المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌قواعد العلل وفيها ستَّ عشْرَةَ قاعدةً:   القاعدة الأولى (1) نقرر فيها الفرق بين - ترتيب الفروق واختصارها - جـ ١

[البقوري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌ترجمة الإمام الفقيه أحمد بن ادريس القرافي (*) مؤلف كتاب الفروق في القواعد الفقهية:

- ‌ترجمة الفقيه الشيخ ابن الشاط

- ‌ترجمة الفقيه الشيخ محمد بن ابراهيم البقوري

- ‌القواعد الكلية بالنسبة إلى ما بعدها

- ‌القاعدة الأولى: في تقرير أنه الشريعة قامت برعاية المصلحة ودرء المفسدة

- ‌القاعدة الثانية: في أقسام المصلحة والمفسدة على الجملة

- ‌القاعدة الثالثة: في الحكم في اجتماع المصالح، وفي اجتماع المفاسد، وفي اجتماعهما

- ‌القاعدة الرابعة: في حكم المصالح والمفاسد المبنية على الظن

- ‌القاعدة الخامسة: فيما يترك من الصالح لسبب، وفيما يفعَل من المفاسد لسبب

- ‌القاعدة السادسة: في بيانه أنه ليس كل المصالح يؤمر بكسبها، ولا كل المفاسد ينهى عن فعلها

- ‌القاعدة السابعة: فيما به يعرف ترجيح المصلحة والمفسدة

- ‌القاعدة الثامنة: في أمر الثواب والعقاب، هل هو في التفاوت وعدمه مرتبط بالأعمال أو بالمصالح والمفاسد

- ‌القاعدة التاسعة: في تقرير أن المصالح والمفاسد لا يرجع شيء منها إلى الله جل وعلا

- ‌القاعدة العاشرة: في أن الصالح والمفاسد بحسب العبيد -كما قلنا- قائمة معتبرة في الشرع

- ‌القاعدة الحادية عشرة:

- ‌القاعدة الثانية عشرة:

- ‌القاعدة الثالثة عشرة:

- ‌القواعد النحوية وما يتعلق بها

- ‌القاعدة الأولى: في الشرط

- ‌القاعدة الثانيةفي تقرير مقتضى إن، ولو، الشرطيتين، بحسب الزمان

- ‌القاعدة الخامسة: قاعدة التشبيه

- ‌القاعدة السادسة

- ‌القاعدة السابعة

- ‌القاعدة الثامنة

- ‌القاعدة التاسعة:فيما به يفترق جزء العلة عن الشرط وفيما به يشتركان

- ‌القاعدة العاشرة:في بيان المانع

- ‌القاعدة الثانية عَشْرَة

- ‌القاعدة الثالثة عشرة

- ‌القاعدة الرابعة عشرة

- ‌القاعدة الحامسة عشر

- ‌القواعد الأصولية

- ‌القاعدة الخامسة:في تقرير أنه ما ليس بواجب لا يُجْرِئُ عن الواجب

- ‌القاعدة الثالثة والعشرون

- ‌المتعلق منها بالعموم والخصوص وما يناسبها:

- ‌المفهوم

- ‌الخبر

- ‌القاعدة الأولى:في الفرق بين الرواية والشهادة

- ‌قواعد العلل

- ‌الاجتهاد:

- ‌القواعد الفقهية

- ‌قواعد الصلاة

- ‌الصوم

- ‌الزكاة

- ‌الحج

- ‌الجهاد

- ‌الذكاة

- ‌الأطعمة

- ‌الأيمان

الفصل: ‌ ‌قواعد العلل وفيها ستَّ عشْرَةَ قاعدةً:   القاعدة الأولى (1) نقرر فيها الفرق بين

‌قواعد العلل

وفيها ستَّ عشْرَةَ قاعدةً:

القاعدة الأولى (1)

نقرر فيها الفرق بين قاعدة السبب الشرعي، سالما عن المعارض مِن غَيْر تخيير، يترتب عليه مسببه، وبين قاعدة وجود السبب الشرعي سالما عن المعارض، مع التخيير، فلا يترتب عليه مسببه.

وبيان هذا أن الشافعية تقول: إن المرأة إذا حاضت بعد زوال الشمس ترتب (2) عليها وجوب الظهر وبقي في ذمتها، حتى إذا طهرت قضت تلك الصلاة. والمالكية تقول: لا تَقْضِيهَا إذا حاضت في آخر وقتها بمقدار ركعة من الصلاة، فالشافعية تقول: وجد السبب الشرعي في حقِها سالما عن المعارض، فترتب الوجوب عليها، ولا تفرق بين ما فيه تخيير وما لا تخيير فيه.

والمالكية تقول: لا يترتب من حيث التخيير، وإنما يترتب إذا ارتفع التخيير، وذلك إذا وجد السبب سالما عن المعارض من غير تخيير، وهذا يكون آخر الوقت، فإن التخيير حينئذ يزول ويتعين الوقت، فأشكل قول مالك في هذا وصار ملتبسا بمذهب الحنفية التي تقول: الوجوب تعلق بآخر الوقت.

والجواب عن هذا حتى (3) يتحقق الفرق بين هاتين القاعدتين ويظهر، أنا لا نقول: الوجوب تعَلَّقَ (4) بآخر الوقت بل بأوله، ومع ذلك نقول بما نقول، لأجل

(1) هذه القاعدة هي موضوع الفرق الثامن والثمانين من كتاب الفروق جـ 2 ص 137.

وتمامه عند القرافي مما لم يذكره البقوري، قوله:"ولم يميز أحدهما عن الآخر إلا بالتخيير وعدمه مع اشتراكهما في الوجود والسلامة عن المعارض". ثم قال القرافي رحمه الله في أوله: "وهذا الفرق بين هاتين القاعدتين، فيه صعوبة وغموض، ويظهر لك الغموض والصعوبة بما ورد على المالكية لما خالفوا الشافعية فقالوا: المعتبر من الأوقات في الصلوات أو آخرها دون أوائلها .. الخ".

(2)

في نسخة ح: يترتب.

(3)

في نسخة ح: حين، وكلمة حتى أظهر وأبين في تمام المعنى.

(4)

في نسخة ح: يتعلق (بالمضارع).

ص: 307

التخيير الموجود هو أن نقول: مما يدل على صحة الفرق الذي ذهب إليه مالك،

صور كثيرة موجودة لا نزاع فيها هي مثلها (5).

فمنها أن من اشترى صاعا من صُبْرَةٍ، فلمن باعه أن يبيع سائر الصيعان من غير المشترى لذلك الصاع، فلو فعل ذلك وبقي صاع فتلف بآفة سماوية انفسخ العقد ولم ينتقل الصاع للذمة، كما لو تلفت الصبرة كلها بآفة سماوية.

والسبب في ذلك أن العقد تعلق بالقدر المشترك بين صيعان الصبرة وهو مطلق الصاع، فتصرف بِمقْتَضَى التجويز فيما عدا الصاع الواحد، وأتت الجائِحَةُ على ذلك الصالح، فكان التخيير في غيره مع الآفة فيه كالآفة في الجميع، كذلك أجزاء الوقت كالصيعان يجب منها واحد فقط، فإذا تصرفت المرأة في ضياع ما عدا الأخير منها بالإِتلاف ثم طرأ العذر في آخرها قام ذلك مقام وجود العذر في جميعها. ولو وجِد العذر في جميعها سقطت الصلاة، فكذلك إذا وجد ما يقوم مقامه وهُوَ التخيير مع العذر في الآخر، وبالتخيير حصل الفرق بين سبب الوجوب الذي هو القدر المشترك بين أجزاء القامة وبين رؤية الهلال، فإنه سبب الوجوب، فإذا وُجِد سالما عن المعارض ترتب عليه الوجوب، فالفرق من حيث التخيير وعدمه.

ومثل هذا لو وجب عليه عتق رقبة في كفارة الظهار، وكان له عدة من العبيد، فله أن يتصرف فيما عدا الرقبة الواحدة بما شاء من البيع والعتق، فلو فعل ذلك ثم إنه طرأ على الرقبة الباقية للكفارة آفة لا ينتقل إلى الصيام. ولا يقال: هي متعلقة بذمته، وَمَا سبب ذلك إلا التخيير، وأما سبب الوجوب (6) فقد وجد في حقه سالما عن المعارض، ولكنه كان ذلك على التخيير.

(5) عبارة القرافي هنا رحمه الله: "ونوضحه بذكر نظائر من الشريعة".

(6)

في نسخة ع: الوجود، ولعل ما في نسخة ح من الوجوب أظهر وأبين، وهو الصواب، ويتماشى ويتناسق مع قوله في أول هذه الفقرة: ومثل هذا لو وجب عليه عتق رقبة، ويستفاد من كلام القرافي رحمه الله في هذا الموضع.

ص: 308

ومثل هذا لو كان له عِدَّة ثِياب للسترة (أيْ في الصلاة) فتَصَرَّف أيضًا فيها عدَا الواحد، ثم ضاع ذلك الواحدُ لسقط عنه الوجوب.

ومثل هذا لَوْ كان عنده من الماء كفايتُهُ للوضوء مِرارا فتصرّف في الزائد، ثم طرأ على الكفاية ذلك لَما وجب عليه.

وكذلك مَنْ كان عليه قدرٌ معلوم للزكاة الواجبة عليه لأجْل الفِطر وزيادةٌ عليها، فتصرف في الزائد ثم ضاع، لسَقط عنه الوجوب.

فهذه الصور وغرها لو استُقرئتْ تَحَقَّقَ أن الحق ما اعتبَرهُ مالك رحمه الله من الفرق بين وجود السبب سالما عن المعارض يترتب عليه الوجوب إذا لم يكن تخيير. ولا يترتب عليه إذا كان ثَمة تخيير.

ولا يقال: هو رجُوعٌ إلى مذهب الحنفية في مسألة الأوقات، بل الوجوبُ موسَّعٌ من أوّله إلى آخره، ولكنه للتخيير الذي فيه تصوَّر ما تَصَوَّر، واللهُ أعلم. (7)

القاعدة الثانية (8)

نقسم فيها الأسباب، ثمَّ نقرر الفرق بين بعضِ الأسباب وبعضٍ، فنقول:

(7) قال الإِمام القرافي رحمه الله في ختام الكلام على هذا الفرق وما ذكره فيه من أمثلة ونظائر: "وظهرَ أنه لا فرق بين قيام الْمعَارض في جميع صُوَر السَّبب وبيْن قِيامه في بعض صُورَهِ إذا كان التَّخييرُ في البَعض الآخَر، فتأمَّلْ هذا الفرق فهو دقيق، وهو عُمدة المذهب في هذه المواضع

وقد علق عليه الفقيه ابن الشاط رحمه الله بقوله: ما قاله صحيح.

(8)

هي موضوع الفرق الخامس والثلاثين بين قاعدة الأسباب الفعلية وقاعدة الأسباب القولية

جـ 1، ص 203.

قال عنه القرافي في أوله: "فالأسباب الفعلية كالاحتطاب والاحتِشاش والاصْطياد، والأسبابُ القوليةُ كالبيع، والهِبة والصدقة والقِراض، وها هو في الشرع من الأقوال سبَبُ انتقالِ المِلك، وافترقتْ هاتان القاعِدتانِ من وجوه تظهر بذِكْر مسائِلِها .. ثم بدأ بالكلام على الأسباب الفعلية الخ.

وقد علق عليه ابن الشاط في أول الكلام أعلى الفرق الرابع والثلاثين بقوله: ما قاله في الفرق الخامس والثلاثين صحيح.

ص: 309

إنَّ السبب ينقسم إلى عقْلي وشرعى، ثم الشرعي ينقسم إلى ما هو شرط وإلى ما ليسَ هو شرطاً. ثم الذي ليس بِشرط ينقسم إلى ما هو بجَعْل الله، ليس للمكلَّف فيه دخَلٌ، كالزوال لِصلاة الظهر، وإلى ما للمكلَّف فيه دخَل، وهذا ينقسم إلى فِعلى. وقوْلي، فالفعِلي كالاصطياد سببٌ للملك، والقولي كالشِّراءِ سببٌ للملك أيضا.

فإذا تقرر هذا فنقول: اختلف الفقهاء، أيُّ سبب أقوَى؟ ، فَقِيلَ: الفِعلُ أقوى، لأن الأسباب الفعليةَ تصح من المحجُور عليهِ ولا تُرَدُّ، والأسباب القولية يُرَدُّ مقتضاها، ولا يمضي بيعُه وصدقتُهُ وقِراضُهُ، وغيرُ ذلك من الأسباب القولية لا يترتب عليها مسبِّبُها، واصطيادهُ وسائر أفعاله التي يَملِك بها لا يبطُل مسببها، وكذلك وطْؤُه لأمَتِهِ سَبَبٌ لأنْ تصيرَ أم ولد فتعتق، لا يبطُلُ أيضا، وعتقه لها يبطل ولا يمضى، مع أن العتق خيرٌ عظيمٌ في الشريعة.

وقيل: إن السبب القوْلي أقوى، لأن العتق بالقول يستعْقِبُ العتق، وبالفعل ليس كذلك، والسببُ الذي يستَعْقِبُ مسبَّبه (9) أقْوى. وأيْضاً مما يدل على أن السبب القول أقوَى، أن التَّملُّك (10) بالِإحياء أضعفُ من التملك بالشراء، لأن التملك بالِإحياء إذا زال الِإحياءُ بطل الملك عند مالكِ (11) ولا يبطُل المِلْكُ عند الشافعى ومالِكٍ في القولي إلا بِسَبَبٍ ناقِلٍ ولمالِكٍ فروع كثيرةٌ. تدل على هذا،

(9) في النسختين: ع، ح، يستَعْقِبه مُسَبِّبُهُ، وعند القرافي: يستعقِبُ مسببّه، وهو أظهر، لأن المعنى أن المسَبِّبَ يكون عقِبَ السبب ويأتي بإثْره، وهو ما ينسجم مع أول هذه الفقرة عند البقوري، فلْيتأمَّلْ.

(10)

في نسخة ع: التمليك.

(11)

وأصل التملك بالإحياء لموات الأراضى، وهي الأرض الخلاء التي لا مالك لها من قبل الفرد ولا من قبل الجماعة: حديث: "من أحْيَى أرضًا موَاتًا فهي له" أخرجه أصحاب السَّنَن. ومعْنى إحيائها، إعدادُها بالتهْيء، والتعمِير، وجعْلُها صالحةً للانتفاع بها في السكنَى والزرع ونحو ذلك، ولا يخلو كتاب من كتب الفقه على التبويب له، وبيان أحكامه التفصيلية، فليرجع إليها من تعلقت همته بذلك.

ص: 310

كالصيد يتوحش، يزول مِلكه، والنحْلِ يَفِرُّ عن جَبْحِهِ، والسمكِ ينقلب للبحر بعد صيْده له فيصيدهُ غيرُه.

القاعدة الثالثة (12)

تقرر فيها الفرق بين الأسباب العقلية والأسباب الشرعية، فنقول:

السببُ العَقْلي أولى كالضياء عن قُرْص الشمس، والشرعى نحو بِعت وطلقت، وغير ذلك من الأسباب التي تَتَرتَّبُ عليها أحكام شرعية.

فإذا تقرر هذا، فنقول:

قال الأستاذ أبو إسحاق الإسْفَرايْني رحمه الله: يَثْبُتُ مسبَّبُ هذا القسم مع آخرِ حَرْف منه تشبيها للأسباب الشرعية بالأسباب العقلية، من حيث إن العلل العقلية لا يوجَد معلوُلها إلا حالةَ وجودها لا حالةَ عدمها (13)، فكذلك هذه الأسبَابُ الشرعية، إذا عُدِم آخرُ حرْف منها عُدِمتْ جملتها فلا توجب حكْماً،

(12) هي موضوع الفرق الواحد والثمانين بعْدَ المائة، جـ 2. ص 218 بين قاعدة الأسباب العقلية، وبين قاعدة الأسباب الشرعية نحو بعْتُ، واشتريتُ، وأنت طالق، وأعتقْتُ ونحوه من الأسباب". ومع أن الشيخ ابن الشاط رحمه الله تتبع كلام الإِمام القرافي في هذا الفرق وعقب عليه بما عقب عليه من تصحيح وتصويب لبعض الفقرات والمسائل، فإنه قلل من أهميته، وفائدته، وقال: هُو فَرْق لا طائل وراءهُ، والكلام فيه تعمّق في الدين وتكلف، ولا يتوصل فيه إلى اليقين.

قلت: لا أظن أن الإِمام القرافي رحمه الله، يغيب عن ذِهْنهِ وفكره ذلك الملحظ لهذه الدرجة، على جلالة قدره ومكانته العلمية وطُولِ باعِهِ في هذه القواعد الفقهية، فلعل التأمل في كلامه بتأنٍ، والنظَرَ فيه بتعمق يهدي ويوصل إلى أن وراء كلامه في هذا الفرق طائلا وفائدة، وقد سبق لي في قاعدة قبل هذه أن أشرتُ إلى أن إيراد مثل هذه المسائل هي بهدف شحذ الذهن وتقوية الفكر وتكوين ملكةٍ المناقشة والمناظرة العلمية، إضافة إلى ما ترمي إليه بالأساس من تقعيد قاعدة فقهية وتأصيلها، أو استنباط واستخلاص الوصول إلى الحكم الفقهى فيها، وما يتفرع عن ذلك من تبين وجهات نظر الفقهاء وأساس اختلاف الأئمة في بعض الفروع والجزئيات الفقهية، والله أعلم.

(13)

عبارة القرافي هنا: تشبيها للأسباب الشرعية بالعلل العقلية، لأن العقلية لا توجبُ معلولها إلا حالة وجودها

الخ.

ص: 311

وجُعِل آخرُ حرف منها كوجودها بجملتها، لأنَّهُ الوجود الممكن في حقها، لأنها مصادِر سَيَّالَةٌ يستحيل وجودُها بجملتها.

وقال غيرُهُ من العلماء رضي الله عنهم: ينبغي أن لا يكون تقدير مسبَّباتِ هذِه الأسباب إلا عَقِيب آخِر حرف وإن عُدمت جملة الصيغة، لأن المُسَبَّبَ إنما تحقق، عادةً، حينئذ، وعلى هذه الطريقة تحقق الفرق بين الأسباب العقلية والأسباب الشرعية.

والأسباب الشرعية أيضا تنقسم إلى ما يوجب مسبَّبها كبعْتُ، والى ما يوجبُه استلزاما كالعتق عن الغير، (14) فقيل: يقدَّرُ المِلك قبل النطق بالصيغة بالزمن الفرد، لضرورة ثبوت الولاء له، ولبراءة ذمته من الكفَّارةِ.

وقال بعض الشافعية: يثبت المِلك مع العتق، لأن التقدم (15) على خلافِ الأصل.

وقال شهاب الدين: هذا المذهبُ غير متجه، لأن المِلك مضادٌّ للعتق، واجتماعُ الضدين محال.

قلت: وقد تقدم أيضا أن قاعدة التقدير ما تحققتْ له، واستدلاله عليها ضعيف.

(14) عبارة القرافي هنا أوسع وأظهر، وهي قوله: "ومن وجه آخر يَحْصُلُ الفرق، لأن هذه الأسباب الشرعية تنقسم إلى ما يوجب مسبَّبه إنشاء، نحو عتْق الإنسان عن نفسه والبيع الناجز، والطلاق الناجز، وإلى ما يوجبه استلزاما كالعتق عن الغير، فإنه يوجب الملك للمعتَق عنه بطريق الالتزام، بأن يقدّر الملك قبل النطق بالصيغة بالزمَن الفرْدِ، لضرورة ثبوت الولاء له، ولبرآة ذمته من الكفارة المعتقِ عنها.

وعقب عليه ابن الشاط بقوله: ما قاله منِ استلزام العتقِ والوطء إمضاء البيع المحصِل للملك، صحيح، وحصول المِلك هنا محقَقٌ لا مقَدَّرٌ.

(15)

في نسخة: لأن التَّقْدِيمَ.

ص: 312

قال شهاب الدين رحمه الله: وتنقسم الأسباب الشرعية إلى ما يقتضي ثبوتا وإلى ما يقتضى إبطالا كالبيع في الأول، والطلاقِ في الثاني، وبالله التوفيق. (16)

القاعدة الرابعة (17)

نقرر فيها ما يتقدم عليه مسبَّبُهُ من الأسباب الشرعية ومالًا، فنقول:

إن الأسباب معَ المسبَّبَات بحسَب ذلك تنقسم إلى أرْبعة أقسام:

(16) عبارة القرافي: وتنقسم أيْضًا الأسباب الشرعية إلى ما يقتضى ثبوتا كالبيع، والهبة والصدقة، وإلى ما يقتضى إبطالا لمسبَّب سببٍ آخر كفوات المبيع قبل القبض، يقتضى إبطال مسبب السبب السابق، وهو المبيع، وكذلك الطلاق والعتاق يقتضيان إبطال العصمة السابقة المترتبة على النكاح، والملك المترتّب في الرقيق على سببه.

وإذا قلنا بأن الفوات يوجب الفسخ، فهل يقتضيه معه، لأن الأصل عدم التقدم على السبب، أو قبله. لأن الانقلاب والفسخ يقتضى تحَقق ما يحكم عليه بذلك؟ خلاف بين العلماء.

وقد عقب عليه ابن الشاط بقوله: ما قاله صحيح، وبما سلف بين القول يتبين أي مذهبي العلماء في المعية أو القَبلية أصحُّ، والله أعلم.

(17)

هي موضوع الفرق الثاني والثمانين بعد المائة بين قاعدة ما يتقدم مسبّبُه عليه من الأسباب الشرعية وبيْن قاعدة ما لا يتقدمُ عليه مسَّببه. جـ 3 ص 222.

قال القرافي رحمه الله في أوله: اعلمْ أن أزمنة ثبوت الأحكام أربعة أقسام: ما يتقدم، وما يتأخر، وما يقارن، وما يختلف فيه، فأمَّا ما يقارن فكالأسباب الفعلية الخ

وقد علق الفقيه ابن الشاط رحمه الله على ما قاله القرافي في أول هذا الفرق، فقال:

ما قاله فيه صحيح. ثم زاد قائلا: وقوله: "وأمَّا ما تتقدم أحكامه عليه فكإتْلَاف المبيع قبل القبض، فإنك تقدر الانفساخ في المبيع قبْل تلفه ليكون المحل قابلا للانفساخ، لأن المعدوم الصرَف لا يقبل انقلابه لملك البائع على خلاف في ذلك، كمثل الخطأ فإن له حكميْن: أحدهما يتقدم وهو وجوب الدية بسبب الزهوق كالإرث، والثافي يقترن به وهو وجوب الكفارة الخ

لا يصح، فلا يصح تقدير الانفساخ في المبيع قبل تلفه، ولا حاجة إليه.

أما عدم الصحة فلِأن الصحيح في الأسباب، المطرد فيها، أن تَعْقُبها مسبّباتها أو تقارنها.

وأما عدم الحاجة إليه فَلِأن انقلاب المبيع إلى ملك البائع لا حاجة إليه، لأن الداعي إلى ذلك كون ضمانه منه، وكون ضمانه لا يستلزم كونه على ملكه، للزوم الضمان بدون الملك كما في المعتدي، وإنما كان ضمانه من البائع -وإن لم يكنِ على ملكه- لأنه بقيَ عليه فيه حق التوفيَة. ثم زاد ابن الشاط معقبا على المثال الثاني المتعلق بقتْلِ الخطإ وما ينشأ عنه من استحقاق الدية للورثة، قائلا: لا حاجة إلى تقدير ملك الدية، بلَ هو محقق، بناءً على أن السبب هو الإنفاذ لا الزهوق"، والمراد بالإنفاذ إصابة المقاتِلِ (أي الأماكن التي لا يبقى أمل معها في الحياة بعد إصابتها في الإنسان أو الحيوان.

ص: 313

قسم منها يقارن، لا يتقدم ولا يتأخر، كالأسباب الفعلية في حيازة المباح، كالحشيش والصيد، كشرب الخمر والزنى (أيْ لِلْحدود)، ومنها ما يتقدمُ الحكمُ على السبب كوجوب الدية قبل الموت في قتل الخطأ، وسَبُبَها زهوق الروح.

قلت: هذا ممنوع، بل نقول: ما تجب إلا بَعْدَ الموت، وكونها تورَث عنه ليس لأن ملكه قد تقدَّم لها، بل لأن الشرع جعل لها حكم المال الملوك للميت، فقضَى للورثة بأخْذها على أنصبائهم في الوراثة.

وقسم يتقدم ويتأخرُ مسببه، كبيع الخيار يتأخر فيه نقْلُ الملك عن العقْدِ إلى الإمضاء على الصحيح، وكالوصية يتأخر نقلها للملك في الموصى به إلى ما بعد الموت. (18)

وقسمٌ اختلِف فيه كالأسباب القولية، هل تقع مسَّبباتها معها أو بَعْدَها على ما مضى من مذهب أبي إسحاق الإسفرايني وغيْره. (19)

القاعدة الخامسة (20)

نقرر فيها ما يشترط فيه إجماع الشروط والأسباب وانتفاء الموانع، وما لا يشترط فيه ذلك، فنقول:

الإنْشآءات كلها يُشْتَرَط فيها ذلك، والإِقرار لا يشترط فيه ذلك، ومعنى

(18) قال ابن الشاط: إنما تأخر نقْلُ المِلك في بيع الخيار، لأن البيع إنما ثبت من أحد الطرفين، دون الآخَر، فهو عقد غيْرُ تامٍّ، متأخّر مسبَّبه إلى تمامه.

(19)

عقب ابن الشاط على هذا القسم المختلف فيه بقوله: الأمر في ذلك الخلاف قريب، ولا أراهُ يؤول إلى طائل.

(20)

هي موضوع الفرق الواحد والعشرين بعد المائتين بين قاعدة ما يشترط فيه اجتماع الشروط والأسباب وانتفاء الموانع وقاعدة ما لا يشترط فيه ذلك .. جـ 4. ص 37.

قال القرافي رحمه الله في أوله: إعلَمْ أن الإنشاءات كلها كالبياعات والإجارات والنكاح والطلاق وغير ذلِكَ يشترط فيها حالة إنشائها مقارَنة ما هو معتبر فيها حالة الإنشاء، بخلاف الإقرارات لا يشترط فيها حضور ما هو معتبر في المُقَرِّ بِهِ حالة الإقرار، لأن الإقرار ليس سببا في نفسه، بل هو دليل تقدم السبب لاستحقاق المقَرِّ بِهِ في زمن سابق .. الخ.

ص: 314

هذا أنه إذا قال: بعْتُ هذا -مثلا- بثمن كذا فلا بدَّ من اعتبار أسباب البيع كلها من حيث الأركان وشروط ذلك، وانتفاءُ مُوانعه حالةَ الإنشاء، فإذا قال له: عندى كذا من الدنانير لم يعتبر فيه النقد الغالبُ حينئذ، لأَن السبب لاستحقاق ذلك الدَّيْنِ قد تقدَّم، فمن قال لَه: عليَّ دينار مِن ثمن دابة، حَملْنَا هذا الإِقرار على تقدم بيع صحيح على الأوضاع الصحيحة في دابة تقبل البيع، لا خمْرٍ ولا خنزير مع ما هو معتبر في البيع، ولهذا قال العلماء: إذا باعه بدينار وفي البَلَدِ نقود مختلفة، حُمِل على الغالب من شكة البلد حينئذ، وَلو أقرّ بدينار في بلد، وفيها نقْلًا غالب، لا يتعين الغالبُ، لِأن السبب البيعُ المتقدم، ولعل السبب وقع في بلد آخر وزمان متقدم تقدما كثيرًا، فيكون الواقع حينئذ غيرَ هذه السمكة، وتكونُ هىَ الغالبة ذلك الوقت وفي ذلك البلد، والاستحقاق يتبعُ زمن وقوع السبب لا زمن الإقرارِ به.

القاعدة السادسة (21).

نقرر فيها الفرق بين عدم علة الِإذن أو التحريم، وبين عدمِ علة غيرهما (مِنْ العِلل).

إعلم أن عدَمَ كل واحدةِ من هاتين العلتين علةٌ للحكم الآخَر، فعدم عِلة الإذن علة للتحريم، وعدَمُ عِلة التحريم عِلةٌ لِلْإِذنِ. وأمَّا عدَمُ علة الوُجُوبِ فلا يلزم منه شيء، فقد يكون غيرُ الواجب محرَّما، وقد يكون مندُوبا أو مكروها أَو مباحا، وكذلك عدمُ الندب أو الكراهة، قد يكون الفعل واجباً أو محرَّما أو مباحا، ويتضح ذلك بذكْر ثلاثِ مسائل:

(21) هي موضوع الفرق التاسع والخمسين. جـ 2. ص 34.

قال الإِمام القرافي في أوله: إعلَمْ أن عدَمَ كلِ واحدة من هاتيْن العلتين عِلة للحكم الآخر، بخلاف غيْرهما من العلل

الخ.

وقد عقب ابن الشاط على ما جاء عِند القرافي في هذا الفرق بقوله: ما قاله فيه صحيح، وذلك أثناء تعقيبه على الفرق الثامن والخمسين.

ص: 315

المسألة الأولى: النظر في النجاسة والطهارة، فالنجاسةُ ترجع إلى تحريم، والطهارة ترجع إلى إباحة، وعلة التحريم في النجاسة الاستقذار والتوسلُ للإِبعاد، فإذا عُدمت هذه العلة للتحريم كان ذلك عِلة للطهارة التي هي إباحة، وهذا من حيث إنَّا نقول في النجاسة: إنها تحريم الملابسة في الصلوات والأغذية لأجْل الاستقذار والتوسل للإِبْعاد، والمرادُ بالقيْدِ الآخَرِ تحريم الخمر والسموم الموجبة للهلاك والأمراض، والطهارة عبارةٌ عن إباحة الملابسة في الصلوات، فعدم علّة التنجيس علة الطهارة، من حيث إن الواحدةترجع إلى التحريم والأخرى إِلى الإِباحة.

المسألة الثانية: تحريم الخمر معلَّل بالإِسكار، فمتى زال الإِسكار زال التحريم وثبت الِإذنُ، وجاز أكلها وشربها، وعلة إباحةِ شرب العصير مسالَمَتُهُ للعقل، وسلامتُه عن المفاسد، فعَدَم علة المسالمة والسلامة علَّة للتحريم، فظهر أيضا في هذه المسألةِ تصحيحُ ما قلناه. (22)

المسألة الثالثة، الحدث والطهارة، فالحدث يُقال على الأسباب الموجبة للوضوء ولا نريدهَا هُنا، ويقالُ على المنع المترتب على هذا السبب، وهذا المعنى هو المراد. فَقَولُ الفقهاء: يَنْوِي رفع الحدثِ، أيْ يَنْوي رفع اتصال المنع، وأمَّا أصْلُ المَنْعِ فلا يُرفع كما لا يُرْفعُ السبب الموجِبُ للوضوء، فإنهما واقعانِ قد وقَعَا.

فإذا علمتَ هذا، فالحدثُ يرجع إلى تحريم ملابَسَةِ الصلاة حتى يتطهر، وإذا كان الحدث عبارة عن التحريم، والطهارة إباحة ذلك المُحرَّم، فالأسبابُ الموجِبة للوضوء علة التحريم، وعدمها عِلة الإِباحة بعد التطهر، واستعمال الماء سبَبُ ارتفاع ذلك المنع وحصُولِ هذه الإِباحة، فحَصَل مِنْ هذا المثالِ أنَّ علَّة الإِباحة عدم علة التحريم، وعدم سبب الإِباحة علة التحْريم.

(22) كذا في نسختى ع، وح، وفي هذه المسألة عند القرافي:"فعَدَمُ هذه المسالَمة والسلامة عِلة لتحريمه (أيْ الخمر)، فظهر أيضا في هذه المسألة أنَّ عدم علة التحريم عِلة الإذن، وعدَمُ علة الإذن عِلة التحريم".

ص: 316

القاعدة السابعة (23)

نقرر فيها تداخل الأسباب وتساقطها، ونُظْهِر الفرق بينهما فنقول:

التداخل بين الأسباب معناه أن يوجد سببان مُسَبَّبُهُمَا واحد، والقياسُ يقتضي وجود مسبَّب لكل سبب، وتَساقُط الأسباب يكون عند التعارض وتنَافي المسبَّبَات، بأن يكون أحدُ السببيْن يقتضى شيئا والآخرُ يقتضي ضدّه أو نقيضَه، فيقدم صاحبُ الشرع الراجحَ منهما على المرجوح، فيسقط المرجوحُ، أو يستويان فيتساقطان معا. ثم التداخل والتساقط استويا في أن الحكم لا يترتب على السبب الذي دخل في غيره ولا على الحكم الذي سقط بغيره. ومثال التداخل هو ظاهر في ستة أبواب:

الأول: الطهارة من النجاسة كالوضوء والغسل إذا تكررت أسبابها المختلفة كالحيض والجنابة، والمتماثلة كالجنابتَيْن، أو الملامسَتين في الوضوء، فها هنَا دخل أحدُ السببين في الآخَر.

قلت: كلامُه في السبَب يُشْعِر بأن السبَبَ الشرعي كالسبب العقلي، لا يَجْتمع على مسبَّبٍ واحدٍ أكثرُ من سبَبٍ واحد.

ولقائل أن يقول: ليس هذا بصحيح، فإن الأسباب الشرعيَّة هي كَمُعَرِّفاتٍ، ولا مانع يمنع من اجتماع معرِّفات على معرَّفٍ واحد، بخلاف تلك فإنها مُوجداتٌ، ولذلك لا يكون للمسبَّب فيها إلَّا سببٌ واحد.

(23) هي موضوع الفرق السابع والخمسين بين قاعدة تَدَاخُلِ الأسباب وبين قاعدة تساقُطِها" جـ 2، ص 29.

قال عنه الإِمام القرافي رحمه الله في أوله:

إعلَمْ أن التداخُلَ والتساقط بين الأسباب قد استويَا في أن الحكم لا يترتب على السبب الذي دخل في غيره، ولا على السبب الذي سقط بغيره، فهذا هو وجْهُ الجمع بين القاعدتين. ثم أخذ يتحدثُ عن الفرق بينهما، فقال: "والتداخُلُ بين الأسباب معْناه أن يوجَدَ سببانِ مسَبَّهُما واحد الخ .. ما ذكره القرافي وذكره الشيخ البقوري في هذا الاختصار رحمهما الله جميعا.

وقد علق عليه ابن الشاط بقوله: ما قاله القرافي في هذا الفرق صحيح.

ص: 317

قال شهاب الدين رحمه الله:

الثاني: الصلوات، كتداخل تحية المسجد مع صلاة الفَرض، مع تعدد سببهما الذي هو الدُّخُوُل والزَّوَال. (24)

الثالث، الْمُعتكِف في رمضان، فلصيامه سببٌ وهو رمضان، وله سبب آخر وهو الاعتكاف، وأتى بمسبَّب واحد. (هو الصيام).

الرابع: الكفارات في الْأيمان على الشهور في حمل الأيمان على التكرار دون الإنشاء، بخلاف تكرر الطلاق يُحْمَلُ على الإِنشاء حتى يريد التكرار. (25)

الخامس، الحدود المتماثلة وإن اختلفت أسبابها كالقذف وشرب الخمر، أو تماثلت كالزِنى مرارا.

السادس: الأموال كالوطء بالشبهة، إذا تكرر الوطء فمهرٌ واحد، ولو انفردت الوطأة الأولى لكان فيها ذلك.

ومالكٌ المعتبر عنده في صداق المثل، الوطأة الأولى، والشافعي يقول:

إذا وطئها مرَّاتٍ فالاعتبار فيها بحسب الوطأة الوُسطَى إذا كانت أعظم، ويندرجُ الطرفانِ فيها، وهذا كما لو وطئِها وهي مريضةٌ عديمة المالِ، ثم تصِحُّ وتَرِث

(24) فدخول المرء في الصلاة الفريضة من ظهر أو عصر أو عشاء حين دخوله للمسجد يغنِي عن سُنَّة تحية المسجد وتحصيلِ فضلها، لأن التحية حصلت بالدخول في الفريضة، ولذلك قال الشيخ خليل بن إسحاق المالكي رحمه الله في مختصر الشهير، وهو يتكلم عن تحية المسجد:"وتَأدَّتْ بفرض"، أي حصلت بأداء الفرض.

(25)

والفرق بين الإِنشاء والتكرار في الحكم واضح، فلو اعتبر الإنشاء في الأيمان لترتب عن كل يمين كفارة مستقلة، ولو اعْتبر التكرار في اليمين الواردة على موضوع أو شيء واحد لترتبت ووجبت كفارة واحدة، والمسألة تعرض لها الفقهاء وبَسَطُوها بتفصيل في باب الأيمان والنُّذُر وأحكامها، فلْيرجع إلا من أراد التوسع في ذلك.

ص: 318

مالاً عظيماً ثُمَّ تَسْقَمُ (26). فالحالة الوسطى أعظمُ هذه الحالات، باعتبارها يكون صداق المثل، ومالكٌ يَرَى باندراج المتأخر في المتقدم.

وأما الأصل الذي هو عدم التداخل فهو أكثر في الشريعة، وذلك كالِإتلافين يجِبُ بهما ضمانانِ ولا يتداخلان، وكالطلاقين وكالنذْريْن يتعددُ منْذورهما، وكالوصيتيْن بلفظٍ واحد لشخص واحدٍ، على خلاف في هذا، وهو كثيرٌ.

وأمَّا تَسَاقُطُ الأسباب فهو قسمان: تارةً يقع الاختلاف في جميع الأحكام، وتارةً في البعضِ.

أمَّا الأولُ فكالرِّدة مع الإسلام، والقتل والكفر مع القرابة الموجبة للميراث، وكالدَّيْن يُسقط الزكاة، وأسبابُها توجبها، وكالبيِّنَتَيْنِ إذا تعارضتا، وهو كثير، حصل التنافي فوقع التساقط.

وأمَّا التساقُط بِسَبب التنافي من بعض الوجوه وفي بعض الأحكام، فكَالنكاح مع المِلك، إذا اجتمعا سقط النكاحُ لقوة المِلْكِ، ولا تَداخُلَ هنا فيقال: هي مضافة لهُما البتَّةَ (أي قَطْعاً).

ومن ذلك علم الحكام مع البينة على مذهبِ الشافعي، لا على مذهبنا، فسقط أمر البينة، لِأنها تفيد الظن، وعلمه أفاد القطع فكان أرجح، والله أعلمُ (27).

(26) هكذا في نسخة ح. وهي متفقة مع ما عند القرافي في هذه المسألة حيث قال "ثم تَسْقَمُ في جسمها" وهو الصواب الذي ينسجم مع المعنى وسياق الكلام. وفي نسخة: "ثم تَسْلَم"، وهي تبدُو غلطاً، بالمقارنة مع ما سَبَقَ، فليُتَأملْ، والله أعلم بالصواب.

(27)

عبارة القرافي هنا أوسع وأظهر وهي: "ومن ذلك علم الحاكم مع البينة إذا شهدت بما يَعْلمُهُ، فإن الحكم مضافٌ للبينة دون علمه عند مالِكٍ، والقضاء بالعلم ساقِط، حذَراً من قضاة السُّوء، وسَدًّا لذريعة الفساد على الحكام بالتُّهم، وعلى الناس بالقضاء عليهم بالباطل. وعند الشافعي علمُهُ مقدَّمٌ على البينة، لأن البينة لا تُفيد إلا الظن، والعلمُ أولى من الظن، ويحتمل مذهبُهُ أنه يجمع بينهما ويجعلُ الحكم مضافا إليهما لعدم التنافي بينهما" اهـ.

ص: 319

القاعدة الثامنة (28).

نقرر فيها المقاصد ما هي، والوسائل ما هي؟ ،

ثم نذكر الفرق بينهما فنقول:

المقاصد تنقسم إلى مَصَالِحَ ومَفَاسدَ.

فالمقاصد هي المتضمنة لهذيْن، والوسائل: الطرق الفُضِية إلى المقاصد التي المصالح أو المفاسد، ولهذا نقول:

أحْكَامُ الوسائل تَتبَعُ أحكام المقاصد، فإذا كَان المقصِدُ واجباً فالوسيلة إليه تجبُ، وإن كان حرامًا فالوسيلة إليه تحْرُمُ، وإن كان مندوباً فكذلك، أو مكروها فكذلك، أو مباحا، فكذلك. إلا أنه يشكل هذا بإمرار الموسى على من لَا شعر له في الحج، فإن إمرار الموسى وسيلةٌ لإِزالة الشعر إلا في هذا الموضع. فيمكن أن يقال: هو مستثنى، وتبقى لنا القاعدة من تبعيَّة الوسائل للمقاصد.

ومما يخرجُ أيضا من الوسائل عن التبعية دفعُ مال للكفار في فكِّ أسارَى، وهذا من حيث إن إعانتهم بالمال وغيره حرام، ودفع المال إليهم وسيلة إلى الإعانة التي هي محرمة.

(28) هي موضوع. الفرق الثامن والخمسين بين قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل، جـ 2، ص 32. قال في أوله القرافي رحمه الله:"وربّمَا عُبِّر عن الوسائل بالذرائع، وهو اصطلاح أصحابنا (المالكية)، وهذا اللفظ الشهور في مذهبنا. ومعناه حَسْم مادة وسائل الفساد، دفعًا لها". ثم قال: وليس سدُّ الذرائع من خواص مذهب مالك كما يتوهمه كثير من المالكية، بل الذرائع ثلاثة أقسام: قسم أجْمَعَتْ الأمة على سدِّه ومنْعِهِ وحسْمه، كحفر الآبار في طريق المسلمين، وإلقاء السُّم في أطعمتهم

"، وقسم أجمعُوا على عدم منعه كزراعة العنب خَشيةَ الخمر، (أي خشية أن يؤول إلى استعماله خَمْرًا)، وقسم اختلفوا فيه هل يُسَدُّ أم لا كبيوع الآجال عندنا، مثل مَنْ باع سلعة بعَشرة دراهم إلى شَهر، ثم اشتراها بخمسة قبل الشهر، فهذه عند مالك وسيلَةٌ لسلَف خمسةٍ بعشرة إلى أجل، توسُّلا بإظهار صورة البيع، "أيْ فتكون هذه الصورة ممنوعة: والشافعي يقول: يُنظَرُ إلى صورة البيْع ويُحْمَلُ الأمر على ظاهره فيجُوز". اهـ.

وقد علق الشيخ ابن الشاط على هذا الفرق بقوله: جميع ما قاله القرافي في هذا الفرق صحيح، غير ما قاله من أن حكم الوسائل حكم مما أفضتْ إليه من وجوب أو غيره، فإن ذلك مبنى على قاعدة أن ما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجب. والصحيح أن ذلك غيرُ لازم لم يصرح الشرع بوجوبه"، والله أعلم. اهـ.

ص: 320

وأيضا فأكْلُ ذلك المال عليهم حرام من حيث إنهم مخاطَبون بفروع الشريعة، والدفع إليهم سبب لذلك الحرام فيكون حراما، ولكنه ما كان كذلك، ترجيحا للمصلحة الحاصلة فيه من فك الأسارَى، ومثل هذا ما يدفع لقطاع الطريق إذا كان يسيرًا.

ومنها (29) مسألَةٌ يقع الغلط فيها وهي: أن الترخيص لا يكون بسبب (30) المعْصِية، ويكون الترخيص لمن قارَنته المعصية ولم تكن معصيته سبباً، فالمقارنة كفاسِقٍ يَعْدَمُ الماء، يجوز له التيمم، أو يعجز عن القيام في الصلاة فيصلي جالساً، والمعصيَّةُ لا تكون سببا للترخيص، كسَفر المعصية لا يكون سببا للفطر في رمضان ولا للقصر.

وهذا الفرق يبطل قول من قال: إن العاصي بسفره لا يأكل الميتة إذا اضطر إليها، لأن سببَ أكلِهِ خوفُه على نفسه لا سفَرُه، فالمعصية مقارنة للسبب لا أنها هي السببُ.

قلت: ولقائل أن يقولَ: وكذلك سفر المعصية، لَيس لِصاحبه أن يَقْصُرَ، لا يَصْدُقُ، لأن العلة في التقصير المشقةُ وقد وُجدت، والسفر مقارن، كما الأمرُ على قولك في الميتة، والله أعلم.

قال شهاب الدين رحمه الله:

وقد يُعَبِّر الفقهاء عن الوسائل بالذرائع، والذرائع تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

(29) في نسخة ح: وهنا مسألة. والعبارة الأولى أظهر وأنْسَبُ.

وقد تعرض لها الإِمام القرافي في التَّنْبيه الرابع من الكلام على الفرق 58 قائلا:

تفرع عن هذا الفرق فرق آخر وهو: الفرق بين كون العاصى أسبابا للرُّخص، وبين قاعدة مقارنة المعاصى لأسباب الرخص، فإن الأسبَاب من جملة الوسائل، وقد التبست ها هنا على كثير من الفقهاء.

فأما المعاصى فلا تكون أسبابا للرخص، فالعاصى بسفَره لا يقصر ولا يفطر

الخ)، وأمَّا مقارَنَةُ المعاصى لأسباب الرخص، فلا تمتنع إجماعا، فيجوز لِأفسق الناس وأعْصاهم التيممُ إذا عَدِمَ الماءَ وهو رخصة، وكذلك الفطر إذا أضرّ بهِ الصومُ، والجلوس إذا أضرَّ به القيام في الصلاة

وهكَذَا تبدو هذه المسألة أو القاعدة عند الإِمام القرافي أبْيَن وأوضح.

(30)

في نسخة ح: سبب، والأولى أظهر وأصوَبُ.

ص: 321

قسم وقع الاتفاق على مَنْع العمل بها كسَبِّ آلهة الكفار وحفْرِ بِئر ليقع فيها مُسلم، فهذِه يجب القول بتحريمها.

وقسم اتفق على أنها غير معتبرة كبيع العنب، يقال: إنه يَعصِر مِنه خمراً، أو زرْعه مخافة ذلك، فلا أحدَ يقول: هذا سَبَبٌ لمنع زراعة العنب. وقسم مختلَفٌ فيه، هل يَفْسُدُ أمْ لَا، كبيوع الآجال قال بها مالك ولم يقل بها الشافعي، وكالنظر إلى النساء، لأنه وسيلة إلى الزنى، والمسائل لهذا القسم كثيرة.

قال شهاب الدين رحمه الله: وهذا القِسْم (31) يُظهِر خطأ الأصحاب في استدلالهم على بيوع الآجال بِسَدِّ الذرائع التي اتُّفق عليْها، وإنما ينبغي أن يستدَلّ عليها بمثل ما ذكره مالك في موطئه في قضِية أم ولد زيد بن أرقم مع سيدها،

(31) هذا القسم المختلف فيه من سد الذرائع ذكره شهاب الدين القرافي رحمه الله في الفرق الرابع والتسعين والمائة بين قاعدة ما يُسَدُّ من الذرائع وقاعدة ما لا يسد منها. جـ 3، ص 266 أعاد فيه الكلام على الذرائع وتقسيمها إلى ثلاثة أقسام، بعد ذكره لها في الفرق الثامن والخمسين بين قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل كما سبق ذكره والإِشارة إليه في بداية الكلام على هذه القاعدة الثامنة

عند الشيخ البقوري رحمه الله.

وبعد تقسيم الإِمام القرافي لها إلى ثلاثة أقسام: قسم مجمع على عدم منعه، وقسم مجمع على سده، وقسم مختلف فيه، وتبْيينه أن سد الذرائع ليس خاصا بمذهب الإِمام، لأن منها ما هو مجمع على سَدِّه وعَدم فتحه، قال رحمه الله: "والمختلَفُ فيهِ كالنظر إلى المرأة لأنه ذريعة للزنى بها، وكذلك الحديث معها.

ومنها بيوع الآجال عند مالك رحمه الله. ويُحْكَى عن المذهب المالكي اختصاصه بسد الذرائع، وليس كذلك، بل منها ما أجمع عليه كما تقدَّم، وحينئذ يظهر عدم فائدة استدلال الأصحاب على الشافعية في سَدّ الذرائع بقوله تعالى:"ولا تسُبُّوا الذين يدعون من دون الله فيسُبُّوا الله عَدْوًا بغير علم ". وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللهُ اليهود، حُرِّمتْ عليهم الشحوم فباعوها أكلوا أثمانها"، وكمنع شهادة الأبناء للآباء والعكس، وكشهادة خصمٍ وظنين لا تُقْبل، خشية الشهادة بالباطل. فهذه وجوهٌ كثيرة يستدلون بها وهي لا تفيد، فإنها تدل على اعتبار الشرع سَدَّ الذرائع في الجملة، وهذا مُجْمَعٌ عليه، وإنما النزاع في الذرائع خاصة، وهي بيوع الآجال ونحوُها، فينبغي أن نذكر أدلة خاصة لمحل النزاع، وإلَّا فهذه لا تفيد

) إلى آخر ذكره القرافي هنا وأوْرَدَهُ البقوري في اختصاره هذا الفروق، رحمهما الله جميعا.

ص: 322

وإخبار عائشة لها، لمّا أخبرتها أنه رِبا، فتلك القضية نصٌّ في المعنى المختلَف فيه (32).

وذكر في المسألة سؤالا، وهو أن زيد بن أرقم رضي الله عنه هو من خيار الصحابة، وما وقع في ذلك إلَاّ من حيث أنه رأى أن الربا لا يقع بين السيد وعبدِهِ، وعائشة تقول بوقوعه بينهما، وقصَدتْ عائشة التغليظَ في ذلك القول ليرجع الناس عن الاقتداء به في ذلك.

واحتج الشافعي بقوله تعالى: {وأحَلَّ اللهُ البيْعَ وحرَّم الربا} ، قُلْنا: هذا عامٌّ، وما أتيْنا به نحن خاصٌّ. واستدل أيضا بما في الصحيح من أنه أُتِىَ بِتَمْرِ خَيْبَرَ (33)، فقال: أتمْرُ خيبَر كلُّه هكذا؟ ، فقالوا: إنَّا نبتَاعُ الصاع بالصاعَيْن،

(32) وهذه المسألة - كما أوْرَدَهَا شهاب الدين القرافي هنا، هي أن أم ولد زيد بن أرقم قالت لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين، إنِّى بِعْتُ من زيْد بن أرقم عبدا بثمانمائة درهم إلى العطاء (أي إلى أجل)، واشتريته بستمائة نقدًا، فقالتَ عائشة رضي الله عنها: بيس ما شريتِ (أي بعتِ)، وبيسَ ما اشتريتِ، أخْبِرى زيد بن أرقم أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. قالت: أرأيت إن أخذته برأسمالي (أي بثمانمائة)؟ ، فقالت عائشة رضي الله عنها:"فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله مما سلف، وأمْرُهُ إلى الله".

قال القرافي رحمه الله: فهذه صورة النزاع (أي لما يكون فيها من الربا)، وهذا التغليظ العظيم لا تقوله عائشة إلا عن توقيف (أي عن استناد إلى أثر مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم) فتكون هذه الذرائع واجبة السد، وهو المقصود.

(33)

هكذا في نسخة ع، وفي نسخة ح بتمرجنيب، وهي كذلك عند القرافي، ولعلها رواية أخرى للحديث، وحينئذ يكون الجنيب وصفا للتمر، ويُؤَيِّدُ ذلك ما في الصحيح، وما في الموطأ في باب ما يُكْرَهُ من بيع التمر، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا (هو سَواد بن غَزية) على خيْبَر (أي ولاهُ عاملا علا) فجاءهُ بتمرٍ جَنيبٍ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكلُّ تمر خيْبَر هكذا؟ فقال: لا، والله يا رسولَ الله، إنَّا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعيْن بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفْعَلَ، بعْ الجمْع بالدراهم، ثمَّ ابْتَعْ (اشترِ) بالدراهم جنيبا". والجنيب من التمر هو نوع من أعلى التمر وأجْوَدِه، قيل: الكَبيس، وقيل: الطيب، وقيل الصلب، ويقابله الجمع بفتح الجيم وسكون الميم، وهو الردئ من التمر.

فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمر بجنسه، متفاضلا، وقال: "التمر بالتمر مثلا بمثل، وأمر ببيع كل جنسٍ على حدةٍ بالدراهم، وشراء الجنس المرغوب فيه من جيّد أو غَيْره.

والسؤال الذي طرحه القرافي عن زيد بن أرقم في وقوع هذه المسألة له، ذكر جوابه منقولا عن أبي الوليد بن رشد في المقدمات، ومختصرا في كتابه في هذا الفرق، فقال: ولعل زيدًا ابن أرقم لا

الربا بين السيد وعبده اهـ.

ص: 323

فقال: رباً، ولكن بيعُوا تَمْرَ الجمْعِ بالدراهم، واشتَرُوا بالدراهم جنيباً.

وجوابنا أنه ليس في الحديثِ أن الجنيبَ يُشْتَرَى مِمَّن يباع له الجَمْع، وحينئذ تكون التهمة، ومع ذلك فلا دليل لكم عليه، واللهُ أعْلَمُ.

القاعدة التاسعة (34)

الفرق بين تقدم الحكم على سببه دون شرطه، أو شرْطه دون سببه، وبين تقدمه على الشرط والسبب جَميعاً.

وتحريرُهُ أن الحكم لا يجوز تقدمه على سببه مطْلَقا، فإذا كان للحكم سبب واحد فلا يجوز تقديمه عليه، وإن كان له أسباب يتقدم عليها فكذلك، فإن كان له سببَانِ فتوسط، اعتبِرَ ذلك الحكم، بناءً على السبب الذي تقدم عليه، وصارتْ الأسباب الأخرى كالعدم، فإن شأن السبب أن يتقدم في تأثيره.

قلت: هذا التقرير يخالف ما قرره في القاعدة الرابعة، وقد قدّمنا الاعتراض عليه هناك. والحقُّ أنَّ السبب يتقدم على مسبَّبه لا أن يتأخر، وقد يفارق كما مضى في الأسباب الفعلية.

قلت: وهذا أيضا مبني على أن الأسباب الشرعية لها التأثير، وليس كذلك، بل هي معَرِّفات.

قال: ومثال الأول، (35) الزوالُ سببُ وُجُوبِ الظهر، فإذا صليتَ قبله لم يُعْتبر ظُهْرا. ومثال الثاني الجَلْدُ، لَهُ ثلاثة أسْبَاب: الزنى، والقذف، والشرب، فمن

(34) هي موضوع الفرق الثالث والثلاثين بين القاعدتين المذكورتين هنا: جـ 1 ص 196.

وعبارة شهاب الدين القرافي رحمه الله في أول هذا الفرق هي: أن الحكم إذا كان له سبب بغير شرط فتقدم عليه لا يعتبر، أو كان له سببان أو أسباب فتقدم على جميعها لم يُعْتبر، أو على بعضها دون بعض، اعتبرناه، بناء على سبب خاص، ولا يضر فقدان بقية الأسباب، فإن شأن السبب أن يستقل ثبوت مسببه دون غيره من الأسباب، ثم أخد يذكر الأمثلة لكل قسم.

وقد علق عليه ابن الشاط بقوله عن هذا الفرق: ما قاله هنا صحيح ظاهر. اهـ.

(35)

أي ممّا له سبب واحد، ومثال الثاني، أي الحكم الذي له سببان فأكثرُ.

ص: 324

جُلِد قبْلَ ملابَسَةِ شيْء مِنْها لم يُعْتَبَر ذلك حَدًّا، ولا خِلاف في هذيْن القسْمَيِن.

القسم الثالث أن يكونَ لهُ سببٌ وشَرْطٌ، فإنْ تَأخَّر عنهما اعتُبِر إجماعاً، وإن تقدم عليهما لم يُعْتَبر إجماعا، وإن توَسَّطَ بينهُما فيقع الخِلاف في كثير من صوره بحسب اعتباره وَعَدَم اعتباره، ككفَّارة اليمين إن وقعت متوسطة بيْن الحنث واليمين، فقيل: تجْزيء، وقيل: لا. ولو قُدِّمَتْ عليهما لم تُعْتَبَرْ، ولو أُخِّرت عنهُما لَاعتُبِرت، بلا خلاف في القسمين، (36) وكالزكاة تجب بملك النِّصاب وشرْط دوَرَانِ الحَوْل، لو توسطت، قولان، ولا خلاف في الطرفيْنِ، (37) وقد جاء بَعْض المسائل فيها التوسط، واعتُبِر ذلك.

قال شهاب الدين رحمه الله: لا أعلم فيها خلافًا، وهذا في الشفعة إذا وقعتْ فأسقطها الشفيع بعد البيع وقَبْلَ الأخذِ، سقطتْ، والأخذ شرْطٌ، والبيع سبب (38)، وذكر هنا المرأة تسقط حقها من القَسْم في الوطء، قال مالك: لها

(36) قال ابن الشاط: ما قاله القرافي فيها صحيح.

(37)

ولا خلاف في الطرفيْن: أىْ إذا أخرجتْ الزكاة قبل ملك النصاب لا تجزئ إجماعا، وإذا أخرجت بعد ملك النصاب ودوران الحول أجزأت إجْماعا، وبعد ملك النصاب وقبل دَوَرَاهِ الحول، فيها خلاف. قال القرافي هنا: وكذلك إذا أخرج زكاة الحَب قبل نضج الحب وظهوره لا تجزئه، وإن أخرجها بعد ييسِهِ أجزأت، ولم يختلفن في هذه الصورة في الإجزاءِ، أعنى العلماء المشهورين في إجزاء المُخْرَج، بخلاف زكاة النقديْن إذا أخْرِجَتْ بعد ملك النصاَب وقبْل الحول، لأن زكاة الحب ليسَ لها سببٌ وشرط، بل سببٌ واحد، فلا تتخرج على هذه المسألة، بل على مسألة الصلاة قبل الزوال. وبهذا يظهر بطلان قياس أصحابنا عدم إجزاء الزكاة إذا خرجت قبل الحول على الصلاة قبل الزوال في قولهم: واجبٌ أخْرج قبلْ وقت وجوده، فلا يجزى، قياسا على الصلاة قبل الزوال، فهذا قياس باطل، بسبب أن ما يساوي الصلاة قبل الزوال إلا إخراج الزكاة قبل ملك النصاب، وهم يساعدون على عدم الإِجزاء قبل ملك النصاب.

وقد علق ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في مسألة الزكاة، وزكاه بقوله: ما قاله فيهما صحيح ظاهر.

(38)

قال القرافي هنا في الشفعة: فإن أسقطها (الشفيع) قبل البيع لم يُعْتَبر إسقاطه، لعدم اعتبارها حينئذ، واعتبار الِإسقاط فرعُ اعتبار المسقط، أو أسقطها بعْد الأخْذِ سقطت إجْماعا، وإن أسقطَهَا بعد البيع وقبل الأخذ سقطتْ، ولا أعلم في ذلك خلافًا

"

قال ابن الشاط معلقا على كلام القرافي هنا: ما قاله في هذه المسألة ليس بصحيح، فإن الأخذ بالشفعة هو الحكم بعينه أو متعلقه، فكيف يكون شرطا في نفسه؟ هذا مما لا يصح، وإنما هذه المسألة من الضرب الذي له سبب دون شرط، ولذلك لم يقع خلاف فيما إذا أسقطها بعد البيع وقبل الأخذ، والله أعلم.

ص: 325

الرجوع والمطالبة، لأن الطباع يشق عليها الصبرُ عَن مثل ذلك، بخلاف ما لو تزوجَتْهُ مجبوباً أو عِنِّيناً فإنه لا مقال لها في ذلك لِتَوَطُّنِ النفسِ على ذلك.

قلت: وَذِكْرُ هذه المسألة هنا فيما يظهر ليس مناسِباً للقاعدة، فإنه ليس فيها ذكرُ سبَبٍ وشرطٍ وَقَع ذلك في الطرفيْن، والله أعلمُ، إلا أن يقال:

وقعَ الإسقاط للوطْءِ بعْدَ ثبوتِ سببه وهو النكاح، وقَبْلَ شَرْطِهِ وهو التمكين، ومثل هذا إذا أسْقَطَتْ المرأة نفقتها فلها المطالبَةُ عند أصحابنا، مع أنه إسقاط بعْدَ السبب الذي هو النكاح، وقَبْلَ الشَّرْطِ الذي هو التمكين (39) وقد يقال: ويمكن أن يقال هنا: ما كان لها المطالبة إلا لإسقاطها قبل سببه، وذلك التمكين، وهو كإسقاط الشفعة قبل بيع الشريك، والأَوّل أَظهر. (40)

(39) قال القرافي هنا متوسعا في المسألة: أو يقال: السبب هو التمكين خاصة، وما وجد في المستقبل عند الِإسقاط في الحال، فقد أسقطت النفقة قبل سببها، فيكون كإسقاط الشفعة قبل بيع الشريك، والأوّلُ عندي أظهر، وإسقاط اعتبار العصمة بالكلية لا يتَّجهُ، فإن التمكين بدون العصمة موجود في الأجنبية ولا يوجب نفقة، والأحسَنَ أنْ يُقال: هو من ذلك، غير أنه يشق على الطباع ترْك النفقاتِ، فلم يَعتبِر صاحب الشرع الِإسقاط، لطفا بالنساء، لا سيما مع ضعف عقولهن.

وعلى التعليلين يشكِلُ بما إذا تزوجتْه وهي تعلم بفقره، قال مالك: ليس لها طلب فراقه بعد ذلك، مع أنه بعْدَ العقد وقبل التمكين. والفرق أن المرأَة إذا تزوجَتْ بمن تعلَمُ بفقره، فقد سكنتْ نفسُها سكوناً كليا، فلا ضرر عليها في الصبر على ذلك، كما إذا تزوجته مجبولا أو عنينا فلا مطالَبة لها، لفرط سكون نفسها.

(40)

قال ابن الشاط معلقا على هذا الكلام عند القرافي في هذه المسألة: ما قاله فيها ظاهر، وما اختاره هو المختار، وما اعتذر به عن المذهب ظاهر. وما فرّق به بين المسألة وبين ما إذا تزوجته، عالمةً بفقره ظاهر أيضا، وكذلك ما قاله في مسألة إسقاط المرأة حقها في الوطء ظاهر.

ص: 326

القاعدة العاشرة (41)

نقرر فيها الفرق بين اللزوم الجزئي واللزوم الكلي، فنقول:

لاشك أنه إذا لزم شيء شيئا، قد يكون لزوما جزئيا، وقد يكون لزوما كليا. ثم اللزوم الكلي على قسمين: أحدهُما أن يكون كليا عاماً لا بحسب شخص، والثاني أن يكون بحسب شخص. فالأول كقولنا: العِشرة تلزمها الزوجية، إذ ما من حالة تفرض ولا زمان ولا تقدير يُقدر من التقادير الممكنة إلا والزوجية في ذلك لازمة للعشرة.

والقسم الثاني كقولنا: كلما كان زيد يكتب فهو يُحَرِّك يَدَه، أي ما مِن حالةٍ تُفْرض، ولا زمانٍ يشار إليه، وريدٌ يكتب، إلا وهو يحرك يده في تلك الحالة باللزوم بيْن كتابته وحركةِ يده في كل الأحوال والأزمان، والشخص واحد.

وأما اللزوم الجزئي فهو لزوم الشيء للشيء في بعض الأحوال دون بعض، أو في بعض الأزمنة دون بعض.

وسأل بعضُ الفضلاء سؤالا عن قول الفقهاء: إن الطهارة الكبرى إذا حصلتْ أغْنَتْ عن الوضوء، فقال: أنتم جعلتم الطهارة الصغرى لازمة للكبرى، والقاعدة أن انتفاء اللازم يلزم منه انتفاء اللزوم، فيَلزَمُكم متى انتقض وضوؤه أن يعيد غسله، وهذا خلاف الِإجماع، أوَ تقولوا: هذه القاعدة باطلة، وهذا الآخَرُ أيضا باطل فلا سبيل للزوم الصغرى للكبرى.

والجواب أن نقول: اللزوم بين الطهارة الصغرى والكبرى جُزْئي لا كُلي، فليس يلزَم الوضوء للغسل دائما، بل ابتداءً فقط، والدوامُ مشروط بعدم طريَان

(41) هي موضوع الفرق الثالث والأربعين بين قاعدة اللزوم الجزئي وبين قاعدة اللزوم الكلي. جـ 1. ص 223. قال القرافي رحمه الله في أوله: وضابط اللزوم الكلي العام أن يكون الربط بينهما واقعا في جميع الأحوال والأزمنة، وعلى جميع التقادير المكنة، كلزوم الزوجية للعِشْرة، واللزوم الجزئي هو لزوم الشيء للشيء في بعض الأحوال دون بعض، أو في بعض الأزمنة دون بعض، ويتضح ذلك بسؤال ذكره بعض الفقهاء

الخ. وهذا الفرق لم يعلق عليه الفقيه ابن الشاط بشيء من كلامه مما يدل على أن جميع ما جاء فيه عند القرافي صحيح ظاهر، والله أعلم.

ص: 327

الناقض، فانتفاء الطهارة الصغرى حالة الناقض لا يَقْدَحُ في بقاء الطهارة الكبرى، فإن انتفاء ما ليسَ بلازم لا يلزم منه شيء، ولا أحد ممَّن يقول بهذا القول قال ببقاء (42) الطهارة الكبرى دون الصغرى في هذه الحالة الله، هي حالة اللزوم، وإنما قال به في الحالة التي ليست بلازمة، والقول بأنه يلزم من عدم اللازم عدم الملزوم إنما هو حيث يكون الملزوم عاما أو خاصا، أما في الصورة التي لم يُقْضَ فيها باللزوم فلا.

القاعدة الحادية عشرة (43)

في الفرق بين الشك في السبب وبين السبب في الشك.

أشكل الفرق على بعض الفضلاء حتى قال: النظر الأول الذي به يحصل العلم بوجود الصانع يصح التقَربُ به، وهو خلافُ ما عليه الناس، وقال: كيف ينكِره الناس وقد وجد التقرب بالمشكوك فيه في عدد صُوَر:

فمنها من شك هل صلى أم لا، فإنه يجب عليه أن يصلي، وينوي التقرب بتلك الصلاة المشكوك فيها، وكذلك من نسِي صلاة من خمْسِ لا يعرف عينَها فإنه ينوي التقرب بكل واحدة من الخمس مع شكِه في وجوبها عليه، ومثل هذا كثير.

(42) في نسخة ح: تبقى (بصيغة الفعل المضارع).

(43)

هي موضوع الفرق الرابع والأربعين بين قاعدة الشك في السبب وبين قاعدة السبب في الشك، جـ 1. ص 225.

قال عنه القرافي رحمه الله في أوله: أشكل هذا الفرق على جمع من الفضلاء، وانبنى على عدم تحرير هذا الفرق الإِشكال في مواضع ومسائل حتى خرق بعضهم الإِجماع فيها، فعمد إلى النظر الأول الذي يحصل به العلم بوجود الصانع وقال: يمكن فيه نية التقرب، مع انعقاد الإِجماع على تعذر ذلك فيه كما حكاه الفقهاء في كتبهم، فأنكر الإِجماع وقال: كيف يحكى الإِجماع في تعذر هذا وهو واقع في عدة صور، فإن غاية هذا الناظر (في الكون قبل أن ينظر)، أن يجَوِّز أن يكون له صانع وألا يكون، وأن يكون هذا النظر واجبا عليه وألا يكون، وهذا لا يمنعُ قصد التقرب، بدليل ما وقع في الشريعة أن من شك هل صلى أم لا، فإنه يجب عليه أن يصلي، وينوي التقرب بتلك الصلاة الشكوك فيها

الخ.

ص: 328

والجواب أن الشارع شرَعَ الأحْكامَ وشرع لها أسْباباً، وجعل من جُملة ما شرعَه من الأسباب الشَّك، فشرَعه في عدة من الصُّور حيث شاء.

فإذا شك هل هي الشاة المذكَّاة أو الميتَة حَرُمَتَا معاً، وإذا شك في الأجنبية وأخْتِهِ من الرضاع حرِّمتَا مَعاً، وسَببُ التحريم هو الشك، وكذلك قد يكون الشك سبب الوجوب، والمتقرِبُ في مثل هذه الصورة جازم بوجود الموجب وهو الله تعالى، وسَبَبِ الوجوب الذي هو الشك، والواجِبِ الذي هو الفِعل، ودليلِ الوجوب الذي هو الِإجماعُ أو غيرُه من الأدلة. وفي صورة النظر لا شيء منها بمعلومٍ، بل الجميعُ مجهُول مشكوك فيه، فالشك في السبب كما هو في هذه الصورة التي ذكرنا لا يمنع من التقرب (44).

ثم إذا تبين الفرق فلَا نقول: إن صاحب الشرع جعل الشك سببا مطلقاً، بل نصبه مرَّةً سبباً، وفي صُوَر صوَرٍ يُلْغِيهِ ولا يَعْتَبرهُ، وفي صُوَرٍ وقع الخلاف فيها بين العلماء، هل يُلْغى ذلك الشكُّ أو يُعتَبر، فاعتبارُ الشك كما قدَّمْنا، وإلغاؤه كمن شك هل طلق أم لا، فيلغيه ولا شَيء عَلَيه، كمن شكَّ هل سها في صلاته أم لا، فيلْغيه. والمختلَف فيه كمن شك هل أحدَث أو لا؟ اعتبره مالك دون الشافعي، ومن شك هل طلق ثلاثا أم لا (45)؟ ألْزمه مالك الطلقة المشكوك فيها دون الشافعي، ومن حلف يميناً وشكَّ ما هي؟ ألْزمَه مالكٌ رحمه الله جميع الأيْمان فقد صار الشك ثلاثة أقسام، ثم يتضح الفرق بذكر ثلاث مسائل.

المسألة الأولى، قال بعض العلماء: إذا نسي صلاة من خمس فإنه يصَلي

(44) عبارة الشيخ القرافي رحمه الله في هذه الفقرة: "فالشك في السبب غيرُ السبب في الشك، فالأول يمنع التقرب ولا يتقرر معه حكم، والثاني لا يمنع التقرب وتتقرر معه الأحكام كما رأيتَ في هذه النظائر. فاندفع سؤال هذا السائل، وصح الإجماعِ ونقْلُ العلماء فيه، وما أورَدَه عليه من النقوض لا يَرِدَ

الخ.

(45)

عبارة القرافي: هل طلق ثلاثا أم اثنتين؟

ص: 329

خَمْساً، وتصح نيته مع التَّرداد، (46) والقاعدة أن النية لا تصِح مع الترداد، واستثنِيَتْ هذه الصورةُ لتعذر الجزم بالنية فيها، وليس الأمر كذلك، بل الشك الذي معه أوجبَ أن يصلىَ خمساً، وكذلك من شك في جهة الكعبة، إذا أوجبْنا عليه أربع صلواتٍ فقد جزَمْنا بوجوب الأربع، ولا تَردُّدَ في هذه الأشياء.

المسألة الثانية. من شك في صلاته فلم يدْرِ كَمْ صَلى أثلاثا أم أربعا؟ يجعلها ثلاثا ويصَلى ركعة ويسجد سجدتين بعد السلام، مع أن القاعدة أن من شك هل سها أم لا، لَا شيء عليه (47) وقد يجوز أن يكون زاد وأن لا يكون، فكيفَ يَسْجد؟ مع أنه في غير هذه الصورة لو شك هل زاد أم لا، لا يسجد فتُشْكِل هذه المسألة (48). ثم كيف يصلي هذه الرابعة ولا بد فيها من تجديد النية، فكيف ينوي التقرب بها مع عدم الجزم بوجوبها؟ ، ويجوز أن تكون مُحَرَّمة خامسة، وأن تكون واجبة رابعةً، ومع التردد لا جزْمَ.

والجوابُ أن الشرع جعل الشك سبباً لركعة وسجدتين فلا ترداد، وعَلَى هذا، سببُ السجود الزيادةُ والنقصُ. والشك، لا ما يقوله الفقهاء من النقص

(46) هذا في النسختين: ع، ح: مع الترداد، وعند القرافي: مع التردُّد، وهو المصدر القياسي للفعل الخماسى: تردَّدَ، مثْلُ تكرم وتعلم تكرُّما وتعلُّما، بضم الحرف الرابع في المصدر.

وفي ذلك بقول ابن مالك في ألفيته الشهيرة، وهو يتكلم عن مصادر الأفعال غير الثلاثية:

وغَيرُ ذِي ثلاثة مقيسُ

مصْدَرِهِ كقُدِّس التقديسُ

وزكِه تزكيةً وأجْمِلَا

إجْمَال مَنْ تَجَمُّلا تجَمَّلَا

على أنه قدْ يرد سماعاً على وزْن تفعال مثل، تَجوَّلَ تجوُّلاً وتجْوَالًا إلخ .. وفي ضم الحرف الرابع من مصدر الفعل الخماسي يقول ابن مالك في ألفيته.

....... وضُمَّ ما

يَرْبَعُ في أمْثالِ قد تلْمْلَما

(47)

عبارة القرافي: لا سجود عليه.

(48)

قال القرافي رحمه الله: "ولقد ذكرت هذا الإِشكال لجماعة من الفضلاء الأعْيانِ، فلم يجدوا عنه جوابا

الخ، ثم ذكر الجواب كما أورَدَهُ الشيخ البقوري هنا.

ص: 330

والزيادة فقط (49). وبهذا يظهر الفرق بين الشك في السهو وبين الشك في العدد، فالأول شك في السبب، فلا شيء يترتب عليه، والثاني سبب في الشك. (50)

المسألة الثالثة، وقع في بعض تعاليق المذهب أن رجُلاً توضأ الصبح والظهر والعصر والمغرب بوضوء واحد، (51) ثمَّ أحدث، فتوضأ وصلى العِشاء، ثم تيقن أنه ترك مسح رأسه من أحد الوضوءين لا يدْري أيُّهما هو

فسأل العلماء، فقالوا له: يلزمُك أن تمسح رأسك وتعيدَ الصلواتِ الخمسَ، فذهب ليفعل ذلك فنسى مسح رأسه وصلَّى الصلواتِ الخمس، ثم جاءَ يستفتى عن ذلك من سأل أوَّلا، فقال له: إذْهب وامسح رأسك وأعِدْ العشاء وحْدَها، فأشكل ذلك على جماعة من فقهاء العصر وقالوا: الشك موجود في الحالتين، فكيْف أمِرَ أولا بإعادة الصلواتِ كلها وفي ثاني حال أمِرَ بإعادة العشاء وحدَها؟ !

والجوابُ أنَّ المسح المذكور إن كان من وضوء الصلوات الأربع فقدْ أعادَها بوضوء العِشاء بعْدَ أن إستفْتَى أولا، فبرئت الذمة منها، وإن كان من وضوء العشاء فقد برئت الذمة منها بوضوئه الأول، فعلى التقديرْين برئت الذِّمة ولم يبقِ إلا الشك في العشاء، فعلى تقدير أن يكون المسح نُسِىَ من وضوئها فيكون ثابتًا في

(49) قال القرافي: "وهذا الثالث (أي الشك) قلّ أن يتفطن له فتأمّلْه، ولا تجد مَا يُسَوِّغُ على مقتضى القواعِدِ غيرَه، وبه يَظهر الفرق بين الشك في سبب السَّهو، وبيْن الشك في العدد

الخ، ما قاله القرافي، والبقوري رحمهما الله.

(50)

زاد القرافي هنا قوله: بمعنى أن الشك هو الذي جعلهُ الشرع محلَّ السببية، فذكرته بهذه العبارة ليحصل التقابُل بينه وبين الأول طرْداً وعكْساً.

(51)

أصل أداء الصلوات الخمس وأربع صلوات منها بوضوء واحد لمن استطاع أن يمسك الوضوء لوقت طويل هو الحديث الصحيح الذي أخرجه كثير من أئمة الحديث عن سلمان بن بُرَيدَة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات يوم الفتح بوضُوء واحد ومسَحَ على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعْتَ اليوم شيئا لم تكن تصنَعُهُ، قال: عمْداً صنعتُه يا عُمَرُ" أي للتشريع وللبيان.

وفي معناه أيضا حديث أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، قلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزئ أحدَنا الوضوءُ ما لم يُحْدِث" رواه بعض أئمة الحديث.

فالمتوضئُ يحق له أن يصلى الصلوات الفرائض بوضوء واحد، كالظهر والعصر والمغرب والعشاء، وهذا لا يتنافى مع استحباب تجديد الوضوء لكل صلاة فريضة.

ص: 331

ذِمَّتِهِ، لأنه إنما صلى العشاء بوضوءٍ واحِدٍ، أما غيرها من الصلوات فقد صُلِّيَتْ بوضوءيْن: إمَّا بالأول وإما بالثاني، بخلاف العشاء، ولذلك اختلف جواب المفتي قبل الإِعادة وبعْدَهَا، وبالله التوفيق.

القاعدة الثانية عشرة (52)

نقرر فيها الفرق بين المعاني الفعلية والمعاني الحُكْمية فنقول أولا:

المراد بالمعنى الفِعْلي ما وُجُوده في زمان وجوده دون زَمان عدَمه كالإِيمان والإِخلاص حال حضور ذلك بالقلب لا حالَ غفلةِ القلب عنهُما.

والحُكْمي حكم صاحب الشرع على فاعله بأنه من أهل ذلك الوصفِ دائما حتى بلابِس ضدّه وإن غفل عنه. فالمعنى الفعلي موجود للكافر حال كفْره، والحكمى بحسَبه هُو له في الدار الآخر، فإنه بعْد الموتِ لا يصحُّ الكفر الفِعلي إذا أيقن بالحق في الدَّار الآخرة، ولكنَّه له الحكمي، وكذلك له الحكى في الدنيا حال غفلته عن ذلك وعن ضِده، وكذلك النية في أوّل الصلاة هي معنى فعليٌّ، لأنها - حينئذ موجودة بالفعل، وفي أثناء الصلاة إذا غفل عنها هي موجودة حكماً، والحُكْميات على هذا فرعٌ للفعليات.

قال: وهنَا خمسُ مَسَائل:

المسألة الأولى، مَن ذَهب عقْله عند الموت حتَّى لم ينطِق بالشهادة حينئذ ولا يعقِلُ مقتضى ذلك، هو مؤمن حكْما إن كَانَ سبَق إليه الإِيمانُ الفِعلي ولم

(52) هي موضوع الفرق الرابع والثلاثين بين قاعدة المعاني الفعلية، والمعاني الحكمية. جـ 1. ص 200. قال في أوله القرافي رحمه الله! وتحريره أنه ما من معنى مأمور به في الشريعة ولا مَنْهيّ عنه إلا وهو منقسم إلى فعلي وحُكمي

ثم أخذ في تبيين كل منهما كما أوردهُ البقوري رحمه الله. وعلق الفقيه ابن الشاط على هذا الفرق عند القرافي بقوله: ما قاله فيه صحيح.

ص: 332

يلحقه نقيضه إلى تلك الحالة، (53) وكذلك من كان به الكفر الفعلي ولم يلحقه

نقيضه فمات غائبا عن ذلك، فهو على الكفر حكماً.

المسألة الثانية، إذا سَها عن السجدة في الأولى والركوع في الثانية، فلا يضاف سجود الثانية لركوع الأولى إلا أن يقصد ذلك، ولا تكفيه النية الفعلية المقارنة لأول الصلاة، بسبب أن النية الحكمية فرعُ الفعلية، ولم تكن الْفِعليةُ متناولَةً (54) للصلاة المرقَّعة، فلا تكون النية الحكمية التي هي تابعة لها متناولة لها (55)، والصلاة لابد فيها من النية، فلابد من تجديد النية في هذه القضية، وإلا لم يجْز ذلك.

المسألة الثالثة، إذا نسي سجدة من الأولى ثم ذكر في آخر صلاته فإنه يقوم إلى ركعة خامسة يجعلها عوض الأولى، ولابد لهذه الركعة من نية سجدة، لما قلناه في المسألة قبل هذه حَرْفًا بحرفٍ.

المسألة الرابعة، قال مالك في المدونة: إن بقيتْ رجْلاه من وضوئه فَخَاض بهما نهْرا فدلكهما فيه بيده ولم ينْو بهِ تمامَ وضوئه لم يُجْزِه حتى ينويَه.

قال شهاب الدين: وسببُ ذلك أن النية الفعلية الأولى لم تتناول إلا الوضوء العادي، وليس غسل الرجلين على تلك الحالة من العادة المعلومة في الوضوء، فإذا لم تكن النية الفعلية فالحكمية التي هي فرع لها يجب أن تكون منْتفِية كما مر فيما تقدم.

(53) عبارة الإِمام القرافي في أول هذه المسألة وافية، وهي قوله: ومن خرس لسانه عند الموت، وذَهب عقلُه فلم ينطِق بالشهادة عند الموت ولا أحضَر الإِيمانَ بقلبه ومات على تلك الحال مات مؤمنا، ولا يضر عدمُ الإيمان الفعلي عند الموت .. " الخ. وهذا من فضل الله ورحمته بعباده المؤمنين

(54)

في نسخة ح: مشاركة، والصواب الأولى، وهي ما يؤخذ من عبارة القرافي هنا بقوله:"والنية الفعلية الأولى إنما تناولتْ الفعْل الشرعي لا بوصف كونه موقعا، بل على مجاري العادة في الأكْثَرِ".

(55)

في النسختين ع. وح. عدم الإِتيان بخبر الفعل الناقص تكون، ولعل المؤلف اعتبرها تامة تكتفي بالمرفوع على أنه فاعل، وحينئذ فمعناها توجد (بالبناء المجهول، كما هو شأن تفسير كان الناقصة بالفعل الماضى (وجد) مبنيا للمجهول، أو لعل ذلك سهو من الناسخ، فيكون الخبر مستفادا من الجملة الأولى قبل هذه، وكذلك من كلام القرافي في المسألة، فليتأمل.

ص: 333

المسألة الخامسة، رَفْض النية في أثناء العبادة، فيه قولان، هَلْ يُؤثر أمْ لا؟ فإن قلنا بعدم التأثير فلا كلام، وإن قلنا: يؤثر، (56) فوجْهُهُ أن هذه النية التي حصل بها الرفع وهي العَزْم على ترْك العبادة، لو قارنتْ النية الفعلية الكائنة أول العبادة لضادّتْها، فكذلك الحُكميةُ هي مضادَّة لها. (57)

القاعدة الثالثة عشرة (58)

نقرر فيها الفرق بين رفع الواقعات وتقْدِير ارتفاعها بأن نقول:

معنى رفْع الواقع ممتنع عقلا، من حيث إنّ ما وقع في زمانٍ ماضٍ لا يصح في زمان متأخِر عنه أن يرفع ذلك الواقع الذي مضى. ومعنى تقدير ارتفاع الواقع أن يكون الشيء موجوداً فيعطاه حكم المعْدُوم، وهذا من حيث الشرع، وهذا صحيح غير مُحَالٍ، فظهر الفرق.

(56) كذا في نسخة ح. وفي نسخة ع، تؤثر، والصواب الأولى (يؤثر بالياء، باعتبار الضمير يعود على رفض النية لا على النية نفسها، لأن رفضها أثناء الشروع في العبادة هو محَطُّ السؤال والخلاف، وهو ما عند القرافي في هذه الجملة.

(57)

وقد علق ابن الشاط على هذه المسائل بقوله في أول تعليقه على هذا الفرق: ما قاله فيه صحيح، غيْر أنه في المسائل الثانية والثالثة والرابعة، لقائِلٍ أن يقول: إنّ من نوى الصلاة فإن نيته تتضمن إصلاحها إن احتاجَتْ إليه، لكنى لا أذكرُهُ الآن من قوْل الفقهاء، والصحيحُ ما قاله في ذلك، والله أعلم. اهـ.

(58)

هي موضوع الفرق السادس والخمسين بين قاعدة رفع الواقعات، وبين قاعدة تقدير ارتفاعها، جـ 2، ص 26.

قال شهاب الدين القرافي في أوله: هاتان القاعدتان تلتبسان على كثير من الفقهاء الفضلاء، مع أن القاعدة الأولى قاعدة امتناعٍ واستحالةٍ عقليةٍ، لا سبيلَ إلى أن يقع شيء منها في الشريعة، والقاعدة الثانية واقعة في الشريعة في مواقع الإجماع ومواقع الخلاف.

قال: "ولقد حضَرتُ يوماً في مجلس، فيه فاضِلان كبيران من الشافعية، فقال أحدهما للآخَر: مَا معْنى قول العلماء: الردُّ بالعيب رفعٌ للعقد، من أصله أو من حينه، قولان، أمَّا من حينه فمسَلّم معقول، وأما من أصْله فغير معْقول، بسبب أن العقد واقع في نفسه، وهو من جملة ما تضمَّنه الزمان الماضى، والقاعدة العقلية أن رفْعَ الواقع محال، وإخراجُ ما تضمنه الزمان الماضي

ص: 334

قلت: لَا خفاءَ أن رَفع الواقع إذا فُسِّر بما قاله فهو محال، ولكنه الذي يَسْبِق إلى الفهم في الرَّفْع، كما يقال في النَّسْخ: إنه رفْعُ ما هو ذلك، بل الذي يُرفع اتصال ذلك الحكم بحسب الأزمنة، ولا استحالة في هذا.

قال شهاب الدين رحمه الله: وأوَضِّح هذا بذكر مسائل.

المسألة الأولى، العيبُ إذا وُجد بالسلعة فكان ذلك موجباً للرد، هل هو رفْعٌ للعقد من أصله أو من حينه؟ ، قولان: من حينه لَا إشكال فيه، من أصله ربّما يقال: هذا رفع الواقع، وذاك محال، فيقال: ليسَ هذا من رفع الواقع، وإنما هو من باب تقدير ارتفاع الواقع، إذ لاشك في حصول عقْد البيع، فإذا قلنا: من حين أصل الشراء فمعناه تقديرُ الشرع لذلك العقد بعد ظهور العيب كالعدم، فالأمَة إِن كانتْ هي المبيعة، وهي قد كانت بحَمْلٍ، إذا كان القيام بالْعَيْبِ بعد الوضْع، إِن قلنا: من حينه فالولد للمشتري، وإن قلنا: من أصله فالولد للبائع، ولا شيء للمشتري، وكذا الحال في الغَلَّاتِ وسائر المنافع.

= مُحَال، فما معْنى قولهم إنه رفعٌ للعقد من أصله؟ قال له الآخَرُ: معنى ذلك أنه يرجع إلى رفع آثاره دون نفس العقد، فقال له: الآثار والأحكام هي أيضا واقعة من جملة الواقعات، وقد تضمنها أيضا الزمان الماضى كسائر الماضيات، فيستحيل رفعها كالعقد، ويمتنع إخراجها من الزمان الماضى كسائر الماضيات، فقال له الآخر: هذا السؤالُ يَرِد على مثلى؟ ! وأظهر الغضب والنفور، لقلقه وقوة السُّؤال، وافترقا عن غير جواب، وما سَببُ ذلك إلا الجهل بهذا الفرق، وها أنا أوضحه لك بذكر مسائل أربع": إلى آخر كلامه هنا.

وإيراد مثل هذه المحاورة والمناظرة بين العلماء، وذكرها في هذا المقام مع اختصار البقوري لها يعطى ضوءاً كاشفا عن هذا الفرق بين القاعدتين المذكورتين فيه، وعن أهمية كتاب الفروق ومكانته عند العلماء في تذليل كثير من الإِشكالات والإجابة عن كثير من المسائل الشرعية في الفروع الفقهية. وقد علق الفقيه المحقق ابن الشاط على هذا الفرق بقوله:

جميع ما قاله القرافي في هذا الفرق صحيح، غيْر قوله بتقدير الملك للمعتَق عنه، فإنه وإن كان التقدير ممَّا ثبت له حكم في مواضع فإنه لا حاجة في هذه المسألة إليه، ولا دليل عليه.، وغير قوله بتقدير ملك الدية في قتل الخطأ فإنه ليس موضع تقدير الملك، أعنِي بَعد إنفاذ القاتِلِ وقبْل زهوق الروح، بل هو موضع تحقيق للمِلْك، والله أعلم.

ص: 335

قلت: قد مضى في القاعدة الأولى أن كلامه على قاعدة التقدير لم يتم، وكلامه هنا ليس إلا إحالة على ذلك. (59)

المسألة الثانية، رفض النية في العبادة، فيها قولان، والمشهورُ في الصلاة والصوم صحة الرفْضِ، وفي الحج والوضوءِ عدمُ الرفض. (60)

قال شهاب الدين رحمه الله: وذلك من باب التقديرات الشرعية لا من باب رفعُ الواقع، فلا إحالة فيه.

قلت: قد مضى في القاعدة التي قبل هذه أن ذلك الرفض هو رفع النِّيةِ الحكمية لا الفعلية، من حيث إنه لو قدِّر هذا الرفض من النية الفعلية لضَادَّتْها وأبطلتها، فإذا كانت مع الأصل هكذا فمع الحكمي الذي هو فرعٌ أوْلى أن تضادّه، وعلى هذا فلا تقديرَ.

قال شهاب الدين رحمه الله: فإن قلْتَ: وأيّ دليل في الشَّريعة يَقْتَضى تمكُّن الكلف من هذا التقدير وأن هذا التقدير يتحقق؟ ، ولو صح ذلك لَتَمَكَّن الكلّفُ من إسْقَاط جميع أعماله الحسنة والقبيحة في الزمان الماضي بطريق التقدير والقصد إليه، دُونَ أن يأتي بكفر، وكذلك يَقصدُ. صحيح أعماله السيئة من زنى وغيره ممَّا تقدم فيَسْتريحُ من مؤاخذتها، وذلك كله غير متقرر، بَلْ المتقرر في الشريعة أن عَدم اعتبار ما وقع في الزمان الماضي متوقف على أسبابٍ غير الرفض، كالإسلام يهدِمُ ما قبله، والهجرة والتوبة والحج، وعَكسُها في الأعمال الصالحة تُبْطلها الرِدة، والنصوص دَلَّتْ على اعتبار ما ذكرناه، وأمّا الرفض فما نعلمُ فيه دليلًا شرعيًّا يقتضي اعتباره، ثم قال: هذا سؤال قويٌّ، والأفضلُ الاعترافُ به.

(59) التقديرات كما قال القرافي هي: إعطاء الموجود حكم المعدوم، وإعطاءُ المعدوم حكم الوجود، وهي من قواعد الشرْع.

(60)

قال القرافي: وذلك كله من المشكلات، فإن النية وقعت، وكذلك العبادَة، فكيف يصح رفع الواقع، كيف يصح القصد إلى المستحيل؟ والجواب أن ذلك من باب التقديرات الشرعية، بمعنى أن صاحب الشرع يقدر هذه النية أو هذه العبادَة في حكمِ ما لم يوجد، لا أنه يبطل وجودها المندرج في الزمن الماضي، بل يُجْرِي عليها الآن حكم عبادَةٍ أخرى لم توجد قط.

ص: 336

قلت: وكذلك قاعدة التقدير، عدَمُ الاعتراف بها أولى من القول بها، ولا دليل يوجد عليها في الشريعة دلالةً قَلةً، كما الأمر لا الرفض، فلا يُعتَرَف بواحد منهما.

ثم لقائل أن يقول بعد هذا الفرق بين قاعدة التقدير وقاعدة الرفض حَتَّى يصح القول بالرفض ولا يصح القول بقاعدة التقدير: إنه وجد دليل عقلي امتزج بدليل شرعي يمنع من اعتبار النية التي رفضتْ ويَعْتبِرُ الرفض، وهذا كما تقرر عن قريب، من المضادة، وقاعدة التقدير ما وُجد دليل مركَّبٌ من الشرع والعقل، ولا شرعيٌّ مجردٌ يدل عليها، فلا نقول بها، والله أعلم.

المسألة الثانية: إذا قال لامرأته: إن قدم زيدٌ آخر الشهر فأنتِ طالق من أوله، فهى مباحة الوطء بالإِجماع إلى قدوم زيد، فإذا قدِم زيد آخر الشهر، هل تطلّق من الآن أو من أول الشهر - وهذا الذي يراه ابن يونس من أصحابنا، فرفع الإِباحة الكائنة في وسط الشهر، وقد كانت واقعة، فيؤدي إلى رفع الواقع وهو محال، فقال شهاب الدين رحمه الله: هو من باب التقدير الشرعي، بمعنى تقدير أن تلك الإباحة في حكم العدم، لَا أنا نعتقد أنها ارتفَعَتْ في الزمان الماضي.

قلت: كيف يُقدَّر ذلك، والوجود على خلافه؟ والحكم الشرعي على ذلك الحسَب، فإنه قد قلنا: إن وطأها كان سباحا شرعاً، فكيْف يكون حراما -شرعا- بالتقدير، وقد مضى ما في هذا أول قاعدة، والله أعلم.

ثم ذكر شهاب الدين مسألة العتق عن الغير، والكلامُ فيها قد تقدم، وهذا الذي مضى لنا الآن من قبيله ومن الرد عليه، فلا فائدة في ذكر ما ذكره من مسألة العتق عن الغَيْر.

ص: 337

القاعدة الرابعة عشرة (61)

نقرر فيها الفرق بين الشقة المسقطة للعبادة وبين التي لا تسقطها، فنقول:

المشاقُّ قسمان، أحدهما لا تنفك عنه العبادة كبرْد الماء في الوضوء، وألم الجوع في الصوم، فهذا لا يُسْقط شيئاً، لأن الأحكام مقرَّرة على التزام هذا.

القسم الثاني ما تنفَكُّ عنه العبادة وهو ثلاثة أنواع: في الرتبة العليا كالخوف على النفوس وعلى الأعضاء والمنافع، فهذا يوجب التخفيف، وفي الرتبة الدنيا فلا يوجبُ تخفيفا، والرتبةُ الوُسطَى ما قرُب منها للعليا جَرَى مجراها، وما قرُبَ منها للدنيا جرى مجراها، لذلك فلا يوجب شيئا.

ثم إن المشقة في الاعتبار أو الِإلغاء لها تختلف باختلاف رُتب العبادات، فالمهمُّ يشْتَرطُ في إسقاطه أشدُّ المشاقِ وأعمُّها، وما لم يَعْظمْ يؤثرُ في إسقاطه المشاقُّ الخفيفة.

ثم ضابط المشقة المؤثرة من غيرها أن يُنظَر، فإن ورد شيء من الشرع اعْتُبِر، وإن لم يَرِدْ شئٌ من ذلك يتعيَّن تحديده بتقريب من حيث قواعد الشرع، وذلك بأن يبحثَ عن أدنى مشاق تلك العبادة المعيَّنة، فإن وجدها بنص أو إجماع

(61) هي موضوع الفرق الرابع عشر بَيْنَ القاعدتَيْن المذكورتين: جـ 1. ص 118. قال ابن الشاط معلقا على القسم الأول:

قلت: التكليف بعينه مشقة، لِأنه منع الإنسان من الاسترسال مع دواعي نفسه، وهو أمْرٌ نِسبى، وبهذا الاعتبار سُمِّي تكليفا، وهذا المعنى موجودٌ في جميع أحكامه حتى الإِباحة، ثُمَّ يختص غيرها بمشاقَ بدنية، وبعضُ تلك المشاق هو أعظم تلك المشاق كما في الجهاد الذي فيه بذْل النفس، فبحسَبِ ذلك انقسمت المشاقُّ بالنسبة إلى التكليف قسْميْن: قسم وقع التكليفُ بما يلزمه عادة أو في الغالب أو في النَّادِر، وقسما لم يقع التكليف بما يلزمه. فالقسم الأول لا يَؤثر، لأنه ينقض التكليف.

ثم قال الفقيه ابن الشاط عن القسم الثاني من المشاق التي تنفك عنها العبادة وعن أنواعه الثلاثة المذكور: ما قاله القرافي في ذلك صحيح. اهـ.

ص: 338

أو استدلال، حمل عليها مثلها أو أعلى، وإن كان أدْنى لم يجعَلْهُ مُسقِطا، وهذا كالتأذِي بالقمل في الحج، فهو مبيحٌ للحلْقِ بحديث كعْب بن عُجْرة، (62) والسفرُ مبيح للفطر بالنصِ. وظاهرُ ما ذكرنا أنه لم يُعتَبر في قولنا: مشقة، مدلوُل مطلَقِ هذا الاسْم، بل نُفرق كما تقدم تقريره.

وليست المعامَلات كذلك، إذا جاء فيها مطلَقُ الألفاظ يحمل على أدنى ما يكون، كمن شرَط الكتابة في العبْد لَا يلزم منه الفارِهُ فيها (63) وما ذلك إلا لإظهار فضل الأمور العبادية على الأمور العادية. وأيضا فإن القصد في الأمور العادية رفع النزاع وما في بابه، والاكتفاء بذلك يُحصل ذلك، وغيرُه يُقَوِّيَهِ ويُثِيرُه. (64)

(62) نصُّه في الصحيحين وغيرهما: عن كعبْ بن عُجْرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَر به زمنَ الحديبية وهو يُوقِدُ تحت قِدْر له، والقملُ يتناثَرَ على وجهه، فقال له: آذاك هَوَامُّ رأسِك؟ قال: نعَم، ففال له النبي صلى الله عليه وسلم: إحْلِق رأسك ثم اذْبَحْ شاةً تُسُكاً، أوْ صُمْ ثلاثة أيام أوْ أطْعِم ثلاثة آصُعِ من تمر على سِتَّةِ مساكينَ، وفي رواية قال (أي كعب بن عُجْرة): فِيَّ خاصةً نزلت هذه الآيةُ: "فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسُكٍ"، وهي لكم عامَّةً. اهـ.

ومن القواعد المعلومة المقررة في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

(63)

الفارِهُ: اسم فاعل من فَرُه على وزن كَرُم، إذا مَهَرَ وَحَذق في الشيء، وعبارة القرافي هنا:

يكفي في هذا الشرط مسمى الكتابة ولا يحتاج إلى المهارة فيها في تحقيق هذا الشرط. اهـ.

ثم قال ابن الشاط عن النوع الثالث الذي هو مشقة بين هذين النوعين: المشقةِ العليا، والمشقة الدنيا: هذا كلام ليس بالمستقيم

، والصوابُ أن التقسيم ثلاثة أقْسام أو ثلاثة أنواع: متفق على اعتباره في الإسقاط أو التخفيف، ومتَّفقْ على عدم اعتباره، ومختلَف فيه.

(64)

عبارة شهاب الدين القرافي هنا أظهر وأوسعُ حيث قال: سؤال آخر، ما لَا ضابط له ولا تحديد وقع في الشرع على قسمين: قسم اقتُصر فيه على أقل ما تَصْدُقُ عليه تلك الحقيقة، والقسم الآخَرُ ما وقعَ مسْقطا للعبادات لم يكتف الشرع بإسقاطها بمسمَّى تلك المشاق، بل لكل عبادَةِ، مَرْتَبَة معَيَّنة من مشاقها المؤثرة في إسقاطها، فما الفرق بين العبادات والمعاملات؟

فالجواب أن العبادات مشتملة على مصالح العبادة ومواهبِ ذى الجلال وسعادة الأبد، فلا يليقُ تفويتها بمسمى المشقة مع يَسَارة (سهولة) احتمالها، ولذلك كان ترْكُ الترخص في كثير من العبادات أوْلى، ولأن تعاطِي العبادة مع المشقة أبْلَغُ في إظهار الطواعية، وأبْلَغُ في التقرب، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: أفْضل العباداتِ أحْمزُها (أي أشقُّها)، وقال: أجْرُكَ على قَدر نصَبِك (أي تعبك).

ص: 339

وذكر شهاب الدين رحمه الله هنا في هذا الفرق الكبائر والصغائر من حيث هذا الضابط بعْد أن قال: من الناس من منع قِسمةَ المعاصي إلى كبائر وصغائر فقال: كل معصية كبيرةٌ، ثم قال: والْحقُّ صحة ذلك، فإن الله تعالى جعلَهَا كذلك بقوله:({إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (65)، وقال:{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} (66) فرتَّبَ المخالفة ثلاثة أقسام، الكفر، ويتلُوهُ الفِسق، وأدْوَنُ ذلك العصيانُ.

وقال عليه الصلاة والسلام: "الكبائرُ سَبْعٌ"، والقواعد تشهَدُ لهذا، فإنَّ مَا عظُمَتْ مفْسدته ينبغي أن يُسمى كبيرةً، تخصيصا له باسمٍ يخُصُّهُ.

وعلى هذا نقول: الكبيرةُ ما عظُمَت مفسدتها، والصغيرة ما قلّتْ مفسدتها، فيكون ضابط ما ترَدُّ به الشهادةُ أن يُحْفظ ما وردت به السُّنَّةُ أنهُ كبيرة، فيلَحَقُ به ما في معناه، وما قصر عنه من المفسدة لا يقدح في الشهادة. وكذلك أيضا يُنظَر إلى ما ثبت له منْ الشرع أنه صغيرة كالقُبلة، فما كان في معناها أثْبِتَ له حكم الصغيرة إلا أنْ يُصِرَّ عليها، ثم ينضبط الإِصرار المصَيِّرُ للصغيرة كبيرة، قال بعْض العلماء: متى حصَل من تكرارها مع البقاء على عدم التوبة ما يوجب عدم الوثوق به في دينه، وإقدامُه على الكذب في الشهادة، فاجعَلْ ذلك قادحا، وما لا فلا.

قالوا: وكذلك الأمور المباحة إذا حصل بها عدَمُ الوثوق به في دينهِ قدَحَتْ، وإلا فلا.

= وأما المعاملات فتحصُلُ مصالحها التي بُذِلَتْ الأعواض فيها بمسمى حقائق الشرع والشروط، بل التزام غير ذلك يؤدي إلى كثرة الخصام ونشر الفساد وإظهار العناد.

قال: ويلحق بتحرير هاتين القاعدتين الفرقُ بين قاعدة الصغائر وقاعدة الكبائر، والفرق بين قاعدة، الكبائر وقاعدة الكفر، والفرق بين أعلى رتب الصغائر وأدْنى رتب الكبائر.

(65)

سورة النساء، الآية 31.

(66)

سورة الحجرات: الآية 7.

ص: 340

قلت: ذكر هنا شهاب الدين الكفر، وأطال الكلام فيه، ورأيت أن تأخِيرَهُ إِلى قاعدته التي ذكر فيها أوْلى، وإنما صحّ ذكر الكبائر هنا من حيث الضابط المذكورُ، فهي كالمثال لما ذكر أوّلاً، والله أعلم، وهُو الموفق للصواب. (67).

القاعدة الخامسة عشرة (68)

نقرر فيها الكلي والجزئي، والكل والجزء، ثم الحمل على الأجزاء أو الحمل على الجزئيات من حيث اعتبار الكل والكلي، فنقول:

الكُلُّ يُستعمل مع الأجزاء، والكلي يستعمل مع الجزئي، فمثال الأول كعشرة، إذ هي كل، وما تحتها أجزاءٌ لها. ومثال الثاني قولنا: الحيوان إنسان،

(67) مما ذكره القرافي وهو يتحدث عن الفرق بين المعصية الصغيرة والكبير قولُهُ:

"وهذِه مواضع شاقة الضبط، عسيرة التحرير، وفيها غوامض صعبة على الفقيه والمفتى عند حلول النوازِلِ في الفتاوي والأقضية واعتبار حال الشهود في التجريح وعدمه. وأنا ألَخِّصُ من ذلك ما تيسَّر، وما لا أعرفه وعجزتْ قدْرتي عنه، فحظِّى منه معرفة إشكاله، فإن معرفة الإِشكال علم في نفسه، وفتحٌ من الله تعالى، فأقول:

إن الكبيرة قد اختلِف فيها، هل تختص ببعض الذنوب والمعاصي أمْ لا؟ فقال: إمام الحرمين وغَيره: إن كل معصية كبير، نظرًا إلى من عصى، وكأنهم كرِهوا أن تسمى معصية الله صغيرة، إجلالا لله تعالى وتعظيماً لحدوده .... ، وقال جماعة: بل الذنوبُ متقسمة إلى صغائر وكبائر، وهذا هو الأظهر من جهة الكتاب والسنة والقواعد، فذكر قول الله تعالى:"وكرَّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: الكبائر سبْعٌ، وقال: وأما القواعد فلأِن ما عَظُمتْ مفسدته ينبغي أن يسمَّى كبيرة، تخصيصا له باسم يخُصُّهُ، والصغيرة ما قلت مفسدتها، فيكون ضابط ما تُرد به الشهادة أن يُحفَظ ما ورد في السنة أنه كبيرة، فيلحق به ما في معناه، وما قصر عنه لا يقدحُ في الشهادة.

وعلق عليه الشيخ ابن الشاط بقوله: القواعد المستفادة من الكتاب والسنة تقتضى القطع بالتفاوت بين الذنوب في الذم والعقاب إن نَفَذَ الوعيدُ، ثم قال ابن الشاط: وما قاله القرافي في ضابط ما تُرد به الشهادة، صحيح. اهـ.

(68)

هي موضوع الفرق الحادي والعشرين بين قاعدة الحمل على أول جزئيات المعنى، وقاعدة الحمل على أول أجزائها، أو الكلية على جزئياته وهو العموم على الخصوص .. جـ 1 ص 134.

قال القرافي رحمه الله في أوله: "وهذا المعنى قد التبس على جمع كثير من فقهاء المذهب وغيرهم، وهذا الموضع أصلهُ إطلاق وقع في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الاسم، هل يقتضى الاقتصار على أوله أم لا؟ قولان. فلما وقع هذا الإطلاق للأصوليين عمل جماعة من الفقهاء على تخريج الفروع عليه، على خلاف ما تقتضيه هذه القاعدة ولابد من قاعدتين:

ص: 341

والحيوانُ كلي للإنسان، والإنسان جزئيٌّ له، ثم هذا الجزئي قد يكون كلّياً باعتبار الأشخاص الذين تحته، وذلك زيد وعمْرو وغير ذلك فإنها جزئيات له. فالجزئي قسمان: الشخص، وهو جُزئي بإطلاق، والنوعُ جزئي كُلِّي باعتباريْن كما تقدم، وهذا هو معنى قول العلماء: الجزئي يقال على الشخص، وعلى كل أخَصَّ تحت أعمّ.

ثم الأول جزئىٌّ عقلي، والثاني جزئىٌّ إضافي. ويقولون أيضا: اللفظ المفردُ إمَّا أن يمْنَعَ نفسُ تصور مفهومه من الشركة وهو الجزئي، أوْ لا يمنعُ وهو الكلي، وهذا بيان للجزئي الحقيقي، والكلي هو المقابل له كما قلناه.

فإذا تقرر هذا قلنا: اللفظ الدال على الكل دالٌّ على أجزائه في الأمر والثبوت من الخبر، بخلاف النهي، والنفي من الخبر، فإذا أوجب الله ركعتين فقد أوجبَ ركعة، وإذا أخْبِرْنا أن زيدًا له نصاب فقد أُخْبِرنا أن عنده عَشَرةَ دنانير، وإذا نَهى الله عن الصُّبْح أن تُصَلى ثلاثَ ركعات لَمْ ينهَ عن ركعتيْن، وكذلك إذا قلنا: ليس عنده نصاب، لا يلزم أنهُ ليس عنده عشرة دنانير. والسبب في ذلك أن النفي والنهي جاء لِإعدام الحقيقة، وعدم الحقيقة يتصور بفرد واحد من أجزائها، كما يتصور بجميع أفرادها، والأمر والثبوت جاء لطلب الحقيقة وإيجادها، وإنما توجد بجميع أجزائها.

= الأولى تحقيق الجزئي ما هو، وله معنيان

، والثانية بيان الجزء، وهو الذي لا يعْقَلُ إلا بالقياس إلى كُلٍّ، فالكل مقابلٌ للجزءِ، والكلي مقابل للجزئي .... ، وها هنا قاعدة وهي أَن اللفظ الدال على الكل دال على جرئه في الأمر وخَبَرِ الثبوت، بخلاف النهي وخبر النهي، فإذا أوجب الله تعالى ركعتين فقد أوجب ركعةً، وإذا قلنا: عند زيد نصاب فعنده عشرة دنانير

الخ

وقد علق الفقيه المحقق قاسم ابن الشاط رحمه الله على هذه القاعدة عند القرافي بقوله: ما قاله في هذه القاعدة غير صحيح، بل اللفظ الدال على الكل دال على جزئه مطلقا، ثم قال ابن الشاط معلقا على التمثيل بركعة ركعتين: "إن أراد، فقد أوجب ركعة منفردة فممنوع، وإن أراد فقد أوجب ركعة مقارنة لأخرى فمسَلَّمٌ. اهـ .. وإن أراد فعنده عشرة دنانير منفردة فممنوع، وإن أراد فعنده عشرة دنانير مقترنة بأخرى فمسَلَّمٌ. اهـ. وكلام شهاب الدين القرافي رحمه الله في هذه القاعدة يَعْطي وضوحا وبيانا أكثر لِما عند الشيخ البقوري في أولها.

ص: 342

قلت: يشكل هذا بأن الركعة في الصبح هي ذات أجزاء اشتملت عليها كالقيام والركوع والسجود والقراءة والدعاء، فيلزَمُ أن يكون الكل من الأجزاء واجبا. ومعلومٌ أن الصلاة المحكوم عليها بالوجوب اشتملت على مفروض ومسنون وفضيلة.

ثم اللفظ الدال على الكلي، قال شهاب الدين، لا يدل على جزئي من جزئياته مطلقا من غير تفصيل، بل إنما يفهم الجزئي من أمر آخر غير اللفظ. فإذا قلنا: في الدار جِسم، لا يدل على أنه حيوان.

قلت: هذا الكلام في الجزئي والكلي يظهر منه أن هذا بحسب الأمْرِ والنهى، وبحسَب الثبوت والنفى. وليس كذلك، فإنَّكَ إذا قلت: ليست في الدار حيوان فقد دلَّ على أنهُ ليس فيه جميع الجزئيات، لأنه إذا انتفى الأعَمُّ انتفى الأخصُّ، كما أنك إذا قلت: عندهُ نصاب، فقد أخبرت بأن عندهُ عشرة وخمسة وجميع الأجزاء. والذي يظهر لي منه أنه أراد أن دلالة اللفظ على الأجزاء تضمُّنيَّةٌ، وعلى الجزئيات لزومية، وكيف كانت فهى لفظية، وإنما الفرق من حيث إن دلالة اللزوم ما دَلَّ اللفظ عليها بالوضع وإنما دل عليها بالعقل. والوضعية هي المطابقة، والتضمُّنية مختلف فيها، قيل: هي عقلية، وقيل: وضعية (69).

= وقد سبق لنا أثناء الكلام على القاعدة الأولى من قواعد الخبر، تعليق في بيان الكل والجزء، والكلي والجزئي، والكلية والجزئية يبُين ويوضح مدلولات هذه الكلمات ومصطلحاتها عند علماء الأصول والمنطق بما يجْعلها جلية واضحة ومفهومة في هذا القاعدة أكْثرَ.

(69)

سبق تعريف كل منها عند علماء الأصول والمنطق، فدلالة المطابقة: هي دلالة اللفظ على تمام معناه كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق، ودلالة زيد على شخص معين أو ذات معينة، ودلالة التضمن هي دلالة اللفظ على جزء معناه كدلالة الإنسان، على الحيوان فقط أو على الناطق فقط، ودلالة الالتزام هي دلالة اللفظ على أمر خارج عن معناه، لازم له ذِهْنا، كدلالة الأسد على الشجاعة.

وقد جمعها ناظم متن السلم في علم المنطق، الشيخ الأخضري رحمه الله فقال:

دلالة اللفظ على ما وافقه

يدعونها دلالةَ المطابقة

وجزئه تضمُّناً وما لزم

فهو التزامٌ إن بعقل التُزم

ص: 343

ثم قال شهاب الدين رحمه الله: إذا تقررت هذه القاعدة ظهر أن حمل اللفظ على أدنى مراتب جزئياته لا تكون فيه مخالفة اللفظ، لعدم دلالتهِ على غير هذا الجزئي، أما إذا حملنا الأمْرَ على أقَلِّ الأجزاء فقد خالفنا اللفظ بأنه يدل على الجزئي الآخر، وما أتينا به. وهذا كقوله: أعتِق رقبة، وصومُوا رمضان، فلابدّ في هذا الثاني من جميع الأجزاء، بخلاف الأول.

قال: وبهذه القاعدة يظهر بطلان قول من يُخَرِّجُ الخلافَ في غسل الذكر من المذي، هل يقتصر على الحشفة أم لابد من جملته، لأنه اقتصارٌ على جزءٍ لا جزئي، وكذلك تخريجُ الخلاف في التيمم، هل هو إلى الكوعين أو المرفقيْن أو الِإبْطين. على هذه القاعدة لا يَصح أيضاً، فإن الكُوعَ جُزْئي، (70) وإنما يخرج عليها مثل قوله تعالى:"فإنْ آنسْتم منهم رُشداً"، قال بعض العلماء: نَحْمله على أدنى مراتب الرشد، وهو الرشد في المال خاصَّةً، قاله مالك رحمه الله، أو على أعلى مراتب الرشد، وهو الرشد في المال والدِّين، قاله الشافعى، مع أن الرشد بصيغةِ التنكير الدَّالِّ على المعنى الأعم الذي لا يدل على جزئي خاص، فليس في حَمْله على أدْنى الرتب مخالَفَةٌ البتَّة، بخلاف المثالين الأولين. (71)

ومنها مسألة الحرام إذا قال: أنت علىّ حرام، هل يُحْمَل على الثلاث أو الواحدة؟ خلاف يصح تخريجهُ على هذه القاعدة، لأنَّ قوله: حرام، مطْلَقٌ يدل على مطلق التحريم الدائر بين الرتب المختلفة، فأمكن حمله على أدناها وعلى أعلاها. (72)

(70) عبارة القرافي: فإن الكُوعَ جزء اليد لا جزئي منها.

(71)

علق الفقيه ابن الشاط على هذه المسألة بقوله: قلت: قوله: "مع أن الرشد ذُكِرَ بصيغة التنكير الدال على المعْنى الأكم، ليس بصحيح، بل صيغة التنكير دالة على المعنَى المطلق، والمطْلق ليس هو المعنى الأعم. بل هو المعنى الأخصُّ المبهَمُ غيرُ المعيَّن

اهـ.

(72)

علق الشيخ ابن الشاط على هذه المسألة عند الإِمام القرافي بقوله: قلت: قوُله: "لأن قولَه حرام، مطلقٌ دال على مطلق التحريم الدائر بين الرتب المختلفة فأمكَن حمله على أعلاها أو على أدناها"، صحيح، وكذلك شأنُ المطْلَقَاتِ، وليست من القاعدة التي أرادها، لكن هنا أمرٌ آخَرٌ هو سبب الخلاف وهو العُرف في لفظةِ حرام، هل هو الثلاث أو الواحدة؟ . اهـ.

ص: 344

"تنبيه".

ليس الخلاف في هذه القاعدة مطلقا في جميع فروعها، بل فروعها ثلاثة أقسام:

قسم أجْمَعَ الناس على الحملِ على أعْلى الرتب، وهو ما ورد من الأوامر بالتوحيد والإخلاص، وسلبِ النقائض، وما يُنسَبُ إلى الرب تعالى من التعظيم، فهذا القِسم، الأمر فيه متعلّق بأقصى غاياته الممكنة للعبد.

وقسم أجمعَ الناس على الحمل على أدنى الرتب فيه، وهو الأقارير، فإذا قال له: عِندي دنانيرُ حمل على أقل الجمع وهو ثلاثة، وهو أدْنى رتبها مع صدقها في الآلاف، لكون الأصل براءة الذمة فيقْبَلُ (73)، وليس الأصل إهمال جانب الربوبية، بل عكسُه والقيام فيه بأكمل ما ينبغي (74)

القسم الثالث مختلفٌ فيه، وهو ما تقدَّمَ من المسائل ومَا يشْبهُهَا.

(73) عند القرافي، "فيقبل تفسيرُه بأقَل الرتب"، وذلك أظهر وأبْين.

(74)

عند القرافي: وليس الأصل إِهمال جانب الربوبية، بل تعظيمها (أي الربوبية)، والمبالَغَةُ في إجلال الله تعالى، لقوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ، فهذا الفرق بين القِسْميْن.

ص: 345

القاعدة السادسة عشرة (75)

في تقرير الدليل والحجة والفرق بينهما، ثم الفرقِ بين أدلَّة مشروعية الأحكام وأدلة وقوع الأحكام، فأقول:

هُمَا من حيث العُرْفُ يختلفان، فيقالُ الدليلُ على ما يتوصل به إلى المطلوبِ شَرْعاً، ويُقال الحجَّة على بعض ذلك وهو ما يقضى به الحكام، لقوله عليه الصلاة والسلام:"ولعل بعضكُم أن يكون ألحن بحجته من صاحبه"(76)، وهو يرجع إلى نحو عشرةٍ من الحِجاج، فهى التي يقضي بها الحكام، وسيأتي ذِكْرُها على التفصيل في قاعدة من القواعد، وأدِلَّة مشروعية الأحكام نحوُ عشرين، على خلافٍ في بعضها، كإجماع الخلفاء (الأربعة) وإجماع أهل المدينة، وأصلها المتفق عليه الكتاب والسنة والإجماع، وقد قررها الأصوليون في كتبهم.

(75) جمع الشيخ البقوري رحمه الله في هذه القاعدة الكلام على الفرق السادس عشر بين قاعدة أدِلة مشروعية الأحكام، وبين قاعدة أدِلة وقوع الأحكام، وعلى الفرق السابع عشر بين قاعدة الأدلة وقاعدة الحجاج. جـ 1. ص. 128 - 129. قال الإِمام القرافي رحمه الله في أول هذا الفرق: فأدلة مشروعية الأحكام محصورة شرعا تتوقف على الشارع، وهي نحو العشرين، وأدلة وقوع الأحكام هي الأدلة الدالة على وقوع الأحكام، أيْ وقوع أسبابها وحصولِ شروطها وانتفاء موَانِعها، فأدلة مشروعيتها: الكتاب، والسنة، والقياس والإجماع، والبراءة الأصلية، وإجماع أهل المدينة وإجماع أهل الكوفة على رأي، والاستحسان، والاستصحاب، والعصمة، والأخذ بالأخف وفعل الصحابي الخ

(76)

ونَصُّه كما أخرجَهُ أئمة الحديث عن أم سلَمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا بشَر، وإنكم تختصمون إليَّ، فَلعَلَّ بعضكم أن يكون ألْحَنَ بحجته من بعْض فأقضِي له على نحو ما أسمَعُ، فمن قضيتُ له بحقِ مُسْلمِ فإنما هي قطعةٌ من النار، فليأخذْها أو ليتركها، أخرجه الإِمام مالك في الموطأ، والشيخان في صحيحهما، وغيرهما من أصحاب السنن.

ص: 346

وقد يقال أيضاً الدليل على وقوع الأحكام، وهي المسماة بالأسباب كالزوال ورؤية الهلال، (77)، والأدلة على هذه تكون بآلة وبغير آلة، وهي لا تنحصر، ولا غاية لها كالاسطر لاب والميزان. ومن حيث إنه لا نهاية لها لم تكن هذه الأدلة تتوقف على نصْب الشرع، وكذلك الشروط والموانع، وهي هذه الأشياء الثلاثة موزعة في الشريعة على ثلاث طوائف، فَالْأدِلةُ يعتمد عليها المجتهدون، والحِجَاجُ يعتمد عليها الحُكام، والأسبَابُ يعتمد عليها المكلفون، كرؤية الهلال والزوالَ، وما أشبه ذلك.

(77) عبارة القرافي في أول الكلام على هذا الفرق أظهر وأوضح كما سبَقَ في التعليق قريبا، فقد قال: وأدلة وقوع الأحكام هي الأدلة الدالة على وقوع الأحكام، أيْ وقوع أسبابها وحصول شروطها وانتفاء موانعها، وهي غير منحصرة، فالزوال مثلا دليل مشروعيته سببا لوجوب الظهر قوله تعالى:"أقِم الصلاة لدلوك الشمس"، ودليل وقوع الزوال وحصوله في العالم، الآلاتُ الدالة عليه، وغيرُ الآلات كالاسطِرْلَابِ والميزان وربعُ الدائرة

الخ، وبذلك يتضح كلام الشيخ البقوري هنا. وقد علق الشيخ ابن الشاط على ما جاء عند شهاب الدين القرافي في هذين الفرقين بقوله: ما قاله القرافي في الفرق السادس والسابع عشر صحيحٌ، اهـ.

ص: 347