهما فيما ينفردان فيه كالولادة، فهذه الآية حجة على بطلان ذلك كله،
(80) قال ابن الشاط: ما قاله القرافي في هذه المسألة الرابعة صحيح.
(81)
سورة البقرة: 282.
(82)
في النسختين معا: «من الرجل والمرأتين» ، ولعل الصواب «في الرجل والمرأتين» ، حيث إن الفعل «انحصر» ، وكذا مصدره «انحصار» يتعدى بحرف الجر «في» ، فيقال: انحصر الأمر في كذا.
لدلالتها على الحصر، إلا أن يقال: إن الآية إنما سيقت في إثبات الديون والأموال
فقط، فلا تدل حينئذ على بطلان الصور التي ذكرنا.
وأما الشاهد واليمين، واليمين والنكول، وغير ذلك، فلم تكمل فيه الحجة من الشهادة، بل لا شهادة فيه البتة، كالنكول واليمين، أو بعضه شهادة فقط كالشاهد واليمين، فلا توجد حجة تامة مجمع عليها إلا ما في الآية، فإذا فرض عدم إحداهما تعيَّن الحصر في الأخرى.
وإذا وضح لك أن الشرط كما يستعمل للترتيب فكذلك يستعمل لإثبات الحصر، والكل حقيقة لغوية. فيكون التعليق أعم من الدلالة على الترتيب، والدال على الأعم غير دال على الأخص، كالحيوان لا يدل على الإنسان، فلا يستقيم الاستدلال بصيغة التعليق، التي هى أعم من الترتيب. على الترتيب، بل لابد من قرائن أخرى، والله الموفق للصواب.