الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأيمان
وفيها ثمان قواعد:
الأولى (1) كالتوطئة للأيمان
والقصد فيها الفرق بين ما يجب توحيد الله به من التعظيم وبين ما لا يجب توحيده به، فقال:
إعلم أن توحيد الله بالتعظيم ثلاثة أقسام: واجبٌ إجماعا، وغير واجب إجماعا، ومختلف فيه هل يجب أم لا؟
القسم الأول: توحيده باستحقاق العبادة والألوهية، ثم توحيده بعموم تعلق صفاته العلية، فالعلم الأزلي تعلق بجميع المعلومات، وقدرته بجميع المقدورات، وإرادته بجميع الرادات هكذا، فكذلك الكائنات كلها من خلق ورزق، وحياة وموت وغير ذلك، هي أثرُ قدرته لا قدرة غيره. وما كان للأنبياء من
(1) هي موضوع الفرق الرابع والعشرين والمائة بين قاعدة ما يجب توحيد الله تعالى به من التعظيم، وبينَ قاعدة ما لا يجب توجده به". جـ 3. ص 24.
قال الإِمام القرافي هنا رحمه الله: فيجب على كل أحد أن يعتقد توحيد الله وتوحُّدَه بهذه الأمور على سبيل الحقيقة، وإن أضيف شيء منها لغيره تعالى فإنما ذلك على سبيل الربط العادي لا أن ذلك المشار اليه فعل شيئا حقيقة، كقولنا: قتله السم، واحرقته النار، وأرواه الماء، فليس شيء من ذلك يفعل شيئا مما ذُكر حقيقة، بل الله تعالى ربط هذه السببات بهذه الأسباب كما شاء وأراد، ولو شاء لم يربطها، وهو الخالق لمسبباتها عند وجودها، (اي الأسباب) لا أن تلك الأسباب هي الوجدة، وكذلك إخبار الله تعالى عن عيسى عليه السلام أنه كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، معناه أن الله تعالى كان يحيى الموتى ويبرئ عند إرادة عيسى لذلك، لا أن عيسى عليه السلام هو الفاعل لذلك حقيقة، بل الله هو الفاعل لذلك ومعجزة عيسى عليه السلام في ذلك ربط وقوع ذلك الإِحياء وذلك الإِبراء بإرادته، فإن غيره يريد ذلك ولا يلزم ارادته ذلك، فاللزوم بإرادة عيسى هو معجزته عليه السلام. وكذلك جميع ما يظهر على ايدي الأنبياء من المعجرات، والأولياء من الكرامات، الله هو خالقها.
وقد علق الفقيه الشيخ ابن الشاط رحمه الله على ما جاء عند القرافي في هذا القسم الأول فقال: ما قاله في ذلك صحيح.
المعجزات، وللأولياء من الكرامات فهى من حيث الكون بتكوينه جل وعلا، وأثرٌ
من آثار قدرته، ومن حيث انها وافقت في الكون مراد الأنبياء ومراد الأولياء كانت
من تلك الجهة معجزة أو كرامة.
القسم الثاني، المتفق علي عدم التوحيد به، كنوحيده بالوجود وسائر الصفات، فمفهوم الوجود مشترك فيه، وكذلك مفهوم العلم وسائر الصفات. ولولا الشركة في أصول هذه المفهومات لتعذر علينا قياس الغائب على الشاهد، فإن القياس بغير مشترك متعذر، وقياس الباين على مباينه لا يصح.
وقد أورد بعض الفضلاء هذا السؤال فقال: إن كان القياس صحيحاً لمعنى مشترك بين الشاهد والغائب فقد وقعت المشابهة بين صفات الله وصفات البشر، والله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لا من حيث الصفات ولا من حيث الذات، اذ السلب عام، وان لم يكن القياس صحيحا تعذَّر إثبات الصفات، فإن مستندَها قياس الغائب على الشاهد.
والجواب أن سلب المثلية صحيح، والقياس أيضا صحيح.
ووجه ذلك أن المعاني لها صفات نفسية تقع الشركة فيها، بها يقع قياس، وتلك الصفات النفسية حكم لذلك المعنى، وحال من أحوال النفسية، وهي حالة غير معللة، وذلك كما تقول: كوْن السواد سواداً، وكون البياض بياضا حالة السواد والبياض، وهي حالة غير معللة، وهي لا موجودة ولا معدومة، فليس خصوص السواد الذي امتاز به عن جميع الأعراض صفة موجودة قائمة بالسواد، وكذلك كونه عَرضا ليس بصفة وجودية قائمة بالسواد، بل السواد في نفسه بسيط لا تركيب فيه، وحقيقة واحدة في الخارج ليس لها صفة، بل يوصَف بها ولا يوصف بصفة وجودية حقيقية تقوم بها، وكذلك القول في بقية المعافي، فالقياس وقع بهذه الحالة النفسية والحكم النفسي لا بصفة وجودية. هكذا الأمر في العلم والقدرة والإِرادة وسائر الصفات.
واذا كان القياس بما ذكرناه فالسَّلْبُ الذي في الآية، معناه أن المثلية منفية بين الذات (الإلهية) وجميع الذوات، وبين صفاته (العلية) وجميع الصفات. فعلى هذا يجوز أن نصف (2) الخلوق بأنه عالم، ومريد، وحي، وموجود، وبغير ذلك، من غير اشتراك في اللفظ، باعتبار معنى عام. (3)
القسم الثالث، الختلف فيه، التعظيم بالقسم، هل يجوز أن يقسم بغير الله فلا يكون من التعظيم الذي وجب التوحيد به، وهذا القسم الذي سيق الفرق في كتاب شهاب الدين لأجْله، لأنه المتعلق بالقواعد الفقهية، وقد اختلف العلماء فيه. قال أبو الوليد بن رشد: الحلف بأسماء الله وسائر صفاته مباح، وباللات
(2) كذا في نسخة ع، وفي نسخة ح ونسخة ثالثة: أن تصف (بالتاء)
(3)
علق ابن الشاط على كلام القرافي الذي اختصره البقوري في هذا القسم من أوله إلى آخره بقوله: مما قاله في ذلك غير صحيح، فإنه لا يخلو أن يقول: إن الوجود هو عيْنُ الموجود او غيره، فإن قلت بالأول لم يصح القول بعدم التوحيد والتوحد، (اي بعدم توحيد الله بالوجود والعلم ونحوهما من الصفات)، من حيث إن وجود البارى تعالى عيْن ذاته، ووجودُ غيْره عينُ ذاته، والغَيْرَان كل واحد منهما منفرد بذاته غير مشارك فيها (بفتح الراء)، فلا يصح على ذلك، القول بعدم التوحيد والتوحُّد على هذا باعتبار الوجود الخارج عن الذهن، وأما باعتبار الأمر الذهني فلا يصح علي ذلك، الاتفاق على القول بعدم التوحيد والتوحد للخلاف في الأمر الذهني. وإن قلنا بالأمر الثاني (وهو أن الوجود غير الموجود) فلا يصح ايضا القول بعدم التوحيد والتوحد، من حيث إن وجود كل واحد من الغيرين يختص به. هذا على القول بإنكار الحال، وأما على القول بالحالِ فلا يخلو أن يقال: إن الحال هي الأمر الذهني اولا، فإن قلنا بالأول لم يصح الاتفاق على عدم التوحيد والتوحد للخلاف في الأمر الذهني، وإن قلنا بالثاني لم يصح القول بعدم التوحيد والتوحيد، لاختصاص كل واحد من الغير بحاله كما سبق في الوجود.
وما قاله القرافي من أنه لولا الشركة في أصول هذه المفهومات لتعذر علينا قياس الغائب على الشاهد، ليس بصحيح، من حيث إن الشركة في اصول هذه المفهومات لم تثبت، فيتعذر قياس الغائب على الشاهد.
وما ذكره من أن بعض الفضلاء أورده (سؤالا) وارد، وجوابه بالتزام بطلان قياس الغائب على الشاهد، وعدم تعذر إثبات الصفات لذلك، لأنه لا يتعين لاثباتها قياس الغائب على الشاهد. وما أجاب به هو عن ذلك السؤال لا يصح إلا على القول بالأحوال، ولا حاجة إلى ذلك لعدم تعين قياس الغائب على الشاهد للدلالة على الصفات، والله تعالى اعلم. اهـ
ثم قال ابن الشاط. وما قاله القرافي بعد ذلك في القسم الثالث المختلف فيه والمتعلق بالتعظيم بالقسم صحيح.
والعُزّى وما يُعبَد من دون الله حرام، وقد يكون كُفْرا. والحلف بما عدا ذلك مكروه
كالحلف بالآباء لنهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك.
وقال أبو عمر: ذلك ناسخ لقوله عليه الصلاة والسلام. أفْلَحَ -وأبيه- إن صدق.
ومن المكروه، الحلف بالرسول عليه الصلاة والسلام أوْ بالكعبة. وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي: الحلف بالخلوقات كالنبى عليه السلام ممنوع، فمن فعل ذلك استغفر الله تعالى.
ثم من الناس من قال: لا يقع الحلف إلا بالله تعالى فقط، لقوله عليه الصلاة والسلام:"من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت"(4). وقيل: يجوز بسائر الصفات العنوية وسائر الأسماء التي له عز وجل.
قلت: ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسُ محمد بيده"، فكثيراً ما يحلف بها.
وقال شهاب الدين رحمه الله: والمشهور، الجواز واللزوم للكفارة في ذلك كله إذا حنث، وقاله أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين.
وروى عن مالك الكراهة في: لَعَمْرُ الله، وأمانة، الله، وأن الحلف بالقرآن والمصحف ليس بيمين، ولا كفارة فيه. وقال صاحب الجواهر: لا يجوز الحلف بصفات الله تعالى الفعلية كالرزق والخلق، ولا تجب فيه كفارة.
(4) تمام هذا الحديث من أوله عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر رضي الله عنه في ركبٍ وهو يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن الله عز وجل يهام أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت، قال عمر: فوالله ما حلفت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها، اي ما حلفت بآبائي ذاكرا لها من قبل نفسي، ولا آثرا لها، أي حاكيا لها عن غيري بشيء. اهـ. وذلك أن الصحابة رضوان الله كانوا إذا امرهم الله ورسوله بشيء أسرعوا إلى امتثاله والعمل به، واذا جاء النهي من الله ورسوله أسرعوا وبادروا إلى هجر وترك ما وقع النهي عنه، وكان ذلك شأن السلف الصالح والخلف الصالح في كل جيل، بامتثال أوامر الله ورسوله واجتناب نواهيما كما جاء بها القرآن الكريم، وصحت بها السنة عن النبي المصطفى الأمين، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
فإذا تقرر القسم المختلف فيه، فهل يجوز أن يَشْترِك معه غيره بأن يُقسم عليه ببعض مخلوقاته كأن يقول: بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا غفرت لنا، أو يمتنع، لأنه قَسَمٌ وتعظيم بالقسم لغير الله. وقد توقف في هذا بعض العلماء، ورجح عند بعضهم. التسوية بين الحلف بغير الله وبين الحلف على الله تعالى بغيره، وقال: الكل قسم وتعظيم.
وما وقع في القرآن من القسم بغيره جل وعلا فقد يقال: ذلك على حذف مضاف، وقد يقال: قد يجوز له تعالى في هذا الباب الشيء الذي نمنع نحن منه. (5)
فإن قلت: (6) إذا صحّ الحلف بصفاته المعنوية (7) فهل القرآن من ذلك القبيل، وكذلك التوراة والانجيل وسائر الكتب أمْ لا؟ .
قلت: قال أبو حنيفة: لا، لاشتهار هذه الأسماء على الأصوات المسموعة عُرفا، وذلك مخلوق، والحلف بالمخلوق منهي عنه، لا تجب فيه كفارة. وأوجَبَ مالك في ذلك الكفارة لانصرافه عنده إلى الكلام النفساني القديم، ورُوي عن مالك مثل قوْل أبي حنيفة، قال شهاب الدين: وهو الأرجح.
(5) عبارة القرافي: تقدوره: اقسم برب الشمس والليل، والضحى، والتين والزيتون، فما وقع الحلف إلا بالله تعالى دون خلقه، ومنهم من قال: إنما اقسم الله تعالى بها تنبيها لعباده على عظمتها عنده فيعظمونها، ولا يلزم من الحجر على الخلق في شيء أن يثبت الحجر فى حقه تعالى، فإنه الملك المالك على الإطلاق، يأمر بما يشاء ويحكم ما وريد، من غير اعتراض ولا نكير، فيحرم على عباده ما شاء، ولا يحرم شيئا من ذلك عليه سبحانه. (فهو الخالق لكل شيء، وله الأمر والتدبير والله المعين.
(6)
هذا التساؤل والجواب عنه هو من كلام القرافي رحمه الله، وليس من كلام اليقوري رحمه الله، ولا من اضافته وتعقيبه، كما قد يتبادر، جَرْيا مع عمله ومنهجه في هذا الترتيب والاختصار للفروق.
(7)
في تعليق بكتاب الفروق العبارة الاتية: "المعروف صفات المعاني). ومعلوم ان علماء التوحيد والكلام رحمهم الله فرقوا بين صفات المعاني، والصفات المعنوية، فالأولى هي: القدرة والإرادة، والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام، والمراد بالثانية: كونه تعالى قادرا ومريدا وعالما وحيا وسميعا وبصيرا ومتكلما. وتفصيل ذلك مذكور ومعروف في كتب التوحيد.
ثم قال (8): إعلم أن الألفاظ انقسمت باعتبار هذا المطلوب ثلاثة أقسام: قسم علم أن مدلوله قديم كلفظ الله ونحوه، وقسم علم أن مدلوله حادث كلفظ الكعبة ونحوها (9) وقسم مشكل، وذلك سبعة ألفاظ:
الأول: أمانة الله، فمن حلف بها جاز، ولزمته الكفارة بها إذا حنث، لأن أمانته تكليفه، وهو أمرُه ونهيه بالكلام النفسي وهو قديم.
ومنه قوله تعالى: "إنا عرضنا الأمانة" الآية. وهذا الدلول كان عرْفا. فلو جاء عرف آخر بحيث يكون هذ اللفظ يحمَل على الأمانة الحادثة لا على القديمة، أو كاشا النيةهي التي أثرت ذلك لا متنع الحلف وسقطت الكفارة.
الثاني عمر الله، ولعَمْرُ الله، ومعناه البقاء، وبقاء الله تعالى استمرار وجوده مع الأزمان، ووجود ذاته تعالى قديم، يجوز الحلف به، وتلزم به الكفارة. (10)
الثالث: عهد الله، قال مالك: يجوز الحلف به، ويلزم به الكفارة. وأصل هذا اللفظ في اللغة الالزام والالتزام. قال تعالى:"وأوْفُوا بعهدي أُوفِ بعهدكم"(11) معناه أوْفوا بتكاليفي أُوفِ لكم بثوابي الموعودِ به على الطاعة، (12)
(8) قوله هذا هو موضوع الفرق الخامس والعشرين والمائة بين قاعدة ما مدلوله قديم من الالفاظ فيجوز الحلف به، وبين قاعدة ما مدلوله حادث فلا يجوز الحلف به، ولا يحب به كفاز. جـ 3. ص 29.
(9)
قال القرافي: فهذان القسمان لا يقصدان بهذا الفرق لوضوحهما. وعلق عليهما ابن الشاط لقوله: ما قاله القرافي في ذلك صحيح.
(10)
قال القرافي عن القسم الثالث "وقسم مشكل على أكثر الطلبة وهو المقصود بهذا الفرق، وهو سبعة لفاظ: أماتة الله تعالى، والثاني عَمْر الله ولعمر الله الخ .. وعلق ابن الشاط على هذين المثالين وما جاء ما عند القرافي. فقال: ما قاله في ذلك صحيح.
(11)
سورة البقرة: الآية 40.
(12)
قال القرافي هنا: ومنه العهدة في البيع، أيْ ما يلزَم من الرد بالعيب وردّ الثمن عند الاستحقاق، ومنه قوله تعالى:"والوفون يعهدهم إذا عاهدوا"، أي بما التزموه، ومنه عهدة الرفيق اي ما يلزم فيه، وهو كثير في مواد الاستعمال. فعهد الله الزامه لخلقه تكاليفه، والزامه أمره ونهيه، وأمره ونهيُهُ كلامه القديم، وصفته القديمة يجوز الحلف بها كما تقدم على الخلاف في ذلك.
فإن أريد بهذا اللفظ العهدُ الحادث الذي شرعه، نحو قوله تعالى {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، فهو حلف ممنوع، وسقطت الكفارة، وكذلك إذا اشتهر اللفظ فيه عرفا امتنع، ولا كفارة ايضا. وبالجملة الاعتبار بالعرف. (13). ومن حيث اعتباره قال اللخْمِي: العهدُ أربعة أقسام: تلزم الكفارة في واحد، تسقط في اثنين، وتحلَفُ في الرابع. فالأول: عليّ عهد الله، والاثنان، لك علي عهد الله، وأعطيك عهد الله، والرابع، أعاهدك الله، اعتبره ابن حبيب، وأسقطه ابن شعبان، قال: وهو أحسن. ثم القرائن أيضا اعتُبرت في هذا التقسيم، فهو لمَّا قال: عليّ عهدُ الله أشعرت بتكليف الله وإلزامه، وأن تكليفه واقع عليه، فناسَبَ اللزوم، كما لو قال: عليِّ الطلاق. وأما إذا قال: لك على عهد الله، فلم يلتزمه لله، لكن للمحلوف عليه. وقوله: أعطيك، وعْدٌ للمخاطَب بأنه يعاهده. وأمّا أعاهد الله فيحتمل أن يكون خبراً، معناه انشاء الْمعاهَدَة والإِلزام، ويحتمِل أن يكونَ خبرًا وَعْداً على بابِهِ فلا يلزم به شيء، كَما لو أخبر عن الطلاق بغير إنشاء. قال اللخمي: وهو أحسن، لأن الأصل عدم النقل، وبَرَآةُ الذمة. (14).
قال شهاب الدين: وبقي قسم خامس لَمْ أرَهُ لأصْحَابنا، وهو أن يقول: وعَهْدِ الله لقد كان كذا، بواو القسم، فينبغي أن تلزمه الكفارة كما لو قال: وأمانة الله وكفالتِه، وهو أقوى في لزوم الكفارة من الوجه الذي قال فيه مالك إن فيه الكفاز، لأنه إخراج للخبر إلى الانشاء، والأصل خِلافه، وأما هذا فليس فيه أنه إخراج عن أصله في إِلزام الكفارة به (15).
(13) علق ابن الشاط على ما جاء هنا عند القرافي في هذا اللفظ الثالث الذي هو عهد الله، بِقوله: ما قاله في ذلك صحيح.
(14)
قال ابن الشاط هنا: فيما قاله القرافي (وجاء ملخَّصا عند البقوري)، فيه نظر. فإن قول القائل: لكَ عليّ عهد الله، وأعطيك عهد الله، يحتمل أن يجري هذان اللفظانِ مجرى: عليَّ عهد الله، لقرينة الحال المشعِرة بتاكيد الالتزام باليمين، ويحتمل أن يجريا مجرَى أعاهد الله. فعلَى الاحتمال الاول تنعقد اليمين وتلزم الكفارة عند الحِنْثِ، وعلى الاحتمال الثاني يقع التردد، وأما القول بعدم انعقاد اليمين بذينك اللفظين، فذلك ضعيف، والله تعالى اعلم. اهـ
(15)
علق ابن الشاط على هذا القسم الخامس عند القرافي بقوله: ما قاله في ذلك صحيح.
اللفظ الرابع، عليَّ ذمة الله، قال مالك: تلزمه الكفارة، ومعني ذمة الله، التزامه (16) فهو يرجع إلى كلامه تعالى من حيث الأمر والنهي، والكل كلام نفسي.
ثم إذا قال: وذمةِ الله فهو أقوى في وجوب الكفارة، وأما عليَّ ذمة الله وسائر هذه الأشياء المذكورة، فما كانت قسماً إلا بالعُرْفِ، كما أنها ما كان ذلك القسم بها إلا من حيث إرادة المعنى القديم، وبمجموع ذلك لزمته الكفارة، وإلا لم تلزم ولم يصح اليمين، كما أنه لا يصح أن يقال علي إرادة الله، أو عليَّ علم الله وما أشبه هذا هو قسم (17).
اللفظ الخامس، كفالة الله (18) قال مالك: إذا قال: عليِّ كفالة الله فحنث لزمته الكفارة، والكفالة بمعنى الضمان، ومعناها هنا وعده بما ألزمه، ووعده
(16) قال القرافي هنا: ومنه عقد الذمة للكفار، أي التزامنا لهم عصمة النفوس والأموال والأعراض وما معها. ومنه قول الفقهاء: له في ذمته دينار، والعقد وارد على الذمة، فإن الذمة في الشريعة معنى مقدَّر في المكلف يَقْتل الالزام والالتزام، ولذلك إذا اتصف بالسفه بعد الرشد يقال: خربت ذمته وذهبت، وإذا مات خربت ذمته، أي المعنى الذي كان يقدر لم يبق مقدرا، وتقول العرب: فلان يفى بذمته، أي بما التزمه، وخفر ذمة فلان إذا خانها، وهذا كله راجع إلى الإخبار عن الالتزام أو معناه. وجاء في الحديث: من قال كذا وكذا (من الذكر والدعَاءِ) كان في ذمة الله. أي إن الله تعالى التزم له عند هذا القول حفظه من المكاره، والتزام الله تعالى راجع إلى خبره، فهو نوع آخر من الكلام غير نوع العهد، فإن العهد يرجع إلى الأمر والنهي، والذمة إلى الخبَر، والكل كلام نفسي، فهما نوعان منه، فافهم ذلك .. الخ.
(17)
عبارة القرافي هنا: ألَا ترى أنه لو قال: عليَّ علم الله، أو عَلى إرادة الله لمْ يتجه إيجاب الكفارة، لأن هذه الصيغ ليست قسما، وإنما هي خبر. والخبر ليس بقسَمٍ إجماعاً، والانشاء العرفي بغير القسم لا يوجب كفارة، فلا بد من النقل عن الخبر إلى إنشاء القسم، وإلا فلا يتجه إلزام الكفارة، واعتقاد أن هذا يمين، البتة، فتأمل هذه التنبيهات، فالفقيه يحتاج إليها حاجة شديدة في الفقه والفتاوى والفروق وتحرير معاني الألفاظ.
وقد علق ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذا اللفظ الرابع الذي هو عليَّ ذمة الله، ولخصه بقوله: والأظهرُ في هذا اللفظ وثبهه أنه إنشاء للقسم عرفاً، ولذلك رأى فيه مالك الكفارة، والله أعلم ..
(18)
قال ابن الشاط عن هذا اللفظ الخامس الذي هو كفالة الله وما جاءَ فيه عند القرافي: وهذا اللفظ أيضا كلفظ الذمة، وما أوره من ذكر مرادفاته واشتقاقاته لا حاجة إليه في الفقه، والله أعلم.
خبره، وخبره كلامه النفسي، فيكون الحالف قد حلف بكلامه النفساني، فتلزمه الكفارة إذا حنث.
قال شهاب الدين: وهنا تنبيهات:
الأول أنه إذا قال: علي كفالة الله، فهو لا يكون حلِفا إلا بالمجاز، فلا بد من أحد أمرين: اما أن يكون قد نقل هذا اللفظ للقسم نقلا عرفياً، فوقعت الفتوى بحسب العرف، أو يكون للمتكلم. نية تتزلب عليها الكفارة باليمين بها، والأظهر مِن مالك أنه أفتى بها من حيث العرف.
فإذا كان هكذا فالحكم في ذلك قد يختلف بحسب اختلاف العرف، فلا يقال لهذا الحكم: إنه تانم لهذا اللفظ أبداً من غير اعتبار بقاء العرف أو اختلاف.
التنبيه الثاني، أن كفالة الله أضيفت فيه الكفالة إلى الله، والإِضافة تكون بأدفى ملابسة، فهي تحتمل ثلائة أنواع من الكفالة: أحدها الكلام القديم والوعد الذي هو الكلام النفسي. وثانيها كفالة الله التي هي التزامه اللفظي الذي في القرَآن وغيره، الدال على الكلام القديم. وثالثها، كفالة خلقه، التي هي ضمان بعضهم لبعض، التي هي من فعلنا، فهي مضافة إلى الله تعالى إضافة المشروعية، كما قال تعالى:{وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} ، أي التي شرَع (19).
وإذا كانت الكفالة تصدق على معنى قديم ومعنيين حادثين، فكيف يكون
= قلت عن هذه الملاحظة والتعقيب: ذلك شأن كثير من علمائنا القدامى رحمهم الله حيث يحاولون أن يستوعبوا ويستطردوا، ويُوردُوا كلَّ ما يتصل بالمسألة المتحدث عنها، لغة واشقاقاً وغير ذلك، تعميما للفائدة وتحصيلا لها.
(19)
عبارة القرافي: فهي تضاف اليه إضافة المشروعية كما قال تعالى: {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} ، أي التي شرعها وأوجب علينا أداءها، فأضافها اليه تعالى إضافةَ المشروعية، لأنه تعالى شاهد ولا شهود عليه، فكذلك هذه الكفالة المندوب إليها تصح إضافتها إليه تعالى إضافة المشروعية.
مطلق الكفالة، الدالُّ على الْأعَمِّ يدل على الأخص الذي هو العنى القديم (20).
التنبيه الثالث، أنه لو قال المتكلم: وكفالة الله، أو أُقسِم بكفالة الله لكان قسما صريحاً، وكان أولى في لزوم الكفارة من قوله: علي كفالة الله.
التنبيه الرابع: أن للكفالة ألفاظاً تدل على مقتضاها، وهي مترادفة كالضمان، فحق هذه الألفاظ أن يجري فيها من ذلك الذي ذكرناه ما جرى في لفظ الكفالة.
اللفظ السادس، الميثاق، قال مالك رحمه الله: إذا قال: علي ميثاق الله، وحنِث، لزمته الكفارة، والميثاق هو العهد الموثَّق باليمين، فيكون الميثاق مركباً من العهد واليمين. وعلى هذا يرجع إلى الكلام النفسي، لأن العهد قد تبين أنه يرجع إلى الكلام النفسي. والقسَمُ أيضاً كذلك، لأنه خبر عن تعظيم المقسم به، فالمركب من ذلك يرجع اليه. ويرِدُ عليه ما وَرَدَ على كفالة الله (21).
(20) تمام كلام القرافي قوله: ومطلق الإضافة هو الموجود، وهو الذي دل عليه اللفظ، والدال على الأعم غير دال على الأخص، فلا يكون لفول القائل:"علي كفالة الله"، إشعار بالكفالة القديمة البتة، لأن نوعها أخص مما دل عليه مطلق الاضافة، فلا يكون هذا اللفظ موجبا للكفارة من جهة أن المتكلم حلف بصفة من صفات الله تعالى البتة، بل إما بجهة النذر أو بجهة أخرى كما تقدم بيانه، فتأمل ذلك.
أقول: وبِإتمام الكلام عن هذا التنبيه الثالث من خلال هذه الفقرة للقرافي، يكون الجواب عن التساؤل الذي أتى به الشيخ البقوري، وتركه دون جواب منطوق.
كما أن تعليق الشيخ ابن الشاط على هذه التنبيهات الأربعة، يوضح ذلك حيث قال:
ما قَالَهُ القرافي في ذلك صحيح. والذي يظهر من مالك رحمه الله أنه كان يرى ذلك عرفا في زمانه أو عرفا شرعيا، فأما إن كان عرفا زمانيا فإنه إذا تغير، تغير الحكم، وأما إن كان عرفا شرعيا فلا يتغير الحكم، وإن تغير العرف، والله أعلم.
(21)
عبارة القرافي هنا: والميثاق مأخوذ من التوثق وهو التقوية.
والفرق بينه وبين العهد واليمين: أما اليمين فهو القسم، وأما العهد فقد تقدم أنهُ الالتزام، والميثاق هو العهد الموثق باليمين، فيكون الميثاق مركبا من العهد واليمين معا كذا كان عز الدين بن عبد السلام رحمه الله ينقله عن اللغة.
وقد علق الشيخ ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي بقوله: ما قاله صحيح، غير قوله:"والقسم أيضا يرجع إلى الكلام لأنه خبر عن تعظيم المقسم به"، فإن القسم ليس خبرا عن تعظيم المقسم به، بل هو نوع من أنواع الإنشاء.
اللفظ السابع: أيمن الله، قال سيبويه: هو من اليمن والبركة (22).
وقال الفراء: هو جمع يمين، فيكون الكلام فيه كالكلام في أيمان المسلمين.
ثم إذا قلنا: إنه جمع يمين، فيرِدُ عليه اشكال بسبب أنه حلف بحادث، فلا يلزم فيه كفارة. وكذلك يرِد الإِشكال على متأخري المالكية القائلين بلزوم أيمان المسلمين على من قال: وأيمان المسلمين تلزمني، أنه إن أراد القسم فقد حلف بمحْدَث، فلا يلزمه شيء، لِأن الكفارة لا تكون بالْمُحْدَث، وإن أراد أن يلزم نفسه موجبات الأيمان، فإن أراد بذلك أنها تلزمه من جهة أنها مسَّبَبات لأسبابها، وأسبابها لم توجد، فلا يلزمه شيء، لأن لزوم الاحكام بدون أسبابها موجود في الشريعة، بل الشريعة تنكره. وإن أراد أنها تَلزَمُهُ على سبيل النذر، فيفتقر ذلك إلى نية النذر والقصد إليه، وهذه الصيغة ليست موْضوعةً في الفقه له، والقائلون بهذا ما قالوا إنه من باب النذر (23).
(22) زاد القرافي هنا قوله: ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه: هو كناية، لتردده بيْنَ المحدث من تنمية الارزاق والاخلاق وبين القديم الذي هو جلال الله وعظمته، ومنه قوله تعالى:"فتبارك الله أحسن الخالقين"، و"تبارك الذي بيده الملك وهو كل شيء قدير"، أي كثر جلاله وعظمته وصفاته العلى.
(23)
علق ابن الشاط على هذا اللفظ السابع الذي هو أيمن الله على ما جاء فيه عند القرافي فقال: ما حكاه القرافي من الاشتقاق وغيره لا كلام فيه لأنه نقل. وما قاله من أن القائل إذا قال: أيمن المسلمين تلزمني، أنه حلف بمحدث، لأن أيمان المسلمين حلفِهم، وهو محدث، ليس بصحيح. فإن القائل ذلك إنما يقوله في حال يقتضى تأكيد خبره الذي يحلف عليه، وذلك قرينة تصرف قوله ذلك إلى قصده إلى ما يؤكد به الخبر شرعاً، أو إلى ما يلزم مقتضاه شرعا.
فعلى التقدير الأول يلزمه جميع يمين الله تعالى، إذ هو اليمين الشرعي، وأقل ذلك ثلاثة أيمان، فإذا حنِثَ يلزمه ثلاث كفارات، وقد قيل بذلك. وعلى التقدير الثاني يلزمه كل مل يلزمه شرعا من يمين ونذر وطلاق وعتق وصدقة، وقد قيل بذلك.
وما قاله القرافي من أن ذلك من باب لزوم الأحكام بدون أسبابها ليس بصحيح، بل ذلك من باب لزوم الأحكام بأسبابها عند القائلين بلزوم الكفارات على التقدير الاول، أو القائلين بلزوم جميع ما يلزم شرعاً بالتزامه على التقدير الثاني. وغاية ما في ذلك أن قائل أيمان المسلمين تلزمني لم يصرح فيه بلفظ اليمين الشرعي، ولا بالملتزم الشرعي، ولكنه يفهم من القرائن أنه عنى اليمين الشرعي أو الملتزم الشرعي، ومذهب مالك عدم اشتراط معينات الالفاظ، فاللزومُ بمقتضى اليمين الشرعي او الملتزمات الشرعية جارٍ على مذهبه، والله أعلم.
القاعدة الثانية: (24)
أقرر فيها الفرق بين الصفات العَلِية التي تترتب عليها الكفارة عند الحنث من التي لا يترتب عليها ذلك عند الحنث فأقول:
صفات الله تعالى خمسة أقسام: معنوية، وذاتية، وسلبية، وفعلية، وما يشمل الجميع.
أما القسم الأول فالصفات المعنوية، وهي العلم، والكلام القديم، والإِرادة، والقدرة والحياة، والسمع، والبصر، هل يجوز الحلف بها ابتداء، وقد تقدم ذلك، وتقدم قول من قال لا يكون إلا بالله تعالى، والردُّ عليه (25). والكفارة مترتبة على الحنث ها هنا (26).
(24) هي موضوع الفرق السادس والعشرين والمائة بين قاعدة ما يوجب الكفارة بالحلف من صفات الله تعالى إذا حنث الحالف، وبين قاعدة ما لا يوجب كفارة إذا حلف به من ذلك" جـ 3، ص 39.
(25)
سبق الكلام على ذلك في مباحث القاعدة الاولى قبل هذه.
(26)
وقال القرافي هنا: فهذه الصفات المعنوية السبع كلها يوجب الحلف بها مع الحِنثِ الكفارةَ، فيجوز الحِلف بها ابتداء، هذا هو مشهور المذهب، وقيل: لا يوجبُ كفارة، لقوله صلى الله عليه وسلم: من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت. ولفظ الله مخصوص بالذات، فاندَرَجَتْ الصِفات في الامور بالصمت به، ومستند المشهور ما تقدم، مما حكاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيوب عليه السلام أنه قال: بلى وعزتِك، ولكن لا غِنَى لي عن بركَتِكَ.
وقد علق الشيخ ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي بقوله: ما قاله في ذلك صحيح. ثم قال القرافي: وفي هذا القسم مسائل:
المسألة الاولى الحلِفُ بالقرآن إذا حلف به، قلنا نحن: تجب به الكفارة لأنهُ منصرف للكلام القديم. وقال أبو حنيفة: لا تجب به الكفارة، لأنه ظاهر في الكلام المخلوق الذي هو الأصوات، فالكلام في تحقيق مناط، هل فيه عرف أم لا؟ ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العَدُوّ، لم يفْهم أحدٌ إلا القرآن الذي هو الأصواتُ. وإذا قيل في مَجرى العادة: القرآن، إنما سبق إلى الفهم الكلامُ العربي المعجزُ، والعَربي المعجِزُ مُحدَثٌ، وهو مروي عن مالك رحمه الله كما قاله أبو حنيفة رضي الله عنه. والأول المشهور عن مالك، حَمْلاً للقرآن على القديم.
قال صاحب الخصال ابن زرب الاندلسي: ويُلحق بالقرآن عند مالك إذا حلف بالمصحف أو بما أنزل الله أو بالتوراة أو بالانجيل.
وذكر شهاب الدين ها هنا شيئاً فقال:
إن قائلا إذا قال: والعِلْمِ والقدرةِ، يشمل هذا الحلفُ القديمَ والحادِث، لأن الالف واللام للعُموم، قال: وكذلك إذا قال: وعِلمِ الله وقدرة الله، لِأن العموم يكون معَ الاضافة كما يكون مع الألف واللام، فقال: فيصلح أن يقال: إذا اجتمع ما يوجب الكفارة وما لا يوجبها ألغي ما لا يوجبُ، وترتبتْ على ما يوجبها، لكنه يبقى لنا حينئذٍ أنَّ ذلك الحلفَ هو ممنوع من وجه من حيث وقع بالحادث، جائزٌ من حيث وقعَ بالقديم. قال: فيمكن أن يقال: قرينَة القسَم أخرجت الحادث، وبقي اللفظ منطبِقا على القديم فقط.
وقال - هنا -: إن النكرات، منها ما لا يصدق إلا على واحد منهم، ومنها ما يصدق على كثير، فالألف واللام لا يعُم، وكذلك الإضافة، وهذا نحو العبد وعبدي، وما يصدق على الكثير نحو مال، الألف واللام في هذا للعموم، وكذلك الإضافة، قال: فيحمل قول الأصوليين: الألف واللام، والإضافة في اسم
= وقد علق ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي بقوله: ما قاله من أن خلاف مالكٍ وأبي حنيفة إنما هو في تحقيق مَنَاط، وهو: هَلْ في لفظ القرآن عرْفٌ أن الراد به الصفة القديمة أمْ لَا؟ ، ليس الامر عندي كما زعم بل العرف في الاستعمال أن المراد به الحادث، وذلك مستند أبي حنيفة، ولكن قرينة القسم صرفت اللفظ إلى أن المراد به الأمر القديم، وذلك مستند لمالك، والله تعالى أعلم.
فخلافهما في تحقيق مناط، لكن من غير الوجه الذي ذكر. ومما يدل على ذلك تسوية مالك بين لفظ القرآن والصحف والتنزيل والتوراة والانجيل، مع أن العرف فيها أن المراد بها المحدث.
وإنما نقلت كلام القرافي وابن الشاط في هذه المسألة لأنها مسألة هامة ودقيقة بحثها علماء الأصول والكلام، ولأن هذا النقل يلقى ضوءا عليها، ويستبين بها المرء وجهة نظر كل من الامامين فيها: الامام أبي حنيفة والامام مالك، ومن أخذ برأي كل واحد منهما من سلف من العلماء وخلفهم، رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين.
الجنس للعموم - على اسم الجنس الذي يفيد الكثرة كمال، لا على عبد وما أشبهه (27).
القسم الثاني، الصفة الذاتية (28)، ككونه تعالى واجب الوجود. وهذه الصفات لما لم تكن معنى زائداً على الذات كالعلم والقدرة (29)، بل هي أحكام
(27) عبارة القرافي هنا أكثر وضوحًا وبيانًا حيث قال:
إن النكرات قسمان: منها ما يصدق على القليل والكثير، من ذلك الجنس كقولنا:
ماءٌ ومال وذهب وفضة، فيقال للكثير والقليل من جميع ذلك، ومن النكرات ما لا يصدق إلا على الواحد من ذلك الجنس ولا يصدق على الكثير منه كقولنا: رجل، وعبد، ودرهم ودينار، فلا يقال للرجال الكثير رجل، ولا للعبيد عبد، ولا للفضة والدراهم الكثيرة فضة، ولا للذهب الكثير أو الدنانير الكثيرة دينار، فأمكن القول بأنا، وإن قلنا إن الاضافة تقتضي التعميم، فذلك في أسماء الأجناس التي تصدق على الكثير لا على غيرها، ولذلك يفهم العموم من قول القائل: مالي صدقة، ولا يفهم من قوله: عبدي حر ولا من امرأتي طالق، بل لا يفهم مع الاضافة إلّا فرد واحد من ذلك الجنس، وهو عبد واحد وامرأة واحدة، فيحمل قول الاصوليين:"إن اسم الجنس إذا أضيف عمَّ"، على اسم الجنس إذا كان يصدق على الكثير، بدليل موارد الاستعمال، وهو متجه غاية الاتجاه، غير أني لم أره منقولا، وقد نبهت عليه في شرح المحصول. وقال في آخر هذا القسم والمبحث. وهذه كلها مباحث حسنة يمكن الجنوح إليها في مجال النظر وتحقيق الفقه.
(28)
كذا في نسختي ع، وح، وفي نسخة اخرى من تونس: الصفات بالجمع كما هي عند القرافي في هذا القسم من هذا الفرق.
(29)
عبارة القرافي أظهر وأتم، إذ قال: من الصفات، الصفات الذاتية، وهي كونه تعالى أزليا أبديًا واجب الوجود، فهذه الصفات ليست معانيها موجودة قائمة بالذات، ولا هي سلب نقيصة كقولنا: ليس بجسم، بل صفات ذات واجب الوجود، بمعنى أنها أحكام لتلك الذات، كما تقول في السواد: إنه جامع للبصر، وفي البياض انه مفرق للبصر، وتصفه بذلك لا بمعنى أن ذلك الجمع والتفريق صفة قائمة بالسواد، بل بمعنى أنها أحكام ثابتة لتلك الحقائق. فكذلك هاهنا، من صفات الله تعالى ما تقدم ذكره على هذا التفسير. ولما لم تكن صفة معنوية زائدة على الذات، سماها العلماء صفات ذاتية، فهذا هو تحقيقها.
وقد علق الفقيه ابن الشاط على ما جاء هنا عند القرافي وعقب عليه بقوْله: ليس ما قاله في ذلك بصحيح، فإن الأزلية إنما معناها أن وجوده لم يسبقه عدم، والأبدية أنه لا يلحقه عدم، ووجود الوجود نفي تبدله، فهذه الصفات بجملتها سلبية لا ثبوتية، هذا على إنكار الأحوال، وأما على إثباتها فذلك متجه على أنها أحوال نفسية لا معنوية.
وقد رأيت أن أنقل هذا الكلام للقرافي وابن الشاط رحمهما الله، لما لبحث الصفات الإلهية من أهمية ودقة، ولما يتصل بها من الاعتقاد كما هو مقرر في علم التوحيد والكلام، وعلم أصول الفقه، ولا هو معروف من اختلاف وجهات النظر فيه بين الأشاعرة والماتريدية من جهة، وبين المعتزلة من جهة أخرى، والتوسع فيه يرجع إلى كتب الأصول والتوحيد.
لِلذَّات، كما يقال في السواد: إنه جامع للبصر، وفي البياض: إنه مفرق للبصر، فهذا الوصف ليس لأن تفريق البصر قائم في البياض، وجمعه قائم في السواد، بل بمعنى أنها أحكام ثابتة لتلك الحقائق، كذلك هذه الصفة الذاتية.
ثم إذا ظهر معناها فحكمها في الشريعة إذا حلف بها، الظاهر من قول مالك أن الكفارة تترتب عليها، لقوله في عَمْر الله (يميني) أنها يمين. تُكَفَّر، مع أن العمر هو البقاء، والبقاء يرجع إلى مقارنة الوجود والأزمنة، والمقارنة نسبة لا وجود لها في الاعيان، فلعل مالِكاً يقول في هذه كذلك إذا حلف بها أحد، ولم يصرح مالك في هذه الصفات بشيء (30).
قال شهاب الدين: ولكنه قد يقال هذا بطريق التخريج، ثم قال:
يقع الفرق من حيث الأزلية والأبدية، أن الأزلية اقتران الوجود بجميع الأزمنة المتوهمة إلى غير نهاية من حيث ما تقدم، والأبدية اقتران الوجود بجميع الأزمنة المستقبلة، فالأزل والأبد متباينان لا يجتمعان، فكان الأبد فيه معنى التجدد، فلا ينعقد اليمين بها، والأزلُ إن جوزتم اليمين به، بمعنى القدم، يلزم عليه أن من حلف بقدم العالم من حيث قدمه يلزمه الكفارة، وذلك باطل.
(30) عبارة القرافي هنا أتم وأبين وهي: وأما حكمها إذا حلف بها (أي بالصفات الذاتية) فالظاهر من قول مالك أنه قال في (عمر الله يميني) يكفِّر (أي تَلزَمه الكفارة عند الحنث) مع أن العمر هو البقاء، والبقاء يرجع إلى مقارنة الوجود في الأزمنة، والمقارنة نسبة لا وجود لها في الأعيان، فقد اعتبر النسبة وجعل حكمها حكم الصفة الوجودية، فلعله يقول في هذه الصفة كذلك، ويوجب بها الكفارة إذا قال الحالف: وأزليةِ الله تعالى ووجوب وجوده وأبديته، ولم أر فيه نقلا غير ما ذكرته لك من التخريج.
وعلق ابن الشاط وعقب على هذا الكلام، عند القرافي بقوله: ما قاله القرافي في ذلك صحيح، غير ما قاله في البقاء إنه يرجع إلى مقارنة الوجود في الازمنة، فإنه ليس كذلك، فإنه تعالى متصف بالبقاء، سواء وجد زمان او لم يوجد، فإن الزمان من جملة الحوادث.
وبهذا تتضح عبارة القرافي المختصرة عند البقوري في هذه المسألة.
قلت: التخريج على أقوال الفقهاء رده أبو الطاهر بن بشير، وقال: العلماء في جوازه والقول به من حيث كلام المعصوم، بينهم فيه خلاف، فكيف يسوغ أن يقال به في كلام غير المعصوم.
القسم الثالث، الصفات السلبية كقولنا: ليس بجسم ولا جوهر وما أشبه هذا، فقال شهاب الدين رحمه الله: هذه السُّلوبُ منها قديم ومحدث. فالقديم نحو ليس له شريك ولا هو بجوهر، والحادث نحو عفوه بعد تحقق الجناية، وكذلك حِلمه تعالى تأخير العقوبة بعد تحققها، والجناية حادثة، فما يترتب عليها حادث. فأما القديم من هذا القسم، فهو أقرب لانعقاد اليمين بها، لأنها قديمة متعلقة بالله، لا سيما إذا كانت الاضافة في اللفظ إلى الله، بخلاف أن يقول: وسَلْب الشريك، فإنها بعيدة من انعقاد اليمين، والحادثةُ تَبْعُدُ عن انعقاد اليمين بها أكثر، قال شهاب الدين: ولم أجِدْ في هذه المواطن نقلا (31)
القسم الرابع من صفات الله تعالى، الصفات الفعلية، كقوله: وخَلْقِ الله، ورزقِ الله، وعطاءِ الله، ونحو ذلك (32)، فالحلف بهذه الصفات منهي عنه، ولا يوجب كفارة إذا حنث (33). وهنا مسائل:
(31) علق الشيخ ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذا القسم والمبحث بقوله: ما قاله صحيح، غير ما قاله في الحِلْم: إنه تأخير العقوبة، فإن هذا عندى فيه نظر، والأقرب أن الحلم ترك المحاسبة والمعاقبة، والعفو ترك العاقبة، والله أعلم.
أقول: وهذا الفهم عند ابن الشاط هو الانسب والأولى، خصوصا في جانب الله تعالى، إذ هو المتكرم والمتفضل على من يشاء من عباده بالعفو والمغفرة والرحمة الواسعة، وأخلاق المؤمن مِنْ أخلاقِ الله، ومن أخلاق نبيه ورسوله الذي هو القدوة الحسنة لامته المسلمةِ.
ثم ذكر القرافي هنا فائدة وقال:
السلب في حق الله تعالى سلبان: سلب نقيصة، نحو سلب الجهة والجِسْمِيةِ وغيرهما، وسلب المشارك في الكمال، وهو سلب الشريك، وهو الوحدانية (أي إثباتها لله واعتقادها في جانبه سبحانه) فاعلم الفرق بينهما.
(32)
زاد القرافي هنا قوله: وإحسان الله ونحو ذلك مما يصدر عن قدرة الله تعالى.
(33)
عقب ابن الشاط على هذه الفقرة بقوله: ما قاله القرافي في ذلك صحيح.
المسألة الأولى، قال ابن يونس: قال أصحابنا: معاذَ الله ليست يمينا، إلا أن يُرِيد اليمين. وقيل: معاذ الله، وحاشى الله، ليستا يمينين مطلقا. لأن المعاذ من العوذ، وحاشا الله، التنزيه إليه، فهما فعلان محدثان.
وقال شهاب الدين: ثم إذا أراد الحِلفَ بمعاذ الله، فإما أن ينصِبَ أو يرفع أو يخفض، فإنْ نصَبَ كان التقدير أُلزِم نفسي معاذ الله، وإن رفع فتقديره: معاذ الله قسمي، وإن خفض فعلى حذف حرف القسم. قال: والقسم بهذا إما بالنية أو بالعرف، وإلا ما يكون قسما، فإن الخبر لا يكون إنشاء إلا بنقلٍ.
قلت: وذكره هنا أن معاذ من العوذ، لا أدري هل يريد معاذ المعجم أو غيره، فإن كان أراد المُعْجَمَ فباطل أنه من العود الذي هو الرجوع، والأقرب للفصل أنه أراد المعجم (34).
وقال سيبويه في معاذ المعجم، كأنه حيث قال: معاذ الله، قال عياذا بالله، وعياذا تنصب على أعوذ بالله عياذا، ولكنهم لم يظهروا الفعل هنا. وإذا كان هكذا فالرفع في معاذ الله المذكور لا يصح لأنه مما التزمت العرب فيه النصب. وأما الخفض فلا يجوز بحال، كان المعجم أو غيره، لأن حذف حرف الجر الذي هو حرف القسم، وخفض المقسم به إنما يكون في الاسم الكريم اسم الجلالة فقط.
قال شهاب الدين: وأما حاشا الله، فمعناه، براءة الله، أي براءة منه لله تعالى. ويحتمل هذا أن يكون كناية عنه، وأن يراد به الكلام القديم، ويصح إضافته باللام لله تعالى، فإن الله تعالى ينزه نفسه بكلامه النفساني، فإن وجدت نية لذلك أو عرف يقوم مقامها وجبت الكفارة، وإن لم يوجد ذلك لم تجب الكفارة،
(34) وهو الأنسَبُ كما يستفاد من الآية الكريمة في سورة يوسف حيث جاء فيها ما حكاه الله على لسان هذا النبي الرسول: "قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواى".
أما عند القرافي وتعليق ابن الشاط، فقد وردت بالذال المهملة، وهي بمعنى العوذ والحصن بالله من الوقوع في الشر والسوء، وقد علق ابن الشاط على ما جاء في هذه المسألة بقوله: ما قاله فيه نظر.
فحاشا الله يحتمل وجهين، كما أن معاذ الله يحتمل أن يراد بها إعاذة الله وصفاتُه العلا، فإن معاده من العود، وإليه يرجع الأمر كله، غير أن ابن يونس لم ينقل إيجاب الكفارة مع النية إلا في معاذ الله خاصة (35).
المسألة الثانية، هاهنا ألفاظ اختلف في مدلولها، هل هو قديم يجوز الحلف به ويلزم بِهِ الكفارة، أو هو محدث فلا يجوز الحلف به ولا يلزم به الكفارة؟ . وهذه الألفاظ هي غضب الله ورحمته، ورضاه ومحبته، ومقته وبغضه ورأفته، ونحو ذلك من الألفاظ التي يمتنع حملها على الله. ويتعيَّنُ أن المراد بها المجاز. واختلف في المجاز المرِاد بها (36)، فقال أبو الحسن الأشعري: الراد بهذه الأمور إرادة الإحسان لمن وُصِف بذلك من الخلق، من صفة الرحمة ونحوها، أو إرادة العقاب لمن وُصف بذلك من الخلق في لفظ الغضب ونحوه. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: المراد بذلك أن الله تعالى يعاملهم معاملة الراحم والغاضب، فيكون المراد الاحسان نفسه أو العقاب نفسه. فأبو الحسن يرد ذلك إلى معنى قديم، والقاضي إلى معنىً حادث. وياتي في القرآن مواضع يتعين فيها مذهب الشيخ أبي الحسن، ومواضع يتعين فيها مذهب القاضي، ومواضع تحتمل المذهبين (37).
فقوله تعالى: "ربنا وسعت كل شيء رحمةٌ وعلما"(38). ظاهر فيه مذهب
(35) والإعادة والمعاد ذكرت كذلك هنا بالدال المهملة مما يدل على أنها بهذا المعنى مقصودة أيضا، فهي من العود بمعنى الرجوع، كما تشهد له الآية التي ذكَرها، ومنه قوله تعالى:"إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد".
(36)
علق الشيخ ابن الشاط على كلام القرافي هذا كما نقله اليقوري، فقال: ما قاله القرافي من امتناع حقائقها على الله إنما ذلك بناء على تفسيرها بما يمتنع عليه، كتفسيرهم الرحمة بالرقة، والمحبة بالميل، وفي في لك نظر، للكلام فيه مجال، لكن على تسليم امتناع تلك الحقائق لا بد من الصرف إلى المجاز كما قال العلماء، والله أعلم. ذلك أن القرافي قال:"هذه الالفاظ لا تتصور حقائقها الا في البشر والامزجَة والمخلوقات. ولمّا استحالَتْ حقائقها على الله تعالى تعيَّنَ حملُهَا على المجاز، فاختلف العلماء في المجاز المراد بها."
(37)
قال الشيخ ابن الشاط: ما قاله القرافي وحكاه صحيح.
(38)
سورة غافر: الآية 7
أبي الحسن، وقوله تعالى:"هذا رحمة من ربي"(39)، إشارة إلى مذهب القاضى. والمحتمل كقوله تعالى:"الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم" يحتمل إرادة الاحسان والاحسان نفسه (40).
قال شهاب الدين: ومذهب الشيخ أقرب من مذهب القاضي، لأن علاقة المجاز عنده أقرب. فعلى مذهب الشيخ يجوز الحلف بها، وعلى مذهب القاضي لا يجوز الحلف بها، ولا كفارة.
المسألة الثالثة: قال ابن يونس: الحالف بِرضي الله تعالى ورحمته وسخطه، عليه كفارة واحدة، يعني لأنه كرر الحلف بصفة واحدة، وهي الإرادة. وهذا الحكم مبني على مذهب الشيخ أبي الحسن (41)، قال: بخلاف عِلْمِ الله وقدرته وإرادته، فإنه يختلف فيه، هل تتعدد الكفارة أم لا؟ بناء على أن قاعدة الايمان التأكيد حتى يريدَ الانشاءَ، بخلاف تكرير الطلاق (42). أو قاعدة الجميع الانشاء حتي يريد التاكيد. (43) ثم لزوم الكفارة على ما قال ابن يونس، إنما يَرِدُ إذا
(39) سورة الكهف، الآية 98
(40)
زاد القرافي هنا قوله: ورضاه تعالى إرادة الاحسان إلى العباد، أو يعاملهم معاملة الراضي فيحسن اليهم، أي يفعل بهم كذلك، ومحبته ارادة الاحسان في قوله تعالى:"يحبهم ويحبونه". او الإحسان نفسه، وكذلك بقية الالفاظ تتخرج على هذين المذهبين. وقد ورد الرضى بمعنى ثالث يرجع إلى الكلام القديم، كقوله تعالى:"ولا يرضَى لعبادِه الكفر"، اي لا يشرعه دِينا للعباد، وشرعه تعالى كلامه القديم.
قال ابن الشاط معقبا على كلام القرافي هذا: وهي التي يلحقها النسخ إلى بدل، وإلى غير بدل، وكلام الله تعالى الذي هو صفة ذاته لا يصح نسخه لا لِبدل ولا لغير بدل، فالاظهر أن قوله تعالى:"ولا يرضى لعباده الكفر"، ليس راجعا إلى الكلام القديم، والله أعلم.
(41)
أي في حمل هذه الأمور على الإرادة كما قال القرافي.
(42)
أي الأصل فيه الإنشاء حتى يريد التأكيد.
(43)
قال القرافي: وهذا هو الأظْهَرُ، والْأولُ هو المشهور في المذهب.
قال ابن الشاط هنا: ما قاله القرافي في أول المسألة الثالثة إلى قوله: والْأولُ هو المشهور في المذهب ظاهر.
نوى اليمين بالقديم، فإن الزام الكفارة بمجرد هذه الألفاظ من غير نية خلاف القواعد (44).
المسألة الرابعة: السائل عن مثل هذه الصفات بأنها أزلية أو حادثة، جوابه بأنها أزلية على مذهب أبي الحسن، لأن المراد بها الإرادة، وبأنها حادثة على مذهب القاضي (45).
(44) قال القرافي هنا رحمه الله: واعلم أن الفتيا بإلزام الكفارة في هذه الالفاظ على ما نقله ابن يونس، إنْ لم يقيد بأنه نوى إرادة الله تعالى، فهو مشكلٍ، فإن اللفظ حقيقة في أمور محدثة لا توجب كفارة، وإنما حملت على هذه الألفاظ القديمة مجازًا، ولم تشتهر في الارادة حتى صارت حقيقة عرفية في الارادة، بل مجاز خفي دل عند الشيخ أبي الحسن على أنه المراد باللفظ. والقاعدة أن الالفاظ لا تنصرف لمجازاتها الخفية إلا بالنية، وأن اللفظ لا يزال منصرفا إلى الحقيقة اللغوية دون مجازه المرجوحِ حتى تصرفه نية المجاز المرجوح، فإلزام الكفارة بهذه الالفاظ مِن غيرنيةٍ، خلافُ القواعد، بل ينبغى أن يقال: إن أراد بهذه الالفاظ صفة قديمة لزمته الكفارة والا فلا.
وقد علق الشيخ ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي بِقوله: لا إشكال في ذلك، فإن اللفظ، وإنْ سُلِّمَ أنه حقيقة في أمور محدثة، مجاز غير غالب في الصفة القديمة، فقرينة الحلف به كافية في حمله على المجاز، والله تعالى أعلم. اهـ.
فليتأمل كلام هذين العالمين الجليلين في هذا الموضوع الهام الدقيق، فإنه مفيد في بابه وموضوعه، ومساعد على فهم الإشكاليات الفقهية التي تتعلق به في مجال الحلف بهذه الكلمات.
(45)
هذه المسألة جمع فيها القرافي رحمه الله بين البسط والوضوح والايجاز، فرأيت أن أنقلها وآتي بها من كلامه لتكون كشرح لما أوجزه واختصره الشيخ البقوري رحمه الله.
قال القرافي في هذه المسألة: إذا قيل لك: رحمة الله وغضبه قائمان بذاته أم لا؟ وهل هما واجبا الوجود ام لا؟ وهل كانا في الأزل أم لا؟ ونحو ذلك من الاسئلة، فخَرِّجْ جوابك في جميع هذه الاسئلة في جميع هذه الالفاظ على مذهب الشيخ أبي الحس وعلى مذهب القاضي، فعلى مذهب الشيخ تقول: قائمان بذاته، واجبا الوجود، ازليان، صفتان لله تعالى. وعلى مذهب القاضي تقول: ليسا قائمين بذاته، بل ممكنان مخلوقان حادثان، ليسا بأزليين، وكذلك جميع ما يرد عليك من اسئلة في جميع هذه الالفاظ.
أقول: والنفس إلى مذهب الشيخ ابي الحسن رحمه الله أُميل وأريح، والله أعلم، ورحم القاضي الباقلاني ورحم كافة المسلمين.
وقد علق ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي بقوله:
ليس مَا قاله إذا وقع التخريج على مذهب الشيخ ابي الحسن بمستقيم، لقوله تقول: قائمان بِذاته، واجبا الوجود، أزليان، لأن الرحمة على مذهب الشيخ أبي الحسن إرادة الثواب، والغضب إرادة العقاب، والإرادة واحدة لا تتعدد بتعدد متعلقها كإرادتنا، والله أعلم. اهـ.
المسألة الخامسة: مقتضى ما قاله رحمه الله في قوله: عليَّ ميثاقُ الله وكفالتُه من حيث لزوم الكفارة، إما من حيث العرف الناقل عن وضعها إلى ما يوجب الكفارة، وإما من حيث النية، يجري هنا، كأن يقول: عليَّ رزق الله (46)، إذا تقرر أن جميع ما تقدم من الالفاظ السبعة أنه إنما تجب بها الكفارة للحمل على معنى عرفي وجد فيها، نقَلَها عن أصلِ وضْعها، أو بِسبب النية. وإن لم يكن أحد هذين الامرين فلا كفارة، وذلك معتبر هنا، كما كان معتبرا هنالك (47).
(46) علق ابن الشاط على كلام القرافي في هذه الفقرة بقوله: ليس ما قاله القرافي عندي بصواب، لأنه إذا قال:"علي ميثاق الله"، فمقتضاه: عليَّ يمين، فتلزمه كفارة يمين، وإذا قال:"علي رزق الله"، فلا شيء عليه إلا أن ينوي بذلك الكفارة.
والفرق بينهما أن الميثاق ونحوه جرى العرف بأن المراد به اليمين، ورزق الله ونحوه لم يَجْرِ عرف بذلك، وليس قول القائل:"علي رزق الله" كقوله: عليَّ صوم يومٍ، لأن رزق الله ليس اسما لطاعته فيلزم نذرها، وصوم يوم اسم (أي لطاعته).
أقول: وهو تعقيب يبدو صحيحا، وتوجيه يبدو معقولا وسلِيمًا، استنادا إلى أثر العرف في تخصيص بعض الكلمات ومدلولاتها.
كما علق ابن الشاط على ما جاء هنا عند القرافي من لزوم الكفارة في رزق الله وخلقه، مثل قول القائل:(علي ميثاق الله)، فقال: صدر القرافي كلامه بالعرف في نذر الكفارة، ثم خرج إلى العرف في نذر شيء من رزق الله. وهذا الذي خرج إليه اجنبي عن مسألة مالك رحمه الله، فإنه أوجب الكفارة في قول القائل:"علي ميثاق الله" ونحوه. وما قاله من أنه (أي الامر أو الْحُكْمَ) يدور مع العرف كيفما دار، صحيح إذا ثبت عرف" اهـ.
أقول: وهذا أشبه بقول العلماء الفقهاء: الحكم يدورُ مع العلة وجودا وعدَماً.
(47)
عبارة القرافي في هذه المسلة أوضح وأبين، فإنه قال فيها: مقتضى ما قاله مالك رحمه الله في قول القائل: "علي ميثاق الله وكفالته" أنه يوجب الكفارة، أنه إذا قال هنا: علي رزق الله أو خَلْقُهُ أن تجب عليه الكفارة، فإن المدرَك هنالك، إن كان هو أن العرف نقلها لنذر الكفارة في زمانه رضي الله عنه، فصار النطق بهذه العبارة نذرا للكفارة، فتلزمه بالنذْرِ لا بالحلف، لأنه مقتضى لفظ عليِّ، فإنها لا تستعمل إلا في النذر ونحوه، وليست من حروف القسم إجماعا، بل من حروف اللزوم والنذر، كقوله: لِله علي صوم يوم، وصدقةُ دينار، ونحو ذلك، فكذلك يلزمه هنا إذا وجد عرف في رزق الله وخلقه، وأنه صار قوله: على رزق الله أنه نذر أن يتصدق بشيء من رزق الله تعالى، أو ببعض خلقه من نبات أو جماد او حيوان مما يسوغ التصدق به كالبقرة والغنم ونحوهما، وأن يسوي بين المسألتين إن وجد العرف الموجب لنقلهما للنذر لزم، وإن لم يوجد العرف الناقل للنذر لم يلزم".
القسم الخامس: من صفات الله تعالى الجامعة (47 م) لجميع ما تقدم من الأقسام الأربعة، وهي عزة الله، وجلاله، وعظمته، وكبرياؤه، ونحو ذلك.
وذلك لأنك إذا قلت: جل تعالى، فلك أن تقول: جَلَّ بكذا، فيدخل فيه حميع الصفات الثبوتية. وإذا قلت: جل عن كذا، دخل فيه جميع الصفات السلبية، ثم يشمل الصفات القديمة والحادثة من الثبوتية والسلبية (48)، وكان الحلف
= وقد عقب ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي بقوله: ما تأوله القرافي من أن قول القائل: على ميثاق الله، جرى فيه عرف بنذر الكفارة، مجرد توهم، لا حجة عليه، وليس عندي كما توهم، بل قول القائل: علي ميثاق الله، جرى فيه العرف بأن المراد بها اليمين التي شرعها الله تعالى وجعلها ميثاقا بين عباده، فلزوم الكفارة ليس بنذر الكفارة، بل بالتزام اليمين. اهـ.
(47 م) كذا في النسخ الثلاث جاءت كلمة الجامعة دون ذكر للموصوف بها. وعند القرافي ذكر لِهذَا الموصوف فقال: من صفات الله تعالى، الصفات الجامعة.
(48)
وبيان ذلك يقول القرافي: فكما جل الله تعالى بعلمه وصفاته السبعة التي هي صفة ذاته تعالى جل أيضًا ببدائع مصنوعاته وغرائب مخلوتاته، ويندرج في الثاني (وهو السلبية) جميعُ السلوب للنقائص، فيصدق أن الله تعالى جل عن الشريك وعن الحيز والجهة وغير ذلك مما يستحيل عليه سبحانه وتعالى.
أقول: وقد علَّق الشيخ ابن الشاط على هذا الكلام عند الإِمام القرافي هنا، وأتى فيه بتعبير عنيف ونقدٍ شديد في عبارة موجزة، ما كان ينبغي ولا يليق الإِتيان بها تجاه عالم فقيه، فكيف بعالم جليل وفقيه متضلع وأصولي متمكن، طبقت شهرته الآفاق مشرقاً ومغرباً، وشهدت بذلك مؤلفاته العلمية، وفي مقدمتها كتابه الفروق في القواعد الفقهية، هذا الكتاب القيم الهام الفريد في موضوعه وبابه، والذي اختصره ورتبه تلميذه الشيخ البقوري، ونقوم بتحقيقه وتصحيحه لإخراجه إلى الوجود، خدمة للعلوم الاسلامية، وإحياء لتراث علمائنا الاجلاء، رحم الله الجميع، وقابلهم بفضله وكرمه الواسع.
فقد فهم الفقيه ابن الشاط سامحه الله - فهما خاصا يمكن أن يكون محل تأمل ونظر وتعقيب، حين فهم من قول القرافي:"فكما أن الله تعالى جل بعلمه وصفاته السبعة التي هي صفة ذاته تعالى جل أيضا ببدائع مصنوعاته وغرائب مخلوقاته"، فلم يستسغ الشيخ ابن الشاط هذه العبارة الاخيرة ولم يقبلها، وفهم منها أن ذلك يقتضِي افتقار الباري لبديع المصنوعات وغريب المخلوقات حتى يكون كاملا، وأنه المتبادِر إلى الذهن بكيفية لازمة وتلازمية، وهو باطل قطعا، بل هو الغني على الاطلاق"، وأرَى أن ذلك التلازم الذي فهمه الفقيه ابن الشاط ليس بلازم اولا، وليس بوارد على كلام الامام القرافي ثانيا. فجلال الله ثابت ومتحقق في ذاته وصفاته القائمة بذاته، وذاته سبحانه لا تدركها الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، كذلك جلاله سبحانه يظهر ويتجلى لمخلوقاته العاقلة المكلفة بالتكاليف الشرعية فيما أوجده وخلقه من عجيب المخلوقات وبديع المصنوعات في هذا الكون الالهى العظيم، فليس القول بأن جلال الله يظهر في تلك
بها يوجب الكفارة لاشتمالها على ما يوجب وعلى ما لا يوجب (49).
وهاهنا ثلاث مسائل.
المسألة الأولى: إذا قال القائل: سبحان من تواضعَ كلُّ شيء لعظمته، هل يجوز هذا أم لا؟ فقال بعض فقهاء العصر: لا يجوز هذا الاطلاق، لأن عظمة الله تعالى صفته، والتواضع للصفة عبادة لها، وعبادة الصفة كفر، بل لا نعبد (50) إلا الله تعالى، وذلك الذات الموصوفة بصفات الجلال.
وقال قوم: يجوز هذا الاطلاق، وهو الصحيح، لِأن عظمته تشمل الذات وسائر الصفات (51).
قلت: إن أراد بـ (تشمل أو تجمع) كما قال في كتابه شهاب الدين، أن العظمة تدل على الذات والصفات فذلك باطل، فإن الله اسم دال على تلك المعاني بالوضع، والعظمة اسم دال على معنى واحد من تلك المعاني التي دل عليها الله، وإن أراد أن العظمة تصدق على كل عظمة، سواء كانت عظمة الذات أو عظمة الصفات فقول صحيح، ولم يكن الإِشكال الذي قاله القائل منفصلا من
= المخلوقات والمصنوعات يقتضي بالضرورة افتقار الباري إلى بديع مخلوقاته حتى يكون كاملا، فكماله سبحانه في ذاته وصفاته أزلِي مطلق، وهو الغني غنى مطلقا عن خلقه، فالمخلوقات هي المفتقرة إلى ربها المدبر لأمرها والمصرِف لشؤونها، والله هو الغني الحميد، والله أعلم، وهو الموفق سبحانه للسداد والصواب، وسامح الله وغفر للجميع بمنه وفضله.
(49)
أي لاشتمال تلك الصفة الجامعة على ما يوجب الكفارة، وعلى ما لا يوجبها عند الحلف بها.
(50)
كذا في نسخة ع: نعبد بالنون والبناء للفاعل، وفي نسخة ح، ونسخة ثالثة اخرى: يعبد بالياء والبناء للنائب عن الفاعل، وهو ما في الأصل عند القرافي.
(51)
قال ابن الشاط هنا: ما صحح (أي ما صححه القرافي في هذه المسألة) هو الصحيح لأن العظمة - كما سبق - عبارة جامعة لصفات الكمال، والتواضعُ. التصاغر والتضاؤل، ولا شك أن كل شيء ما عدا الذات الكريمة والصفاتِ الظيمة متصاغر متضائِل بالنسبة إلى تلك الصفات.
وقول ذلك الفقيه العصري: إن هذا التواضع عبادة، ليس بصحيح، وهو دعوى عَرِيَّةٌ عن الحجة فلا اعتبار بقوله:
حيث إنها عبادة لصفة من الصفات. وقد قال شهاب الدين: إن أطلق هذا اللفظ وأراد به صفة من الصفات فهو كفر (52). قال شهاب الدين: وإن أراد
(52) نص عبارة القرافي هنا يزيد كلام البقوري بيانا ووضوحا، فقد قال في أول هذه الفقرة:(وعظمة الله تعالى هي المجموع من الذات والصفات، وهذا المجموع هو المعبود وهو الاله، وهو الذي يجب توحيده وتوحده، ولا ثاني له، وهو الذي يجب التواضع له كما تقول (ولله المثل الاعلى): عظمة الملك. جيشه وأمواله وأقاليمه التي استولى عليها وسطوته وغير ذلك مما وقعت به العظمة في دولته. كذلك عظمة الله تعالى هي هذه الامور كلها مع ذاته تعالي، فهي ايضا من موجبات عظمته، فإن أراد هذا المطلِق (أي المتكلم بهذه الجملة) هذا المعنى أو لم تكن له نية فلا شيء عليه، وإن أراد صفة واحدة من صفات الله تعالى، وأنها حصل التواضع لها، وهو العبادة، امتنع وربما كان كفرا، وهو الظاهر".
وقد تعقب الشيخ ابن الشاط هذا الكلام عند القرافي، وعلق عليه فقرة فقرة فقال:
قوله بأن عظمة الله هي المجموع من الذات والصفات، ليس بصحيح، فإن العظمة ليست مجموع الذات والصفات، بل هي مجموع الصفات على ما سبق من تقريره هو ذلك قبل هذا. وعلى تسليم أن تكون العظمة مجموع الذات والصفات فليس المجموع هو المعبود، بل المعبود، الموصوف بتلك الصِفاتِ لا الصفات، ولا مجموع الموصوف والصفات، وكلامه هنا كلام من لم يحقق مباحث هذا العلم على وجه الصواب.
ثم علق على التمثيل بعظمة الملك في جيشه وأمواله وأقاليمه فقال:
لا يسوغ مثل هذا التمثيل، فإن الملك منتقر على الاطلاق، والله تعالى مستغن على الاطلاق، فكيف يصح التمثيل.
أقول: يقال عند ارادة مثل هذا التمثيل والتشبيه في الكلام: "ولله المثل الاعلى". ولذلك ادرجتها في كلام القرافي هنا، لتلك الغاية وما فيها من التأدب مع الله تعالى الذي ليس كمثله شيء، ودفعا لورود مثل هذا الاعتراض، فإن القرافي رحمه الله لا يغيب عنه ذلك، والله أعلم بالحق والصواب فيما تختلف فيه الأفهام. والمدارك والعقول، وتعبر عنه بالكلام والبيان.
وقال ابن الشاط معقبا على كلام القرافي، وقوله بأن عظمة الله تعالى هي هذه الامور كلها مع ذاته تعالى، فهي من موجبات عظمته: هذا كلام غث لا يصدر عن معرفة دقيقة بهذا العلم، وكيف يصح ان تكون الذات من موجبات العظمة، والعظمة مجموع الذات والصفات، فالذات على هذا موجبة للذات، وكيف يكون الشيء موجبا وموجيبا؟ هذا الخليط.
وعقب ابن الشاط على قول القرافي هنا: "فإن أراد المطْلِقُ (أي المتكلم بهذه الكلمة التي هي (سبحان من تواضع كل شيء لعظمته) هذا المعنى أو لم تكن له نية فلا شيء عليه. فقال: بل عليه شيء، وهو أنه مخطئ في ذلك، حيث اعتقد أن الذات من مقتضيات العظمة.
وقال ابن الشاط ايضا: قول القرافي: "وإن أراد المتكلم بلفظ العظمة صفة واحدة من صفات الله تعالى" إلى قوله: "وهو الظاهر" ما حكم به بأنه ظاهر، هو كما قال:
أقول: وهذا المبحث هنا يتصل بمبحث الصفات الالهية، هل هي عين الذات الالهية أو هي شيء زائد عليها، قائم بها، وهو من المباحث الدقيقة والشائكة المذكورة في كتب التوحيد، والمبسوطة في
بالتواضع غيرَ العبادة، وهو القهر والانقياد لإرادة الله تعالى وقضائه وقدرته فالمعنى صحيح، ولا يلزم منه شيء (53).
= مؤلفات عِلْمِ الكلام، وفيه خلاف معروف وعميق بين الاشاعرة والماتريدية من جهة، وبين المعتزلة من جهة اخرى، فالاشاعرة والماتريدية يقولون بالقول الثاني والمعتزلة يقولوت بالاول، فرارا من القول بالتعدد في فهمهم وحسب نظرهم في ذلك.
والذي يظهر ويحسن ان يقال في هذا المجال بالنسبة لكلام الامام القرافي هنا - وهو من هو تحقيقا وتدقيقا في العلوم والنقلية والعقلية كما تشهد بذلك مؤلفاته العلمية القيمة على اختلاف موضوعاتها، وكما شهد بذلك علماء عصره، ومن جاء بعدهم من أهل العلم وفضله، وكذا بالنسبة لتعقيبات الشيخ ابن الشاط عليه، وفي التوفيق بينهما، أنه خلاف في حال كما يقول الفقهاء. ذلك أن كلمة العظمة في جانب الله تعالى حين يقول المرء، سبحان من تواضع كل شيء لعظمته، ينبغي ان ناخذها ونفهمها على أنها تطلق وتصدق على الذات الالهية الموصوفة بجميع الصفات الالهية الازلية التي وصف الحق بها نفسه، كما أن تلك الصفات الالهية الازلية هي صفات ازلية قائمة بالذات العلية في الازل وفيما لا يزال بدون حدود ولا نهاية، فالله تعالى كان بذاته وصفاته في الازل ولا شيء معه، وهو سبحانه الباقي بذاته وصفاته على الدوام، وذلك ما يومن به ويعتقده كل مسلم ومسلمة من امة الاسلام، فـ "كل شيء هالك الا وجهه" و"كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام".
وبهذا المعنى والتوضيح، والفهم والتوجيه يفهم كلام كل من القرافي وابن الشاط على وجه صحيح سليم، ويزول عن الفهم والادراك لتلك المعاني، كل التباس وإشكال، وينتفي كل غموض وإبهام يستصعبه ولا يستسيغه المبتديء ويستشكله ولا يهضمه المنتهي في مثل هذه المباحث الدقيقة المتعلقة بموضوع الصفات الالهية، والتي ينبغي اخذها واعتقادها مسلمة في بَسَاطَةِ ووضوح، كما جاء بها القرآن الكريم، وورد بها الحديث الصحيح عن النبي المصطفى الامين، وتناولها علماء التوحيد في مؤلفاتهم الكثيرة، تارة بالوضوح والبساطة، وتارة بالاقناع والادلة النقلية الساطعة، والبراهين والحجج العقلية المقنعة. وهي طريق ايسر وأسلم، إذ هي طريق ومنهج السلف الصالح من الصحابة وتابعيهم بإحسان، ومن سلك مسلكهم ونَهَجَ نهجهم من العلماء الراسخين، الذين يقولون في مثل هذه المباحث الاعتقادية ونظائرها مما يتعلق بالمحكم والمتشابه من الآيات القرآنية:"آمنا به كل من عند ربنا. وما يذكر الا اولوا الالباب، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة، إنك انت الوهاب"، والكمال المطلق إنما هو لله وحده، وفوق كل ذي علم عليم، والله بعباده المومنين رؤوف رحيم.
(53)
زاد القرافي هنا قوله: "فإن جميع العالم مقهور بقدرة الله تعالى وقدره، فالتواضع بهذا التفسير سائغ لا محدور فيه، بل يجب اعتقاده.
وعقب عليه ابن الشاط بقوله: ما قاله في ذلك صحيح.
ثم زاد القرافي هنا قوله: فهذا تلخيص الْحق في هذه المسألة والفتيا فيها (أي مسألة قول القائل: سبحان من تواضع كل شيء لعظمته).
وعقب عليه ابن الشاط بقوله: تبين تلخيص الحق في المسألة على غير الوجه الذي قال، واللهُ أعلم.
المسألة الثانية: أن هذه الصفات، تارة تكون بلفظ التذكير، نحو جلال الله، وتارة تكون بالتأنيث نحو عزة الله وعظمته.
ثم عزة الله تُستعمل مذكرا ومؤنثًا، بخلاف عظمة الله ما ينطق بها إلا مؤنثا. والعربُ معلوم من لسانها أن تاء التأنيث إذا لحقت المصدر أفادته الوحدة كقوله: ضربته ضربا، ثم تقول: ضربة. فالمذكر كأنه يعم جميع أنواع العز، والمؤنث كأنه اسم لنوع من أنواع العِز، فإذا عم اجتمع المعنى القديم والحادث، وكان على حسب ما مضى، وإذا لم يعم يحتمل أن يراد به العز الذي لا نظير له في مخلوقاته، فهو معنى قديم، فيصح الحلف به، ويحتمل أن يراد به النوع الآخر من العز الذي يوجد في المخلوق فلا يصح الحلف به (54)
المسألة الثالثة: قال عبد الحق في تهذيب الطالب: الحالف بقوة الله وعظمته وجلال الله، عليه كفارة واحدة. ووجه ذلك أنه إنما حلف بمجموع الصفات المتعددة، والمجموع شيء واحد لَا أشياء كثيرة، فكانتْ الكفارة واحدة ولم يتعرض لِلُّزوم. ووجهه أنها اشتملت على الموجب وعلى غير الموجب، فتجب الكفارة للموجب.
قلت: هذا التوجيه يوجب ألا تكون الكفارة واحدة، وهو مخالف لقوله: المجموع واحد، فلذلك اتحدت الكفارة (55)، والله أعلم.
(54) علق ابن الشاط على ما جاء في هذه المسألة الثانية (وهي الثالثة عند القرافي) بقوله: الصحيح على ما سبق أن لفظ العزة ونحوها لا يتناول محدَثا (حادثا)، فلا يصح ما قاله في لفظ العزة من احتماله المحدث (بفتح الدَّال)، وما حكاه القرافي عن صاحب اللباب (في شرح الجلاب عن مالك رحمه الله في الحلف بعزة الله، هل توجب كفارة أم لا؟ فيه روايتان) وفي لزوم الكفارة للحالف بذلك روايتين ليس مدرك اختلاف قوله عندي ما ذكره الشهاب من احتمال المحدث، بل المدرك عندي احتمال لفظ العزة أن يكون مدلوله أمرا ثبوتيا وأمرا سلبيا، فإنه شبحانه عز بصفات كماله الثبوتية كما عز بصفات تنزيهه السلبية، والله أعلم.
(55)
قال ابن الشاط هنا: لا يندرج حادث تحت لفظ العزة ونحوه، فما أشعر به كلامُه بأن عبد الحق أغفل التنبيه عليه ليس الامر كذلك، فلا محذور في اليمين بعزة الله تعالى ونحو ذلك. فبِحق إن أعْرَضَ عن ذلك عبد الحق، والله أعلم.
القاعدة الثالثة: (56)
أقرر فيها ما يوجب الكفارة من أسماء الله تعالى إذا حلف بها الحالف وما لا يوجبها.
القسم الأول: ما وضع إسما لِلذات فقط، وهو الله تعالى، وهذا هو الصحيح.
القسم الثاني: ما وضع للذات مع مفهوم زائد وجودي قائم. بذاته سبحانه، نحو عليم وقدير.
القسم الثالث: ما وضع للذات مع مفهوم زائد وجودي خارج عن الذات كخالق ورازق.
القسم الرابع: ما وضع للذات مع مفهوم زائد عدمي، نحو قدوس (57).
(56) هي موضوع الفرق السابع والعشرين والمسألة بين قاعدة ما يوجب الكفارة إذا حلف به من أسماء الله تعالى وبين قاعدة ما لا يوجب. جـ 3 ص 56.
قال الإِمام القرافي رحمه الله في أول هذا الفرق الذي استغرق في كتابه حوالي أربع صفحات: إعلم أن أسماء الله تِسْعةٌ وتسعون أسما: مائةٌ إلا واحدًا. أخرجه الترمذي.
وهي إما المجرد الذات، كقولنا: الله، فإنه اسم للذات على الصحيح، وكذلك اختار صاحب الكشاف (الإِمام الزمخشري رحمه الله أنه اسم للذات من حيث هي هي، وهو عَلَمٌ عليها، واستدل على ذلك بجريان النعوت عليه، فتقول: الله الرحمان الرحيم، وقيل: هو اسم للذات مع جملة الصفات، فإذا قلنا: الله فقد ذكرنا جملة صفات الله تعالى وقلنا: الذات الموصوفة بالصفات الخاصة، وهذا المفهوم الاله المعِبود، وهو الذات الموصوفة بصفات الكمال ونعوت الجلال، وهو المعلوم، هو الذي نؤمن ونقر بتوحده وتنزيهه عن الشريك والمماثلة، أي هذا المجموع يستحيل أن يكون له مثل، (ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير).
أقول: وهذا القول الثاني على تضعيفه هو في نظري أولى وأنسب وأحَقُّ وأسْلمُ، وهو الذي تميل إليه النفس وترتاح به كما يميل اليه العقل وتطمئن اليه، ويرتضيه أكثر من الأول، والله أعلم. ثم ذكر القرافي بقية الاسماء لأسماء الله تعالى كما أوردها واختصرها الشيخ البقوري رحمه الله.
(57)
القدوس للذات الإلهية مِنْ القدس الذي هو التطهير، والبيت المقدِّس أي طهر من فيه من الأنبياء والأولياء عن المعاصي والمخالفات. فالله تعالى مقدس وقدوس متصف بجميع صفات الكمال، منزه عن جميع النقائص التي تلحق المخلوقات.
القسم الخامس: ما وضع للذات مع نسبة وإضافة كَالباقي (58).
ثم الأسماء أيضًا تنقسم بحسب ما يجوز إطلاقه إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: ما ورد السمع به ولا يوهم نقصا نحو العلم، فيجوز إطلاقه إحماعًا.
القسم الثاني: ما لم يرد السمع به وهو يوهم نقصا نحو علَّامة ومتواضع، فإن المتواضع يوهم ذِلة، وعلامة فيه نقص للتأنيث وما أشبه هذا.
القسم الثالث: ما ورد السمع به وهو يوهم نقصًا، فيقصر على محله نحو ماكِر وخادع.
قلت: هذه الأقسام الثلاثة قال فيها شهاب الدين رحمه الله:
لم أعلم في هذه الأقسام الثلاثة خلافا، وكان فيما ذكره في القسم الثالث أنه يقتصر به على محله، وأنه جاء للمقابلة كقوله:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (59).
ورأيت صاحب الشُّعَب الشيخ أبا محمد عبد الجليل القصري رحمه الله ذكر في الأسماء التي له مَاكِرًا وخادعًا، وظاهر كلامه فيها أنها تطلق لا ما قاله شهاب الدين. ورأيت للامام فخر الدين الرازي في التفسير الكبير له في قوله تعالى:"ومكروا ومكَرَ اللهُ، واللهُ خير الماكرين"(60) تفسيرا حسنا فَسَّرَ لنا به
(58) علق الشيخ ابن الشاط رحمه الله على ما جاء عند القرافي في هذا الفرق على طوله، فقال: جميع ما قاله في هذا الفرق لا بأس به، إلا ما قاله في المسألة الثانية من أنه إذا قال: باسم الله لأفعلن، يحتمل أن يكون إضافة مخلوق إلى الله تعالى على كلا التقديرين في اسم، من أن يكون المراد به الإسم الذي هو اللفظ، أو المسمى الذي هو المعنى، فلا يتعين لما يوجَب الكفارة إلَاّ بِعُرْفِ (ونية)، فإن في ذلك نظرًا، فإن لقائل أن يقول: فيه عرف بأن المراد ما يوجب الكفارة، والله أعلمُ.
(59)
سورة الأنفال. الآية: 30.
(60)
فالله سبحانه وتعالى لا ينادَى ولا يدْعيَ ولا يُذكَر الا بأسمائه الحسنى التي سمى بها نفسه، ولا يوصف الا بما وصف به نفسه، أو جاء في السنة النبوية الصحيحة.
كل ما جاء مشكلا من هذا النوع فقال: إن المكر في حق المخلوق هو من حيث الغاية والسبب. فمن حيث الغاية، الظَفَر بالممكور من حيث لا يشعر، ومن حيث السبب، العجز عن أخذه جهارا. قال: والمكر بالنسبة إلى الله تعالى هو من حيث الغاية لا من حيث السبب. وعلى هذا الذي قاله، فقد ارتفع النقص من مقتضى هذه الأسماء وورد بها النص، فهى جائزة، والله أعلم.
قال شهاب الدين:
القسم الرابع: ما لم يرد السمع به وهو غير موهم فلا يجوز إطلاقه عند الشيخ أبي الحسن الاشعري. وهو مذهب مالك وجمهور الفقهاء، ويجوز إطلاقه عند القاضي أبي بكر الباقلاني. نحو ياسيدنا، هل يجوز إطلاقه؟ قولان.
ومدرك الخلاف هل يلاحظ انتفاء المانع، وهو الإبهام ولم يوجد، فيجوز، أو نقول: الاسماء توقيفية، وهو الصحيح؟ فإن مخاطبة أدنى الملوك يفتقر إلى معرفة ما أذنوا فيه من أسامي، وأيضا فهى قاعدة الادُب، والأدب مع الله متعين، لا سيما في مخاطباته. ثم إن لفظ السيد ذكر زكي الدين عبد العظيم، المحَدِّث رحمه الله أنه ورد حديث في لفظ السيد، فيجوز اطلاقه على المذهبين، وقس على
هذه المثل.
قال الشيخ أبو الطاهر بن بشير: فكل ما جاز إطلاقه جاز الحلف به وأوجب الكفارة، وما لا يجوز إطلاقه لا يجوز الحلف به، ولا يوجب الحلف به كفارة. وهاهنا ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: قال أصحابنا: من حلَف باسم من أسماء الله تعالى التي يجوز اطلاقها عليه تعالى وحنِث، لزمته الكفارة. وقال الشافعي والحنابلة: أسماء الله تعالى قسمان: منها ما هو مختص به تعالى، وهو صريح في الحلف كقولنا: والله، والرحمانِ، فهذا ينعقد به اليمين بغير نية. ومنها ما لا يختصُّ به تعالى كالحكيم
والعزيز والرشيد والقادر والمريد والعالم، فهي كنايات لا تكون يَمِينًا إلا بالنية، لأجل التردد بين الموجب وغير الموجب (61).
ولنا عليه جواب وهو أن القاعدة أن الألفاظ المفردة قد تبقى على معناها اللغوي، وينقُلُ أهل العرف المركَّب من المفردين لبعض أنواع ذلك الجنس كما قلنا في لفظ الرؤوس، تصدق على رؤوس جيع الحيوانات، ولفظ الأكل يصدق على كل فرد من أفراد الأكل في أي مأكول كان. وإذا ركبنا هاتين اللفظتين فقلنا: والله لا أكلت رؤوسا، وأكلت رؤوسا، لا يفهم أحد إلَاّ رؤوس الأنعام دون غيرها، بسبَبِ أن العرف نقلَ هذا التركيب لرؤوس خاصة دون بقية الرؤوس، فذلك لفظ العليم والقدير والمريد يصدق على كل عالم وقادر ومريد، ومع ذلك فقد نقل أهل العرفِ قولنا: وحق العليم وغير ذلك من الأسماء إلى خصوص أسماء الله تعالى، فهو من المركبات المنقولة لا يفهم أحد منها غير ذلك.
قال شهاب الدين: وهذا الجواب حسن من حيث الجملة، غير أنه لا يطرد في جيع الأسماء، وإنما يستقيم في الأسماء التي جرت العادة بالحلف بها، وما لم تجر العادة بالحلف به كالحكيم والرشيد فلا يتصور ذلك بحسبها. ولعل كثيرًا من الأسماء لا يعلم كثير من الناس أنها من أسماء الله تعالى (62).
فإن قيل: الحيف بها يبين أنها من أسماء الله لأن عادة الناس ذلك، قلنا: وقدْ يحلفون بغير أسماء الله كحلفهم بنعمة السلطان وآبائهم، وحياة زيد وما أشبه
(61) زاد القرافي هنا على ما اختصره اليقوري قوله: وهذا التردد أجمعنا عليه في الطلاق وغيره، وأن التردد لا ينصرف لِلطلاق ولا لمعنى يقع التردد فيه إلا بالنية، فكذلك هاهنا.
ووجْهُ التردد في هذه الاسماء المذكورة بين إرادة الله تعالى بها وبين المخلوق واضح، وأن البشر يسمى بهذه الاسماء حقيقة، وأن هذا اللفظ يطلق على الموضعين بالتواطؤ، ولا يتعين اللفظ المتواطئ إلا بالنية، وكفى بهذا في بيان التردد والاحتياجِ للنية، وهذا كلام حسن قوي معتبر في كثير من أبواب الفقه كالظهار والعتق وغيرهما.
(62)
قال القرافي هنا: "فلم يشتهر الحلف بذلك. ولم أعلم أني رأيت من أسماء الله تعالى الرشيد إلا في الترمذي حيث عدد أسماء الله الحسنى مائة إلا واحدا. وأصحابنا عمموا الحكم في الجميع ولم يفصلوا، وهو مشكل.
ذلك. فإذا لم يكن استعمالهم لبعض الأسماء كثيرا بقي الحال فيها على حكم اللغة، فيكون لفظها صالحا للقديم والحادث (63).
المسألة الثانية، قال صاحب الخصال الأندلسي: يجوز الحلف بقولك: باسم الله لأفعلن، وتجِب بذلك الكفارة عند الحنث.
قال شهاب الدين: وهذه المسألة فيها غور، بسبب أن الاسم هاهنا، إن أريد به المسمى استقام الحكم، وإن لم يُرَدْ به المسمى فقد حكى ابن السيد البطليوسي أن العلماء اختلفوا في لفظ الإسم، هل هو موضوع للقدر المشترك بين الأسماء فمسماه لفظ، أو وضع في اللغة للقدر المشترك بين المسميات فلا يتناول إلا مسمى؟ قال: وهذا هو تحقيق خلاف العلماء في أن الاسم هو المسمى أم لا؟ وأن الخلاف إنما هو في لفظ الاسم الذي هو ألف، سين، ميم، وأما لفظ نار وذهب فلا يصح أن يقول عاقل: إن لفظ نار هو عين النار حتى يحترق فم من ينطق بهذا اللفظ.
وإذا فرعنا على هذا وقلنا: الاسم موضوع للقدر المشترك بيْن الاسماء، وأن مسماه لفظ، فينبغي ألَاّ تلزم به كفارة، ولا يجوز الحلف به كما لو قلنا: ورزقِ الله، فإنَّ إضافة المحدَثِ إلى الله لا يُصَيِّره مما يجوز الحلف به، وإن قلنا: هو موضوع للقدر المشترك بين المسميات، والقاعدة أن الدال على الأعم غير دال على الأخص، وما يكون كذلك لا يحلف به، ولا يكون قسما إلا بنية أو عرف
(63) عبارة القرافي هنا أخذ منها البقوري هذا التساؤل حيث جاء فيها قوله: ولا يمكن أن يقال: إنَّ عادة المسلمين لا يحلفون بغير الله تعالى وأسمائه فتنصرف جميع الأسماء لله تعالى بقرينة الحلف، لأنا نقول: إنا نجدهم يحلفون بآبائهم وملوكهم، ويقولون: ونعمة السلطان، وحياتك يا زيد، ولعمري لقد. قام زيد، فيحلف بعمره وحياة مخاطبه طول النهار، فليس ظاهر حالهم الانضباط ولا حصل في الأسماء القليلة الاستعمال عرفٌ ولا نقلٌ يعتمد عليه، فيستصحب فيها حكم اللغة، وأن اللفظ صالح للقديم، هذا هو الفقه.
وقد جاء النهي عن الحلف بالآباء وغيرهم، ففي الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت".
ناقل. ولا واحد منهما، فلا تجب كفارة إذ لم يتعين صرف اللفظ لجهة الله (64).
المسألة الثالثة (65)، الألف واللام في أسماء الله تعالى للكمال.
وهذا، كقولهم: زيد الرجل وتريد الكامل في الرجولية. فمعنى الرحمان، الكامل في الرحمة، وكذا بقية الاسماء.
القاعدة الرابعة: (66)
نقرر فيها ما يدخله المجاز والتخصيص مما لا يدخله على الجملة ليمتنع، والمراد من ذلك الأيمان، فنقول:
النصوص هي التي لا تقبل المجاز ولا التخصيص، والظواهر تقبلهما.
ثم النصوص قسمان:
القسم الأول: أسماء الأعداد، نحو الخمسة والعشرة وسائر أسماء الأعداد) (67).
(64) عبارة القرافي أظهر وأوسع، وهي: والقاعدة أن الدال على الأعم غير دال على الأخص، فاللفظ الدال على القدر المشترك بين جميع المسميات لا يكون دالا على خصوص واجب الوجود سبحانه وتعالى، وما لا يكون دالا عليه لغة لا ينصرف إليه إلا بنية وعرف ناقل. ولا واحد منهما، فلا تجب الكفارة، ولا يتعين صرف اللفظ لله تعالى، فهذا تحرير هذه المسألة.
(65)
قال القرافي في أول هذه المسألة: قال اللخمي، قال ابن عبد الحكم: هَا للَّه يمين توجب الكفارة مثل قوله: تالله، فإنه يجوز حذف حرف القسم، وإقامة التنبيه مقامه. وقد نص النحاة على ذلك.
ثم عنون لهذه المسألة الثالثة بقوله: فائدة، فأورهَا موجزة مختصرة كما هي عند البقوري في هذا الايجاز والاختصار، ونسَبَ كون اللَّام للكمال إلى امام النحاة سيبويه رحمه الله، وقال في آخرها: وكذلك بقية أسماء الله تعالى، فاللام فيها لا للعموم ولا للعهد، ولكن للكمال"، وهي فائدة لطيفة هامة.
(66)
هي موضوع الفرق الثامن والعشرين والمائة بين قاعدة ما يدخله المجاز في الأيمان، والتخصيص، وقاعدة ما لا يدخله المجاز والتخصيص. ح. 3 ص 60.
(67)
قال القرافي: وأسماء الأعداد إثنان، وآخرها الألفُ، ولم تصنع العرب بعد ذلك لفظا آخر للعدد، بل عادت إلى رتب الأعداد، فَقالت: ألفانِ، وهذا هو التثنية، فتكرر مراتب الأعداد، وهي أربع: الآحاد إلى العشرة، والعشرات إلى المائةِ، والمئون إلى الألف، ثم الآلاف، فهذه عند العرب نصوص لا يدخلها المجاز ولا التخصيص.
القسم الثاني: الإسمان الكريمان: الله والرحمان، لا يصدقان على غيره جل وعلا. فالقسم الأول منع من المجاز والتخصيص فيه وضع اللغة. والقسم الثاني منع من ذلك وضع الشرع. والمجاز إذا نُظِر أعَمُّ من التخصيص، فكل تخصيص مجازه وليس كل مجاز تخصيصا. فالتخصيص كأن يريد بالعشرة شبهها، وذلك العشر (بضم العين والشين) وبالخمسة الخمس.
وأما الظواهر فهي ما عدا هذين القسمين من العمومات نحو المشركين، وأسماءِ الاجناس نحو الأسد وغيره، فالمجاز والتخصيص جائزان فيها.
وعلى ما قلناه سؤال، وهو أن القرآن استعمل اسم العدد مجازا كَقوله تعالى:"إنه تستغفر لهم سبعين مرة". قال العلماء: المراد الكثرة كيف كانت. وكذلك قوله تعالى: "سبعون ذراعا" أي طويلة جدا، وأهل العرف يقولون: سألتك ألف مرة فما قضيت لي حاجة، ولا يريدون خصوص الألف (68)، وهذا يخالف ما عليه الفقهاء من أن المجاز لا يدخلها.
وعلى صحة القاعدة فهنا ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: إذا حلف ليعتقن ثلاثة أعبد اليوم، فأعتق عبدين وقال: أردت بذلك اللفظ هذا لم تُفِدْه النية، وحنِث إن خرج اليوم ولم يعتق الثلاثة (69).
المسألة الثانيه: إذا قال: والله لأعتقن عبيدي، وقال: أردت بعضهم أو أردت دوابي أو أردت بالبيع العتق أفاده ذلك كله (70).
(68) بل وريدون الكثرة كيف كانت، وهذا مجاز قد دخل المائة والالف، حين يقول القائل: زرتك مائة مرة فلم تَرْعَ لي ذلك، وإذا انفتح الباب في بعض هذه الالفاظ انخرم الجزم في بقيتها، فلم تبق لنا نصوص البتة في أسماء الأعداد، غير أن الفقهاء مطْبِقون على ما تقدم، والواقع كما ترى فتأمله.
وعلى ما تقدم من صحة القاعدتين والفرق بينهما تتخرج ثلاث مسائل
…
الخ.
(69)
قال القرافي: أسماء الاعداد لا تفيد فيها النية في الأيمان ولا في الطلاق ولا في غيرهما.
(70)
قال القرافي: إذا قال: واللهِ لأعتقن عبيدي، وقال: أردت بعضهم على سبيل التخصيص أو قال: أردت بعبيدي دوابي، أو أراد بالبيع العتق، أفاده ذلك، لانه يجوز استعمال العبيد مجازا في الدواب، والعلاقة المِلك في الجميع، واستعمال العتق مجازا في البيع والعلاقة بطلان الملك، فهذا تفيد فيه النية والمجاز.
المسألة الثالثة: إذا قال: والله لأعتقن ثلاثة عبيد، ونوى به بيع ثلاث دواب صح، لأن المجاز في المعدود لا في العدد. ونظير هذه المسألة انتِ طَالق ثلاثا، ويريد بالثلاث اثنتين أو واحدة، لا يفيده ذلك، وإن قال: أردت أنك طلقت ثلاث مرات من الولد، أفاده ذلك.
وقد أشكل ذلك على بعض الفقهاء فقال: أثرت النية في الكل ولم تؤثر في البعض، فإن النية أبطلت الطلقات الثلاث كلها، فأولى أن يبطل بعضها. وجوابه أن النية في الأعداد هي لا تفيد، وفي المعدود تفيد.
ثم إذا تبين هذا في القسم الواحد من القسمين اللذين في النص، فالقسم الثاني أيضا الذي هو لفظ الله والرحمان كذلك لا تفيد النية فيه شيئاً بأن يدعي وجها من وجوه المجاز، لما تقدم من أن المجاز والتخصيص لا يدخلان النص على الإطلاق، بخلاف غيرهما من الأسماء فإنها ليست نصوصا.
القاعدة الخامسة: (71)
أقرر فيها ما تكفي فيه النية في الأيمان، وما لا تكفي، فأقول:
إعلم أن النية تكفي في أشياء، ولا تكفي في أشياء.
فأما ما تكفي فيه فذلك أشْياء:
(71) هي موضوع الفرق الثلاثين والمائة بين قاعدة ما تكفي فيه النية في الأيمان، وقاعدة ما لا تكفي فيه النية. جـ 3، ص 64.
قال القرافي رحمه الله في أوله: إعلَمْ أن النية تكفي في تقييد المطلقات وتخصيص العمومات وتعميم المطلقات، وتعيين أحد مسميات الألفاظ المشتركات، وصرف اللفظ عن الحقائق إلى المجازاتِ، ولا تكفي عن الألفاظ التي هي أسباب، ولا عن لفظ مقصود، وإن لم يكن سبباً شرعياً، ويتضح ذلك بمسائل
…
الخ. وفي موضوع تخصيص نية الحالف وتقييدها لما ينْويه، يقول الشيخ خليل رحمه الله:"وخصصت نية الحالف وقيدت إن نافَتْ وساوتْ" أي تخصص وتقصُرُ اللفظ العام على بعض افراده، وقيدته بأن صرفت نية الحالف لفظه إلى بعض افراده التي نحتملها إن ساوت النية المحلوف عليه في التخصيص ان نافت المحلوف عليه، وقيدته ان ساوته، وتفصيل هذا الموضوع يرجع اليه في شراح الشيخ خليل رحمهم الله.
فها تقييدُ المطْلَقات، كما إذا حلف لَيكرمن رجلا وينوي به زيداً، فلا يبرأ بإكرام غيرِه، لأن رجلا مطلق، وقد قيد بخصوص زيد، فصار معنى اليمين لأكرمن زيداً (72).
ومنها تخصيص العمومات، كقوله: والله لا لبست ثوباً، وينوي إخراج الكتان من يمنيه، فيصير هذا العموم مخصوصاً بهذه النية (73)، ومن تخصيص العمومات أن يقول: كل حلال، عليِّ حرام، فينوي محاكاة زوجه (74).
ومما يكتفى فيه بالنية ولكنه على خلاف، ما دل اللفظ عليه التزاما، قالت الحنفية: لا تؤثر. النية فيه تقييدا ولا تخصيصا، وقالت بقية الفرق: تؤثر فيه كالمطابقة (من غير فرق).
وهذا مثل قول القائل: والله لا أكلت، فقالت الفرق الشافعية والمالكية: يجوز أن ينوى مأكولا معينا، فلا يحنث بأكل غيره. وقالت الحنفية: لا يجوز دخول النية هاهنا، وإن نوى بطلت نيته وحنث بأي ماكول أكله، فإن اللفظ إنما دل مطابقة على نفي الأكل الذي هو المصْدَرُ، ومن لوازم المصدر ماكولٌ مَّا،
(72) قال الشيخ ابن الشاط رحمه الله عن هذه المسألة: ما قاله القرافي في ذلك صحيح.
(73)
قال ابن الشاط في هذه المسألة هنا: ليس هذا تخصيص العموم، بل هو الاستثناء بالنية وهو محل خلاف، وأما التخصيص بالنية فهو أن يقصد ما عدا الكتان خاصةً ولا أراه إلا محل وفاق.
(74)
هذه المسألة هي المحاشاة، كما قال مالك رحمه الله: إذا قال القائل: كل مال علي حرام، يلزمه الطلاق، إلا أن يحاشي زوجته (أي أن يستثنيها) وقال الأصحاب: يكفي في المحاشاة مجرد النْية، والسبب في ذلك أنها تخصيص بعينه من غير زيادة ولا نقصان. والتخصيص يكفي فيه إرادة المتكلم فاعلم ذلك، فهذه مواطن الاكتفاء بالنية إجماعًا.
وقد عقب الشيخ ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي بقوله:
الصحيح أن المحاشاة هي الاستثناء بعينه لا التخصيص، ولكن لما سبق له توهم أن إخراج بعض متناول اللفظ العام هو التخصيص، قال: إن المحاشاة هي التخصيص وذلك غير صحيح، وقد تقدم ذلك والكلام معه فيه في الفرق التاسع والعشرين.
ثم علق على قوله: فهذه مواطن الاكتفاء بالنية إجماعا، فقال ابن الشاط: ذلك صحيح إلا في المحاشاة فإن الخلاف فيها معلوم.
وذلك الماكول لم يلفظ به، فلا يجوز دخول النية فيه، لأنه مدلول التزامي (75). واحتجوا بأشياء.
منها أن الاستقراء دل على أن النية لا تدخل إلا فيما دل اللفظ عليه مطابقة. واعتبار النيات في الألفاظ أمر يتبع اللغة، فكما لا تجوز النية في صرف أسماء الأعداد لغة، كذلك هنا هنا لا يجوز لغة.
واحتج المالكية والشافعية بأشياء:
منها أنا أجمعنا على ما إذا قال: والله لا أكلت أكلا، أنه يصح أن ينوي بعض المآكل ويخرج البعضَ بنيته، مع أن أكلا مصدر، وأحمع النحاة على أن التصريح به بعد اللفظ بالفعل إنما هو للتأكيد نحو ضربت ضربا، والتأكيد - حقيقة - تقوية المعنى الأول من غير زيادة، وإلا كانت الأحكام الثابتة معه ثابتة قبله، والثابتُ معه اعتبار النية، فالثابت قبله اعتبار النية وهو المطلوب.
ومنها أن النية اعتبرت في المطابقة إجماعا مع قوة المعارض، فأولى أن تعتبر مع ضعف المعارض في دلالة الالتزام بطريقة الأولى. وإنما قلنا: إن المطابقة أقوى معارضة للنية، لأن المطابقة هي الأصل المقصود بوضع اللغة، وغيره إنما يفيده اللفظ تبعا لها، والأصل أقوى من التابع.
ومنها أن قالوا: وجدنا الاستثناءات في لسان العرب دخلت على العوارض الخارجة عن المدْلولِ المطابق واللازمِ، ولفظ الاستثناء إنما هو فرع عن إرادة المعنى الذي لأجله سيق الاستثناء، فإن اللفظ تبع لإرادة المعنى، فإنه يقصد به إفهام
(75) قال ابن الشاط هنا: ما قاله الحنفية في أثناء احتجاجهم من أنَّ تناول اللفظ إنما هو محقق في المطابقة والتضمن ليس بصحيحٍ، لأن دَلالة الالفاظ ليست عقلية، بل هي وضعية، ولم يوضع لفظ المسجد إلا لجملته لَا لجملتِهِ وبعضه، وهو السقف مثلا، والا لكان ذلك اللفظ مشتركا، وليس الكلام المفروض إلا على تقدير أن لفظ المسجد لم يوضع للسقف .. الخ
السامع ما في نفس المتكلم، فمتى دخل الاستثناء في المدلول التزاما دل ذلك على دخول النية قبله في المدلول الالتزامي (76).
وبيان دخول الاستثناء في المدلول التزاما أو بطريق العَرض أشياء:
منها قوله تعالى: "لَتَاتُنَّنِي به إلا أن يحاط بكم". (77) هذا استثناء من الأحوال العارضة أو اللازمة لمعنى الإتيان. والمعنى لتاتنني به في كل حال من الحالات إلا في حالةِ الاحاطة بكم فإني لا ألزمكم الإتيان به فيها لقيام العذر حينئذ.
ومنها: "ما ياتِيهِم من ذِكْر من رّبهم مُحْدثِ إلا استمعوةُ"(78). والمعنَى لا ياتيهم في حالة من الحالات، والأحوال أمور خارجة عن المدلول المطابقي. وإذا كانت خارجة، فإن كانت الاحوال لَازِمةً فقد دخلت النية في المدلول التزاما. وإن كانت عارضة فقد دخلت النية في العوارض، وإذا دخلت في العوارض دخلت في اللوازم بطريق الأولى ولا بد (79)، وهذه الادلة ترد ما قالوه أولا من دليل الاستقراء، فصح ما قالته المالكية، والله أعلم.
ومما يكتفى فيه بالنية أيضا تعميم المطلَقات، وصُورَتُهُ أن يقول:
والله لأكرمن أخاك، وينوي بذلك جميع اخوتك، فإن قوله:"أخاك"، مطلق، فإذا أراد جميع الإخوة فقد عمم المطلق (80)، ومثله قوله تعالى:
(76) علق الفقيه ابن الشاط على هذه الحجج والوجوه الثلاثة عند المالكية والشافعية بقوله: هذه الوجوه الثلاثة صحيحة جيدة.
(77)
سورة يوسف: الآية 66.
(78)
سورة الانبياء: الآية 2.
(79)
فإن العارض أبعَدُ عن مدلول اللفظ مطابقة من اللازِم ضرورة كما قال القرافي:
(80)
قال ابن الشاط، ليس ما قاله القرافي هنا بصحيح، فإن أخاك معرفة، وليست المعرفة مطلقة في عرف الاصوليين، وانما المطلق في عرفهم النكرة في سياق الإثبات، فكان حقه أن يقول: والله لأكرمن أخًا لَكَ وما أشبه ذلك
…
الخ.
"ثم يخرجكم طفلا"، فالمراد به جميع الاطفال على سبيل العموم، إذ جميعنا لا
يخرج طفلا واحدا، (81).
فإذا ورد هذا المطلق في كتاب الله تعالى، والمراد به العموم، فمن نوى تعميمه في اليمين لزمه. فإن كان في سياق الثبوت لا يبرأ إلا بحصول الفعل في جميع أفراد ذلك العموم، وإن كان في سياق النفي حنث بواحد من ذلك العموم، وانحلت اليمين بأي فرد حنث فيه، مع أن سياق النفي، اللفظ فيه عام. فإن النكرة في سياق النفي تعم، وإنما يظهر أثر ذلك في سياق الثبوت خاصة (82).
ومما يكتفى فيه بالنية تعيين فرد من أفراد اللفظ المشترك بقوله: والله لأنظرن إلى عين، ويريد بهذا اللفظ أحد مسمياته، وذاك العين الباصرة، فلا يبرأ إلا برؤيته لها (83).
ومن ذلك أيضا صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه بالنية، كقوله:
والله لأضربن أسداً، ويريد به رجلا شجاعا. فلا يبرا إلا بمجازه (84). هذا القسم الاول.
(81) علق ابن الشاط على العموم في هذه الآية بقوله: لا يصح أن يكون المراد به في الآية العموم، فإن العموم لا بد أن يكون متناولا لجميع الآحاد الممكنة، ولا يتجه ذلك في الآية، إذ لو قال: ونخرجكم جميع الاطفال الممكنة لم يكن كلاما صحيحا، وإنما العموم مستفاد في الآية من ضمير الجمع، المتصل بِنُخْرج، وهو عموم في المخرجين (بفتح الراء) لا في كل ممكن، ثم جاء لفظ طفل مبَيِّنا للحالة التي يكون الإخراج فيها، وهي حالة الطفولية، إما على تقدير: ونخرج كل واحد، فناب مناب اسم الجمع كناس ونفر، والله أعلم.
(82)
عبارة القرافي في السطر الآخير: وإنما يظهر أثر ذلك وتأثير النية في سياق الثبوت خاصة. وقد علق الشيخ ابن الشاط على كلام القرافي في هذه المسألة بقوله: ما قاله في ذلك صحيح.
(83)
عبارة القرافي: فلا يبرأ الا بالنظر إلى الباصرة بسبب تعيينها بالنية، فهذا قسم يستقل بنفسه دون تخصيص العمومات وتقييد المطلقات والصرف إلى المجازات. لأن اللفظ ينطبق على ما عينه حقيقة من غير زيادة ولا نقصان، وفي بقية الصور ليس كذلك.
وقد علق ابن الشاط على هذه المسألة عند القرافي فقال: ما قاله في ذلك صحيح، غير عبارته بفرد عن أحد مسميات اللفظ المشترك، لأن الفرد في الاستعمال الغالب إنما يراد به الواحد الشخصي لا الواحد النوعي.
(84)
قال ابن الشاط: ما قاله القرافي في هذه المسألة السابعة صحيح.
وأما ما لا يكتفَى به بالنية، فنية الاستثناء بمشيئة الله. وسبب عدم تأثيرها أن قوله عليه الصلاة والسلام:(من حلف واستثنى عاد كمن لم يحلف" (85). يقتضي أن الاستثناء بالمشيئة سبب رافع لحكم اليمين، لأن القاعدة أنَّ تَرتب الحكم على الوصفِ يقضي عليه ذلك الوصف لذلك الحكم وسببيته. وهو هنا قد رتب الشارع - صلوات الله عليه - حكم ارتفاع اليمين على المشيئة (86)، وإذا كان كذلك، والقاعدة الشرعية أن المسببات يتوقف وجودها على وجود أسبابها، وأن القصد إليها لا يقوم مقامها، فلهذا لم تقم النية مقام الاستثناء بمشيئة الله في حل اليمين. قال اللخمي: وعلى القول بانعقاد اليمين بالنية يصح الاستثناء بالنية من غير لفظ المشيئة.
(85) في معناه حديث ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من حلف فقال إن شاء الله فله ثُنْيَاه). ومثله عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف واستثنى، إن شاء رجع، وإن شاء ترك غير حانث)، وفي رواية اخرى عنه:(من حلف واستثنى فلن يَحْنَثْ).
(86)
عبارة القرافي: وها هنا قد رتب صاحب الشريعة حكم ارتفاع اليمين على وصف الاستثناء بمشيئة الله تعالى، فيكون الاستثناء بمشيئة الله تعالى هو سبب ارتفاع حكم اليمين، لقوله عليه الصلاة والسلام: عاد كمن لم يحلف، وهذا إشارة إلى ارتفاع حكم اليمين.
وقد علق ابن الشاط على ما جاء في هذه المسألة عند القرافي فقال:
ما قاله في هذه المسألة، فيه نظر من جهة أن الاستثناء بمشيئة الله تعالى لا تأثير له إلا إن كان مقصودا به رفع اليمين أو حلها، فهو - أعني الاستثناء بمشيئة الله تعالى - دليل على قصد رفع اليمين، وإذا كان الأمر كذلك فما المانع من الاكتفاء بقصد رفع اليمين الذي لفظ الاستثناء بمشيئة الله تعالى دليل عليه، إلا أن يكون في بعض روايات حديث الاستثناء بمشيئة الله تعالى ما يدل على اشتراط اللفظ بذلك دون القصد فقط، ولا أعلم ذلك الآن، فلينظر، فإن المسألة لا ينبني التخفيف فيها إلا على ذلك. وما نظَّر به من أن القصد إلى الصلاة لا ينوب منابها حتى يكون سبب براءة الذمة منها، ومن أن القصد إلى السرقة لا يقوم مقامها فيجب القطع، وكذلك ما عداها من الاعمال، فإن ورد دليل واضح على أن المراد عين استثناء المشيئة لفظا استوى الامر في الاستثناء وسائر الأعمال وإلا فلا. وما حكاه عن اللخمي متجه. ولقائل أن يقول: إذا ثبت اشتراط اللفظ في الاستثناء بمشيئة الله تعالى فلا بد منه وإن انعقدت اليمين على نية القول بذلك، والله أعلم. وهو تعقيب هام ودقيق جدا عند ابن الشاط رحمه الله.
ومما لا تصح فيه النية أيضاً أن يقول: والله لأعطينك ثلاثة فى دراهم، فينوي إلا درهماً واحداً. وإنما لم تكف النية، لما تقدم من أن المجاز لا يدخل النصوص (87).
ووقع الخلاف في قولك: لقيت القوم، وأنت تريد إلا فلانا، فقيل: لاتؤثر النية هاهنا من حيث إن النية لا تعتبر في نزولها منزلة اللفظ المخرج للبعض، فيكون اللفظ هو المخرج. وقيل: تؤثر، لأن الاخراج بها كما هو باللفظ لا أنها عوض اللفظ، واللفظ هو المخرج. والمقصود منهما حاصل على السواء، والله أعلم.
القاعدة السادسة: (88).
أقرر فيها الفرق بين مخالفة النهي، لم كان يقتضي التكرار ومخالفة اليمين لا يقتضي التكرار
وهما قد اشتركا في العموم، فإن النهي يقتضي العموم، والنفي يقتضي العموم، فأنت إذا قلت: لا تضرب زيدا، متى وقع ضربه تكرر الإثم بتكرار الضرب، فإذا قلت: والله لا أضرب زيدا، فإن ضربته مرة فقد لزمتك الكفارة وانحلت اليمين بحيثِ لا كفارة بعد ذلك تلزم فيها، فأقول:
(87) عبارة القرافي هنا: (المسألة التاسعة) التي لا تؤثر فيها النية، الاستثناء في النصوص، نحو: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة، ووالله لأعطينك ثلاثة دراهم إلا واحداً، فلو نوى بالطلاق الثلاث طلقتين، وبالدراهم الثلاث درهمين، فهذا لا يصح إلا بالاستثناء ولا تكفي هذه النية، لأنها لو كفته لدخل المجاز في النصوص وهو لا يدخل فيها، ولا معنى للمجاز إلا استعمال الثلاث في الاثنين، وإنما يصح المجاز في الظواهر، وقد تقدم بيانه، فلا يمكن أن تقوم النية هاهنا مقام الاستثناء، البتة (أي قطعاً).
وقد قال ابن الشاط عما جاء عند القرافي في هذه المسألة التاسعة والتي بعدها: ما قاله القرافي فيهما صحيح ظاهر، والله أعلم.
(88)
هي موضوع الفرق الثاني والثلاثين والمائة بين قاعدة مخالفة النهي إذا تكررت يتكرر التأثيم، وبين قاعدة مخالفة اليمين إذا تكررت لا يتكرر بتكررها الكفارة، والجميع مخالفة). جـ 3، ص 78.
لا شك أن العموم في الوجهين، ولكن الفرق متى وقع اختلاف الحكم، أن الإثم مترتب على وقوع المفسدة، والمفسدة تتكرر بتكرار المنهي عنه، وأما الكفارة فهي مرتبة على وضع الشرع لها وبالوجه الذي وضعها عليه، والشارع إنما وضعها مرتبة على الحنث الذي هو نقيض الفعل المنفي العام، والنقيض له جزئي. ولما أوقعها على ذلك لم تتكرر كما لا يتكرر الشيء المرتب على الشرط بحرف إن، كأن يقول: إن دخلت الدار أكرمك، فإن وقع هذا مرة لزم الإكرام، ثم لا يلزم بعد ذلك لأنها لا عموم فها (89) فكذلك مسألتنا إنما رتبت الكفارة على ما قلناه لا على الفعل العام ولا على تأكيده باليمين، بل على الحنث، وهذا لأن الثبوت المناقض لذلك هو مطلق الثبوت. فإذا حصل لزمت الكفارة، والمطلق يخرج على عهدته بصورة واحدة إجماعا كإخراج شاة من أربعين.
وأيضا فيصح أن يقال: الكفارة لو كانت تتكرر بتكرر المخالفات لليمين لشق ذلك على المكلَّفِين، والحرج غير موجود في الشريعة. وتحقيق الحرج بأن ينظر إلى حالة الأوبة والرجوع إلى الله، فإذا ذلك لا يبرئه إلا الكفارات المتعددة، وفي ذلك حرج، وربما كان ذلك مانعاً من الرجوع إلى التوبة وإصلاح ما مضى. وأما الآثام فهي - وإن تكررت - إذا كان الرجوع إلى الله، التوبة تسقطها بأجمعها، وذلك الندم عليها، وعمارة الوقت بضدها من الخير، ولا خفاء بتيسيرها.
فإذا تقرر لِمَ كان أمر الأيمان لا تتكرر فها الكفارات بتكرر المخالفات، وبانَ وجْهُ الفرق بينهما وبين النهي في تكرر الآثام، فاعلم أنه وقعت صورة اختلف العلماء في بعضها أو في كلها، وهي الحنث للنسيان أو للجهل أو للإكراه. فمذهبنا اعتبار الحنث في هذه الأحوال الثلاثة. ووافقنا الشافعي وأبو حنيفة وأحمد
(89) علق ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذا الفرق بقوله: ما قاله فيه صحيح، غير قوله:"بل الشرط مطلقا إنما يقتضى مرة واحدة" فإنه غير صحيح، فإنه لو اقتضى المرة الواحدة لما كان مطلقا، بل كان مقيدا باقتضاء المرة الواحدة دون غيرها. وإنما وقع الاكتفاء بالمرة الواحدة لضرورة لزوم تحصيل مقتضى التعليق، ولا أقل من المرة الواحدة في التحصيل.
ابن حنبل على الإكراه على اليمين، وخالفنا أبو حنيفة في الإكراه على الحنث، ووافقنا في النسيان والجهل.
فأما من قال بأن لا حنث في الأحوال الثلاث فوجهه أن الأيمان إنما وضعت للحنث على الموافقة والرد عن المخالفة. وهذا المعنى معتبر عند العلم والذكر وعدم الإكراه، فلا حنث في الأحوال الثلاثة.
وأما من يقول: الحنث في الكل، فلأن المعتبر عنده اليمين بأى وجه حصلت، وهي حاصلة من غير اعتبار للقصد باليمين. فلا حنث، أو مخالفة فيقع الحنث. ومن يقول بالفرق بين الإكراه والحالتين الأخريين، فلأنه يقول: المعتبر في المخالفةِ الفعل المكتسب بطريق الاختيار، إذ الحلف وقع على الفعل المختار المكتسب، فيحنث في النسيان، ومع الجهل، ولا يحنث مع الإكراه (90).
وقال شهاب الدين رحمه الله: الأولى من هذه الأقوال قول الشافعي، وهو أن لا حنث مع النسيان ومع الجهل ومع الاكراه، قال: وهذا أحد الاقوال عندنا، بسبب أن الباعث على الحلف للحالف إنما هو أن تكون اليمين حاثة له على الترك، وإلا كان يكفيه العزم على عدم الفعل من غير يمين (91).
وإنما أقدم على اليمين ليكون استحضارها في نفسه مانعا من الإقدام والإِحجام، فلم تكن اليمين موضوعة لحالة النسيان ولا لحالة الجهل ولا لحالة الإِكراه (92) والله أعلم.
(90) فيَ نسختي ع، وح: والحنث، والصواب ما في نسخة ت: ولا يحنث بالنفي، وهو الذي يقتضيه المعنى.
(91)
زاد القرافي قوله هنا: ويستريح من لزوم الكفارة.
(92)
قال القرافي هنا: فإذا نسيها لم يقصد بهذه الحالة حالة الحلف، بل مقصود محصور في حالة حضورها في نفسه حتى نزعه، وكذلك العلم بعين المحلوف عليه شرط في الحنث به، فإذا جهله استحال مع الجهل الحنث على ما لا يعلمه، فهذه الحالة يعلم خروجها عن اليمين بقصد الحالفين، فلا يلزم فيها حنث، ويشترط التكرار.
قال: وأما الإكراه على اليمين فلقوله عليه الصلاة والسلام: "لا طلاق في إغلاق" أي في إكراه، فيقاس على الطلاق غيره فلا يلزم، ورأى أبو حنيفة أن الإكراه على الحنث لا يؤثر كما قاله
تنبيه: إذا قلنا: إن الإكراه على الحنث يمنع من لزوم موجب اليمين، فأكره على أول مرة من الفعل ثم فعله مختارا، يحنث، قاله ابن أبي زيد: وهو مقتضى الفقه، بسبب أن الاكراه لم يندرج في اليمين، فالواقع بعد ذلك بالاختيار هو أول مرة صدرت منه مخالفة اليمين، والأولى لا عبرة بها.
ومثل هذه المسألة إذا حلف بالطلاق لا يكلم زيدا، فخالع امرأته وكلمه، لم يلزمه بهذا الكلام طلاق. فلو رد امرأته وكلمه حنث عند مالك رحمه الله، لأنه قصد بالحلف بالطلاق أن يحثه الطلاق على عدم كلامه بسبب أنه يلزمه الطلاق حينئذ، فما حلف إلا على نفي كلام يلزمه به طلاق، لعدم قبول المحل له (93). وأول كلام يقع بعد رد امرأته هو أول مخالفة اليمين فيه، فيلزم الطلاق به لا بما قبله كما قلنا في الإكراه حرفاً بحرف (94).
القاعدة السابعة (95):
أقرر فيها الفرق بين ما تعذر عقلا من المحلوف عليه وما تعذر شرعاً أو عادة، فأقول:
= مالك في الحنث حالة النسيان والجهل، والظاهر خلافه، لما تقدم من مقاصد الناس في أيمانهم. اهـ.
ثم قال القرافي: وتقع هذه المسألة في الفتاوى كثيرا ويقع الغلط فيها للمفتين فيقول السائل: حلفت بالطلاق لا أخدم الأمير الفلاني في إقطاعه، وقد أكرهت بالضرب الشديد على خدمته، فيقول له المفتي لا حنث عليك، مع أن ذلك الحالف مستمر على الخدمة مع زوال سبب الإكراه وإمكان الهروب والتغيب عن ذلك، ومضي زمان يمكنه التغيب فيه عن ذلك الأمير، وهو بذلك قد خدمه مختارا، فيحنث.
(93)
زاد القرافي هنا قوله: "فلا يكون من الكلام المحلوف عليه".
(94)
قال القرافي رحمه الله: فتأمل ذلك، فهذه الصور الثلاثة المتقدمة يحصل فيها التكرر في صورة المخالفة لا في المخالفة المعتبرة بسبب ما تقدم تقريره. اهـ.
(95)
هي موضوع الفرق الرابع والثلاثين والمائة بين قاعدة تعذر المحلوف عليه عقلا. وبين قاعدة تعذره شرعا. جـ 3 ص 83.
وقد علق الشيخ ابن الشاط على ما جاء عند الإِمام القرافي في هذا الفرق 134 بقوله في آخر الفرق 132: ما قاله القرافي صحيح.
إذا حلف فتعذر ذلك الفعل عقلا لم يحنث، إذا لم يمكنه الفعل قبل ذلك، وإن أمكنه ثم تعذر حنث. واختلف في المتعذر شرعا وعادة، فقيل: يحنث به، وقيل: لا يحنث. والفرق بينهما هو من حيث إن الناس إنما يقصدون بأيمانهم الحنث على الفعل الممكن لهم، وأما المتعذر عقلا فلم يوضع اللفظ في القسم حنثا عليه، فهو لا يوجب لذلك حنثا، لأن الحلف على الشيء مشروط بإمكانه، وفوات الشرط يقتضي عدم المشروط فلا يبقى الفعل محلوفا عليه.
والمتعذر العادي او الشرعي الممكن عادة مرة ينظر إلى إمكانه عقلا فيقال: هو محلوف عليه، ومرة ينظر إلى تعذره بالوجهين الآخرين فيقال: هو غير محلوف عليه للتعذر المذكور، إذ التعذرات كلها سواء.
ولأجل هذه القاعدة، إذا حلف ليذبحن حمامة، فقام مكانه فوجدها ميتة، قال ابن القاسم: لا حنث عليه، بخلاف لو حلف ليبيعن أمة فوجدها حاملا، يحنث عند ابن القاسم، لأن المانع شرعي. وسوى بينهما سحنون في عدم الحنث، وجرت مسائل على هذه القاعدة كما رأيت في هذا المثال (96).
(96) وذلك كمن حلف ليضربن امرأته إلى سنة فتموت قبل السنة لم يحنث بموتها وهو على بر، كما قاله مالك رحمه الله، وكالحالف ليركبن دابة فتسرق منه يحنث عند ابن القاسم، لأن الفعل ممكن عادة، وإنما منعه السارق، بخلاف موت الحمامة، وقال أشهب: لا يحنث لانه متعذر بسبب السرقة، فإن ماتت قبل التمكن بر لتعذر الفعل عادة، ومنع الغاصب والمستحق كالسارق، وقال اشهب: إن حلف ليصومن رمضان وشوال، إن صام يوم الفطر بر وإلا حنث.
وختم القرافي كلامه على هذا الفرق بتنبيه قال فيه:
معنى قول الأصحاب: الفعل متعذر عقلا، يريدون أن فعله من خوارق العادات، وإلا فيمكن عقلا أن الله تعالى يحُيْى الحمام والحيوان، حتى يتأتى فيه أفعال الاحياء، لكن ذلك خارق للعادة، بخلاف السارق ونحوه، لا يقال: إن الفعل مستحيل عادة، فإن من الممكن عادة، القدرة على السارق والغاصب، ويفعل ما خلف عليه، فهذا تحرير القاعديتن والفرق بينهما.
القاعدة الثامنة: (97)
أقرر فيها وجه اختصاص المساجد الثلاثة بلزوم نذر المشي إليها دون غيرها فأقول:
قال عليه الصلاة والسلام: "لا تستعمل الْمَطِي إلا إلى ثلاثة مساجد، إلى المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد إيليا"(98)، فقال قوم من العلماء: لا
(97) هي موضوع الفرق الخامس والثلاثين والمائة بين قاعدة المساجد الثلاثة يجب المشي اليها والصلاة فيها إذا نذرها وبين قاعدة غيرها من المساجد لا يجب المشي اليها إذا نذر الصلاة فيها: جـ 3، ص 86.
قال القرافي رحمه الله في أوله: قال مالك رحمه الله في المدونة: إذا قال: عَلَيَّ أن آتي إلى المدينة أو بيت المقدس أو المشي اليهما فلا ياتي اليهما حتى ينوي الصلاة في مسجديهما أو ما يلازم ذلك، وإلا فلا شيء عليه. ولو نذر الصلاة في غيرهما. من المساجد صلى بموضعه، وقاله الشافعي وأحمد بن حنبل. وقال اللخمي: قال القاضي اسماعيل: ناذر الصلاة في المسجد الحرام لا يلزمه المشي إذا نذره. قال: والمشي في ذلك أفضل، لأن المشي في القرب أفضل، وهو قربة.
قال: ومقتضى أصل مالك أن ياتي المكي المدينة لأنها أفضل، فإتيانها من مكة قربة، بخلاف الإتيان من المدينة إلى مكة. وقدم الشافعى وأحمد بن حنبل المسجد الحرام عليها.
قال ابن يونس: يمشي إلى غير الثلاثة المساجد من المساجد إن كان قريبا كالأميال اليسيرة ماشيا ويصلي فيه. قال ابن حبيب: إذا كان بموضعه مسجد جمعة لزمه المشي اليه، وقاله مالك، وبه أفتى ابن عباس من بمسجد قباء، وهو من المدينة على ثلاثة أميال، وفي الجواهر: الناذر إن كان بمكة أو المدينة ونذر بيت المقدس يصلي في مسجد موضعه لانه أفضل، وإن كان بالمسجد الأقصى مضى اليهما. ويمشي المكي إلى المدينة، والمدنى إلى مكة للخروج من الخلاف.
وقد علق الفقيه المحقق الشيخ ابن الشاط رحمه الله على ما جاء عند الامام القرافي رحمه الله في هذا الكلام فقال: ما حكاه القرافي (من أقوال الأئمة والفقهاء في المسألة) لا كلام فيه. وما قاله من أن الحديث يقتضي عدم لزوم المشي إلى غيرها ليس كما قال، بل يقتضي عدم إعمال المطي إلى غيرها، والمراد بذلك، والله أعلم، ألا يتحمل مشقة السفر الذي يحوج إلى إعمال المطي إلا لهذه المساجد، فيبقى السفر الذي لا يحوج إلى إعمال المطي وما دون ذلك مما ليس بسفر مسكوتا عنه في الحديث. وما قاله من أن كل ما وجب المشي اليه وجب إعمال الرِّكاب إليه، وإلا فلا، دعوى لا حجة عليها فيما ذكر، والله أعلم.
(98)
حديث صحيح أخرجه الشيخان: البخاري ومسلم وغيرهما عن ابي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى" اهـ.
سبيل إلى المشي لغيرها، عملا بالحديث، وقال آخرون: يمشي إلى مسجد الجمعة، وقال آخرون: يمشي إلى المسجد القريب. فقول مسجد الجمعة، لعل قائله يتمسك بمشيه عليه الصلاة والسلام إلى مسجد قُباء في كل سبت، وهو على ثلاثة أميال من المدينة. والقول بالمسجد القريب استحسان من غير مُدْرَك (99).
قال شهاب الدين رحمه الله:
وسر الفرق أن النذر لا يؤثر إلا في مندوب، فمَا لا رجحان في فعله في نظر الشرع لا يؤثر النذر فيه. وسائر المساجد مستوية من جهة أنها بيوت للقربة، فلا يجب اختصاص واحد منها بالاتيان، إذ لا مرجح فيها كما كان المرجح في الثلاثة.
قلت: وهذا الكلام يقرر أن المدني إذا نذر المشي إلى المسجدين لا يلزمه ذلك على مذهب مالك الذي هي برجحان مسجد المدينة على سائر المساجد، ويلزم على مذهب الشافعي أن يوفي بنذر المشي إلى المسجد الحرام دون مسجد إيليا عند الجميع.
قال شهاب الدين: فإن قلت: إن المساجد أفضل من غيرها إجماعاً، وبعضها أفضل من بعض، للقدم أو لكثرة الجماعة أو لغير ذلك من أسباب التفضيل، فإذا كان كذلك فذلك يوجب أن من نذر الصلاة في مسجد من تلك المساجد أن يلزمه لوجود الرجحان، فأجاب بأن قال:
القاعدة الشرعية أن الفعل قد يكون راجحاً في نفسه ولا يكون ضمه لراجح آخر في نفسه راجحاً في نظر الشرع، وقد يكون ضمه راجحاً. فعلى هذا
(99) قال ابن الشاط هنا: ما قاله القرافي من استواء المساجد وعدم الرجحان فيها دعوى لم يات عليها بحجة.
ليس الضم راجحًا على الإطلاق من حيث إن المفردين راجحان، بل الضم إنما يكون راجحًا إذا رجحه الشرع وثبت له مُدْرك شرعي، وإلا فلا (100).
وبيان أنه قد وجد الرجحان أن نقول: الصلاة - ولا بد - راجحة، والزكاة كذلك راجحة، ولم يكن ضم الواحدة إلى الأخرى راجحًا، وكذلك القراءة راجحة، والسجود راجح، ولم يكن ضمها راجحًا، بل وقع النهي عن الضم. وجاء الضم أيضًا كما هو في مسألة المساجد الثلاثة، هي راجحة، والصلاة راجحة، فكان الضم راجحًا لا من حيث ضم راجح إلى راجح، بك من حيث حكم الشارع بذلك (101).
(100) علق ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي بقوله: ما قرره من القاعدة صحيح نقول بموجبه، ولا يلزم عنه مقصوده. وما قاله من اعتقاد رجحان المساجد على غيرها أو رجحان بعضها على بعض لا يوجب اعتقاد ضم الصلاة إليها، ليس بصحيح، فإن المساجد لا معنى لفضلها على غيرها أو فضل بعضها على بعض إلا بالنسبة إلى والصلاة فيها باعتبارها في نفسها.
وما قاله من أن الرجحان الشرعي يتوقف على مدرك شرعي، صحيح، والمدرك الشرعي من ذلك الأمر المعلوم من الدين ضرورة أن الصلاة المكتوبة في المسجد أفضل منها في غيره، وقوله: بل ورد الحديث المتقدم بعدم ذلك ليس بصحيح، بل ورد بعدم إعمال المطي لا بعدم المشي جملة، فإن إعماله المطي أخص من المشي مطلقا، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم.
(101)
عبارة القرافي تزيد هذه الفقرة وضوحًا أكثر حيث قال:
فمن الأول (وهو ما يكون راجحا في نفسه) الصلاة والحج راجحان في نظر الشرع، كل واحد منهما في نفسه، وليس ضمهما راجحا في نظر الشرع. والصوم والزكاة كذلك، بل قد يكون الفعلان راجحين في نظر الشرع، وضمهما مرجوح في نظره كالصوم والوقوف بعرفة، والتنفيل في المصلى مع صلاة العيد، والركوع وقراءة القرآن، لقوله صلى الله عليه وسلم: نُهيتُ أن أقرأ القرآن راكعًا وساجدًا، والدعاء في بعض اجزاء الصلاة كما قبل التشهد ونحوه.
ومما رجح منفردا ومجتمعًا، الصوم والاعتكاف، والتسبيح والركوع، ونحو ذلك. فاعتقاد رجحان المساجد على غيرها أو رجحان بعضها على بعض لا يوجب اعتقاد ضم الصلاة اليها، لأن اعتقاد الرجحان الشرعي يتوقف على مدرك شرعي ولم يرد، بل ورد الحديث المتقدم بعكس ذلك، وليس لك أن تقول: إن رجحانها إنما يثبت باعتبار الصلاة فيها، فإني أمنع ذلك. بل ما دل الدليل على رجحانها باعتبار الصلاة إلا باعتبار صلاة الفرض دون النفل، لقوله صلى الله عليه وسلم: خبر صلاة أحدكم في بيته، إلا المكتوبة، مع أن المساجد من حيث هي مساجد، مستوية بالنسبة إلى المكتوبة أيضا حتى يرد دليل شرعي يقتضي رجحان بعضها على بعض باعتبار فرض أو نفل،
وكما جاء هذا عنه جاء بأن لا سبيل إلى الضم فيما عداها فقال:
لا يستعمل إلا في كذا، وذلك حصر لهذا الضم في الثلاثة، وترك له في غيرها، فكيف يلاحظ هذا النظر مع نهيه عليه السلام عنه، والله أعلم.
قال رحمه الله: فإن قلت: القاعدة في النذر أنه لا يجزئ فعلُ الأعلى عن فعل الأدنى، فمن نذر أن يتصدق برغيف لا يجزئه أن يتصدق بثوب وإن كان أعظم منه وقعاً عند الخلق وعند الله تعالى (102). وإذا صحت هذه القاعدة فكيف صح في هذا الباب أن من نذر أن يصلي ببيت المقدس ممن هو بمكة أو بالمدينة، فإنه لا يلزمه ذلك ويصلي حيث هو؟
فأجاب بأن قال: ما هو من باب إجزاء الأعلى عن الأدنى، الممنوع بحسب القاعدة الشرعية كما ذكرتم، وإنما هو من باب من نذر أن يتصدق بثوب فتصدق بثوبين فإنه يجزئه إجماعا.
= فإن الرجحان الشرعي حكم شرعي يتوقف على مدرك شرعي، والحديث السابق اقتضى عكس ذلك، فلا يجب السعي حينئذ إلى مسجد غير الثلاثة وإن نذره.
وأما ما وقع من قوله: يمشي إلى القريب مراعاة لضرورة النذر على وجه الندب دون الإلزام. وقول ابن حبيب يمشي إلى مسجد الجمعة، مشكل يتوقف ذلك على دليل يدل عليه، لما تقدم من القاعدة، وكذلك قول الأصحاب: يمشي إلى المسجد القرب، استحسان من غير مدرك ظاهر، والصواب ما تقدم.
وقد علق الشيخ ابن الشاط على هذا الكلام عند شهاب الدين القرافي، وعقب عليه بقوله:
ما قاله من أن المساجد مستوية بالنسبة إلى المكتوبة مع تسليمه قبل هذا أن بعضها أفضل من بعض، لا يتبين لي معناه، وإذا لم تكن الاعمال في بعض المساجد أفضل من الأعمال في غيره. فما المراد بفضل بعضها على بعض.
وما قاله القرافي هنا من ان الحكم الشرعي متوقف على مدرك شرعي، صحيح، وما قاله من إن الحديث السابق (وهو: لا تعمل المطي إلا لثلاثة مساجد .. ) يقتضي عكس ذلك ليس بصحيح، وقد سبق بيانه.
(102)
قال ابن الشاط: إنما لم يجزئ فعل الأعلى عن فعل الادنى وإن كان الاعلى أعظم قدرًا، لأن في ترك الادنى المنذور مخالفة للنذر، وإذا خولف المنذور حصل ارتكاب المنوع، وهو عدم الوفاء لله تعالى بما التزم لوجهه.
وهذا لأن خصوصية النذر حاصلة على هذا الوجه، وليست حاصلة فيما إذا نذر صيام يوم فصلَاّه، والصلاة أفضل لا محالة، وهي أعلى، ولكنها لا تجزئ كما قلتم (103).
وِقال هنا: والظاهر مق قول الفقهاء هنا أن من نذر الصلاة في مسجد إيليا، ممن كان في أحد الحرمين أنه نذر عين المرجوح، ولا نذر في غير الراجح، فكيف في المرجوح؟ وهذا من حيث إن خروجه من أحد الحرمين يلزم عنه ذلك (103 م).
قال شهاب الدين رحمه الله: هنا إشكالات:
الأول منها أن قال: قول الفقهاء: النذر لا يؤثر إلا في راجح في نظر الشرع من حيث انهم يقولون: من نذر أن يتصدق بشعير فليس له أن يخرج عنه قمحا. وهذا لأن الشعير اشتمل على أمرين: أحدهما المالية، وهي موجودة في القمح، والتصدق بها راجح في نظر الشارع، والثاني كونه شعيرا، وكونه شعيرا لم يومر بخصوصه في الصدقة ولا هو راجح في نظر الشرع، فلو كان لا يؤثر إلا في
(103) قال الشيخ ابن الشاط رحمه الله: إذا كان الناذر مقيما بالحرمين كان في ضمن. نذره الصلاة ببيت المقدس ترك الراجح وهو الصلاة بالمسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم زاد ابن الشاط قائلا: وهذا الذي قاله (أي القرافي) ليس بالظاهر، وإنما يكون الأمر كذلك لو لم يكن ترك التنفل بالمسجدين جائزا، أما وترك التفل بهما جائز فلا يلزم ذلك، فالظاهر ورود السؤال.
وأما قول القرافي: وأما ما وقع من قوله اي ابن يونس: ، "يمشي إلى القريب" فمراعاة لضرورة النذر على وجه الندب دون الالزام، فإنه كلام ضعيف لا يصح الا بحجة ولم يات بها.
وأما قوله: إن قول ابن حبيب يمشي إلى مسجد جمعة مشكل) ان ثبت له دليل فلا إشكال، وإلا أشكَل.
وقول القرافي: إن قول الأصحاب: "يمشي إلى المسجد القريب. استحسان من غير مدرك، والصواب ما تقدم" كلامه هذا متناقض، وكيف يصح إن يكون قول الأصحاب استحسانا من غير مدرك، وهل الاستحسان إلا مدرك عند القائلين به. اهـ
الراجح للزم أن لا يلزمه خصوص الشعير. وكونكم تقولون: يلزمه الشعير ولا يجزئ القمح يبين أن النذر فيما ليس براجح من نظر الشرع (104).
قلت: هذا الإشكال غير لازم، من حيث إنه لا انفكاك للأعم عن الأخصِ ولا للأخص عن الأعم في الوجود الخارجي. وإذا كان هكذا فنقول:
إن النذر لا يؤثر إلا في راجح، والقضية صادقة. والمراد بالنذر إخراج المنذور للخارج، وذلك لا يتصور بحسب الأعم وحده ولا بحسب الأخص وحده، فإذا، النذر متعلق بذلك الأعم مع أخصه.
قال شهاب الدين رحمه الله:
الإشكال الثاني على قاعدة من يقول: النقدان لا يتعينان لعدم تعلق القصد بخصوصاتهما شرعا وعادة. فيلزم هذا القائل أنه إذا نذر أن يتصدق بهذا
(104) قال القرافي في أول كلامه على هذا الإشكال:
الإشكال الأول على ما يقول الفقهاء: إن النذر لايؤثر إلا فى مندوب، ولا تأثير له في واجب، لانه لازم له قبل النذر، ولا في مباح، لأن صاحب الشرع لا يلزم أحدًا بفعل المباح، نذره أم لا. والمحرم والمكروه بطريق الأولى. وإذا كانت القاعدة أن النذر لا يؤثر إلا في راجح في نظر الشرع أشكل على ذلك إذا نذر أن يتصدق بشعير، فليس له أن يخرج عنه قمحا .. فيكون النذر قد أثر فيما ليس براجح في نظر الشرع.
وقد علق ابن الشاط على هذا بقوله: ليس ذلك بصحيح، بل أثر النذر في راجح في نظر الشرع، من أجل أن كل ما ذكر منه مندوب إليه على الجملة، لا من جهة انه مندوب راجح، وإنما لم ينُبْ القمح عن الشعير، والصوم عن الصلاة لانه لم ينذر القمح والصاع، وإذا قدم القمح بدل الشعير أو فعل الصلاة بدل الصوم لكان قد خالف ما التزمه لله تعالى، وليس للندب اثر إلا في تصيير المندوب من حيث هو مندوب واجبا خاصة، وامتنعت نيابة الجنس الأعلى من العبادة عن الجنس الأدنى منها، وكذلك نيابة الجنس الأعلى من متعلق العبادة عن الجنس الأدنى منه لأن فيه مخالفة النذر، وجازت نيابة الصفة العليا من صفات متعلق العبادة عن الدنيا، لانه ليس في ذلك مخالفة للنذر.
والفرق بين الأمرين: أن جنس العبادة أو متعلقها مما هو جنس، مقصود من مقاصد الشرع، وصفة متعلقها إنما هي صفة ليست مقصودة له، وعلى الصفة تتخرج مسألة ناذر الصلاة في المسجد الأقصى، فلا إشكال، والله أعلم.
الدرهم أن يتركه ويخرج غيره (105)، مع أن ظاهر كلامهم يقتضي تعيينه بالإخراج، وذلك يقتضي أن الخصوص يتعلق به قصد شرعي وعادي، وهو خلاف قاعدتهم في عدم التعيين (105 م).
قلت: الخلاف في التعيين، فقيل: لا يتعين مطلقا. وقيل: يتعين بالاخراج، وهما قولان معروفان. ومع اختلاف. القولين في المذهب، أي إشكال في ذلك؟ وإنما كان يكون الإشكال لو كان القول واحدا.
قال شهاب الدين:
الإشكال الثالث، مقتضى ما تقدم منَ تقديم المسجد الحرام على الأقصى أن تكون أجناس المنذورات كلها كذلك، يقدم فاضلها على مفضولها ويخرج القمح بدل الشعير (106). أي فيُطْلَب الفرق كما قال القرافي رحمه الله.
قلت: لا إشكال من حيث إن وزان المسجد الاقصى والمسجد الحرام، من نذر أن يتصدق ثمانية دنانير فأعطى مائتين، ذلك جائز لا كلام فيه، وليس وزان المسألة من نذر أن يتصدق بشعير، فإنه يعطي قمحاً من حيث إن القمح
(105) عبارة القرافي هنا هي قوله: ويلزم إذا نذر أن يتصدق بهذا الدرهم أو بدراهم لم يعينها ان يخرج عوضها دنانير، لأن التقرب في المالية لا في كونها دراهم أو دنانير، قد يكون أحدهما انفع للفقير، وهو ما لم ينذره، لراحته من الصرف في دفع الدراهم عن الدنانير المنذورة.
وقد علق الشيخ ابن الشاط على هذا رحمه الله بقوله: ما قاله وألزمه من يقول إن النقدين لا يتعينان، صحيح، والله أعلم.
(106)
قال ابن الشاط رحمه الله: ليس ما قاله الفرافي في ذلك بصحيح، فإن مسألة المسجد الحرام والمسجد الاقصى ليست من نيابة الجنس عن الجنس، بل من نيابة الصفة العليا عن الصفة الدنيا، والله أعلم.
والشعير نوعان مختلفان، وهما بمنزلة الصوم والصدقة أو الصلاة والصوم، والله أعلم (107).
قلت: ولنذكر مسائل نلحقها بباب الأيْمان، هي لائقة به لم يذكرها شهاب الدين:
المسألة الأولى قال مالك: يلزم نذر المشي إلى بيت الله، ولا يلزم ذلك في المدينة وبيت المقدس، والكل مواضع يتقرب بإتيانها إلى الله، وقد ذكر الجميع في استعمال المطي، فالجواب أن في المشي إلى بيت الله طاعة، فلزم النذر، والطاعة في بيت المقدس والمدينة الصلاة في مسجديهما فقط، فلم يلزم نذر المشي، لأنه لا طاعة فيه.
ألا ترى أنه إذا نوى الصلاة في مسجديهما لزمه ذلك، ولو نذر أن ياتي المسجد من غير صلاة لم يلزمه، لأن الطاعة إنما هي الصلاة فقط.
المسألة الثانية، ابن القاسم: إذا حلف أن لا يأكل سمنا فأكل سويقا ملوثا بسمن، حنث، وإذا حلف أن لا يأكل خلا، فأكل من طعام الخل لم يحنث، وفي كلا الموضعين، عين المحلوف عليه قد استهلك.
(107) أقول: وأختم تعاليق هذا الباب المتضمن لقواعد الأيمان والنذر، بما حرره الفقيه المحقق الشيخ ابن الشاط رحمه الله في النذر فإنه مهم جدا حيث قال:
وتلخيص القول في المنذورات عندي إن الناذر إذا نذر عملا من أعمال البر فإنه لا يخلو من أن يكون منذوره ذلك معين الشخص كما إذا. قال: لله علي أن اعتق هذا العبد أو أتصدق بهذا الثوب. أولا يكون منذوره ذلك معين الشخص، فإنه لا يجزئه في الخروج عن عهدة ذلك النذر إلا ذلك المعين. وإن لم يكن منذوره ذلك معين الشخص فلا يخلو أن يكون معين النوع، كما إذا قال: لله علي أن أصوم أو لا يكون كذلك. فإن كان معين النوع فلا يخلو مع كونه معين النوع أن يكون معين الصفة أو لا يكون كذلك، فإن كان معين النوع فقط فلا يجزئه إلا ذلك النوع بأي صفة كان. وإن كان معين النوع والصفة مما لا يتعلق بها مقصد شرعي فلا يجزئه بأدنى من تلك الصفة، ويجزئه بأعلى منها، وعلى هذه المسألة تخرج مسألة المسجد الاقصى والمسجد الحرام. وإن كان معين النوع كما إذا قال: لله علي أن أعمل عملا صالحا فإنه يجزئه اي عمل من اعمال البر عمله، والله أعلم.
والفرق بينهما أن الخل إذا طبخ زال اسمه وانتقل إلى إسم آخر، وهو مَرَقه، فلم يحنث، لأنه إنما أكل مرقه لا خلا، والسمن اسمه باق، إنما انضاف إلى غيره، وذلك لا ينقله عن اسمه، ألا ترى أنه يقال: سمن ملوث بسويق، ولا يقال ذلك في الخل، فافترقا.
المسألة الثالثة، إذا كرر اليمين بالله مرارًا على شيء واحد، فهي بمنزلة واحدة، إلا أن يريد التكرار، والطلاق على التكرار إلا أن يريد التأكيد، فلم كان ذلك؟
فالجواب أن كل طلقة لها حكم تختص به، لأن الواحدة لا توجب التحربم في المدخول بها. والاثنتان توجبان ضُعْف ملك الزوج لها، لأنها تبقى معه على واحدة. والثلاثة توجب التحريم إلا بعد زوج، فلم تنضم واحدة مع أخرى إلا للمعنى الذي اختص. به كل طلقة، فهي للتكرار، واليمين بالله موجب واحد لا يختلف، فكان تكرارها محمولا على ذلك الموجب لا يختلف إلا أن يراد غيره. وأيضًا فالطلاق غُلِّظ في أمره ما لم يغلظ في اليمين بالله تعالى، فجاز أن يلحقه التغليظ في هذا الوضع دون اليمين.
المسألة الرابعة، ابن القاسم: إذا حلف بعتق عبده فباعه عليه السلطان في دين، فمتى عاد إليه عادت عليه اليمين إلا أن يعود عليه بميراث، فلا شيء عليه، والمحلوف به قد عاد إليه في الجميع. فلم كان ذلك؟
فالجواب أن التفليس لتهمة تلحقه أن يكون أظهره ليبطل العتق، فلما اتهم عاد إليه اليمين إذا اشتراه، ولذلك لو باعه ثم اشتراه، التهمة تلحقه أن يكون باعه فيبطل عتقه، وليس كذلك إِذا عاد إليه بالميراث، اذ لا تهمة، فلم تعد اليمين عليه.
انتهى الجزء الأول من كتاب ترتيب الفروق واختصارها، وكمل والحمد لله على ذلك، ويليه الجزء الثاني بعون الله وتوفيقه، مبتدئا بقواعد الزواج وما يتبعها من الأبواب المتصلة به، وقواعد المعاملات والحمد لله أولا وأخيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. وما توفيقِي إلَّا بِاللهِ عليه توكلتُ، وإليه أنيبُ.
مصادر التحقيق ومراجعه
1) النسخ المخطوطة لكتاب ترتيب الفروق.
2) كتاب الفروق لشهاب الدين القرافي: الطبعة الأولى: 1344.
3) الموافقات في أصول الاحكام للحافظ المجتهد أبي اسحاق الشاطبي، المطبعة السلفية بمصر: 1341
4) قواعد الأحكام في مصالح الأنام للإِمام عز الديز ابن عبد السلام ط دار المعرفة، بيروت.
5) شرح العلامة المحلي على متن جمع الجوامع لتاج الدين بن السبكي، مطبعة دار إحياء الكتب العربي
6) شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول الإِمام القرافي. طبع دار الفكر القاهرة.
7) أصول الفقه للاستاذ الشيخ العربي اللوه، مطبعة كرماديس 1972. تطوان
8) أصول التشريع للاستاذ على حسب الله ط. الثالثة. دار المعارف. مصر 1383.
9) تفسير القرآن العظيم للامام الجليل أبي الفداء إسماعيل بن كثير. ط دار المعرفة. بيروت.
10) مصادر التشريع فيما لا نص فيه، تأليف الاستاذ عبد الوهاب خلاف.
11) أصول الفقه لنفس المؤلف.
12) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، للإِمام جلال الدين عبد الرحمان السيوطي. ط. دار إحياء الكتب العربية لعيسى البابي الحلبي وشركائه.
13) مقاصد الشريعة الاسلامية ومكارمها، لأستاذنا المرحوم علال الفاسي، نشر مكتبة الوحدة العربية - الدار البيضاء.
14) المحرَّرُ الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، للقاضي أبي محمد عبد الحق بن عطية، الاندلسي، طبع وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية بالمملكة المغربية.
15) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للإِمام الزمخشري. ط. الأولى 1354 هجرية.
16) في ظلال القرآن للشهيد سيد قطب. ط. الثانية، م. دار إحياء الكتب العربية 1961.
17) صفوة التفاسير للاستاذ الجليل محمد على الصابوني. الطبعة الثانية: بيروت. 1401 - 1981.
18) الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم للقاضى ابي بكر بن العربي المعافري. دراسة وتحقيق الاستاذ الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري. طبع وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية. 1408 - 1988.
19) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد للامام الحافظ ابن عبد البر النَّمرِي، طبع وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية بالمملكة المغربية.
20) شرح الزرقاني على موطأ الإِمام مالك. طبع ونشر عبد الحميد احمد حنفي بمصر.
21) إرشاد الساري إلى صحيح الامام البخاري، وبهامشه شرح الامام النووي على صحيح الامام مسلم. الطبعة السادسة، طبعة بولاق، مصر. 1304 هـ.
22) سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي وحاشية الامام السندي، تحقيق الشيخ حسن المسعودي. المطبعة المصرية بالازهر، (1398 - 1978)
23) فتح المبين بشرح الاربعين، للعلامة الحافظ ابن حجر الهيثمي. ط دار الكتب العلمية بيروت.
24) الترغيب والترهيب للحافظ عبد العظيم المنذري، تعليق المرحوم الشيخ مصطفى محمد عمارة، مراجعة الشيخ عبد الله بن ابراهيبم الانصارى. ط المكتبة العصرية. بيروت.
25) سنن ابى داود، طبعة دار الفكر.
26) شرح سبل السلام على بلوغ المرام من أدلة الاحكام، للإِمام محمد بن اسماعيل الصنعاني. ط. الرابعة. دار إحياء التراث العربي.
27) فقه السنة للسيد السابق. نشر دار الكتاب العربي، بيروت.
28) التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. تاليف الشيخ منصور علي ناصف، ط. الرابعة، ط. مطبعة عيسى البابي الحلبي.
29) المقدمات الممهدات، تاليف أبي الوليد محمد بن رشد القرطبي الجد. تحقيق الاستاذ الدكتور محمد حجي، ط دار الغرب الاسلامي. بيروت.
30) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لأبي الوليد محمد بن احمد ابن رشد الحفيد، ط. مطبعة الاستقامة بالقاهرة.
31) القوانين الفقهية للشيخ ابن جُزَي، ط ثانية، مطبعة الأمنية، 1377
32) جواهر الإكليل، شرح العلامة الشيخ صالح عبد السميع الأبي الأزهرى على مختصر الشيخ خليل في مذهب الإِمام مالك. ط دار الرشاد الحديثة.
33) شرح كفاية الطالب الرباني، للإِمام أبي الحسن على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، طبع عبد الحميد احمد حنفي، مصر.
34) الشرح الكبير للشيخ احمد الدردير على مختصر الشيخ خليل، ط. دار إحياء الكتب العربية.
35) الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الامام مالك للشيخ احمد الدردير، ط دار المعارف بمصر 1392.
36) شرح الإِمام ابي عبد الله محمد التاودي على منظومة تحفة الحكام في فقه القضاء والأحكام. مطبعة حجازي بالقاهرة.
37) العذب الزلال في مباحث رؤية الهلال، تاليف شيخنا محمد بن عبد الوهاب ابن عبد الرازق المراكشي. ط إدارة المنشورات الدينية بدولة قطر. 1397 - 1977
38) المعبار المُعْرِب، والجامع المُغْربِ عن فتاوى أهل افريقية والاندلس والغرب. تحقيق جماعة من الفقهاء بإشراف الدكتور محمد حجي، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية بالملكة المغربية 1401 - 1981.
39) النوازل الصغرى للفقيه المحقق الشيخ محمد المهدي الوزاني، تحقيق وطبع وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية بالملكة المغربية: 1412 - 1992.
40) شرح ميارة الكبير على نظم المرشد المعين.
41) زاد المعاد في هدي خير العباد للامام الشهير، العلامة شمس الدين أبي عبد الله محمد بن قيم الجوزية، الطبعة الثالثة 1392 - 1973.
42) تهذيب سيرة ابن هشام للاستاذ عبد السلام هارون. ط المجمع العلمي العربي الاسلامي، بيروت.
43) فقه السيرة للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، ط. الثانية دار الفكر للطباعة والنشر.
44) المصنفات المغربية في السيرة النبوية ومصنفوها: للاستاذ الدكتور محمد يسف. ط. 1412 - 1992.
45) نور اليقين في سيرة خير المرسلين للشيخ محمد الخضري.
46) إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء للشيخ محمد الخضري.
47) ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، تاليف الإِمام الحافظ القاضي عياض السبتي، تحقيق وطبع وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية بالمملكة المغربية.
48) الديباج المذهب في أعيان علماء المذهب لمؤلفه الامام الشهير ابراهيم بن فرحون. ط. مكتبة دار التراث. القاهرة. تحقيق الدكتور محمد الأحمدي ابو الثور.
49) نيل الابتهاج بتطريز الديباج للشيخ احمد يابا التنبكتي. ط. مكتبة دار التراث. القاهرة تحقيق الدكتور محمد الأحمدي ابو الثور.
50) الإعلام بمن حلَّ مراكش وأغمات من الأعلام، للفقيه القاضي الشيخ العباس بن ابراهيم المراكشي. المطبعة الملكية الرباط، تحقيق ذ. عبد الوهاب بن منصور.
51) مباحث في المذهب المالكي، للاستاذ الدكتور عمر الجيدي: الطبعة الاولى 1993.
52) كتاب الأعلام لخير الدين الزركلي: الطبعة العاشرة 1992 - ط. دار العلم للملايين.
53) وفيات الأعيان لابن خلكان: ط المطبعة الميمنية بمصر.
54) البداية والنهاية للحافظ ابن كثير: ط. دار الفكر - بيروت
55) كشف الظنون لحاجي خليفة. ط. دار الفكر: 1402 - 1982.
56) إيضاح المكنون للبغدادي: ط دار الفكر.
57) شجرة النور الزكية لابن مخلوف.
هدية العارفين لمؤلفه اسماعيل باشا البغدادي. ط. دار الفكر 1402/ 1982.
58) طبقات الشافعية لأبي بكر هداية الله الحسيني. تحقيق وتعليق الاستاذ عادل نويهض. دار الافاق الجديدة - بيروت.
59) النبوغ المغربي في الادب العربي: للاستاذ المرحوم الشيخ عبد الله كنون ط الثالثة.
60) علوم البلاغة للشيخ للمرحوم الشيخ احمد مصطفى المراغي. ط. الخامسة نشر المكتبة المحمودية التجارية.
61) شرح الشيخ احمد الدمنهوري على جوهر المكنون، الامام الاخضري في المعاني والبيان والبديع.
62) شرح الشيخ ابن عقيل على الفية ابن مالك في النحو.
63) (مكرر) شرح التلخيص في علوم البلاغة، للامام جمال الدين القزويني، وتخريج شواهده، للاستاذ محمد هاشم دويدري، نشر دار الحكمة بدمشق.
64) مغني اللبيب لجمال الدين ابن هشام الانصاري.
65) قطر الندى وبل الصدى لابن هشام الأنصارى، ومعه سبيل الهدى بتحقيق شرح قطر الندى. للاستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد.
66) شرح العلامة الشيخ حسن القويسني على منظومة السُّلَّم للعلامة الاخضري.
67) النطق التطبيقي للفقيه العلَّامة المرحوم الشيخ العربي اللوه. ط تطوان 1975.
68) الاحكام السلطانية في الولايات الدينية للعلامة الشيخ أبي الحسن علي الماوردي ط. دار الكتب العلمية بيروت.
69) أدب الدنيا والدين. لنفس المؤلف الماوردي.