الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذكاة
قاعدة واحدة (1)
قال مالك في المدونة: لا بأس بأكل الحيات إذا ذكيت في موضع ذكاتها، فيجوز أكلها حينئذ لمن احتاج إلى ذلك، . وأشار صاحب الجواهر (2) إلى أنها تأيمى كما يذكى الصيد. وظاهر قوله: أنها لأجل العجز عنها (3) إذا جرحت في أي موضع كان من جسدها جاز تناولها عند الحاجة إليها (4)، ولم يطلق مالك هذا الاطلاق، بل قال: إذا ذكيت موضع ذكاتها، ولم يقل: إذا ذكيت مثل الصيد. والسبب في ذلك أن ذكاة الحيات لا يحكمها إلا طبيب ماهر.
وصفة ذلك على ما اختاره المتأخرون من الأطباء، إذا أراد. استعمالها في الترياق (5) الفاروق أو في غير ذلك أن يمسك برأسها وذنبها من غير عنف، حذراً من أن يحصل لها غيظ فيدور السم في جسدها، فإذا اخذت كذلك ثنيت على مسمار مضروب في لوح، ثم تضرب بآلة حادة كالقدوم الحاد مثل الموسي ونحوها من الآلات الحادة الرزينة، وهي ممدودة على تلك الخشبة، ويقصد بتلك الضربة آخر الرقبة من جهة رقبتها وذنبها، فإن بين وسطها ورأسها مقدارا رقيقا، وبين ذنبها ووسطها مقدارا رقيقا، فيتجاوز ذلك الرقيق في الجهتين، ويوصل المقدار الغليظ الذي في وسطها، فلا يترك غيره، ويحاز الرقيقان إلى جهة الرأس والذنب، ويقطع
(1) هي موضوع الفرق التاسع والثلاثين والمائة بين قاعدة ذكاة الحيات، وقاعدة ذكاة عرها من الحيوانات، جـ 3، ص 89. لم يعلق عليه الفقيه ابن الشاط بشئٍ.
(2)
هو عبد الله بن نجم بن شاس الفقيه المالكي، صاحب الكتاب الفقهي الجليل:(الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة).
(3)
كذا في نسختي ع، وح. وكذا عند القرافي في الفروق، أنها لأجل العجز عنها. والذي في نسخة ثالثة للترتيب: وظاهر قوله: لأجل العجز عنها أنها إذا جرحت، بتأخير كلمة أنها
(4)
زاد القرافي هنا قوله: "وهو سبب لهلاك متناولها"، ولم يطلق مالك هذا الاطلاق.
(5)
الترياق، دواء يدفع به السموم.
جميع ذلك في فور واحد بضربة واحدة وجيزة، فمتى بقيت جلدة يسيرة لم تنقطع مع الجملة قتلت آكلها، لأن السم حينئذ يجرى من جهة الرأس والذنب في تلك الجلدة اليسيرة إلى بقية جسدها الذي هو الجزء الغليظ بسبب ما يحدث لها من الغضب عند الاحساس بألم الحديد.
وهذا هو معنى قول مالك: موضع ذكاتها، فهذا هو الفرق بين ذكاتها وذكاة غيرها من الحيوانات (6)، فشرعت فيها هذه الذكاة هكذا للسلامة من سمها، لا لأن يخرج منها دم عند ذكاتها، اذ لا يخرج منها أصلا. وشرعت الذكاة في غيرها من الحيوانات لاستخراج الفضلات المحرمات من أجسادها بأسهل الطرق على الحيوان. ولاعتبار أسهل الطرق كان النحر في بعضها والذبح في بعضها وجواز الأمرين في بعض آخر (7).
(6) قال القرافي هنا رحمه الله: فهذا فرق من جهة صفة الأكاة، وفيها فرق آخر من جهة المعنى وهو أن الذكاة شرعت فيها لأجل السلامة من سمها، ولا يكاد يخرج منها دم عند ذكاتها البتة، وإنما المقصود السلامة من سم رأسها وذنبها، ولذلك تذكى من وسطها.
(7)
قال ابن رشد أبو الوليد الجد في المقدمات رحمه الله في هذه المسألة:
"وما يذكى على أربعة أتسام: قسم ينحر ولا يذبح، وهي الابل بجميع أصنافها، وقسم يذبح وينحر، وهي البقر وما جرى مجراها، وقسم يذبح ولا ينحر وهو ما سوى الابل والبقر مما له دم سائل (أي كالغنم والمعز، والطيور من الدجاج والحمام وغيرها)، وقسم تصح ذكاته بغير الذبح والنحر، وهو الصيد في حال الاصطياد، وما ليس له دم سائل. ثم ذكر الخلاف فيمن ذبح ما ينحر، أو نحر ما يذبح من غير ضرورة، هل لا يؤكل، سواء كان ساهيا أو متعمدا، وهو قول الإِمام مالك رحمه الله في كتاب ابن المواز، وهو ظاهر الدونة، وقيل يكره أكله الخ، أو يؤكل
مطلقا، سهوا أو عمدا، وهو قول أشهب.
وقد جمع الشيخ خليل بن اسحاق المالكي رحمه الله في باب الذكاة من مختصره الفقهي تعريف الذكاة، وأنواعها وشروط المذكي، فقال:(الذكاة قطع مميز يُنَاكَح تمام الحلقوم والودجين من المقدم بلا رفع قبل التمام، ومن النحر طعن بلبة).
ومعنى قوله يناكح بفتح الكاف، أي يجوز التزوج منه ومصاهرته، لكونه مسلما، أو لكونه من أهل الكتاب:(اليهود والنصارى)، وبذلك يخرج غير المسلم، وغير الكتابي، وهو المجوسي فلا تؤكل الذبيحة بذكاته ابدا. قال الله تعالى في ذلك خطابا لعباده المؤمنين:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} . والمراد بالطعام المباح لنا منهم هو ذبيحتهم التي يذبحونها كما ذكره المفسرون.
وعلى هذا التعليل فلا ذكاة في الجراد لأنه لا دم فيه، وكذلك سائر ما ليس له نفس سائلة. ومن يقول: العلة في الذكاة أن يحصل زهوق الروح سريعاً، يقول بذكاة ذلك كله، وهذا هو مشهور مذهب مالك رحمه الله، ومن لاحظ قاعدة أخرى وهي إلحاق النادر بالغالب أسقط ذكاة ما يعيش في البر من دواب البحر، وهو مشهور مذهب مالك أيضا. قال ابن وهب: ومن لاحظ أن ميتة البحر على خلاف الاصل، لقوله عليه الصلاة والسلام:"أحلت لنا ميتتان ودمان (8) " لم يسقط الذكاة من هذا النوع، وياخذ بقوله تعالى:"حرمت عليكم الميتة"، ويجري الخلاف ايضا على قاعدة اخرى، وهي: العام إذا ورد على سبب خاص هل يحمل على عمومه أو يخص بذلك السبب؟ ولا شك أن السبب هو الميتة التي كانوا يأكلونها من الحيوان البري، ويقولون: تاكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله.
ذكر شهاب الدين رحمه الله هاهنا مسألة، فقال:
قال صاحب البيان (9): قال ابن القاسم: الدابة التي لا يؤكل لحمها إذا طال مرضها، أو تعبت من السير في أرض لا علف فيها ذبحها أولا من قفاها لتحصل راحتها من العذاب، وقيل: تُعْقَر، لئلا يغري الناس بذبحها على أكلها.
وقال ابن وهب: لا تذبح ولا تعقر، لهي الت ى عليه الصلاة والسلام عن تعذيب الحيوان لغير مأكله.
ثم قال:
(8) تمامه، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال. رواه ابن ماجة والحاكم، وصححه. فيكون هذا الحديث تبيينا وتخصيصا للآية الكريمة، وهي قوله تعالى في سورة الانعام:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} .
(9)
صاحب البيان هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد (الجد) القرطبي المالكي المتوفى سنة 520 هـ من أكبر مؤلفاته: كتابه الفقهي الجليل، المسمى "البيان والتحصيل"، وقد طبع مؤخرا طبعة جيدة في عدة أجزاء بتحقيق من بعض أفاضل العلماء، وعلى رأسهم الدكتور محمد حجي، فجزاهم الله خيرا عن العلم والعلماء وخدمته بصفة عاية، وعن خدمة الفقه المالكي بصفة خاصة ..
فرع مرتب: إذا تركها صاحبها فأعلفها غيره، ثم وجدها، قال مالك: هو أحق بها لأنه مكره على تركها ويدفع ما أنفق عليها. وقيل: هي لعالفها، لإعراض المالك عنها.
ثم قال: وما ذكرناه من القصد إلى استخراج الدم بسهولة، يتصور في غير الصيد، وأما الوحش فلا يتصور ذلك فيه، فدعت الضرورة فيه إلى ترك ذلك وإخراج دمه بأي شيء أمكن، من سهم أو جارح، وإخراجه بالسهم في الرتبة الثانية للذكاة، لأن الدم يخرج، لكن لا بسهولة، وأخذه بالجارح، وأكله من قتله، في الرتبة الثالثة (10).
(10) وأصل إباحة الاصطياد بالسهم والجوارح من السباع والطير، ودليله قول الله تعالى خطابا للمؤمنين:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ، سورة المائدة: الآية 4.
ومن ذلك حديث عدى بن حاتم رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي، (اي الصيد به)، فقال: ما أمسك عليك فكل". رواه الإِمام الترمذي رحمه الله، وفيه احاديث اخرى صحيحة يرجع اليها من اراد التوسع في ذلك.
والمعنى المفهوم من الآية الكريمة والحديث النبوي الشريف أن الصيد يحل بكل سبع له ناب قوي يعدو به، كالكلب مثلا، وبكل طير له مخلب قوي يجرح به إذا تعلم الصيد كالبازي، والصقر، بحيث إذا أُرسِلَ ذهب وإذا طلب رجع. وإذا صاد في أول الأمر لا ياكل منه شيئاً، لكن إذا فعل ذلك ثلاث مرات فأكثر، وتعلم، كان الجارح من الكلب أو الطير معلَّما (بفتح اللام) وحل حينئذ قتيله من الصيد المصطاد المباح.