الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذا وقع مثل هذا فالمراد به توجُّه الخطاب لثمرته او لسببه، مثل قوله تعالى:{وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} (41) فإن الرأفة - أيضا - أمر يهجم على القلب، فيتَعيَّن الحمل على الثمرة، وهى تَنقيصُ الحَدِّ" (42).
ومثال ما هو غير مقدور ويُحمَل على سببه قوله تعالى: {سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} . (43) يتعَيَّن ها هنا الحمل على سَبب المغفرة، وهو الطاعة، فيكون من مجاز التعبير بالمسبّب عن السبب، والأول من مجاز التعبير بالسبب عن السبب. ومثل هذا قوله تعالى:{وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (44)، إذ الموت لا يُنهى عنه، فتعَيَّن حملُه على سبَبٍ يقتضي حصول الموت على حالة الاسلام، وهو تقديم الاسلام قبل ذلك والتصميم عليه، وهذا كثير في كلام العرب.
القاعدة الخامسة:
في تقرير أنه ما ليس بواجب لا يُجْرِئُ عن الواجب
. (45)
بيان ذلك من حيث إن حقيقة الواجب تخالف حقيقة ما ليس بواجب.
فالآتي بإحدى الحقيقتين مكان الاخرى كمن لم ياتِ بشئ أصْلًا. ولهذا نقول: إن صلاة ركعة الوتر لا تجزى عن ركعة من صلاة الصبح، وألْفُ دينار، صدقَةً، لا تجزى عن شاة وجبتْ عليه، وأمثال هذا، وكل ما جآء على هذا الحساب فقد جاء على الأصل، وما جاء على غير هذا فهو على غيْر الاصل.
ووقع في الذهب سبعُ مسائل يجرى قولٌ ممَّا قيل فيها على خلاف الأصْل.
(41) سورة النور، الآية 12.
(42)
في نسخة أخرى: وهى نقيض الحد. وَلِكِلَا اللفظين معنى ووجه، والأوّلُ أظهَرُ.
(43)
سورة آل عمران. الآية. 133
(44)
سورة آل عمران: الآية 102. أولهما قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
(45)
هم موضوع الفرق الثالث والخمسين بين قاعدة إجزاء ما ليس بواجب عن الواجب، وبيْن قاعدة تعيُّن الواجب، جـ 2. ص 19.
1) الأولى: إذا توضَّأ مجدِّدًا، ثم ذكرَ أنَّهُ كان مُحْدِثًا، هلْ يُجْزئه أم لا؟ قولان، والصحيح في المذهَب عدمُ الإجْزاءِ.
2) وإذا اغتسلَ لجمعته ناسِيًا لجنابته، كذلك قولان. والمذهب عدم الإجْزاءِ.
3) وإذا نسِي لَمعة من الغَسْلة الأولى من وضوئه، وكان غسَلَهَا بنية الفرض، هل يجزئه إذا غسَل الثانية بنية السُّنة؟ قولان. والمذهبُ عدَمُ الإجزاءِ.
4) الرابعة: إذا سلم من اثنتين ساهيًا، ثم قام يصلِي ركعتين بنية النفْل، هل يجزئانِه عن ركعتي الفرض؟ قولان.
5) الخامسة: إذا ظن أنه سلم من فَرْضه، فَصَلَّى بقية صلاته بنية النافلة، هل يجزئه أو لا؟ قولانِ.
6) السادسة: إذا سها عن سجدة من الركعة الأولى وقام في خامسة، ساهيا، هل يجزئه عن الركعة التي نَسِي منها السجدة؟ قولان.
السابعة: إذا نَسِي طواف الافاضة وقد طافَ طواف الوداع، وراح إلى بلده أجزأهُ طواف الوداع عن طواف الافاضة. هذا هو الذى رأيت وقع في هذا القاعدة. (46)
(46) علق الفقيه المدقق ابن الشاط على ما جاء عند الإمام شهاب الدين القرافي في هذه المسائل بقوله:
هذه المسائل الثلاث الأولى من الطهارة، ويحتمل أن لا يكون القائل بالاجزاء في هذه بَنى قولَه على هذا الأصل، بل على أن كُلَّ واحد من المُوقِعِين لهذه الطهارات إنما أراد بها إحراز كمالها، والكمال في رأيه يتضمن الإجزاء، بخلاف رأى غيْره من أن الكمال لا يتضمَّنُ الإجزاء، فيكون الخِلافُ في الإجزاءِ وعدمه مبنيا على الخلاف في ذلك، فلا تكون المسائل الثلاثُ هذه من إجزاء ما ليس بواجب عن الواجب من هذا الوجه.
ويحتمل ألا يكون القائل أيضا بالإجزاء بنى قوله على ذلك الأصل، بل على أن الطهارة لا يشترط فيها تعْيين نية الفرض ولا نية النفل، فلا يكون على هذا من إجزاء ما ليس بواجب عن الواجب. وأما مسألة المسَلِّم من اثنتَيْن، والظان أنه سلم، فمن إجزاء ما ليس بواجب عن الواجب عَلَى أحَد القولين.
وأما المسألة السادسة فيحتمل ألا تكون من إجزاء ما ليس بواجب عن الواجب، من جهة أنه إنما قام في الخامسة لأداء بقية فرضِه فيما يعتقد.
قلت: وقد فرض بعض الفقهاء في تمييز الفرق بين المُشْتَبهات مسألةً وقال: لِمَ لا تُصَلَّى الفريضةُ بتيَمم النافِلة كما جازتْ نيابَةُ النفل عن الفرض في
وأما السابعة وهي ناسِي طواف الافاضة فمِن تِلك، (اى قاعدة اجزاء ما ليس بواجب عنْ الواجبِ، لكنه لم يذكر فيها قوليْن، وهي محل لاحتمال الخلاف، والله أعلم.
قلت: وقد ذكر الففيه الجليل المتضلع، ابو الوليد محمد بن احمد بن رشد الحفيد في كتابه السهير (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) هذه المسألة فقال: "وجمهور العلَماء على أن طواف الوداع يجزئ عن طواف الافاضة إن لم يكن طافَهُ، لأنه طوافٌ بالبيت، معمول في وقت طواف الوجوب، الذى هو طواف الافاضة، بخلاف طواف القدوم.
وقد تعرض الشيخ الفقيه الفاضل محمد على بن الشيخ حسيْن مفتي المالكية رحمه الله لهذه السائل في كتابه تهذيب الفروق، المطبوع بهامش كتاب الفروق للقرافي، وذكر أنها إحدى عشرة مسألة فقال:
وإنما جرى إجزاء غير الواجب عن الواجب - على خلاف الاصل، في إحدى عشْرة مسألة في المذهب، أشار اليها الشيخ ابو العباس احمد بن عبد الله الزاوي كما في كبير ميّارة على نظْم ابن عاشر بقوله.
مسائِل يُجْزى نفْلُها عن فريضة
…
شُذوذًا فلا تتَّبِع سوى قول شهرةٍ
مجدِّدُ طُهْر ساهيا وهو مُحْدِث
…
ولَمعةُ عُضْو طهَّرتْ بفضيلة
وآتٍ بغسلٍ، ساهيًا عن جنابة
…
نوى جُمعةً، واحْكُمْ لتارك سجدة
من الفَرض يأتي بالسجود لسهوه
…
ومُبْطِلها ياتي بخامس ركعةٍ
ومن لم يسَلم ظن فيها سلامه
…
وآتٍ بنفْل قبْل ختْم فريضةَ
ومنْ لم يسلم او يظن سلامه
…
لِثالثةٍ، فافهم قد قام بصورة
ويجزي في المشهور من طاف عندهم
…
طوافَ وداع، ذاهِلًا عن إفاضة
وذو مُتْعةٍ قد ساق هدْىَ تطوع
…
فُيجزى قد قالوا لِواجِب متعةٍ
وقد قالهُ ابن الماجشون إذا رمَى
…
جمارًا لسهو، لا يُعيدُ لِجمرة
ثم قال بعد ذلك في تهذيب الفروق بعد أن أورد هذه الابيات:
وبيانها أنها علي ثلاثة اقسام:
1) القسم الأول محتوٍ على ثلاث مسائلَ من الطهارة وقعت في المذهب على قولين بالإجزاء وعدمه، مشهورهما الثاني، وذكرها الأصل، (اى القرافي في مسائل هذا الفرق الثالث والخمسين من كتاب الفروق).
2) والقسم الثاني محتوٍ على خمس مسائل من الصلاة وقعت في المذهب ايضا على قوليْن بالاجزاء وعدمه، مشهورهما الثاني، ذكر الاصل منها ثلاثة، والرابعة اشار لها ابو العباس بقوله:
واحكم لتارك سجدة
…
من الفرض يأتي بالسجود لسهوه
الحج؟ وذكر المسألة الآخِرة من المسائل السبع، فأجَابَ بما مقتضاه أن الأمر في الحج على غير الأصل، وكان ذلك للمشقة التى في إعادة فرض الحج وهو طواف الإفاضة، والمشقة مفقودة في الصلاة.
يعنى: واحْكمْ بالاجزاءِ على مقابل المشهور لتارك سجدة من صلاة الفرض في حال اتيانه بسجدة سهوه في الصلاة قبل السلام أو بعْدَهُ. والخامسة اشار اليها بقوله:
ومن لم يسلم او يظن سلامه
…
لثالثة قد قام، فافْهم بصورة
يعْنى: وقن قام من ثانية فرض من غير أن يسلم أو يظن السلام لثالثة بنية النفْل ايضا، أما إن سلَّم أو ظَنَّ السلام فهما المسألة الاولى والثانية من هذا القسم، ولذا قال:"فافْهَمْ بصورة".
والقسم الثاني محتوٍ على ثلاث مسائل من الحج وقعَتْ في المذهب ايضا على قوْليْن: بالاجزاء وعدمه، لكن المشهور منهما هنا الإجزاء، ذكَرَ الاصل (اي القرافي في هذا الفرق) منها واحدة هي مسألة نسيان طواف الافاضة وقد طاف هذا الناسى طواف الوداع وراحَ إلى بلده، وذكر ابن الشاط ان القرافي ذكرها وأورَدها، ولم يحك فيها قولين، وهى محل لاحتمال الخلاف.
قال الشيخ محمد علي بن حسين في تهذيبه هذا على الفروق هنا في هذه المسألة: وقد صرَّح بالخلاف فيها كغيرها، وأن المشهور منْهما الاجزاء، قولُ ابي العباس الزواوي:
ويجزئ في المشهور من طاف عندهم
…
طواف وداع، ذاهلا عن إفاضة.
المسألة الثانية من المسائل الثلاث في هذا القسم اشار اليها ابو العباس الزوار بقوله:
وذو متْعة قد ساق هدْى تطوع
…
فيجزي قد قالوا لِواجب مُتْعَة
يعنى أن المعتمر إذا ساق هدْي التطوع في عُمْرته، فلمَّا حلَّ منها ووجبَ نحره الآن أخّرَهُ ليوَم النحر، ثم بَدَاله وأحرم بالحج، وحج من عامه ذلك وصار متمتعا، فإن هدْى التطوع يجزئه عن متعته (وتَمتُعه) ولو لم ينو عند سَوْقه أنه يجعله في مُتْعَتِهِ على تاويلِ سَندٍ، وهو المذهب، كما اجزأ عن قِرَانه كما في حاشية شيخنا على توضيح المناسِك للوالد رحمه الله تعالى.
الثالثة أشار لها ابو العباس الزواوي بقوله:
وقد قال ابن الماجشون إذا رمى
…
جمارًا لسهوٍ لا يعيد لجمرة
أي إذا نسى جمرة العقبة، ثم رماها ساهيا كما وقع ذلك لعيد الملك ابن الماجشون كما في كبير ميارة على ابن عاشر.
قال صاحب التهذيب على الفروق: ويوخَذُ من قول شيخنا في حاشيته: كما أجزأ (اي هدي التطوع عن قِرانه) زيادة مسألةٍ رابعةٍ في هذا القسم، ونَظَمْتُهَا في بيت يُلحَقُ بنظْم أبي العباس المذكور بقولي:
وزدْ قارنا يجزيه هدْيُ تطوع
…
بواجب هدْى للقِران كمتعة
ومن هنا اشتهر أن تطوعات الحج تجرى عن واجب جنسها، فتكون جملة النظائر اثنتى عشرة مسألة: أربعة من إِجزاء ما ليس بواجب عن الواجب شذوذًا على احتمال، واربعة من ذلك شذوذًا بدون احتمال، وأرْبعة من ذلك على مشهور المذهب. وما عدا هذه النظائر فهو جارِ علىَ الاصل من عدم إجزاء ما ليس بواجب عن الواجب اتفاقًا. اهـ.
قال شهاب الدين رحمه الله:
وأما العبد والمسافر والمرأة ويُصَلون الجمعة فليست صلاتهم من هذا القبيل، أعني أن يقال فيها: أجزأ غير الواجب عن الواجب، بل الواجبُ عليهم إحدى الصلاتيْن: إما الظهر وإمّا الجمعةُ، والواجبُ القدْرُ المشترك بين الصلاتين (47)، فإذا صَلَّوْا الجمعةَ فقد أتوْا بإحدى الصلاتيْن، وذلك الواجب عليهم، وتعيَّن ذلك المشترك في أحد نوعيه، كمسألة خِصال الكفارة، فهذا عنده من بَابِ تعيين الواجب، والمسائل المذكورة قيل هذا من باب إجزاء ما ليس بواجب عما هو واجب.
قلت: قول شهاب الدين رحمه الله ليس خلاف مَا نصَّ عليه الفقهاء. نصّ أبو عمرو ابن الحاجب في كتابه في الفقه في باب القصر أن المرأة والعبد ينتقلان، لأنه يقال: المراد بالانتقال المذكورِ انتقاله من الإبهام إلى التعْيين.
ويمكن أن يقال: إنه خلافه، والراد ينتقل من فرْضيةِ الظهر إلى الجمعة، وليْسَتْ من باب تعْيين الواجب على هذا، ولكنه ليس فيها إجزاء ما ليس بواجبٍ عن الواجب، على كل قول، والله أعلم.
قال شهاب الدين رحمه الله: ويتمهَّد الفرق بين إجزاء ما ليس بواجب عن الواجب وبين تعيين الواجب بأربَع مسائِل:
= أقول: وانما تتبعت هذه المسائل ونقلتُ ما فيها عند ابن الشاط، وفي تهذيب على الفروق على ما فيها من طول، ورمما على ما في الاتيان بِهَا كلها من خروج عن طبيعة التعليق على المسائل، فان شأنه ان يكون قصيرا وبالقدر الضروري، حتى لا يخرج الكتاب الاصلي عن حجمه، نظرا لأهمة هذه المسائل، وبقصد استذكارها واستحضارها، وبيان المشهور فيها في المذهب من خلال اقوال العلماء وفقهاء انذهب المالكي رحمهم الله ورضي عنهم ونفعنا بِعلمهم وبِفقههم، ورحِمَ كافة اهل العلم والفقه في الدين.
(47)
علق الشيخ ابن الشاط على كلام القرافي هذا بقوله: ليس القدر المشترك هو مفهوم إحداهما، بل مفهوم إحداهما واحدة غير معيَّنة من الصلاتين.
المسألة الأولى: العبد لا يؤم في الجمعة، لأن المذهب أن المفترِض لا يأتَمُّ بالمتَنَفِّل، وقيل: يَؤُمُّ، لأنه إذا حضرَهَا صار من أهْلِها وَوَجَبَتْ بالشروع عليه فصار مفترِضا، فما ائَتَمّ المفترض إلا بمفترض فقيل: إن تكبيرة الإحرام للجمعة لا تجب عليه فقد وقع ائتمام المفترِض بالمتنفِّل، فأجابوا عن هذا بأن تكبيرة الإحرام، لها عمومٌ وخصوص. فمِن حيث عمومها هى واجبة على العبد، ومن حيث إنها للجمعة لا تجب، وباعتبار العموم ائَتَمَّ المفترض بالمفترِض.
وقال شهاب الدين رحمه الله:
هذا الذي قالوه، من أن العبدَ عليه تكبيرة الإحرام، وهي أعمُّ من أن تكون بِظُهْرٍ وبجمعةٍ، فإذا صلَّى الجمعة فقد خصصها، وذلك الخصوصُ غيرُ واجب عليه، والعموم هُو واجب عليه، ومن تلك الجهة صحَّ الائتمام، يلزمهم في جميع أركان الصلاة من ركوع أو سجودٍ أن يُعتبَر فيها هذا المعنى، فيكون العبْدُ قد أتَى بخصوص، وذلك غير واجِب عليه ومن حيث إن السجودَ سجود أتَى بما يجب عليه والجزء الخُصُوص، والعمومُ واجب عليه، فقد ائتم المفترِض بالمتنفِل.
قلت: لا يلزم الفقهاء هذا، فإنهم قالوا: بالشروع وجبت، فقد انتقَل للجُمعة وصار مساويًا فيها للحر، من حيث الخصوصُ والعموم.
نعم، إنه يقال: لم يكن في تكبيرة الإحرام مساويا للعُموم فيقال: جاز ذلك، بناءً على أن الواجب في النية أن ينويَ الفريضهّ المطلَقة أو ينوى الفَريضَة المعَيَّنة بالركعات، وفي المذهب خلاف، وهذا جاء على الفريضة المطْلقة، والصلاة واحدةٌ في نفسها، أعْنى الظهر، والجمةُ ليست كالظهر والعصر، والله أعلم. (48)
(48) علق ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذه المسألة بما يزيدها وضوحا وتحقيقا فقال:
ما قاله القرافي فيها غير صحيح، فإنه جعلها من الواجب المخيّر، ومُوقِع نوعيْ الواجب المخيّر أو أنواعه لا يُوقِع إلا واجبا، فالعبد إذا اختار إيقاع الجمعة لا تقع الا واجبة، فالحرُّ إذا اقتدى به لم يكن مفترضا إئتم بمتنفل، فينبغي أن يصح اقتداؤه به.
قلت: وهذه المسألة تؤْذِن بخلاف ما قاله، من أن الثلاثة الواجب عليهم شئ (وهم المسافر، والعبد، والمرأة) لهم التعيين، بل ظاهر هذا أن هذه المسألة على هذا القول من باب إجزاء ما ليس بواجب عن الواجب بحسب قولهم انها وجبتْ بالشروع، اذْ هذا تصريح بأنها كانت غير واجبة، ثم لما شرعوا وجبت، لقوله تعالى:"ولا تبطلوا أعمالكم "، (49) كما في النوافل كلها، تجب بالشروع، والله أعلم.
المسألة الثانية:
المسافر في رمضان يجب عليه أحد الشهرين: إما شهر الأداء، واما شهر القضاء، فإذا اختار صَوْمَ رمضانَ فهو فاعل لخصوص غير واجب، وهو كونُه رمضانَ، وعمومٍ واجب وهو كَونهُ أحَدَ الشهرْين، فأجزأ عنه من جهة أنه أحدُ الشهرين، لا مِن جهة كونِهِ رمضان. (50)
وكذلك إذا اختار شهر القضاء، فخصوصه ليس واجبا عليه، غير أنه متعين عليه خصوص القضاء لتعذر غيره، لا أنه واجب بخصوصه، ؛ يتعيَّنُ آخر وقتِ الصلاة لتعذر ما قبله، وتعيَّنَ غيرُه لأنهُ واجبٌ بطريق الأصالة، وليس قضاء المفَرط هكذا، بل قضاؤه واجب بخصوصه وعمومه (51).
= وما قاله القرافي من أن الخصوصات غير واجبة، مسلَّمٌ، لكن من حيث هي خصوصات معيّنات لا من حيث هي داخلة تحت العموم، فإن العموم على ما التزمه هو واجب، وهل يُمكن إيقاع العام من حيث هو عامٌّ؟ هذا لا سبيل اليه، وإنما يقع من حيث الخصوص الشخصى، خاصة لا يمكن ذلك بوجه، فالعام على هذا لا يقع إلا في الخاص، وهذا كله مجاراة له (للقرافي) على تسليم أن الوجوب في الواجب المخيَّر يتعلق بالمعنى العام، من حيث هو عام، وذلك عند التحقيق غير صحيح، وانما هو - أعنى الوجوب - متعلق في الواجب المخيَّر بواحد غير معين مما فيه المعنى العام الذي يقال له المشترك. وعلى هذا لم يتعلق الوجوب المخير إلا بخصوص، لكنه خصوص غير معيَّن من قبل الآمر، وتعيينه موكول إلى خِيرَة المامور، هذا هو الصحيح لا ما سواه. اهـ.
(49)
سورة محمد. الآية 33.
(50)
عقب ابن الشاط على كلام القرافي هنا فقال: ما قاله هنا ليس بصحيح، بل إذا اختار صيام رمضان فهو فاعل لخصوص واجب. وكيف لا يكون واجبا وهو قد عيَّنه لإيقاع الواجب كما فرض الله تعيينه. وقوله، فأجزأ عنه من جهة انه أحد الشهرين، صحيح. وقوله: لا من جهة كونه رمضان، غير صحيح، وهل رمضان إلا أحد الشهرين، وهل احد الشهرين إلا رمضان". اهـ.
(51)
قال ابن الشاط: ما قاله القرافي هنا صحيح.
قلت: هذا التفريق لا ينبغي، من حيث إنه لا يقال: قضاء المفَرط باعتبار الحال قبل التفريط، وإنما يقال بعد وقوع التفريط وفواتِ صوم شهر رمضان. واذا كان كذلك فالقضاء واجب بخصوصه وعمومه، وكذا المسافر إنْ اعتبرناه بعد خروج رمضان، قضاؤُهُ واجبٌ بعمومه وخصوصه، فلو اعتبرنا المسافر قبل فوات رمضان فحينئذ يكون له القضاء والأداء، ويكون ما قاله لم يجب عليه خصوص واحد، ولكنه وجب عليه أحد الشهرين، واللهُ أعلم. (52)
المسألة الثالثة:
المريض إذا كان يقدر على الصوم لكن مع مشقة عظيمة لا يَخْشَى معها على نفسه ولا عضوٍ من أعضائه، فهذا سقطَ عنه الخطاب بخصوضِ رمضان، ويبقَى كالمسافر مُخاطَبًا بأحدِ الشهرين، فإن خَشي على ما ذُكِر حَرُمَ عليه الصومُ، فإن أقْدَمَ على الصوم مع ذلك فلا يمكن أن يقال: إنَّه غَيَّر (53) الواجبَ كما يقال للمسافر، ولكن يقال: هل يجزئ عنه؟ قال الغزالي (54) رحمه الله: يحتمل عدم الإجزاء، لأن المحرم لا يجزئ عن الواجب، ويحتمل الِإجزاء كالصلاة في الدار المغصوبة، فانه متقرب بترك شهوتيْ فمه وفرجه، جانٍ على نفسه، كما أن المصلي متقربٌ، وجَانٍ على صاحِب الدار. (55)
(52) علَّق الشيخ ابن الشاط على كلام القرافي في آخر هذه المسألة بقوله: أما قوله: ان القضاء على المفَّرط واجب بخصوصه وعمومه بسبب واحد فصحيح.
وأما قوله: وعلى المسافر بسببين: أحدُهما رؤية الهلال فإنها اوجبت العموم الذي في القضاء وهو كونه أحد الشهرْين، فلمْ توجبْ الرؤية العموم، فإن العموم من حيث هو عموم لا يتعلق به الوجوبُ، وليس العموم هو كؤنه أحد الشهدبْن، بل أخد الشهرين خصوص غيْرُ معَيَّنٍ.
(53)
في نسخة ح: عيَّن، كما يظهر من كتابتها.
(54)
"أي في كتابه المستصفى في علم الاصول كما ذكره القرافي رحمهم الله أجمعين".
(55)
عقب ابن الشاط على كلام القرافي في هذه المسألة الثالثة بقوله: ما قاله القرافي من أن الواجب أحدُ الشهرين، وأنه يتعين القضاء عند تعذر الأداء، صحيح. وقوله: فإن أقدم وصام وفعل المحرم، لا يمكن أن يقال إنه غيَّر الواجب عن عمومه، وقال عن كلام الغزالي: إنه تخريج حسن، قوْل ظَاهرٌ.
المسألة الرابعة:
قال مالك: إذا صلى الصبيُّ في الزوال ثم بلغ في القامة وجبَ عليه أن يصَلِىَ مرَّةً أخْرَى، لأنَّ الوُجُوبَ تَرَتَّب عليه حينَئذٍ، وما كان صلَّاة ليس بواجب، وغيْر الواجِب لا يجزئ عن الواجب. وقال الشافعي: لا يعيد، لأن الصلاة قد وقعَتْ بعد سببها، ولم يخاطَبْ أحد بصلاتين لِسبب واحد.
القاعدة السادسة (56)
نقرر فيها أنه أشياء جاءتْ في الشريعة، يُتَوَهّمُ أنها ناقِضَةٌ علينا القاعدةَ الخامسةَ، وهي أن ما ليس بواجب لا يجزئ عن الواجب
فمن ذلك أن الزكاة إذا عجلت قبل الحول، إما بالشهر ونحوِه عندنا، وإما في أول الحول عند الشافعي، فهو قول بإجزاء ما ليس بواجب عن الواجب، فإن دَوَرَانَ الحَوْل شرط في الوجوب وهو لم يقع، والمشروطُ لا يتقدم شرطَه، فنقولِ:
الفرق أن هذا جاز من حيثُ إنه إن لم تكن الزكاة واجبةً في الحالِ فهِى واجبةٌ في المآلِ، والمُخرِجُ إنما قصَدَ بالِإخراج الوجُوبَ. بخلاف صدقة التطوع عن الواجب، إنما قَصَدَ التطوعَ، فلم يُجْزِ فيها وفي أمثالِها مَا ليس بواجب عن الواجب، وهنا أجزأ، لأن لذلك الشئ اعتبارا أنه واجبٌ، وذلك في المآلِ، وإن لم يكنَ واجبًا في الحالِ، والذي قَبْلَه ليس بواجب في الحال ولا في المآل، ولذلك قلنا: لا يُجْزِئ، والله أعلم.
ولْنَذْكُرْ مسألتين (57):
(56) هى موضوع الفرق الرابع والخمسين بين قاعدة ما ليس بواجب في الحال والمآل وبين قاعدة ما ليس بواجب في الحال وهو واجب في المآل جـ 2 من كتاب الفروق ص 24.
(57)
هاتان المسألتان نص عليهما الامام القرافي رحمه الله، وذكرهما في كتابه الفروق أثناء الكلام على هذا الفرق 54، ذلك ان عبارة الشيخ البقورى رحمه الله توصى وتفهم في أول الأمر أنهما من زياداته وإضافاته للكتاب الأصلى، فكان من الأنسب التنبيه إلى مثل هذه المسألة.
المسألة الأولى: قال جماعة من الحنَفِيَّةِ: يتعلق الوجوب في الواجب الموَسَّع بآخِرِ الوقت، والمعجَّل قبْلَ ذلك نفْلٌ يَسُدُّ مَسَدَّ الفرض، فقال لهم الأصحابُ: لَوْ صَحَّ ذلك لَصحَّ أن يصلى قبل الزوال ويُجْرِئ عنه، فيكون نفْلًا سَد مَسَدَّ الفرض، وهو خلاف الإجماع، فكذلك بعد الزوال، لا نحصار الوجوب عندكم في آخر القامة فيكونُ إيقاعها في الوقتين على السواء، إذْ لم تجب فيهما وإنما وجبت في آخره. فإن قالت الحنفية: جاز بعد الزوال من حيث إنه لم يقصد بصلاته - حينئذ - التطوع، وانما قصد الواجب في المآلِ، قيل لهم: ويقصِدُ قبل الزوال الواجبَ في المآل لا التطوعَ، ولم يقل أحد بجواز ذلك.
فأجاب شهاب الدين رحمه الله عن الحنفية بأن قال: من شرط إجزاء ما ليس بواجب في الحال وهو واجب في المآل - عن الواجب، أن يكون سببه قد تقدم، وتأخَّر الوجوب لشرط أو غيره كما الأمر في الزكاة، فإنه وُجدَ سبب وجوب الزكاة، وذلك النصابُ، وتأخر الشرطُ وذلك الحَوْل فجاز، كَذلكْ هنا وُجِدَ سببُ الوجوب وهو الزوال، وقَبْلَ الزوال ما وُجِدَ السببُ، فوقع الفرق، فصح إجزاءُ ما قالوه، ولم يَلْزَمْهُمْ القولُ بإجزاء ما ألْزَمُوه. (58)
المسألة الثانية:
زكاة الفطر يجوز تعجيلها قبل غروب الشمس بيومين أو ثلاثة، لما قُلناه من أنها واجبة في المآل.
فإن قيل: هذا يقوي الإلزام على الحنفيَّة بأن أخراجها قبل الفِطر كإيقاع الصلاة قبل الزوال.
فالجواب أن لها سببين: غروبَ الشمس آخِرَ يوم من رمضان، والوقت
(58) عقب الفقيه ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذا الفرق من أوله إلى آخره فقال: ما قاله من احتمال الخلاف ظاهر، وما قاله من الجواب عن السؤال لا باس به. والأصح نظر امتناع التقديم في الزكاة، ولزوم عدم الاجزاء في مسألة الحنفية، فيصادمهم الإِجماع، والله أعلم. اهـ.
الموجودَ في رمضان، لقوله صلى الله عليه وسلم:"هي طُهرةٌ للصائم"(59). فمن أخرجها قبل الغروب بيومين او ثلاثة، فقد أتى بها متوسطة بين سببيْن، والمسبَّبُ يقع وسطا بين سبَبَيْه، فيه خلاف، فليست المسألة كمسألة ايقاع الصلاة قبل الزوال.
القاعدة السابعة (60)
نقرر فيها الميْز بين ما يثاب عليه من الواجبات، وبين ما لا يثاب عليه منها، وإن وقع واجبًا.
اعْلَمْ أن الماموراتٍ على قسمين:
1) قسم منها، صورة فِعْلِهِ كافيةٌ في تحصيل مصلحتهِ وإن لم يُقصَد به التقرب، وهذا كأداء الديون، وردِّ الغُصُوب وما أشبه ذلك.
2) وقسمٌ آخر لا يقع واجبا الا مع القصْد والنية كالصلاة والصيام والحج
(59) اخرجه كل من أئمة الحديث: ابو داود وابن ماجة، والدارقطنى عن عبد الله بن عبَّاس رضى الله عنهما قال:"فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، طُهرة للصائم، من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أدَّاها قبل الصلاة (أى صلاة العيد) فهى زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهى صدقة من الصدقات "، وذلك يعنى الترغيب في التعجيل بإخراجها، والتحذير من التهاون فيها، فإن ذمة مخرجها، سواء قبل الصلاة (وبعدها) تبرأ فها، وينال عليها الثواب والاجر في كلتا الحالتين عند الله تعالى، ولكن ثواب من أخرجها قبل صلاة العيد يكون أعظم أجرًا وخيرًا والله أعلم.
(60)
هى موضوع الفرق الخامس والستين من كتاب الفروق: جـ 2. ص 50، ويتجلى فيها الاختصار كما يظهر ويتجلى في غيره من القواعد بالمقارنة مع ما في كتاب الفروق الذى هو أصل لهذا الكتاب، إذ الاختصار أحد الاسس التى بنَى علها الشيخ البقوري كتابه الترتيب، فأجاد وأفاد رحمه الله، ورحم شيخه القرافي، ورحم سائر الائمة والعلماء المسلمين وكافة المومنين.
وقد علق الشيخ ابن الشاط على كلام القرافي في اول هذا الفرق، فقال: إن الذي يؤدي دينه لا يخلو أن ينوى بأدائه امتثال أمر الله تعالى بذلك أو لا، فإن نوى ذلك فلا نزاع في الثواب، وان لم ينوه فلا يخلو أن ينوى سببا للأداء غير الامتثال كتخوفه ألَّا يداينه أحد إذا عرف بالامتناع وما اشبه ذلك أولا، فإن نوى بالأداء شيئا غير الامتثال فلا نزاع ايضا في عدم الثواب، وإن عَري عن نية الامتثال ونية سبب غيره ولم يَنْو إلا مجرد أداء دينه: فلقائل أن يقول: لا يحْرَمُ صاحبُ هذه الحالة الثواب، استدلالًا بسَعة بابه، والله أعلم.
وعلق عما قاله في القسم الثاني بأنه صحيح.
وغير ذلك مِمّا شُرِط فيه النية، فهذا لا يُعْتَدُّ بفعله إلا إذا وقع منْوِيًا، فحينئذ يقع واجبًا ويثاب عليه.
والقسم الآخر إذا وقَع بغير نيةٍ أجزأ عن الواجب ولا ثوابَ عليه، فإن فعل بنيةٍ أجزأ عن الواجب وأثيب عليه، وظَهَر من هذا أنه مبني على أن القَبُولَ غَيْرُ الإجزاءِ وهو الحقُّ. فالمُجزئ من الأفعال ما اجتمعتْ شرائطه وأركانهُ وانتفتْ موانعه، فهذا يبرئ الذمة بغير خلاف. وأما الشاب عليه فالحقُّ عدم لزومه، وأن الله تعالى قد يُبْرئ الذِّمة ولا يُثيب في بعض الصور، وهذا معنى القبول، ويدل على ذلك أمورٌ:
أحدها: قوله تعالى: "انما يتقبل الله من المتقين"(61) في قضية ابنَيْ آدم، (62) اذْ الظاهرُ أنهما تساويَا في العمل فكان ما ييرئ الذمة حاصلا، ومعَ ذلك لم يتقبل من أحدهما وتَقبَّل من الآخر بوصف باطني حميل في أحَدِهما، وذلك التقوى.
(61) سورة المائدة: الآية 27.
وقد علق ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في الاستدلال بتلك الآية، ولخصه البقوري في هذه السألة، فقال:"قول القرافي بأن هنا قاعدة، وهي أن القبول غير الإجزاء وغيرُ الفعل الصحيح، وأن العمل المُجْزئ قذ لا يُقْبَل وإن برئت الذمة به وصحّ في نفسه، مستدلا بالآية السابقة وبالآيات التى أوردها بعدها، يلاحظ عليه أن المسألة قطعية لا يكفي فيها مثل هذا الدليل، وعلى تسليم أنها ظنية، لقائل أن يقول: ليس المعنى الذى تأوله من الآية بظاهر، لاحتمال أن يريد بالتقوى الإيمان على الإطلاق، والايمان الموافي عليبما. وعلى تسليمه لعله كان شرْعًا لهم اشتراط عدم العصيان في القَبول. ثم جميع الايات والاحاديث المتضمنة لوعد المطيع بالثواب معارضة لذلك الظاهر إن قلنا أن شرع من قبلنا شرع لنا". اهـ كلام ابن الشاط في هذه المسألة رحمه الله. ثم قال بعد ذلك: ما قاله القرافي من ان ذلك كله (اى التفضيل في الأجر والثواب) مشروط بالتقوى مسَلَّمٌ، لكن بمعنى الموافاة على الايمان لا بمعنى مجانَبَة العصيان". اهـ
(62)
في نسخة ح: في قصة ابنى آدم. (وذلك اشارة إلى قوله تعالى في الآية السابعة والعشرين من سورة المائدة، خطابا لنبيه ورسوله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ..
وثانيها: طلب إبراهيم واسماعيل عليهما السلام ذلك عند العمل، حيث قالا:"ربنا تقبل منا"(63).
وثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم تقبل من محمد وآل محمد، وذلك عند ذبْحه الأضحية.
ومن الدليل على هذا كثرة، ويظهر من قوله صلى الله عليه وسلم:"صلاة في مسجدى هذا خَيْرٌ من الف صلاة في غيره"(64) التفضيل لا بإطلاق، ولكن بشرط التقوى، ومن قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفْضُلُ صلاة الفذ بكذا (65) أنه بإطلاق.
قلت: ادّعاء التقييد في الحديث الأول، وأنه الظاهر، غيرُ ظاهر. نعَمْ الاطلاق في الثاني هو الظاهر، والله أعلمُ.
قلت: إن صحت هذه القاعدة أبطلت (66) الحدود المذكورة للأصوليين في انواجب، فهم يميزونه بالثواب والعقاب (67). وهذه القاعدة - إن صَحَّتْ - ترُد ذلك من حيث إنه يخرج عن الحد ما هو منه، وهو فساد في الحدودِ، والله أعلم.
(63) سورة البقرة: الآية 127: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع الحليم".
(64)
اخرجه الامام احمد رحمه الله بلفظ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: صلاة في مسجدى هذا أفضل من الف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام افضل من صلاة في مسجدى هذا بمائة صلاة". اهـ.
(65)
اخرجه الشيخان: البخاري ومسلم رحمهما الله بلفظ: صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" متفق عليه، عن ابن عمر رضى الله عنهما.
(66)
في نسخة ح: بطلت (بالفعل الثلاثي والمعنَى على كليهما صحيح وسليم.
(67)
حيث يقال في حد الواجب وتعريفه عند علماء الأصول وغيرهم:
الواجب هو ما يثاب على فعله ويعاقَبُ على تركه، ذلك أن الامر به من الشارع أمرٌ حتم ولازم. والمراد بالقاعدة المشار إليها هى القاعدة السابعة من القواعد الاصولية عند البقورى، وهى الفرق الخامس والستون من الفروق عند القرافي، والتي موضوعها - كما سبق بيانه في اولها - التمييز والفرق بين ما يثاب عليه من الواجبات وبين مالا يثاب عليه وان وقع واجبا. وهذه القاعدة الاصولية صحيحة، ويظهر انها لا تخرج الحدود والتعاريف المذكورة للواجب، ولا تتنافى معها عند النظر والتأمل، والله أعلم.
القاعدة الثامنة (68)
نقرر فيها ضَعف ما مضى الناس عليه في تحديد الأداء والقضاء، ثم نذكرُ الحَدّ الذي يَصْلُحُ لَهما، فأقول أولا:
الجاري عند الناس أن الأداء كنايةٌ عن إيقاع الفِعلِ في وقته المحدُود له، والقضاءُ كناية عن ايقاع الفعل بعد خروج وقته المحدود له. وهذا ينتفض بالأمر الفَوْري، كَرَدِّ الغصوب والودائع، فإن الشرع حدد له (69). زمان الوقوع، فأولُهُ أوَّلُ زمانِ التكليف، وآخرهُ الفراغ منها بحسبها في طولها وقصرها، فزمانه محدودٌ شرعًا، مع انتفاء الاداء والقضاء عنها في الوقت وبعده، فيبطل حَد الأداء فإنه يتناولها وليست أداء، ويَبطُل حد القضاء، فإنه يتناولها وليْسَتْ قضاءً والأوْلى أن يقول: الأداء إيقاع الواجِبِ الأدآء في وقته المحدود له شرعا لمصلحة اشتمل عليها الوقتُ بالأمر الاول. والقضاء إيقاع الواجب خارج وقته الذى حدّ له شرعا لأجل مصلحة فيه بالامر الثاني.
(68) هى موضوع الفرق السادس والستين بين قاعدة ما تعَيَّن وقته فيوصَفُ بالأداء، وبعدهُ بالقضاء، وبيْن قاعدة ما تعَيَّن وقته ولا يوصَفُ فيه بالأداء، ولا بعْدَهُ بالقضاء، والتعيين في القسمين شرعى" وفيه يقول الامام القرافي رحمه الله: "إعْلَمْ أن هذا الموضع وهذا الفرقَ لم أرهُ لأحد من العلماء، فيما رأيته، ولم يقع التصريح به فيما وجدته ولا التعريض، بل التصريح في حد الاداء والقضاء بضده في كتب الاصول والفروع، فيقولون في حد الأداء هو: إيقاع الواجب في وقته المحدود له شرعا، وفي حد القضاء هو: إيقاع الواجب خارج وقته المحدود له شرعا، وهذان التفسيران باطلان بسبب أن الواجبات الفورية كرد الغصوب والودائع إذا طلبتْ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأقضية الحكام إذا نهضت الحجاج، كل ذلك واجب على الفور، ومع ذلك لا يقال لهذه إنها اداء إذا وقعت في وقتها، ولا قضاء إذا وقعت بعده، فإن الشارع حدد لها زمانا وهو زمان الوقوع. جـ 2. ص 55.
ولم يعلق عليه ابن الشاط بشئ من التحقيق والتصوب كعادته مع اغلب قواعد القرافي رحمهما الله جميعا.
(69)
في نسخة ح حدد لها، (بضمير التأيث على تلك الامثلة، وهو ما في كناب الفروق أيضا، ويتناسب مع بقية الكلام بالضمائر المؤنثة، ولعل الضمير بالتذكير في له كما في نسخة ع يعود إلى المصدر الذى هو الامر الفوري، أو ردّ الغصوب والودائع، والأمر سهل ما دام المعنى جليا واضحا.
فقولنا: في وقته، يخرج القضاء، وقولنا: المحدود له، يخرج المقيَّد بجميع العُمر، وقولُنا: شرعا، احترازا ممّا يحدده أهل العرف، وقولنا: لمصلحة اشتمل علها الوقت، يخرج النقيض المذكور. وهذا من حيث إن ما عينه الشرع كرمضان للصوم، والزوال للظهر، ذلك كله لمصلحة، فيها وإن كنا لا نَعْلَمُها. وتعْيين الفَوريات ليس كذلك، بل يتْبع المامورات وطَرَيان الاسباب، فالغربق - لو تأخر سقوطه في البحر تأخر الزمان، أو تعجل، تعجّل الزمان قبل ذلك، وليس القصد إلا حصولَ ذلك، وليس لزمان خصوصيةٌ في ذلك.
وقولنا في القضاء: بالأمر الثاني، وفي الأداء: بالامر الأول، لأن القضاء واجب بأمر جديد، وبهذا يَسْلَمُ من نقضٍ، وذلك أن شهر رمضان إذا تعذَّر صومه، فالله تعالى عَيَّن ما بعده إلى رمضان وقْتًا لقضائه، فيصْدق عليه ايقاع الفعل الواجب في وقته المحدود له شرعًا لمصلحة اشتمل عليها الوقت، كما يصدق على الأداء فإذا قلنا: بالأمر الأول، خرج القضاء، وإذا قلنا: بالأمر الثاني، خرج الأداء، وصدق على القضاء.
ثم اعْلَمْ بعد هذا أن القضاءَ لفظٌ مشتركٌ، يُقال على معانٍ مختلفةٍ، فيقال: قُضى الفِعل، إذا فعِل، ومنه:"فإذا قُضِيَتْ الصلاة"(70)، وهذا معنى لغوي، ويقال على ما قلناه وحددناه، ويقال على إيقاع الواجب بعد تَعَيُّنِه بالشروع، ومنه حَجّة القضاء (71)، وقضاءُ النوافل بعد الشروع فيها.
ويقال على ما وقع على خلافِ وضْعه في الشريعة، مع قطع النظر عن الوقت والتعَيُّن بالشروع، ومنه قضاء الماموم، لأن الركعتين الأخِيرتين من العشاء،
(70) سورة الجمعة، الآية: 15
(71)
المعروف في كتب الحديث والسور النبوية عُمرة القضاء، لا حَجة القضاء إلا أن يطلَق ذلك من باب التجوز، والنظر إلى أن العمرة تشمل على بعض مناسك الحج. والله أعلم، والمراد عمرة القضاء التي أداها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في السنة السابعة من الهجرة بعد ما حال الكفار دون دخوله إلى مكة وادائه للعمرة في السنة السادسة من الهجرة.
إذا صُلِّيتا جهرا فهو خلاف الوضع الشرعي، وكون اللفظ مشتركا ثمَّ يُحَدَّدُ بِمعنى واحدٍ مِمَّا يَدُلُّ عليه، لا يضرنا ولا يقدَحُ في فِعلنا.
ثم لِتعلمْ أن العبادات على ثلاثة أقسام:
منها ما يوصف بالأداء والقضاء، كالصلوات الخمس ورمضان، ومنها مالا يوصف بهما كالنوافل، ومنها ما يوصف بالأداء فقطْ كالجمعة.
فائدة:
على ما ذكرناه في الحدَّيْن المذكورين تَعَيَّنَ أن مذهب الغزالي أرجح من مذهب القاضى فيمن غلب على ظنه أنه لا يعيش إلى آخر الوقت، فيَضيقُ الوقت لأجل ذلك، ثم إنه عاش إلى آخره، هل يصليها أداءً كما قال الغزالي، أو قضاء كما قال القاضى؟ الأرجح ما قاله الغزالي، لأن تعيين الوقت لم يكن لمصلحة فيه، وإنما
كان لظن كاذب، واللهُ أعلم.
القاعدة التاسعة (72)
نقرر فيها صحة القول بالأداء الإِثم، إذ أشْكَلَ ذلك على كثير من الناس، وَقالوا: كيف تكون العبادة أداءً، وفاعِلُها آثِمٌ.
وبيان ذلك أن الله تعالى جعل أرْباب الأعذار يدركون الظهر والعصر عند غروب الشمس، بإدراك وقتٍ يسَع خمس ركعات في الحضَر بعد ما تحتاج اليه الصلاة من طهارة وغير ذلك. ووقع الاتفاق على أن ما خرج وقته قبل زوال العذر
(72) هى موضوع الفرق السابع والستين بين قاعدة الأداء الذي يثبتُ معه الإثم، وبيْن قاعدة الأداء الذي لا يثبتُ معه الإثم، جـ 2 ص 39.
وقد قال القرافي في أوله: اعلمْ ان هذا الفرق قدَ أَشكل على جماعة من الفقهاء واستشكلوا كيف تكون العبادة أداء وفاعلها آثم. وسرُّ الفرق في ذلك أن الله تعالى جعل ارباب الاعذار يدركون الظهر والعصر عند غروب الشمس بإدراك وقت يسع خمس ركعات في الحضر
…
الخ. وعلق عليه ابن الشاط فقال: ما قاله القرافي صحيح، على تقدير أن اصطلاح الفقهاء موافق لتحديده الأداء، والا فهو اصطلاح اخترعه، وما قاله أيضًا صحيح على تسليم اصطلاحه، ولا مشاحة في الاصطلاح.
لا يلزم أربَابَ الأعذار، فَدَلَّ لزوم الصلاتين لهُمْ أن ذلك الوقت وقت أدائهما، ولمَّا كان الأداء إيقاع الواجب في وقته المحدود له شرعًا كما تقدم، لزم أن يكونَ الظهر والعَصْر أداءً في حق كل أحَدٍ إلى غروب الشمس، لأنَّا لمَّا حدَّدْنَا الأداء، لم نَحدّه بالنسبة إلى الفاعلين، وانما حددناه بالنسبة إلى العبادةِ خاصة، مع قطع النظر عن الفاعل، هل هوَ صاحبُ عُذْرٍ أم لا، ولا أحد تعرض في حدِّ الأداء والقضاء لأحوال المكلف بل للعبادة فقط، فصار الأداءُ والقضاء تابعا لكون العبادة في وقتها أم لا، فكان الظهر أداء إلى غروب الشمس، بناء على صدقِ حدّ الأداء عليه، ولمَّا كان الشرع قد منع المكلف الذي لا عذر علية من تاخير العبادة إلى آخر وقتها مطلقا، كان من لا عذر له مؤدِّيا آثما، أمَّا أداؤه فلصدق حدّ الأداء، وأما إثمه فلتأخيره عن الوقت الذي حُدَّ له، وذلك آخرُ القامة.
قلت: أما سبب تعلق الإثم بمن لا عذر له فظاهر، وأما أنه مؤدٍّ لصدق الحَدِّ عليه فممنوع، فإنا إذا قلنا في الحدِّ: إيقاع الفعل في وقته المحدود له شرعا، فهذا الوقت الممتدُّ للغروب قد حدَّه الشرع لأهل الأعذار، وما جعله لمن لا عذر له، بل جعل لهم آخر القامة مثلا، وكون الحَادِّ لم يَعتبر المكلفين ولم يفصِّل الحد بحسبهم لا يلزمه، وإن لزمه فغفلة منه، فكيف نجعل هذا القدر دليلا على صحة هذه الدعوى (73)، والله أعلم.
قال شهاب الدين: والأداء مع الإثم يَتجِه لفريقين: أحدهما من لا عذر له فأخَّر إلى الوقت المذكور، والثاني الذى أخر إلى آخر الوقت، وقد كان يعتقد أنه لا يتمكن من إيقاع الفعل آخر القامة بعذرٍ واحد، كما قلنا في مسألة القاضي
(73) في نسخة ح: القاعدة، ولعلها أنسب، لأن الكلام في مجال تقرير القواعد الفقهية العامة ومدى صحة تطبيقها على الجزئية، إذ القاعدة الكلية كما يقال في تعريفها: امْرٌ كلي ينطبق على جميع جُزْئياته.
والغزالي فإنه آثم مؤدٍّ، قال: والشافعية تقول باجتماع الأداء والإثم في هذا القسم الثاني، وتمنعه في الاول. قال: ويلزمهم أن يقولوا به في الاول. (74)
قلت: ان كان الإنكار من حيث ان الأداء والإثم لا يجتمعان، فنعَمْ، وان كان النكيرُ من الوجه الذى أبديناه فلا يلزم، والله سبحانه أعلم وأحْكَمُ (75).
القاعدة العاشرة (76)
نقرر فها حقيقة الواجب الموسع، ليظهر بذلك بُطلان ما قيل في الحائض في رمضان: إن الصوم وجب عليه فيه، أو صِحَّتُهُ، فنقول:
الواجب الموسَّعُ إنما يصدق على ما وقع التكليف به، مرتبطا بوقتٍ، ذلك الوقتُ أوسعُ من زمان ايقاع ذلك الواجب إذا أوقعه المكلف، ثم هو لذلك (77) يصح ايقاعه في كل زمن من أفراد ذلك الزمان المتسع، وهذا، كما الامرُ في صلاة الظهر، حيثْ طُلِبَ مِنَّا ايقاعها في زمن طويل، مبدأوه الزوالُ ومنتَهاهُ آخرُ القامة. فإذا كان الامر هكذا فكيف يصح أن يقال في الحائض: وجب عليها الصوم وجودا موسّعا، وهي لا يصح لها الصومُ في رمضان، وهذا قول الحنفية (78).
(74) قال القرافي رحمه الله في هذا الموضوع: وتحرر بهذا الفرق زوال ما استشكله الشافعية علينا من الجمع بين الأداء والإثم، فإنهم قائلون به في الفريق الثاني، فكان يلزمهم في الفريق الأول، ويتضح مذهبنا اتضاحا جيدا. وأنا لم نخالف قاعدة، بل مشينا على القواعد.
ويلزم الشافعية إشكال لا جواب لهم عنه، وهو أن يكون حدهم الأداء والقضاء في كتبهم الأصولية باطلا، لانهم اطلقوا القول فيها، وليس مطلقا على ما زعموا، بل يتعين أن يكون الأداء في كتبهم إيقاع العبادة في وقتها الاختيارى، والقضاء إيقاع العبادة خارج وقتها الاختياري أصل، لكنهم في كتب الاصول لم يصنعوا ذلك.
(75)
وعلق ابن الشاط على كلام القرافي هذا بقوله: ما قاله - هنا صحيح على ما قَرَّر. وقال ابن الشاط هنا: قلت: ولا صنَعَه غيرهم من المالكية وغيرهم فيما علمت، وليس بنكير أن يطلق القول، والمراد التقييد، وغايته أن نقول: تجنب ذلك في الحدود أكيد. اهـ
(76)
هى موضوع الفرق الثامن والستين بين قاعدة الواجب الموسّع وبين قاعدة ما قيل به من وجوب الصوم على الحائض. جـ 2 ص 62.
(77)
في نسخة ح: كذلك بكاف التشبيه.
(78)
علق ابن الشاط على هذه المسألة فقال: ليس مراد من قال بوجوب الصوم على الحائض أنها مكلفة بايقاع الصوم في حال الحيض، كيف وقد انفقوا على عدم صحته إن أوقعته، وعلى أنها آثمة بذلك، لكن مرادهم أنها مكلفة بالتعويض من أيام الحيض التي هي من رمضان الخ
…
كيف أيضا يصح قول القاضى عبد الوهاب: إن صومه واجب عليها، وهي ممنوعة من صومه، بل اثمة ان فعلتْ، فتكون ماثومةً غير ماثومة بحسب فعل واحد، والأظهر أنه غير واجب عليها صومُه لذلك، والذى حمل القائلين بالوجوب أشياء:
أحَدُهما: عموم قوله تعالى: "فمن شهِد منكم الشمهرَ فليصمه"(79)، وهذا ليس بظاهر، لأن التخصيص يصرفُهُ لما تقرر من أنها ممنوعة من صومه، والدليل العقلي أحدُ ما يتخصَّصُ به العَامُّ، وأنها ممنوعة من صومه، معلوم قطعا في الشريعة المحمدية.
الثاني: كونها تنوى قضاء رمضان.
وجوابه أن النية في الصوم لابدَّ منها، وأنواع الصوم كثيرة، فلابد لهذا الصوم من شيء يتميز به لتقع النية كذلك مَمَيِّزة له بما تميز به من الخصوصية، وهو ليس بتطوع ولَا واجب ابتداءً، ولا نذرٍ ولا كفارة. وسبَبُ هذا الصوم هو ترك رمضان، فأضيف اليه بسبب ذلك ليتميز عن غيره، لأن الوجوب تقدم.
وقالوا أيضا: ان القضاء يقدَّر بقدر الأداء الفائت، فأشبه قيم المتلَفات القائمة مقام الأعيان المُتْلَفَةِ، فكذلك هذا القضاء يقوم مقام الواجب الذى فات، فلو لم يجب شيء، ما قام هذا القضاء مقامه.
والجواب هو ما قلنا في الثاني: أن الصوم بسبب الترك لا بسبب الوجوب، كذلك أَيضا بِعَدَدِ الترك تعدد القضاء.
قلت: والمسألة ترجع إلى أن القضاء لا يكون مرتّبا الا على الوجوب، أو يكون مرتّبا عليه وعلى سبب الوجوب. فعبد الوهاب والحنفي، رحمهما الله قال بالأول. وما قاله شهاب الدين وهو الذي ارتضاه الإمام فخر الدين، وكذلك تاج الدين في الحاصِلِ من المحصول وهو الأوْلى والأظهر، والله أعلم.
(79) سورة البقرة: الآية 183.
القاعدة الحادية عشرة (80)
وأخرتها عما قبلها، وهي في تقرير الكلى الواجب فيه، وبه، وعليه، وعنده، ومنه، وعنه، ومثلُهُ واليه، وكذلك تقرير الواجب الكلي فأقول:
الواجب في الشريعة قد يتعلق الخطاب (فيه) بشئ جزئي وجوبا، كالامر باستقبال الكعبة، وقد يتعلق بأمر كلي وجُولاً.
فالواجب الكلى هو الواجب المخيّر (81)، كخصال الكفارة في اليمين، فالواجب القدرُ المشتَرك من الخصال الثلاث، وله الخِيَرَةُ في تعْيين ما شاء
(80) هى موضوع الفرق التاسع والستين بين قاعدة الواجب الكُلي وبين قاعدة الكُلى الواجب فيه، وبه، وعليه، وعندَه، ومنه، وعنْه ومثْلُه وإليه". جـ 2. ص 67.
قال الإمام القرافي رحمه الله في أوله: فهذه عشر قواعد في الْكُلًى الذي يتعلق به الوجوبُ خاصة، وهى عشر قواعد، كلها يتعلق بها الوجوب بالكلى دون الجزئي، وهى متباينة الحقائق، مختلفة المثُلُ والأحكام، فأذكُرُ كل قاعدة على حيالها ليظهر الفرق بينها وبين غيرها.
ثم قال: إعلَم أن خطاب الشرع قد يتعلق بجزئي كوجوب التوجه إلى خصوص الكعبة الحرام، والايمان بالنبي المعيَّن، والتصديق بالرسالة الخصوصة كالقرآن، وقد لا يعَيِّنُ متعلق التكليف، بل يجعله دائرا بين أفراد جنس، ويكون متعلِّقُ الخطاب هو القدْر المشترك بين أفراد ذلك الجنس دون خصوص كل واحد من تلك الأفراد، وهو المقصود في هذا الفرق، وهو المنقسم إلى عشرة أجناس.
وقد عَلق الفقيه ابن الشاط رحمه الله على ما جاء عند القرافي في أول هذا الفرق فقال: ما قاله من أن الوجوب في هذه القواعد يتعلق بالكلى لا بالجزئي، ان أراد ظاهر لفظه فليس ذلك بصحيح، كيف يتعلق التكليف بالكلى وهو مما لا يدخل في الوجود العينى، وإنما يدخل في الوجود الذهنى؟ والتكليف إنما يتعلق بالوجود العَينى، وان أراد أن الوجوب يتعلق بالكلى، أي بايقاع ما فيه الكلى، بمعنى ما هو داخل تحت الكلى من عمر تعرُّضٍ لتعيين ما وقع به التكليف فذلك صحيح". اهـ
(81)
هى موضوع القاعدة الأولى من القواعد المذكورة يذكر هذا الفرق، ولم يذكر صاحب هذا الترتيب كونه قاعدة كما هى عند القرافي.
منها (82). فالتخيير متعَلَّقُهُ الخصوصات، والوجوبُ متعلقه القدْرُ المشترك، فهذا أحَدُ ما يتعلقُ بهذا القدرِ المشتَرَك.
ثمَّ ان فَعَلَ، عَلى ماذا يثاب (83)؟ ، إن لم يكن فيها ترجيح فثوابُهُ على الواجب، وهو القدرُ المشترَك، وإن كان فيه أجحُ، فإن فعَل الأدنى فثوابه على الواجب أيضا، وإن فعَل الأفضلَ أثِيَب ثواب الندب وثواب الوجوب. ثم إن لم يفعل عوقِبَ على ترْك الواجب، ولكنه لا يتصور هنا ترك الواجب إلا بترك الجميع، ليس الامرُ كالْفعل، فإنه ياتي بالواجب بواحدٍ منها.
ثم ان بَرآة الذمة من ذلك أيضا بالقدر المشترك الذي به تعلَّق الوجوبُ لا بخصوصية من تلك الخصوصيات، فإن الذمة لم تكن عامرة بشيء من ذلك. ثم نيتهُ أيضا كذلك لا تَقع متعلقةً إلا بالقدر المشترَكِ، ولا تتعلق بخصوصية من الخصوصيات، وبه تندفع الشكوك عن هذه المسألة.
(82) هي إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، او تحرير رقبة، أو صيام ثلاثة أيام لمن لم يجد القدرة على احدى تلك الخصال الأولى، وهي المشار اليها يقول الله تعالى في الآية التاسعة والثمانين من سورة. المائدة في كفارة اليمين:"فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة ايام، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم، واحفظوا أيمانكم، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون".
(83)
على ماذا يثاب، جملة فعلية طلبية، مُصَدرة باسم الاستفهام المجرور بحرفِ الجر، ومقتضى القاعدة النحوية أن تكون هذه الجملة الفعلية المصدرة بالاستفهام مقرونة بالفاء الرابطة بين الشرط والجواب كبقية المواضع الأخرى التى يكون جواب الشرط مقرونا فيها بالفاء، أو بإذا الفجائية، إذا كان الجواب جملة اسمية بالخصوص، وفي ذلك يقول ابن مالك في ألفيته النحوية رحمه الله.
واقرن بفا حتما جوابا لو جعل
…
شرطا لإن أو غيرهما لم ينجعل
وتخلف الفاء إذا المفاجأة
…
كإن تجد إذا لنا مكافأة
ولعل المؤلف لم يقرن الجواب بالفاء، اعتبارا ورعيا لتقديره بها في الذهن، فكأنها مذكورة في النطق والتعبير، أو يكون التقدير: ثم على ماذا يثاب إن فعل.
وقد جمع بعضهم المواضع السبعة التى يقترن فيا جواب الشرط بالفاء، وذلك في بيت واحد حيث قال:
إسْمية، طلبية وبجامِدٍ
…
وبِما ولن وقدَ، وبالتنفيس
فإن قيل: القنر المشترَكُ كُلي، والكُلِّيُّ لا وجودَ له في الخارج، وإنما وجُودُه في الذهن، والمطلوبُ - هاهنا - إيجاد المكلف به في الخارج، وذلك جزئي، فإن كل شيء وُجد في الخارج جزئي، واذا لم يكن الكلي متعلق الوجوب بَطل أن يكون متعلقَ حُكْم مما تقَدم الشاب أو العقاب او البرآة أو النية (84)، قلنا: صحيح أنها (85) لا توجد الكليات في الخارج مجردةً عن المشخصات، وأما وُجُودُها في ضمن المعيّناتِ فحقُّ، فمن أعتَقَ الرقبة المعينة فقد أعتق رقبة، وكذلك نقول: زيدٌ إنسان ويَصدُق، وليَس كقولنا: زيدٌ زيدٌ، وما ذلك الا لأن زيدا دلَّ على المعنى الشخصى، والإنسان دلَّ على المعنى الكُلِّي، ومحالٌ خروج الانسانية (86) عن وجود زيد مع وجوده، وبالجملة جحدُ كونِ الكلياتِ موجودةً في الخارج في ضمن المعَيَّناتِ، خلافُ الضرورة.
القاعدة الثانية:
الواجب فيه، وهذا هو الواجبُ الموسَّعُ.
فقد أوجَبَ اللهُ تعالى الظهر من الزوال إلى آخر القامة، واختلَف العلماء في ذلك على سبعة مذاهب.
(84) هكذا في النسختين: ع، ح: بطل أن يكون متعلق حكم مما تقدم الثواب، او فيما تقدم الثواب او العقاب او البرآة او النية.
وعبارة القرافي هنا: "بطل أن يكون متعلق الثواب أو العقاب أو البراءة أو النية ويكون اسم كان ضميرا يعود على الكلى، فيتم المعنى، وهي تظهر أوضح في الفكر والفهم، فليراجَع جـ 2 من الفروق. ص 73.
(85)
في نسخة أنه. بضمير التذكير، ويكون الضمير بالثانيث عائدا على الكليات، وبالتذكير على أنه ضمير شأن، عائد على الجملة بعده، وهي التى تفسره وتوضح معناه، إذ هو احد المواضع التي يعود فيها الضمير على مما بعده وهي المجموعة في قول بعضهم:
وعَوْد مضمَرٍ على ما بعده
…
لفظاً ورتبة فحصَّل عدَّهُ
في مضمر الشأن ورُبَّ والبدَل
…
نعم وبيسَ وتَنَازُع العمل
(86)
في نسخة ح: الانسان.
وتحريرها أنَّ القائل قائلان: قائل بالوجوب الموسع، وقائل بجَحْدِه، والقائلون به، لهُم قولانِ: أحدُهما أنه يفتقر إلى العزْم إذا تأخر، والآخَرُ أنه لا يحتاج إلى عزم، والقائلون بجحْده، منهم بعض الشافعية قال: يتعلَّق بأوّل الوقتِ، ومَا يقَعُ بغدَ ذلك فهو قضاءٌ يسُدُّ مسدّ الأداءِ، ومسْتَنَدُهُ أن الوجُوبَ معَ جوازِ - التاخير متنافيان. والأصلُ تَرَتبُ المسببِ عَلَى سبَبه، وقد وجد السبب، وهُوَ الزوال، فالوجُوبُ أولَ الوقت.
ويرِدُ عليهِ أنَّ الإذْنَ في القضاء لِتفْويت الأداء من غير عذر، خلاف القاعدةِ المقرَّرة في الشريعة. وبعض الحنفية قال: يتعلق الوُجوبُ بآخِرِ الوقت، وهذا من حيث إن العقاب إنما يترتب على الترك حينئذ، فكان الفعل إن وقع عندهم قبل هذا - يقع نفْلاً سد مسد الفرض. ويَردُ عليه أن إجزاء ما ليس بواجب عن الواجب خلافُ القواعد.
قلت: قد مضى الفرق بين ما ليس بواجب إذا كان ماله الوجوبَ، وبيْن ما ليس ماَلهُ الوجوب، فهذا، الردُّ لا يتَمَشى، فهو كمسألة التعجيل الزكاة.
وقال الكرخي: الفعل موقوف إذا عجله المكلَّفُ، فإن جاء آخِرُ الوقت، والمكلفُ موصوف بصفات التكليف وقع واجباً، وإلَّا كان نفْلاً.
وَيرِدُ عليْه أنَّ كَونَ الفعل حالةَ الايقاع لا يُوصَفُ بكونِه فَرضا ولا نفْلاً، ولا يتعَين فيه نيةٌ لأحدهما، خلاف المعهود في القواعد.
المذهب الرابع، للحنفية أيْضا أن المكلف إن عَجَلَّ منَعَ تعجيلُهُ من تعلُّقِ (87) الوجوب بآخِر الوقت، فلا يجزئ نفْل عن فرض، ولا يكون موقوفا، وإلا كان واجبا آخرَ الوقت.
(87) في نسخة ح: تعليق
ويرِدُ عليهِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَهُ فوتوا على انفسهم طول أعمارهم خيراً عظيما، وذلك فَرضِيةُ التَّاخير.
المذهب الخامس، حكاهْ سيف الدين في الإحكام، أن الوجوب متعلق بوقت الإيقاع، أي وقت كان، فَسَلم (88) من الإشكالات المتقدمة.
ويرِد علية أن شأن الوجوب أن يكون متقدما، والفعل متأخر عن الوجوب، وأما كون الوجوب يتبع الفعلَ فَغيرُ معهود من الشريعة، فَلم يبق الا القولَانِ الْأوَّلانِ، والقولُ فيهما.
والقولُ أن الوجوب متعلق بالقدر المشترك بين أجزاء القامة، الكائن بين طرفيها، كالواجب الخيَّر، فكأنَّ صاحب الشرع قال: صَلِّ: إما في أول الوقتِ وإمَّا في وسطه وإما في آخره. وهذا القول يسلَمُ من جميع الإشكالات الوارة على الأقوال المتقدمة.
غير أن القائلين بهذا القول اختلفوا، هل يحتاج إذا اختار التاخيرَ إلى بدل أوْ لا؟ فقيل: يحتاج، لأنه ان لم يَعزم كان مُعرضا، والإغراض حرام، وما يندفع به الحرام واجب، وقيل: لا يحتاج، لأنه لا دليل عليه، والقولُ بشئ لا دليل عليه لا ينبغي.
وأيضا إذا أتى بالبدل، حقُّهُ أن يسقط عنه وجوب الوقت، وذلك باطل. واختار الغزالي طريقة وُسْطَى وهي الفرق بين الغافل عن الفعل والترك فلا يوجب عليه عزماً، وبيْن من حصل بباله الفعلُ والترك، فهذا إنْ لم يعزم على الفعل عزم على الترك بالضرورة، فيجبُ عليه العزم على الفعل، وهي طريقة وسْطى.
فرْع مرتَّبٌ: إذا قلنا بالتوسعة فهل ذلك مشروط بسلامة العاقبة، فإن مات قبل الفعل فقد أخر مختاراً فأثِمَ، وهو قول الشافعية أو لا ياثم، لأنَّهُ فعَل ما
(88) في نسخة ح: يسلم (بالفعل المضارع)، وسلِم بالفعل الماضي كما في نسخة ع، وهو كذلك ظاهر.
أُذِن له فيه، والأصل عدم اشتراط سلامة العاقبة، وهو مذهب المالكية، وهو الصحيح من جهة النظر. (89)
القاعدة الثالثة: الواجب به وهو سبب كالزوال للصلاة، ومِلْكِ النِصاب للزكاة، وما أشبه ذلك، فالمنصوب سببا أبداً - القدرُ الشتَرَك، والخصوصيات ساقطة عن الاعتبار، والله أعلم وأحكم. (90).
القاعدة الرابعة: الواجبُ به ايضا، ونريد بهذه، الأداةَ، فإنَّ الباء تكون سببية، وتكون للاستعانة نحو نجرت بالقَدُوم، ولهُ مُثُلٌ. (91)
أحدها: الماءُ الذى يُتوضأ به ويغتسل فإنه ليس سببا للوجوب، بل هو أداة يُعمَل بها الفعلُ، وكذلك التراب في التيمم*.
وثالثها: الثوبُ للسترة في الصلاة، والواجب من ذلك ثوبٌ مطلَق، وماءٌ مطلق، وترابٌ مطلق، لا ترابٌ معيّنٌ، ولا ماءٌ معَيَّن، ولا ثوْبٌ معيَّن.
(89) علق الفقيه ابن الشاط على ما جاء عند الامام القرافي رحمه الله في هذه القاعدة الثانية من أقوال المذاهب التي ذكرها وحكاها، فقال ابن الشااط رحمه الله:
ما قاله القرافي من حكاية المذاهب ورَدِ مارده منها صحيح، وما مال إليه من تحسين قول الغزالي ليس بصحيح. إنما الصحيحُ أنْ لا حاجة إلى بدل أصلا. وما قاله من تعلق الوجوب بالقدر المشترك، إن أراد الكلي فليس ذلك بصحيح، وان أراد تعلق الوجوب بفرد مما فيه المشترك فذلك صحيح. وما اختاره وصححه ونسَبَه إلى المالكية في مسألة المؤخِّرِ الذي يموت قبل الفعل صحيح اهـ.
(90)
علق ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذه القاعدة، ولخصه البقوري فيها، فقال: ماقاله من ان الله تعالى جعل زوال الشمس سببا لصلاة الظهر، وجعَلَ مطلق الإتلاف سببا لوجوب الضمان، ومطلق النصاب سببا لوجوب الزكاة صحيح، وقد سبق له هذا مرارا عديدة. وقد كان يحتمل أن يُحمَل ذلك على أن مراده بالقدر المشترك واحد غير معَين مما فيه المشترك، وأن مراده بالمطلق ذلك ايضا، لولا أن كثيرا من المواضع التي وقع له فيها ذلك القول يصرح فيها بأن القدر المشترك هو الكلي، وهذا لا يمنع من صحة تاويل كلامه بذلك.
(91)
عبارة القرافي: الواجب به، وهو أداة يُفعَلُ بها، فإن الباء كما تكون سَبَبيّة تكون للاستعانة نحو كتبت بالقلم ونجرت بالقَدوم، فالواجب به الذي هو أداة الشريعة لهُ مثلَ الخ .. وفي نسخة ح: تكون للاعانة. والمشهور على الالسنة استعمال كلمة الاستعانة (اي طلب الاعانةِ على العمل بالأداة).
(*) هو المثال الثاني.
ورابعُها: الجِمار في النُّسُكِ أداةٌ لا سَبَبُ الوجوب.
وخامسها: الهدايا، أدوات يُفعل بها الواجبُ، وسببُ الوجوب أيامُ النحر في الضحايا، والتمتع ونحوه من أسباب الهدى. والقدرُ المشترَك هو المطلوبُ فيها كُلِّها (92).
القاعدة الحامسة: الواجبُ عليه، وهو المكلف في فرض الكِفاية، فإنَّ مقْتَضى الخِطاب فيه التعلقُ بطائفةٍ غير معينةٍ، بل هو بمطلقِ الطائفةِ الصالحة لِإيقاع ذلك على الوجه الشرعى، وإنما يتعلق الوجوبُ بالكل، بحيث لا يضيعُ الواجِبُ، وإلا فالمقصود إنما هو طائفة غير معيَّنةٍ.
قلت: إن كان الوجوب متعلقا بالكل فليس هذا من الكُلِّ الواجب عليه، وإن كان الوجوب متعلقاً بطائفة غير معَينةٍ، فهذا يخالِف ما مضى لنا في قاعدة خطاب غير المعَيَّنِ والخطابِ الغيْر المعَيَّنِ، واللهُ أعلم.
القاعدة السادسة في الواجب عنده، وله مُثُلٌ:
أحَدُها: الحَوْلُ إذا دَار بعدَ مِلْكِ النِصابِ، فإن النصاب سببٌ، ودَوَرَانُ الحول عليه شرط.
وثانيها عَدَمُ المانع، نحوُ عدم الدَّيْنِ في الزكاة، وعدَم الحيض في الصلاةِ، والزوالُ سبَبُ وجوب الصلاة، ومِلْكُ النِصابِ سبب الوجوب في الزكاة.
وثالثها: وجوب التيمم عند عدم الماءِ، والاسبابُ للصلاة أوقاتُها، وأسبابُ الطهارة الحدَثُ وغيرُ هذا، والكل من المُثُلِ على السَّوَاءِ في أن الواجبَ القَدرُ المشتركُ، فلا اعتبار لخصوص دَينٍ ولا لخصوص حيْض.
القاعدة السابعة: الكلى المشترك الواجب منه. وله مثُل في الشريعة:
أحدُها: الجِنْس المخْرَجُ منه زكاةُ الابل غَنَماً في عَدد، وإبِلاً في عدد آخر.
(92) علق ابن الشاط على ما جاء في هذه القاعدة الرابعة بقوله: ما قاله فيها صحيح، غير ما في قوله: القدر المشترك، على ما سبق.
وثانيها: الجنْسُ الخرَجُ منه زكاة الفطر، وهو الْحَبُّ الذي هو غالبُ قُوتِ. البلَد، يُخْرَجُ منه صاعٌ، والقدرُ المشتركُ - أيضا - هو الواجبُ في ذلك.
القاعدة الثامنة: الواجِبُ عنه، وهو جِنْسُ المولى عَليْه، كالعبدِ والزوجة (93)، فالقدرُ المشترك من ذلك، به تعَلِّقَ الوجُوبُ.
القاعدة التاسعة: الواجِبُ مِثلُهُ، وله مِثالانِ:
أحدُهما: جزاءُ الصيد في الحج، فإنه يجب إخراج مثلِ الصيد المقتولِ في الاحرام والحَرَم، والمعتبَرُ في ذلك مُطْلَقُ الصيد، غزَالاً كانَ أو غيْرَه، فلا يرادُ غزالٌ معَيَّن، ولا بقرةٌ ولا وَحشٌ معيَّنة.
وثانيهما: المُتْلَف المِثْلِيُّ مِنْ المَكيلات والموزونات تجب غرامةُ مِثلِهِ، والواجب - ايضا - القدرُ المشترك، لا شيءٌ مُعيَّنٌ من ذلك.
القاعدة العاشرة: الواجب إليه، ولَهُ مُثُلٌ في الشريعة:
أحَدُها غروبُ الشَّمْس في الصوْم، وثانيها هلال شوال، فالأول يجب الصومُ اليه، والثاني يَجبُ تتابُعُ الصوْم في الأيام إليه.
وثالِثُها: أواخرُ العِدَدِ (94) والاستبراء والإحدادِ في عِدَّةِ الوفاة، يجب اتصال العِدِّةِ والاستبراء إلى تلك الغايات، وكذلك ما ذكرنا معه، فهذه أيضا (95)،
(93) اى فيجب أن يخْرج عن كل فرد منه (اى من المولَّى عليه) صاع في زكاة الفطر. ولم يلاحظ الشارع خصوص شخص دون شخص، بل مفهومَ الانسان الموصوف بالصفات التى لأجلها تجب عنه زكاة الفطر
…
الخ".
(94)
في نسخة ح: العِدَّة: (هكذا بالافرادِ، ومعلومٌ أن جنس العِدة يصدُقُ بالواحدة وبأكثر، وبِالْأنواعَ.
(95)
في نسخة ح: "فهذه أسبابٌ
…
الخ. ويحتمل المعنى "فهذه أشياء كما في نسخة اخرى من تونس، والمعنى واضح في جميعها.
الواجبُ القدرُ المشترَكُ مِنها لا شئء معيَّن. هنا تَمَّ ما تحت القاعدة الحاديةَ عشرة من القواعد. (96)
القاعدة الثانية عشرة (97):
في تقرير أن النَّهْيَ يدل على الفساد أم لا؟ فأقول:
قال ابن حنبل باقتضاء النهي للفساد مطلقا، كان النهي في نفس الماهية أو في أمر خارج عنها. وقال ابو حنيفة بالفرق بين أن يكون النهي في نفس الماهية فإنه يقتضى الفساد، أو في أمر خارج عنها فلا يقتضي الفساد، حتى قال في عُقود الرّبا: تثبُتُ ولا تُفسَخ، ولكِنَّهُ يَرُد الزائد في مِثل ما إذا باع دِرهما بدرهمين، يُقَرُّ المِلْكُ في درهم، ويُرَد الدرهم الزائد. ومالكٌ والشافعي يقولان بالبطلان في مسائل إذا كان النهيُ في أمر خارج، ويقولان بالصحة في مسائل كذلك.
ولْنُبَيِّنْ - أولا - المراد بالنهي في نفس الماهية، وبالنهي في أمر خارج، فنقول:
إن أركان العقد في البيع - مثلا - أربعة: عِوضانِ، ومُتَعاقِدان، فمتى سَلِمت الأركان الاربعة مقد وُجدت الماهية المعتبرةُ شرعاً، سالمةً عن النهي. فالنهيُ
(96) عقّب ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذه القواعد الست المندرجة في هذه القاعدة التي هى موضوع الفرق التاسع والستين، بدءاً من القاعدة الخامسة إلى العاشرة فقال:
ما قاله فيها صحيح، غير ما يُشعِرُ كلامُهُ من متعلق الحكم بالكلي فإنه ليس بصحيح على ما تقرر مراراً، بل الصحيح تعلق الحكم بفرد غير معين مما فيه المعيَّن المشترك، فإن عَنَى ذلك فمراده صحيح.
(97)
هى موضوع الفرق السبعين بين قاعدة اقتضاء النهي الفساد في نفس الماهية وبين قاعدة اقتضاء النهي الفساد في أمر خارج عنها. جـ 2 من الفروق، صـ 82.
ماهية الشئ حقيقتُهُ الذاتية وعناصرهُ الأساسية البيت ى يتركب منها، بحيث إذا فقد واحدٌ منها انعدمت حقيقة الشئ في وجودها الكامل. كما إذا قيل في تعريف الانسان وماهيته: هو الحيوان الناطق.
إنما تعلق حينئذ بأمر خارج عنها، ومتى انحزم واحدٌ منها فقد انعدَمت الماهية، لأن الماهية المركبة تعدم (98) لعدم جزء منها، كما تُعْدَم لجميع أجزائها.
ومثال الماهية المعدومة كأن يبيعٍ سفيهٌ من سفيهٍ خمراً بخنزير، فالأجزاء كلها فاسدة، واذا باع رشيدٌ من رشيد ثوْباً بخنزير، فالماهية - ايضا - معدومة لعدم كن واحد منها، ولاخفاء بمثال الاثنين الباقيين (99)
وأما ما كان سالم اليمن، فكأنْ يبيعَ رشيد من رشيد فضة بفضة، فإذا كانت إحدى الفضتين أكثر - فالكثرةُ وصف حصل لأحد العوَضيْن، والوصفُ متعلَّق النهي دون المَاهيةِ، فهذا هو معنى كون النهي في الماهيةِ أو في الخارج.
فأبو حنيفة فرق، ووَجْهُ تفريقه أنه يقول:
لو قلنا بالفساد مطلقا لسوَّيْنَا بين الماهية المتضمنة للفساد وبين السالمة عن الفساد، ولو قلنا بالصحة مطلقا لسَوَّيْنا بين الماهية السالمة في ذاتها وصفاتها وبين المتضمنة للفساد في صفاتِها، وذلك غير جائز، فإن التسوية بيْن مَواطِن الفساد وبَيْنَ السالم عن الفساد خلاف القواعد، فتعين - حينئذ - أن يقَابَلَ الأصل بالاصل، والوصف بالوصف، فنقول:
أصل الماهية سالِم عن النهي، والأصل في تصرفات المسلمين وعقودهم الصِّحةُ حتى يرِدَ نهْى، فيثبت لأصل الماهية الأصلُ الذى هو الصحّة، ويثبتَ
(98) تُعدَم، هكذا في النسختين ع، ح، وكذا في كتاب الفروق، وكان مقتضى الجملة قبله وسياقها أن يقال: تنعدم، وكلنا هما صحيحة وسليمة المعبارة والمعنى.
(99)
كأن يبيع رشيد من سفيه، ثولا بنقد، أو يبيع رشيد من سفيه خمرا بعرض ونحوه. فليتامل.
للوصف الذى هو الزيادة المتضمنة للمفْسَدة الوصف العارضُ وهو النهي، فيفسُد الوصف دون الأول وهُو المطلوب، وهذا فقه حسن. (100)
واحتج أحمد بن حنبل رضي الله عنه بأن النهي يعتمد المفاسد، فمتى وَرَدَ نهْيٌ أبطلنا ذلك العَقْد وذلك التصرف بجملته، فإن ذلك العقد إنما اقتضى تلك الماهية بذلك الوصف، أمّا بدونها فلم يتعرض له المتعاقدان بشئ، فبقي على الاصل غير معقود عليه، فيُرَدُّ من يد فابِضِه بغير عقد، وأطلق أحمد في هذا فأبطل الوضوء بالماء المغصوب، والذبحَ بالسكين المسْروق، لما قلناه، وأما نحن مع الشافعي فتوسطا بين المذهبين، فقلنا بالفساد لأجْل النهي عن الوصف في مسائل دون مسائل.
ولنذكر من ذلك ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: الصلاة في الدار المغصوبة، قلنا نحنُ والشافعيةُ والحنفية بصحتها، وقال الحنابلة ببطلانها. فنحن نلاحظ أن متعلّق الامر قد وُجد فيها بكماله مع متعلَّق النهي، فالصلاة من حيث هي صلاة، حاصلةٌ، غيرَ أن المصلى
(100) علق ابن الشاط على ما جاء عند القرافي من أول هذا الفرق إلى قوله: "وهذا فقه حسن" بقوله: ما قاله القرافي حكاية مذهب وتقريره، وذلك صحيح، غير ما قاله من أن الماهية المركَّبة كما تُعدم لِعدم كل اجزائها تُعدم لعدم بعض أجزائها، فإن ذلك ليس بصحيح، فإنه إذا عُدم بعض الأجزاء لم تتركب تلك الماهية، فلا يكون ذلك الجزء المعدوم جزءاً منها الا بالتوهم، وبتقدير أن يكون جزأ في غير هذا الفرض، أما في هذا فلا، وغَيْرَ ما قاله من أن ذلك الذى قرره عن أبي حنيفة فقه حسن، فإن لقائل أن يقول: ليس الأمر كذلك، فإن الوصف إذا نُهىَ عنه سَرَى النهْي إلى الموصوف، لأن الوصف لا وجود له مفارقا للموصوف، فيؤول الآمر إلى أن النهي يتسلط على الماهية الموصوفة بذلك الوصف، فتكون الماهية على ضربين: عار عن ذلك الوصف فلا يتسلط النهي عليه، ومتّصفٍ بذلك الوصف فتَسَلّط النهي عليه. اهـ
فليتأمَّل هذا التعقيب للفقيه ابن الشاط فإنه كلام دقيق وجليل، وهام ونفيس في التحقيق.
جَنى على حق صاحب الدار، فالنهي متعلقٌ بالمجاور، والحنابلة مشَوْا على أصلهم في التسوية بين الأصل والوصف. (101)
قلت: ذكر شهاب الدين رحمه لله الفرق الثالث والمائة وهو مسألة من مسائل هذه القاعدة، فالأولى أن نذكر ما في ذلك من مسألةٍ فنَقول:
إن صيام يوم النحر، قيل فيه: لا ينعقِد قُرْبَةً، والصلاة في الدار المغصوبة، قبل فيها: تنعقد قُرْبةً، فما الفرق؟
فالجواب أن الصلاة في الدار المغصوبة، النهى فيها متعلِّق بالصِفة لا بالموصوف، والنهْي الواقع في يوم النحرِ متعلق بالموصوف لا بالصِفة، فكان هذا الفرق صحيحاً على مذهب من يُفرِّق لا على مذهب ابن حنبل، والله اعلم. (102).
المسألة الثانية:
غَاصب الخُفِّ إذا مسح عليه، عندنا صَحَّتْ طهارته، ومسألته كمسألة في الدار المغصوبة سواء بسواء، وبهذه القاعدة يظهر الفرق بين هذا الفرع
(101) في نسخة ح: ذكر شهاب الدين في الفرق الثالث والمائة .. وما في نسخة ع أظهر وأسلم، لأنه ينص على المذكور وهو الفرق الذى هو مفعول به، بيما في الفرق هكذا بحرف الجر، يبقى منصوب الفعل غير مذكور وتَمَامُ المعنى متوقف عليه وإن كان فضلةكما هو معروف في القواعد، على حد قوله تعالى:"وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما لاعبين" فكلمة لاعبين حال، فالحال وصف فضْلة منتصبُ، مُفْهم في حال، لكن المعنى في الآية متوقف عليه، فهو روحه فيها. فإن خلق الكون كله، وخلْق الكائنات الحية والمخلوقات العاقلة المكرمة لأمر اقتضته الحكمة الالاهية البالغة، ومنه قوله تعالى:"وما خلقت الجن والانس الا ليعبُدُونِ". وقوله سبحانه، وما خلقنا السموات والارض وما بينهما الا بالحق، وموضوع هذا الفرق عند القرافي هو الفرق بين قاعدة الصلواتِ في الدُّور المغصوبة تنعقد قُربةً، بِخلاف الصيام في أيام الاعياد والجُمع فهى عنه.
جـ 2، ص 118.
(102)
قال ابن الشاط هنا معلقا على كلام القرافي فيها: لم يزد على حكاية المذاهب ومستَندها، ولا كلام في ذلك.
وبين المُحرِم إذا مَسَحَ على الخُّفِ، فإن المُحرِمَ مخاطَب في طهارته بالغسل ولم يأتِ به، فلم تَحْصُلْ حقيقةُ المامُور به، وغاصب الخف أتى بحقيقةِ المأمور به، ولكنه جنَى على صاحب الخف. (103)
المسألة الثالثة: الذي يصلي في ثوب مغصوب، أو يتوضأ بماءٍ مغصوب، أو يَحجُّ بمالٍ حرام، كل هذه المسائل عندنا في الصحة سواء، خلافاً لأحمد رضى الله عنه. ووجْهُ ما قلناهُ أن المأمور به قد وُجد، والعِلَّةُ في المجاور.
فإن قيل: لا نسلمُ أن المأمور به حاصل في الطهارة والسُّتْرة، فإن ذلك الماء معدوم شرعا، وكذلك الثوب المغصوب، (للسترة)، والعدوم شرعاً كالمعدوم حِسا، ولا نقول هذا في نفقة الحج، فإنها خارجة عن أركان الحج، بل نفقة الطريق تحفظ حياة المسافر (104)، بخلاف المحرَّم في الصورتيْن، صُرِف فيما هو شرط، فكان الشرطُ مِعدوما.
قلت: نمنع أن الله تعالى أمر بالسترة واشترط فيها أن تكون الأداة مباحة، وكذلك نمنع أنه أمر بالطهارة واشترط في الأداة لها أن تكون مبَاحة، بل حرِّم الغضب مطلقا، وأوجَبَ الطهارة مطلقا، ولم يقيد أصلا، فكما يتحقق (105) الغصبُ وإن قارَنَ مامورا، يتحقَّقُ (106) المامورُ وإن قارن مُحَرّماً.
فإن قلت: فما الفرق بين هذه المسائل وبين مسائل الربا؟ ولِمَ لا وافقتَ الحنفية في تصحيح العقد فيها، كما صححتَ العبادة مع ثبوت النهي في الوصف
(103) قال ابن الشاط في أوّل هذه المسألة: ما قاله القرافي في ذلك صحيح إلى منتهى المسألة.
(104)
عبارة القرافي رحمه الله: "ولا يمكن أن أقُولَ ذلك في الحج، فإن النفقة لا تعلق لها بالحج، لأنها ليست كنا ولا صُرِفَتْ في ركن، بل نفقة الطريق لحفظ حياة المسافر، بخلاف المحرَّم هنا طرف فيما هو شرط، فكان الشرط معدوما.
(105)
في نسخة ح: فكما تحقَّق (هكذا بصيغة الماضى).
(106)
في نسخة ح: تحقق المامور (كذلك بصيفة الماضى)، ولعل التعبير بالمضارع الذي يقتضى التجدد في كل واقعة مماثلة أظهر، والله أعلم.
دون الأصل في الجميع، فالحنفية طردت أصلَها (107) دون المالكية والشافعية؟ .
قلت: المستند في ذلك أن ظك الحقائق متعلَّقات الرضى، والرضى لم يحصل إلا بمقابلة الواحد بالاثنين، فلو صححت العقد في البعض، لنقلتَ مِلْك البائع بغير رضاه، ورسول لله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحِلُّ مال امرئ مسلم الَّا بطيبِ نفسه، وهذا لم تَطِبْ نفْسُهُ إلا بما يتعلقُّ العقدُ به، والصُّوَرُ الأخَرُ ليس فيها هذا، فوقع الفرقُ.
القاعدة الثالثة عشرة (108)
في تقرير أن النهى ينقسم إلى خاص وعام، وتبْيين حالِهما في التنافي أو غَيْرهِ، فنقول:
لا شكَّ أنهُ يوجَد النيى عاماَّ، كقوله:"لا تقتُلوا النفسَ" وخاصا، "لا تقتلُوا الصيد"، ثم إنهما بحسَب التنافي أوْ غيره ينقسمان ثلاثة أقسام:
1) القسم الاول: أن يتضادَّا وَيتنافيا، كقوله: لا تقتُلُوا طلبةَ بنقوله تميم، ولا تُبْقُوا من رجالهم أحداً، فحكْم هذا القِسْم أن يقدَّم الخاصُّ على العام، ففيه جمعٌ بين الدليليْن.
2) القسم الثاني: أن لا يتضادّا، ولا يكون لأحدِهما مناسبة يختص بها دون الآخَر، كقولك: لا تَقْتُلُوا النفْسَ، لا تقتلوا الرِّجال، الصحيح أنه لا يُخَصِّصُه، إذْ هُما من قاعِدَةِ ذِكْرِ بعض العَام، وجُزءُ الشىْء لا يكون مخصّصا،
(107) أىْ جعلتْه مطرِدا، ومنطبقا على جميع الحالات والجزئيات والصور المماثلة، بين أن يكون النهي في نفس الماهية فيقتضى الفساد، أو في أمر خارج عنها فلا، كما سبق بيانه في أول القاعدة الثانية عشرة من هذه القواعد الأصولية.
(108)
هي موضوع الفرق الثامن والثلاثين بين قاعدة النهي الخاص وقاعدة النهي العام. جـ 1، ص 209. وقد علق ابن الشاط على هذا الفرق وما يليه من الفروق إلى آخر الفرق السادس والاربعين، فقال: ما قالهُ القرافي في هذه الفروق كلها صحيح، والله أعلم.
وقيل على الشذوذ: إنَّهُ يُخَصصه من طريق المفهوم، فإن ذِكْرَ الرِّجال يقتضي مفهُومُه قتلَ غيرهم.
القسم الثالث: أن لا يتنافيا، ويكونُ لأحدهما مناسبة تخصه في متعلّقه، وفيه ثلاث مسائل:
المسألة الاولى: كقوله تعالى "حرمت عليكُمُ الميتة"(109) وقوله تعالى: "لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرُم"(110) فيضْطَرُّ المُحرِم إلى أكل الميتة أو الصيد، قال مالِك: ياكَل الميتة ويترك الصيد، لأنه كان حُرِّمَ جميع ذلك، إلا أن تحريم الصيد له مناسبة بالاحرام، ومَفْسدتُهُ التى اعتمدها النهيُ إنما هى في الاحرام، وأما مفسَدة أكْل الميتة فذلك أمر عام لا تعَلُّقَ له بخصوص الإحرام، والخاصُّ مِنْ (111) المفاسدِ أشَدُّ اجْتنابا، وهذا في العرف كعَدُوِّكَ الخاص بك، وعَدُوِّك من حيثُ المِلة وحَذَرُك من العدُوّ الخاص ينبغي أن يكون أشد من الذى عاداكَ لا بخصوصيتك، فإن شغْل عدوك الخاص بك يكونُ أشَّدَ من شغل عدوك الآخرِ بك.
المسألة الثانية
إذا لم يجد المصلى ما يستره إلا حريراً أو نجسا، قال أصحابُنا: يصلي في الحرير ويترك النَجِس، لأنَّ مفسدة النجاسة خاصةٌ بالصلاة.
فإن قيل: إذا كانت الفْسدة العامة، حميعُ الحالات تَعُمُّها، والخاصةُ ليست كذلك، فالعامة أولى، والقاعدةُ أن المفاسد إذا تعارضَتْ يُصار لِأدناها كما تُقطَعُ اليَدُ المتآكلة لبقاء النفْس، قلنا: هذا مُسَلم، أن الامرَ هكذا يكون إذا لم يكن للمفسدة تعلق بخصوص الحال، وأما إذا كان لها تعلق به فالأمر كما قلنا.
المسألة الثالثة
وقع في المذهب مسألة مشكلة، وهى: أن من استجار دابة إلى بَلد معَيَّن،
(109) سورة المائدة: الآية 3
(110)
المائدة: الآية 95
(111)
في نسخة ح: في. ولعل الأُولى، أنسَبُ ؤاظهرُ في الدلالة على المعنى لأن مِنْ بيانيةٌ.
كمجاوزَ بها تلك البلدة متعَدِّيا، فإن لربها تضمِينَه الدابَّةَ وإنْ رَدّها سالمة، والغاصِبُ إذا تعَدَّى بالغصب في الدابة ورَدّها سالِمةً لا يكون لربها تضْمِينُه إجماعاً، وغايةُ هذا المتعدِّى أن يكون كالغاصِب، والغاصب لا يضمَن، فكيف كان هذا؟ فرده بعضُ الفقهاء إِلى هذه القاعدة بأن قال: إن النهيَ عند الغصب نهيٌ عامٌ لا يختصُّ بحالةٍ دون أخرى ولا عيْنٍ دون عين، وفي قضية الدابة وُجدَ نهْى خاص في عين خاصةٍ (112) فإنه لمَّا آجَرَهُ إلى الغاية المتعينة فقد نهاه أن يجاوزَها، والقاعدة أن النهي الخاص بالحالة المعينة أقوى مما هو عام ولا يتعلق بخصوص تلك الحالة، فهذا فرق ما بين الغاصب والمتعَدِي، فلا يلزَمُ من عدم تضمين الغاصب مع الرد أن لا يضمن المتعدى مع الرَّد، لقوة النهي في حقه.
قال شهاب الدين رحمه الله: ويَرِدُ عليه أسئلة:
أحدها أن القاعدةَ إنما هى في التعارض ولم يقع هاهنا تعارض، فلم يجتمع نهْى الغصب ونهْىُ التعدي فقُدِّمَ أحدهما على الآخر، بل انفردَ نهْى المُتَعَدِّي وحدَه في هذه الصورة.
قلت: القاعدة أن النهي الخاص بالحالة المعيَّنةِ أقوى منْ النَّهي العام مطلقا، وقد وجِدَ في القاعدة المقرَّرة وجد: إذا وُجد نهيَانِ فترجح أحدهما بأن كان خاصا بحالة معيَّنة قُبِل به (113)، وليس الأمرُ أن ذلك لا يكون إلا في تِلْكَ القاعدة، ولهذا قررناها بأن الْحَذَرَ من العَدُوِّ الخَاص يكون أشَدَّ من الحَذَرِ من العَدُوِّ العام.
قال شهاب الدين: وثانيها أن النهي الخاص ها هنا نهْى آدمى، والنهي
(112) هكذا في النسختين المعتمدتين في المراجعة والتصحيح، والمقابلة والتحقيق، خاص بدون تاء التانيث، ولعل الصواب: خاصةٌ بالتانيث، لأن كلمة عيْن مؤنثة في جميع مدلولاتها ومعانيها اللغوية والشرعيةكما يستفاد من تتبع مواقعها واستقرائها في السياق، وهنا يراد بها مسألة وواقعة خاصة، والله أعلم.
(113)
في نسخة ح: قيل به، والمعنى في النسختين يعْني تقديمه وقبوله والأخذ به.
العام نهْيُ الله تعالى: وَلا يُرَجَّحُ نهىُ الآدَمِى لاجْل خصوصه على نَهْى الله تعالى مع عمومه.
قال: فإن قلت: اذا نَهى الآدمىُّ فقد صحِبَهُ نهىُ الله تعالى، ففى الحقيقة إنما رجّحنا بين نهييْن لله تعالى: أحدهما عام والآخر خاص، قال: قلت: هذا كلام صحيح، ولكن النهي الذي صحِب نهْيَ العَبْدِ هو نهْيٌ عامٌّ، وهو نهْيُ الغَصْبِ بِعَيْنِهِ.
قلت: ليْسَ كذلك، بل النهى الذي صحِبَ نهىَ العبد هو نهيٌ خاص لله تعالى كنهى العبد، غاية ما فيه أنه يستند إلى أدلةٍ عامَّة دالة على ذلك.
قال شهاب الدين رحمه الله: وثالثها أنا إذا قِسنا ترْكَ الضمَان في هذه الصورة على ترْك الضمان في سورة الغصب كان القياس صحيحا، سالما عن المعارض، ولوْ قسْنا هنالك الحرير على النجِس والميتةَ على الصيد لَأدَّى ذلك إلى مفسَدة، مِن حيث بقاء المصَلى عُريانا، وهلاكُ المُحرِم بالجوع، فكيف سُوِّيَّ بين موضع لا مُعارض للقياس فيه، وموضعِ للقياس فيه مُعارض.
قلت: هذا كلام على قياس لم يبدُلَهُ فارق، كيف، والحالة الخاصةُ ليست كالحالة العامة؟ فعَدَمُ حمل الحريرِ على النجِس هو الأصل، وعدَم حمْل الميتة على الصيد هو الأصْلُ، ولا نَقُول: خرج شئٌ من ذلك عن الأصل لما يلزم عَليه من المفسدة، واللهُ أعلَمُ.
القاعدة الرابعة عشرة (114)
في تقرير الِإذن العام من قِبَلِ صاحب الشرع، والإذنِ الخاص من المالِك، وبيان ترتب الضمان عليهما او عدمه، فنقول:
الإذنُ العَامُّ من الشارع كإذْن السثرع للمكلّف أن ينقل من أسباب (115)
(114) هذه القاعِدةُ هي موضوع الفرق الثاني والثلاثين بين قاعدة الاذنِ العَام من قِبَلِ صاحب الشرع في التصرفات، وبَيْنَ إذن المالك الآدَمِي في التصرفات في أن الأول لا يسقط الضمان، والثاني يسقطه". الجزء 1، ص 195.
(115)
لعله: من أشياء بَيْتِهِ او من اسباب مِلْكِهِ.
بيتهِ لجهة أخرى منه ما شاء، والإذن الخاص من المالك كإذنه للذى أوْدَعَ عنده وديعتَه أن يحملَها في يدهِ لبَيته. فإذا ظهر ما بينهُمَا (116) بالمثال فنقول:
الإذن العام لا يُسقِط الضمانَ، والإذنُ الخاص يسقطه. وَسِرُّ ذلك أن الحق تعالى تفَضل على عباده فجعل ما بيْن أيْديهم مِلْكاً تَامًّا لهم، فلا ينتقل عن مِلكهم إلا يرضاهم وإذنهم، كما أن ما كان لله تعالى صرفاً لا يتمكن العباد من إسقاطه، بل ذلك بإسقاط الله له، ويتَّضح الفرق بثلاث مسائل:
المسألة الأولى: الوديعة إذا حملها من القيت عنده ليحفظها ببيته (117) فسقطت من يده فانكسرت لا ضمان عليه، لأن مالِكها أذن له في ذلك الحمل الذى انكسرت بِهِ، فلو سقط عليها شئ من يده فانكسَرَتْ ضِمن، لأن صاحب الوديعة لم ياذن له في ذلك.
فإن قيل: أذِن الله تعالى أن يحمِل ذلك الذي سقَط على الوديعة، قلنا: إذْن الله هو الإذْن العام لا يُسقط الضمان، وإنما يُسقِطه الإذن الخاصُّ.
المسألة الثانية: إذا استعار شيئا فسقط من يده، أو حمل شيئا فوقع عليها (118)، الحكمُ كالحكم في المسألة المذكورة قبلها.
(116) نسخة ح: ما فيها، والأولى أوضح وأظهر في الدلالة والمعنى العود ضمير التثنية على الإذن العام والإذن الخاص.
(117)
في نسخة ح: فحفظها ببينَةٍ، والعبارة الاظهر والاوضح، والأنسب للمعنى. هى عبارة القرافي هنا التى تزيد المسألة وضوحا، فقد قال: الوديعة إذا شالها المودع وحوَّلها لمصلحة حفظها فسقطت من يده فانكسرت لا ضمان عليه، لأنّه ماذون له بذلك الفعل الذى انكسرت به
…
"
(118)
كذا في النسختين: ع، ح، ولعل الصواب عليه بضمير التذكير، العائد على الشئ، المستعارِ إلا أن يراعى فيه معنى الإعارة او العارية، وهى الشئ المستعار للانتفاع به ثم ارجاعه لصاحبه على أصله، وهى في ذلك أشبه بالوديعة من حيث ضرورة الحفاظ عليها إلى حين ردها، ومن ذلك المعنى قول لبيد مشها لما عند الانسان مال اومتاع يؤول إلى الزوال
وما المال والأهْلُون إلا ودائع
…
ولابدَّ يوما أن تردَّ الودائع
وقيل في ذلك: المال ظل زائل، وعارية مستردة، ولذلك امر الله الانسان بالإنفاقِ يكون عندهُ من المال في وجوه البر والخير والاحسان فقال تعالى:"وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين في، فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجرٌ كريم".
المسألة الثالثة: إذا اضطرَّ إلى طعام غيْرِه فأكله في المخمصة جاز، وهل يضمن له القيمة أم لا؟ قولان: أحدهما لا يضمن، لأن الدفع كان واجبا على المالك، والثاني يجب، وهو الأشهر، لأن إذن المالك لم يوجَد، وانما وجِدَ إذْنُ صاحب الشرع، فانتفى الإِثمُ لذلك، (119) لا الضمانُ، وأيضا فإن المِلْك إذا دار زواله بين المرتبة الدنيا والعليا فبِالدنيا أوْلى، وذلك بأن يعطيه بثمن (120) استصحابا للملك بحسب الإمكان.
القاعدة الخامسة عشرة (121)
نقرر فيها المندوب الذكره يقدم على الواجب والمندوب الذي لا يقدَّم على الواجب.
إعلم - أولاً - أن الغالب تفضيل الواجب على المندوب، هذا من حيث الجملة، لقوله عليه السلام عن الله تعالى: "ما تقربَ إلىَّ عبدي بمثل أداءِ ما افترضتُ عليه (122)، وأيضا فالمصاع والمفاسد تختلف، وبحسب اختلافها يختلف الآمر والنهي في القوة وعدم القوة.
(119) في نسخة ح: بانتفاء الإثم لذلك الضمان، بالمصدر، والأولى أظهر لأن انتفاء الاثم مرتب عن إذن الشرع ومُسبَّبٌ عنه.
(120)
في نسخة ح: بأن نعطيه بنون المضارعة، وصيغة الياء أنسب، لأن الاسم الظاهر الذى يعود عليه الضمير، يعتبر من قبيل الغائب كما هو معروف في قواعد النحو، وأساليب الخطاب. وقد علق ابن الشاط على كلام القرافي في أول هذا الفرق إلى قوله في المقارنة بين الحفاظ على فضيلة الجماعة، وفضيلة الوقت اثناء الجمع بين المغرب والعشاء ليلة المطر، وتقديم مراعاة الأولى على مراعاة الثانية فقال ابن الشاط هنا: ما ذكره وقرره هنا صحيح كما قرر. اهـ.
(121)
هي موضوع الفرق الخامس والثمانين بين قاعدة المندوب الذى لا يقدم على الواجب وقاعدة المندوب الذى يقدم على الواجب. جـ 2 ص 122.
(122)
أصله حديث قدسي صحيح. ونصُه: عن أقوله هريرة ضى الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يقول: من عادى في وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب الي عبدى بشئ احب الي مما افرضته عليه، ولا يزال عبدى يتقرب الي بالنوافل حتى أحبه، فاذا احببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع بِهِ، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لَأعيذنَّه."
هذا هو الغالب الكثير، ولكنه جاء في الشريعة الاسلامية أشياء هي اكثر مصلحة، وأعظم ثوابا، وحكمها الننبية، فقدم فيا المندوب على الواجب من حيث كثرة الثواب وقلته، وذلك في سبع صُوَر:
الصورة الأولى: إنظار المعسر بالديْن واجبٌ، وإبراؤه منه مندوب إليه، وهو أعظم أجراً من الإِنظار، لأن مصلحته أعظم، إذ من أبرأ فقد أنظر، فإن معنى الإنظارِ عدمُ المطالَبة في الحال. (123)
الصورة الثانية صلاة الجماعة مندوب اليها، وهي تَفْضُلُ صلاة الفذ بسبح
(123) الانظار بالظاء المشالة، مصدر الفعل الرباعى أنظره إذا أخره وأمهله في أمر. والمراد إمهال المدين والإفساح له في أجَلِ أدائه للدين، والتوسعة عليه بذلك إلى حين يُسْره وتمكنه من القدرة على الْأداء وردّ الدين إلى صاحبه.
وقد علق ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذه المسألة مما ذكره البقورى، فقال: ما قاله القرافي في ذلك غيرُ مسَلم ولا صحيح، بل الإنظار أعظم أجرا من جهة أنه واجبٌ، والقاعدة أن الواجب أعظم اجرا من المندوب، بدليل الحديث المتقدم (وهو الحديث القدسى السابق المتضمنُ لِأفضلية التقرب إلى الله بأداء الفرائض أولا، ثم بأداء ما تيسر وأمكن من النوافل ثانيا، ولا معارض له.
وما استدل به من قوله تعالى: "وأن تصدقوا خير لكم" نقول بموجبه، ولا يلزم منه مقصوده. وما قاله من أن مصلحة الْإبراء أعظم، لاشتماله على الواجب الذي هو الانظار، ليس بصحيح، لأن الإنظار تأخير الطلب بالدين، وهو مستلزم لطلب الدين بعد، والإبراء إسقاط بالكلية، وهو مستلزم لعدم طلبه بعد، فكيف يصح يكون ما يستلزم عدم الطلب متضمنا لِمَا يستلزم الطلب. اهـ.
قلت: ويظهر أن ما قاله ابن الشاط سليم، لأنه المستفاد من الآية الكريمة "وإن كان ذو عُسْرةٍ فَنَظِرةْ إلى ميسُرَةٍ، وأن تصدقوا غير لكم إن كنتم تعلمون"، ويقول البيت صلى الله عليه وسلم: من أنظر معسرا ووضع له أظله الله يوم القيامة تحت عرشه حيث لا ظل إلا ظله، روَاهُ الامام الترمذى، وصححه رحمه الله عن أو هريرة رضى الله عنه، فإنْظار الدين مطلوب، وإبراؤه واعفاؤه من الدين مرغوب ومندوب، وهو خير ثوابا وأعظم أجرا، واللهُ أعلم.
وعشرين درجة، فدل ذلك على أن مصلحته عند اللهْ اكثر من مصلحة الواجب. (124)
الصورة الثالثة: الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرٌ من الف صلاة في غيره إلا المسجد الحرامَ. والمراد التفضيل بالمثوبةكما في الجماعة مع الانفراد، وقد فضَلَ المندوبُ الواجبَ، وذلك يدل على أن الصلاة في ذلك المكان أعظم عند الله سبحانه وتعالى. (125)
الصورة الرابعة: الصلاةُ في المسجد الحرام أفضَلُ من ألْف ومائة صلاة في غيره (126).
(124) علق ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذه الصورة والمسألة الثانية ولخَّصَه البقورى، فقال (اي ابن الشاط: ليست الجماعة منفصلة عن الصلاة، بل الجماعة وصف للصلاة، فضلتْ به على وصف الانفرادِ، فصلاة المكلف إذا فعلها في جماعة وقعَتْ واجبة، واذا فعلها وحدَه وقعتْ كذلك، غير أنَّ احد الواجبين أعظم من الآخر، ولا ينكر مثل ذلك.
ثم قال: "وأما أن يقال: إن صلاة الظهر - مثلا - إذا أوقعها المكلّفُ في جماعة، فكوُنها صلاة ظهر هو الواجب، وكونها في جماعة هو المندُوب، فليس ذلك بصحيح بِوْجهٍ، لأن كونها في جماعة ليس منفصلا عن كونها ظهراً، بل هي ظهر، وهي في جماعة، اهـ.
(125)
عقب ابن الشاط على كلام القرافي فى هذه المسألة بقوله: إن كانت الصلاة التي تصلَّى في مسجد النبى صلى الله عليه وسلم واجبة فهى تفضُل تلك الصلاة بنفسها إذا صُليتْ في غيره، وإن كانت نافلة فهى تفضل تلك الصلاة بنفسها إذا صُليتْ في غيره. اهـ.
وكذا الامر بالنسبة للمسجد الحرام.
قلت: ويؤخذ هذا الملحظ ويستفاد من قول النبى صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي هذا خير من ألْفِ صلاة فيما سواه. حيث ورد فيه ذكر الصلاة نكرة اسم جنس، وهي بذلك تشمل الفريضة والنافلة وتصدُق عليهما معا.
(126)
كذا في النسختين ع، وح وغيرها، وكذا في هذه المسألة في كتاب الفروق حيث قال القرافي:"الصلاة في المسجد الحرام أفْضَلُ من ألف صلاة ومائة صلاة في غيره كما خرجه الثقات: ابن عبد البر وغيره)، ونصوص الاحاديث الواردة في فضل المسجد الحرام والمسجد النبوي هي: "صلاةٌ في مسجدى هذا افضل من الف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا"، وفي رواية اخرى: وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة الف صلاة فيما سواه".
وعبارة الفروق لا تؤدى نفس المعنى المنصوص عليه في الحديث كما هو ظاهر عند التأمل، إلا بشئ من التأويل للعبارة وحمْلها على ما يدل عليه الحديث من الأفضلية بمائة الف صلاة لا بألف ومائةٍ كما قد يتبادر إلى الذهن من العبارة.
الصورة الخامسة: الصلاة في بيت المقدْس بخمسمائة صلاة.
الصورة السادسة: الصلاة بِسِوَاكٍ خيْرٌ من سبعين صلاة بغير سِواكٍ.
الصورة السابعة: الخشوع في الصلاة مندوب إليه.
وحيث كان هذا فأقول:
المصالح مَتى عَظُمتْ كانت مقدَّمة، سواء كان ذلك ندبا او واجبا. فإذا رأينا ندبا مقدما فما ذاك إلا لأن المصحلة فيه أعظم، وإذا رأينا واجبا مقدما فذلك أيضا لذلك المعنى.
فالشأن في الشريعة التقديم بقوة المصلحة، والغالب أيضا أن ما عظُمَتْ مصلحتُه أن يكون حكمه الوجوب، وما قصر عن ذلك أن يكون نَدبا.
قلت: المثالان الأولان ظاهر فيهما ما ذكرَهُ بِحَسَبِ بادى النظر لا بحسَبِ التحقيق، والمثالان الأخيران بَعيدان من ذلك غاية، فإن الصلاة بسواك مع الصلاة بغير سواك، ما وقع التفضيل بين واجب وندب، وإنما وقع بين صلاتين متساويتين في الحكم، فرضِ (127) الوجوب أو غيره، وزادتْ الواحدة بالسواك، والسِواكُ هو المندوب، وليس في السواك مفاضَلة، وكذلك حديث الخشوع، والصور الآخَرُ فيها نظَرٌ، بل ليس ظاهراً (128) إلا في المثال الاول فقط.
وأما صلاة الجماعة تفضُلُ صلاة الفذ فلا، فإن التفضيل ما وقعَ إلا بين واجبين، وأحدُ الواجبَيْن زادَ على الآخرَ بانضمام مندوب اليه.
(127) في نسخة ح: فرضية (بالمصدَر الصناعى كما يقول النحاة في مثل هذه الصيغة)
(128)
في نسخة ح: بل ليس ظاهر، ولعله: ليس بظاهر كما في نسخة أخرى، فسقطت الباء من خبر ليس في النسْخ، وهى تزاد في خبرها اطرادا، كما في قوله تعالى:"أليس الله بأعلم بالشاكرين"، وقوله سبحانه: أليس الله بكافٍ عبده"، وقوله جل علاه: "ألَيْسَ الله بأحكم الحاكمين" وكذلك بعدما، كما في قوله تعالى: "وما الله بغافل عما يعملون" وقوله سبحانه: وما ربك بظَلَّام للعبيد
…
وقد قرر ابن مالك هذه القاعدة في بيت من الفيته في النحو، فقال:
وبعدما وليس جرَّ البا الخبَرَ
…
وبعد لا ونفى كان قد يُجَرُّ
والمعنى: ليس ما ذكر القرافي في هذه الصور ومسائلها من التوجيه ظاهرا، والله أعلم.
قال شهاب الدين رحمه الله: وممَّا قُدِّم فيه فعل المندوب على الواجب في الشرع، الجمع للمطر، والجمعُ بعرفة، وتركُ الجمعة بعَرفة (129).
وبيان ذلك أنه لما كان المطر والطين والظلمة كان إن بقي الأمر بالخروج للصلاة في العتَمَة لحِقَتْ المشقَّة الناسَ، والشريعَةُ جآت برفْعها، وكان فيها مع ذلك حِفْظُ الواجِبِ، وهو إيقاع الصلاة في وقتها، وإن قيل لهم: لا تخرجوا إليها لأجْل المشقة، فإما أن يقال لهم: صَلوا أفرادا في بيوتكم، وتفوتهم فضيلة الجماعة وذلك مندوب، وإما ان يقال لهم: صلوا الآن مجتمعِين، فيحفظ عليهِم المندوب، وفي ذلك تضييع الواجب الذي هو أداء الصلاة في وقتهاكما كان، فكان تقديما للمندوب على الواجب، وكذا الآمر أيضا بعرفة، تُرك فيه الواجب، وهو إيقاع الصلاة في وقتها، ليحصل اتصال الجمع بالذكر، وذلك مندوب إِليه، وكذلك تَرك الجمعة بها (اي بعرفة) من حيث إن الظهر بها يُصَلَّى سِرا لا جَهْراً، وبهذا أسْكتَ
= وأما حديث الخشوع، فالمراد به الحديث الصحيح الذى أورده الامام القرافي في الكلام على الصورة والمسألة السابعة المتحلقة بالخشوع في الصلاة، وهو قول النبى صلى الله عليه وسلم: إذا نُودِيَ للصلاة فلا تاتوها، وأنتم تسعوْن، وأتوها وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصَلوا، وما فاتكم فأتِموا، وروى: وما فاتكُم فاقْضوا". قال القرافي حاكيا عن بعض العلماء: إنما امر صلى الله عليه وسلم صحابته وأمته بعدم الإفراط في السعى لأنه إذا قدِم على الصلاة عقب شدة السعى يكون عنده انبهار وقلق يمنعه من الخشوع. اهـ.
وعلق ابن الشاط على ذلك بقوله: لا يتعين ما قاله ذلك العالم بل لِقائِل أن يقول: إن الآمر بالسكينة إنما كان، لِأن ضدها المهى عنه، الذى هو شدة السعى شاغل للبال، مُنافٍ للحضور (اي حضور البال) الذى هو شرط في صحة الصلاة بحسب الوسع
…
فليس في الحديث على هذا الوجه ما يدل على تقديم مندوب ولا تفضيله على واجب، بل فيه النهْيُ عن التسبب في الإخْلَال بشرط الواجب الذي هو حضور البال، وحضوره شرط في الخشوع، والله أعلم.
(129)
أوْرَدَ الامام القرافي رحمه الله هذه المسائل، وذكَرها في أول الفرق الخامس والثمانين، وفصلها وبسطها بسطا واضحا شافيا، وهو ما أختصر الشيخ البقوري في ذكرهِ لها هنا.
وقال في ذلك: إنَّ الجمع بعرفة تُرك فيه واجبان: أحدهما تاخر الصلاة لوقتها وهي العصر، فتصلى مع الظهر. مع إمكان الجمع في تحصيل مصلحة الوقت ودفع الضرر. وقد علق ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذه المسائل بأن ما قاله في ذلك صحيح لا باس به.
مالك أبا يوسف حيث نازعَه أن الجمعة لا تُصَلَّى. (130) وأيضا، فالخطبة ظاهر منها أنها لعرفة لا للجمعة.
فأجاب لِمَ كان؟ فقال: أما يوم عرفة فالجمعة لم تكن فيها، لأنهُ جُعِلَ للنادر حكم الغالب، والغالبُ لا جمعة عليه، إذ هم مسافرون، فليس في ذلك تركُ الواجِب.
وأمّا تركُ تأخير العصر إلى وقتها فلضرورة الِإقبال على الله تعالى في ذلك اليوم أن يتصل، لأنه يوم عظيم لا يُوصَلُ اليهِ الا بالمشقة العظيمة، فكانت مصلحة ذلك الِإقبال أن يحصُلَ أعظمُ من الوقت.
وأما تقديم الجمع ليلة المطر فذلك لأن مصلحة الجمع الذي هو مندوب أعظم عند الله من مصلحة الوقت، وذلك أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم: تفْضُلُ صلاةُ الجماعة صلاةَ الفذ بسبع وعشرين درجة، وقد تقدمت الصورة المذكورة.
وبهذه القاعدة يظهر أن كثرة الثواب وقلتَه قد تُعرف بكثرة المصالح وقلتها، وتُعرف أيضا بكثْرة الفِعل وقِلته، وتعرَفُ أيضا بجهْدِ الفعل ويَسَارَتِهِ، وقد يختلف باختلاف المقاصد، والمقاصد تتفاوتُ غاية، وقد يوجَدُ خلافُ هذا كتفضيل
(130) ذكر القرافي رحمه الله هذه المسألة بشئ من البيان، والتفصيل، فقال:
لما حج هارون الرشيد ومعه ابو يوسف، واجتمعا بمالك في المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وقع البحث في ذلك، فقال أبو يوسف: إذا اجتمع الجمعة والظهر يوم عرفة قدمت الجمعة لانها أفضل وواجبة قبل الظهر مع الإمكان. قال له مالك: إن ذلك خلاف السُّنة، وقال له ابو يوسف: من أين لك ذلك وأنه خلاف السنة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالناس ركعتين، قبلَهما خطبة، وهذه هي صلاة الجمعة؟ فقال له مالِك: جهر فيهما أوْ أسَرَّ؟ فسكتَ ابو يوسف، فظهرت الحجة لمالك بسبب الإسْرار، رضى الله عنهم-أجمعين. لأن الجمعة جهرية، فلمّا صلى عليه السلام كعتين سِرًّا دل ذلك على أنه صلى الظهر سفرية وترك الجمعة، والخطبة ليوم عرفة لا ليوم الجمحة، لأن عرفة، إنما خطبتُهُ لتعليم الناس مناسك الحج، كانت في يوم الجمعة أوْ لا. اهـ.
قلت: وهذه المناظرة والمحاورة نموذج للمناظرات العلمية الهادئة، والمحاورات الرزينة النافعة التي كان العلماء يتبادلونها بالحجة والمنطق للوصول إلى الحقيقة والصواب والإقناع والاقتناع. رحمهم الله.
القصر على الإتمام، تفضيل تكبيرة الإحرام على غيرفا من التكبيرات، تفضيل قرآة أم القرآن في الصلاة عليه في غير الصلاة، ولله أن يفعلَ ما يشاء، ويحكم ما يريد، وهذه قاعدة أدرجتها في هذه التي هي القاعدة الخامسة عشرة. (131)
(131) القاعدة المدرجة هنا هي موضوع الفرق السادس والثمانين بين قاعدة ما يكثر الثواب فيه والعقاب، وبين قاعدة ما يقل الثواب فيه والعقاب، جـ 2 ص 131.
وقد ذكر القرافي رحمه الله قبل هذا الفرق في معرض إجابته عن الاسئلة الشائكة حول الجمع ليلة الطر، والجمع بعرفة، وترك صلاة الجمعة يوم عرفة، بيانا وتوضيحا فقال: إن المندوبات قسمانِ: قسم تقْصُرُ مصلحته عن مصلحة الواجب وهذا هو الغالب، فإن أوامر الشرع تتْبخ المصالح الخاصة والراجحة، ونواهيه تتبح المفاسد الخاصة أو الراجحة حتى يكون أدفى المصالح يترتب عنه الثواب، ثم تترقى المصلحة والندب وتعظُم رتبته حتى يكون أعلى رتبَ المندوبات تليه ادنى رتب الواجبات، وأدنى رتب المفاسد يترتب عليها أدنى رتب المكروهات ثم تترقى المفاسد والكراهة في العظم حه ى يكون أعلَى رتب المكروهات تليه أدنى رتب المحرمات، هذا هو القاعدة العامة (وهو القسم الاول من المندوبات).
ثم إنه قد وُجد في الشريعة مندوبات أفضل من الواجبات، وثوابُها أعظم من ثواب الواجبات، وذلك يدل عَلى أن مصالحها أعظم من مصالح الواجبات، لأن الأصلَ في كثرة الثواب وقلتِه كثرة المصاع وقلتُها. ألَا ترى أن ثوابَ التصدق بدينارٍ، أعظمُ منه بدرهم، وأن سَدخلة الولى الصالح أعظم من سَدَّخلة الفاسِق الطالح، لِأن مصلحة بقاء الولي والعالم لنفسه ولِلخَلْقْ اعظمُ، هذه هي القاعدة العامة في غالب موارِد الشريعة.
ثم إنه قد وقع في الشريعة مواضع مستوية في المصلحة، وأحدها أكثر ثوابا، كقرآة الفاتحة في الصلاة وغيرها، والتصدق بشاة او دينار في الزكاة، وفي غيرها من صدقة التطوع .. الخ وهو في الشريعة قليل، ولله تعالى أن يفضل أحد المتساويين على الآخَرِ اهـ.
وعلق ابن الشاط على كلام القرافي هنا، فلم يسلم ولم يصحح القول بوجود مندوبات أفضل من الواجبات، ولا باعتبار ثوابها اكثر من الواجبات، وسلم وصحح القول بمساواة التصدق بدينار أو درهم في صدقة الزكاة والتطوع بشرط استواء حال المتصدِّق والمتصدِّق عليه، كما يُسلم باستواء قراة الفاتحة في الصلاة وغيرها، وسلم وصحح القول بأن لله أن يفصّل أحد المتساوين على الآخَرِ بإرادتِهِ وفضله.
القاعدة السادسة عشرة (132)
في تبيين أنه القضاء يجب بالْأمْرِ الأول أو بأمر جديد؟
على أنَّا قدمنا في القضاء حيث حددناه، أنه يجب بأمر جديد، ولكنا نبسط الكلام على ذلك هنا، فنقول:
ذهب بعض الأصوليين إلى أنه يجب بالأمر الأول، والأكثرُ منهم إلى انه يجب بأمر ثان. فمن قال بالأول، قال: إن الامر بالعبادة في وقت معين أمرٌ بشيئين: أحدهما الأمر بالعبادة، والآخَرُ تخصيصه بالزمان، فإذا ذهب أحد الجزئين ينبغى أن يبقى الآمر الآخر، وهو طلب العبادة، قال شهاب الدين - هنا -: لِأن القاعدة أن إيجاب المركَّب يقتضى إيجاب مفرداته.
قلت: إن كان المراد أن من ضرورة وجود المركب أنه لا يكون إلا بوجود كل جزء من أجزائه، فإذا أوجب إيجادَ المركب فقد أوجب إيجاد كل جزء، فَنَعَم، وفرقٌ بيْن تعلق الوجوب بكل فرد من الأفراد حالة الاشتراك، وبيْن تعلقهِ بكل فرد حالةَ الانفراد. هذه ما وجَبَتْ قط، ولا لزمت من حيث إيجاب المركب، وإلَّا لزم - إذا قلنا: إضرب زيداً العاقل - أن يكون أمراً بضرب زيد غير العاقل وبضرب زيد العاقل، فإن التقييد بالصفات كالتقييد بالظروف بلَا فرق، واذا كان الآمر هكذا، فقضية القضاء يجب بالأمر الأول او بالأمر المجَدَّدِ لا نسبةَ بينها وبَيْن أن إيجابَ المركب يقتضى ايجاب مفرداتِه، حتى يحتاج إلى الفرق بين القضيتين.
ولنرجع إلى مسألة القضاء.
قال شهاب الدين: وإذا كانت الأوقات المعيَّنة إنما خصصت بالعبادة لأجل مصالح فيها دون غيرها، كانَ الاصل أن لا يجب الفعل في غير ذلك الوقت،
(132) هذه القاعدة أدرجها شهاب الدين القرافي في الكلام على فَرقٍ سابق، هو الفرق السادس والستون في كتابه الفروق، بين قاعدة ما تعين وقته فيوصَف بالأداء وبَعده بالقضاء وبَيْن قاعدة ما تعين وقته ولا يُوصَف فيه بالأداء، ولا بعده بالقضاء، والتعيينُ في القسمين شرعيُّ.
وتوسع فيها، ولم يتحدث عنها في فرق خاص بها، فليراجعها من أراد التبسط في ذلك. جـ 2، ص 56 - 57.
لأنه عَريٌّ عن المصلحة، لِأن تخصيص ذلك الوقت بذلك أفهمَنا ذلك حتى ياتي من الشرع أمر بالفعل في غيره، فنعلم - حينئذ - أن المصلحة في فعل ذلك الفعل في الوقتين، ولكن الوقت الأول أعظم مصلحة، والثاني دونه فيها، فهذا وجْهُ من قال: يجب بأمرٍ جديد، وهو الأظهر، والله أعلم.
قلت: ويُعَضده ما جاء، حيث قالت امرأة لعائشة - رضى الله عنْها - ما لَنا نقضى الصوم ولا نقْضى الصلاة؟ فقالت لها: أحرُوريَّة أنت؟ كُنّا نُومَرُ بقضاء الصوم، ولا نومَرُ بقضاء الصلاة (133).
القاعدة السابعة عشرة (134)
نقرر فيها أن النهْي لا يصحء التخيير، وأنه يخالف الأمر في هذا، فإنه يصح مع التخيير كما تقدم.
وبيان ذلك أن النهي عن حقيقة ذات أفرادٍ كالنهى عن الخنزير لا يصح الامتثال لهذا الامر إلا بترك كل فرد من أفراد تلك الحقيقةِ. ومتى تَرك أفرادا وفعل ذلك بحسب فردٍ منها، فما وقعَ الامتثال لهذا المعنى، فلأجل هذا كان التخيير مع النهي محالا ولا يصح، وهو جمعٌ بين النقيضَين.
ولما كان الامر بحقيقةٍ ذاتِ أفراد كالأمر بالكفارة يمتثِل الخاطب ذلك بإدخال فردٍ من الافراد، من حيث ان الحقيقة المطلوبة البيت قوله هي الكفارة - لَمَّا طُلبت منه - قد أتى بها إذا أتى بفردٍ فصح الأمرُ مع التخيير، وفي النهي ما أتُى
(133) حديث صحيح أخرجه الشيخان: البخاري ومسلم وغيرهما رحمهم الله. والمرأة السائلة اسمها مُعاذة. والحرورية نسبة إلى حروراء، وهى بلد قريب من الكوفة، اجتمع فها الخوارج عن علي ومعاوية، ثم إنَّهم يقولون بقضاء الصلاة والصوم، ووجوبهما على الحائض، فأفادتها عائشة رضى الله عنها أن المرأة مأمورة بقضاء الصوم، وغيرُ مطالَبة بقضاء الصلاة التي فاتتها ايام الحيض -
(134)
هي موضوع الفرق السابع والاربعين بين قاعدة المأمور به يصح مع التخيير، وقاعدة المنهى عنه لا يصح مع التخيير" جـ 2 ص 4.
بالحقيقة المطلولة منه إلا إذا لم يات بفرد من الأفراد، فمن المعلوم البيِّن أن فاعل الاخصِّ فاعِلُ الأعم، وإذا كان كذلك فلا سبيل إلى الخروج عن العهدة في النهي إلا بترك كل فرد، والتخيير مع النهي عن الترك محال عقْلاً (135).
فإن قيل: قد وقع النهي عن الأختين، وخُيِّرنا في إحداهما لا بعينها، وكذلك البنتُ مع الأم، قلنا: لم يقع النهي - هنا - عن المشترك بين الأفراد وخُيِّرنا في الأفراد كما قلنا في خصال الكفارة، بل نُهِينَا - هنا - عن الجَمعِ، وهذه الحقيقة التى هي الجمعُ بين الأختينِ، تُفقد لفقد جُزْءَيْها معا، وهما الاختان، وتُفقد لفقدِ الواحدة منهما، فيخرج عن العهدة بواحدة لا بعينها كذلك، لأن التخيير وقع في شيء من ذلك، والله أعلم.
القاعدة الثامنة عشرة (136):
في تقرير التخيير بين أشياء لا يقتضي التسوية بينها ولابد، بل قد يكون ذلك وقد لا يكونه.
فالتخير الذى يقتضى التسويةَ كالتخيير في خصال الكفارة، والتخييرُ الذى ليس التسويةُ كتخيير صاحب الدين بالنَّظِرة والِإبراء، وهما غير متساويين، لأن نَظِرةَ المعْسر تجب، وإبراوُهُ مندوب اليه، ومثل هذا قوله تعالى: ، "يا أيها المزمل قُمْ الليل
(135) علق ابن الشاط على جاء عند القرافي في اول هذا الفرق 47، فقال: قوله: ان الامر في خطاب الكفارة متعلق بأحدها صحيح، وقوله: الذى هو قدر مشترك بينها، ليس بصحيح، فإنه ليس مفهوم أحد الامور الا واحدا فها مبْهباً غير معيّن، لا الحقيقة المشترك بها، ولو تعلق الوجوب بالحقيقة من حيث هي تلك الحقيقة للزم شمول الوجوب لكل شخص مما فيه تلك الحقيقة، وليس الا فرد كذلك - وقوله: لِصدقه على كل واحد منها (اى لصدق المفهوم الذي هو قدر مشترك بين خصال الكفارة)، لا يلزم من ذلك أن يُرادَ به الحقيقة المشترك فيها.
والمشترك هو متعلَقُ الامر ولا تخيير فيه، يقولُ القرافي: والخصوصيات هي متعلق التخيير ولا وجوب فيها. قال ابن الشاط عن كون الخصوصيات هي متعلق التخيير: ذلك صحيح إن أراد من حيث تعين كل واحد فها، وإن اراد أنها متعلق التخيير من حيث دخولها تحت المشترك فلا.
(136)
هي موضوع "الفرق الثامن والاربعين بين قاعدة التخيير الذي يقتضى التسوية، وبيْن قاعدة التخيير الذى لا يقتضى التسوية بين الاشياء المخيّر بينها". جـ 2 ص.8.
إلا قليلا نصفَه أو أنقُض منه قليلا أو زِد عليه" (137) فقيل في تفسيره: خير بين. قيام نصف الليل وثلثه وثلثيْه، فثلثُهُ أوْ نقَص منه قليلا، وثلثاه: "أو زد عليه"، والثلثُ واجب، وذلك (138) كما قالت عائشة ضى الله عنها: كان قيَامُ الليل واجبا ثم نُسِخَ، والنصف والثلثان مندوبَانِ، فقد خَير بين المختلفات في الحكم. وكذلك ايضا:{فليس عليكم جُنَاح أن تقصروا من الصلاة} (139) خير بين القصر في السفر والإتمام، والركعتان واجبتان جزما، والزائد ليس بواجب، وهذا يَرُد على من يقول: التخيير لا يقع الا بين المتساويات، بل هو كما قلنا. والضابط في الفرق أن التخيير إذا وقع بين المتبايِنَيْنِ فإنه لابد من التساوي بينهما، كما في خصال الكفارة، وبين جزْءٍ كل أو أكثر أو أقل لم يقع التسوية، والله أعلم.
ثم المتباينات إذا وقع التخيير بينها، إن كان قد تباينت بالأجناس كما قلنا في خصال الكفارة فذلك المسمى بالواجب المخير، وان كانت قد تباينت لا بالجنس، بل هى داخلة تحت جنس واحد، فلا يسمى هذا بواجب مخيرٍ، وهذا راجع إلى الاصطلاح. فالعتق يكون بأمة وبعَبْدٍ، والعبيد يتشابهون، والأماءُ كذلك، وللمكلف الخِيرة في ذلك كله، ولكنه لا يسمى مخيراً من هذا الوجه، واما يسمى مخيراً إذا
(137) سورة المزمل، الآيات: 1، 2، 3.
(138)
في نسخة ح: لما (الظرفية)، وعلق ابن الشاط على ما جاء عند القرافي هنا وتضمنته هذه القاعدة فقال: لو كان المشترك متعلِّق الوجوب لوجب الجميع، بل متعلق الوجوب واحد عمر "معين، والخصوصيات من عتق كسوة وإطعام هي متعلق التخيير، وحكم كل خصلة حكم الاخرى، وهذا صحيح، لا ما قاله القرافي من كونها أمورا متباينة" ثم قال ابن الشاط: ليس الثلث (اى قيامه) واجبا من حيث هو ثلث، ولو كان ذلك لكان واجبا معينا، ليس النصف والثلثان مندوبَيْن، ولو كان ذلك لجاز تركهما مطلقا، ليس كذلك بل لا يجوز تركهما إلا عند قيام الثلث.
(139)
وقع في النسختين معا: "لا جناح عليكم أن نقصروا من الصلاة". والصواب: "فَلَيْسَ عليكم جناح أن تقْصُروا من الصلاة" وهو ما في كتاب الفروق: وأول الآية قوله تعالى". "وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا، إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا" سورة النساء الآية 101. وهذه الآية الكريمة اصل في سنة قصر الصلاة للمسافر، وكذا ما ورد فيها وثبت من السنة القولية والفعلية عن الله صلى الله عليه وسلم.
كانت الأفراد ترصح إلى "أجناس متباينة، كالعتق والإطعام والكسوة، وهذه قاعدة أدرجْتها في التي قبلها، لا كما فعل شهاب الدين رحمه الله.
ثم لِتعلَم أن ما وقع في قول الفقهاء من قولهم: الإمام مخيَّر في الأسارى، وكذلك في التعزير، وكذلك في حق المحارب، وكذلك تفرقة الأموال راجعة إلى خِيَرَتِه قَوْلٌ مَجَازي، لا خِيرة (140) في شئ من هذا، كما الامر في خصال الكفارة من حيث التخيير، بل يجب عليه بذل جَهده في فعل الأرجح من ذلك، ولا يصح له أن يفعَل بهواه ما شاء من ذلك، كما يصح للمكفر أن يُعَيِّنَ من الخصال ما شاء بِهوَاه.
ولكنه قيل له: مخيَّرٌ، من حيث إن النظر رجع اليه في الترجيح، ولم يعَيَّن له في ذلك شئ، بل فُوِّضَ التعيين اليه بعد اجتهاده، وتنفيذ الأصْلح للمسلمين، فذاك الذى يصح له ويحل" وهذه قاعدة اخرى أيضا أدرجتها هنا. (141)
(140) في نسخة ح: "بل لا خيَرَةَ" بزيادة بل للاضراب عما قبلها، ولكن المعنى واحد في نفي الإختيار في هذه السائلِ والامثلة.
(141)
هي موضوع الفرق التاسع والاربعين بين قاعدة التخيير بين الأجناس المتباينة وبين قاعدة التخيير بين أفراد الجنس الواحد" جـ 2. ص 11.
قال القرافي رحمه الله في أوله: وتحرير الفرق بين هاتين القاعدتين يرجع إلى تحرر اصطلاح العلماء لا لمعنى يترتب عليه، وذلك أنهم يسمون خصال الكفارة واجباً مخيرا، ولا يسُّمون تخيير المكلف بين رقاب الدنيا في إعتاق الرقبة في كفارة الظهار وغيرها واجبا مخيرا، وكذلك التخيير بين شِياه الدنيا في إخراج شاة من أربعين شاة، ودينار من اربعين دينارا، لا يسمون ذلك واجبا مخيرا، بل يقصرون ذلك على خصال الكفارة ونحوها.
وضابط الفرق بين القاعدتين أن التخيير متى وقع بين الأجناس المختلفة فهو الذي اصطلحوا على أنة واجب خير، ومتى وقع بين أفراد جنس واحد لايكون هو المسمى بالواجب الخير، فالعتق والإطعام والكسوة أجناس مختلفة، والغنَم كلها جنس واحد، وكذلك الدنانير، وغيرها من النظائر، فهذا هو ضابط الفرق بين هاتين القاعدتين
القاعدة التاسعة عشرة (142):
نقرر فيها أنه لا يجوز التخيير بين شيئين، وأحدهما يُخشى من عقابه، ويجوز التخيير بين شيئين، وأحدهما تخشى عاقبتُه.
وبيان ذلك أنا إذا خُيِّرْنا بين شيئين فقد كان لنا بحسب كل واحد منهما أن نفعله وألَّا نفعله، واذا كان كذلك فلا يصح أن يُخْشَى من أحدهما عقاب، لأن ما يصح فعله لا يصح أن يُخشى منه عقاب، وقد قلنا بذلك، فأن نخشى العقاب باطلٌ، وأما أن نخشى (143) العاقبة مع التخيير فتصح، وهذا مِثْلُ ما خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قدحَيْنِ من خمر ولبن فاختار اللَّبن، وقد كان الخمر تُخشى عاقبته، لو أخذه لغوتْ أمته كما قال جبريل عليه السلام، (144) وهذا لا مجال فيه من حيث إن خشية العقاب تترتب عن المنع من الفعل، والمنع من الفعل يناقض التخيير في الفعل كما سبق، وخشية العاقبة لا ترجع إلى الكلام الذي منه الامر والنهى، وانما نرجعُ إلى القضاء والقدر، فهذا يرجع إلى أثر قدرة الله، فافترق الامرانِ، ولا إشكال في ذلك، والله أعلم.
(142) هو موضوع الفرق الخمسين بين ما ذكر فيها، جـ 2 ص 12.
وقد علق العلَّامة ابن الشاط على ماجاء عند القرافي في هذين الفرقين بقوله: ما قاله فيهما صحيح، والله أعلم.
(143)
في نسخة ع: فأن يخشى بالياء والبناء للمجهول في الفعلين، وكلتا الصيغتين صحيحة وسليمة، فصيغة المضارعة بالنون مبني للمعلوم، وصيغة الباء مبنية للمجهول، والفعل يحذف ويبنى الفعل للمجهول في مواضع معلومة، ولِأغراض ونُكتٍ بلاغية معروفة، جمعها بعضهم في بيتين فقال: في حذف الفاعل:
وحذفهُ للخوفِ والابهام
…
والوزن والتحقير والإعظام
والعلم والجهْل والاختصار
…
والسجع والوفاق والإيثارِ
(144)
اشارة الي ما جاء في حديث الاسراء من رواية الإمام احمد رحمه الله عن أنس ضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى في بيت المقدس ليلة الاسراء به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وخرج منه أتاه جبرئل عليه السلام بإء من خمر وإناء من لبن، فاختار الرسول صلى الله عليه وسلم اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة الخ
…
انظر تفسير الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير سورة الاسراء،
القاعدة العشرون (145)
نقرر فيها أنه الاباحة قد تكون مُطْلَقةً، وقد تكونه مرتبة سبب، ثم نقرر ما يلزم عن كل واحدة.
فالإباحة المطلقة كالْإذْن في البيع والشراء، والاباحةُ المترتبة على سبب، كقوله تعالى:{واذا حللتم فاصطادو} (146).
ثم الإباحة المطلقة لا يكون على المكلف حرَج في الإقدام على ذلك المباح مطلقا، والاباحة على سبب لا يكون على المكلّف حرج في الاقدام على الفعل من حيث ذلك السببُ، ويكون عليه حرج في الاقدام عليه باعتبار سبب آخر، فالتحريم يجتمع مع هذه الاباحةِ ولا يجتمع مع الأخرى، وهذا، لأن أسباب التحريم قد تجتمعُ مع اسباب الاباحة وقد تفْترق. وعلى هذا يكون الفعل الواحد حراماً باعتبار سبب مَّا، حَلالا باعتبار سبب آخر، وبهذه القاعدة يزُول إشكال أورده بعض الفضلاء فقال: قوله تعالى: {فإق طلقها فلا تحِلُّ لَهُ مِن بعن حتى تنكِحَ زوجاً غيْره} (147). هذه الآتية تعطي من حيث إنَّ حتَّى غايةٌ أن المطَّلقة
(145) هي موضوع الفرق الحادي والخمسين والمائة (131) بين قاعدة الإباحة المطْلقة، وبين قاعدة الاباحة المنسوبة إلى سبَب مخصوص، جـ 1، ص 131.
(146)
سورة المائدة: الآية 2.
(147)
سورة البقرة: الآية 230.
وقد نص علماء النحو، واهل العلم بمعاني الحروف على أن حرف حتى ياتي لأحد ثلاثة معان: انتهاء الغاية وهو الغالب، والتعليل، وبمعنى الا من الاستثناء، وهذا اقلها، وقل من يذكرها. واستعمالها يكون على أحد ثلاثة اوجه: أحدها ان تكون حرف جر بمنزلة إلى في المعنى والعمل، وهي تخالفها في امور. ثانبها أن تكون عاطفة بمنزلة الواو، وهي تخالفها في امور، ثالثها أن تكون حرف ابتداء (اي تبتدأ به الجملة. وقد أشار بعضهم إلى هذه الوجوه في بيتين من النظم، وزاد عليها واحدا بشئ من التجوز، والبيتان هما قوله:
تكون حتى حرف جر يا فتَى
…
وحرفَ نصب لمضارع أتى
وَحرف عطف ثم حرف الابتدا. اقسامها أرلعة فَعَدِّدَا (اى عَدِّدْها واحسبْها).
ومعلوم أن حتى ليست من حروف نصب المضارع وادواته، ولكن النصب يكون بأن مضمرة وجوباً بعد حتى بمعنى إلى، فهى بمعنى الغاية، ومَجْرُوها حينئذ إما ان يكون اسما صريحا أو مؤولا بالمصدر. (1 هـ) انظر مغنى اللبيب لابن هشام رحمه الله.
بالثلاثِ إذا تزوجت غيرَه حَلَّت له، وهذا مردود بالإِجماع، فَيَجِبُ أن يقال: إن حتى خرجَتْ في هذه الآية عن مقتضاها الْغائِي، وأنها لَا تَدُل عليه، وهذا - ايضا صعْبٌ، فهذه القاعدة تزيل الأشكال، فيقال: بَتَزَوُّج غيرهِ لَها (148) زالَ مانعٌ واحد كان يمنع منٍ تزوجها، فأبيحَتْ من حيث ارتفاع هذا المانع، وبقي موانعُ أخرى، فكَونُها باقية في مِلك هذا الثاني مانع، حتى إذا طلَّقها زالَ ذلك، وبقيت العِدَّة هي مانع آخر، هكذا قال شهاب الدين رحمه الله.
وكذلك تصَوُّرُ اجتماع أسباب على سبب واحد، مثل القتلِ يجب بترك الصلاة، والزنا عن إحصان، والارتدادِ، وقتلِ النفس التي حرّم الله إلا بالحق (149)، فهذا قد أبيح دمه بكل واحد من هذه الأسباب. فإذا عَفَا الاولياء ذهبت الاباحة الناشئة عن القتل، وبقىَ القتل لأسباب أخرَ.
قال رحمه الله: وكما ظهر لك اجتماع أسباب التحريم في المسألة المتقدمة، فاعلم أن المحرَّم بسبب واحد ليس كالمحرّم بأسباب، بل يتضاعف الإثم بتضاعفِ الأسباب، فالزنَى محرَّم، وبالبِنْتِ أشَدُّ، (150) وبها في الصوم ومع الإحرام أشد، وفي الكعبة أشدُّ، وكذا الواجبُ الواحد يتصور أن يكون لهُ سببٌ واحدٌ في الوجوب، ويُتَصوَّرُ أن يكون له اسبابٌ.
(149) عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ "لا يَحِل دم امرئ مسْلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة. اخرجه الشيخان: البخارى ومسلم رحمهما الله.
(150)
قال بعضهم في هذا المعنى:
وتعظمُ الطاعة والمعصية
…
بالشخص والمكان والوقتية
القاعدة الحادية والعشرون (151)
نقرر فيها الفرق بين الواجبات بطريق النذر، وبين الواجبات بإيجاب الله تعالى، وذلك من حيث المصلحة، فنقول:
ان الأوامر تتبع المصالح، والنواهي تتبع المفاسِد، والمصلحة إن كانت في أعلى الرتَب يترتَّب عليها الوجوب، وإن كانت في أدْنى الرتب رُتِّبَ عليها الندب.
ثم ان المصلحة ترتقى ويرتقى الندب بارتقائها حتى يكون أعلى مراتب الندب يُشبه أدنى مراتب الوجوب، وهذا الاعتبار بعينه في المفسدة بحسب التحريم والكراهة، فعلى هذا، المصلحة التى تصلح للوجوب لا تصلح للندب، لاسيما المزلبة الدنيا من الندب، كيف لا، وقد رتّب العقاب على ترك المصلحة التى للوجوب، وكذا الامر أيضا من حيث المفاسدُ، فقد رتِّب (152) العقاب على فاعل الحرام دون الكراهة، فهكذا الأسباب الشرعية لا تجعل شيئا سببا للوجوب وشيئا سبَباً للندب الا ولكُلِّ واحدٍ نسبةٌ للآخر.
قلت: قد مضى لنا في القاعدةِ الرابعة عشرة أن هذا الذي قاله هنا هو الغالب، وأبْدَيْنا خلافَ هذا في صُوَرٍ: منها الجمعُ ليلةَ المطَر فُضِّلَ على الواجب من حيث ان المصلحة التى في ذلك الندوب أعظم، وكذلك صلاة الجمعِ بعرفة قدم على ايقاع الصلاة في وقتها، وهو واجب، لأنه أفضل وأعظم مصلحة.
قال شهاب الدين رحمه الله:
إذا تقررت هذه القاعدة. فاعْلَمْ أن صاحب الشرع جعل الأحكام على قسمين: قسم منها قرره بنفسه، وقسْم وَكَلَ تقريرَه "إلى خِيَرَةِ المكلَّف.
(151) هي موضوع الفرق السادس والثلاثين والمائة 136 بين قاعدة المنذورات وقاعدة غيْرها من الواجبات الشرعية. جـ 3. ص 94.
وقد عَلَّق الشيخ ابن الشاط رحمه الله على ما جاء عند القرافي في هذا الفرق فقال: ما قاله القرافي في هذا الفرق صحيح، ، لا قوله في هذه القاعدة. إن الله أمر عباده أن يتأدبوا معه كما يتادبون مع أماثلهم، فإنَّهُ تشبيه لا أرتضيه".
(152)
في نسخة ح: رتب بصيغة الماضى المبنى للمجهول، وكما في العبارة الموالية بالنسبة للنسختين.
فالأولُ كوُجُوب الصلاة، والثاني هو النذر، وكذلك الأسباب أَيضا جعلها على قسمين:
قسم منها نصبه هو كجعل الزوال سببا وأمثالِه، وقسم جعله لِخيَرَة المكلف كما في الأحكام، ويَجعلُ هذا المكلفُ سبباً ما شاءَ، كدخول الدار وهبوب الربح، أو نزول المطر، أو قُدُوم زيد، الخِيرة له في تعيين ما شاء من ذلك، فلا يتوقف على المكتسباتِ له أو لغيره.
فاذا تقرر هذا حصل الفرق بين الواجب الأصلي وبين النذر من وجهين:
أحدهما أن مصلحة المنذور مصلحةُ الندب، فإن النذر لا يتعلق بالواجب ولكن بالندب، فببلغ بذلك الي مرتبة الواجب.
الثاني أن سبَبَه لا يناسبُ الوجوب كالأسباب المقرَّرة في أصل الشريعة، والبعدُ من طريق الأسباب أشد، فإن المندوبَ فيه مصلحة، فانتقل إلى حكم ما هو أعظم مصلحة منه.
وأما الأسباب، فالسببُ الشرعي مناسب للحكم، والسببُ الاختياري لا مناسبة في كثير منه، فإنه لو قال: إن طار الغرابُ فعَليَّ صدقةُ درهم، أيّ مناسبَةٍ في طيران الغراب للصدقة؟ ووجود النصاب مناسبٌ للصدقة.
فان قيل: فكيف اقتضت الحكمة الإلاهية اعتبار مالا مصلحة فيه أو إقامة (153) مصلحة الندب للوجوب، مع أن القاعدة أن الاحكام تتْبعُ المصالح على اختلاف رُتَبها؟ قلت: جآء هنا سبب آخر قوَّى تلْكَ المصلحة حتى حكم
(153) هكذا في النسختين: "أو إقامة مصلحة الندب للوجوب"، وفي الفروق: وإقامةَ".
عليها بالوجوب وذلك الأدبِ، مع الحق بالوفاء والحذر من نقض. العهد معه، فوقعَ الحكم (154) على نسبةِ المصالح.
قلت: وأمّا الاسباب، كقولنا: إن طار الغراب فهي ليست في الحقيقة أسبابا، وانما هي شروط للنذر، فالوجوبُ بالنذر ولكنه عند الشرط، ولهذا يقول الفقهاء: النذر المطلقُ، والنذر المقيّد.
وحيثُ علمتَ أن الاشياء قد تحرم لاشمالها على المفاسد وقد تكرَه، وأنها - أيضا - تجبُ لاشتمالها على المصالح، وقد تندب، فقد تكون المصالح مما يحُثُّ عليها الطبْع فتكون هذه مصلحةً مباحة كالمطعومات الطيبة، ثم ما يحرم قد يكون محرّما، لما قلناه، ولكنه يقضَى عليه بالإِباحة لسبب، وهذا كالميتة، محرَّمةٌ لطبيعتها المشتملة على المفسدة، فإذا جاء الاضطرار أبيحَتْ، كذلك أيضا ما أبيحَ لصفتِهِ كالمطعومات يعرض له (154 م) أن يحرم لأسباب كالغصب والسرقة وغير ذلك، وهذه قاعدة أدرجتها بالتى ذكرتها معها (*).
(154) في نسخة ح: الحِكْمة، ولعل لفظ الحكم ومعناه في نسخة ع أظهر وأوضح.
وعبارة القرافي هنا أظهر وأبْين حيث قال في هذه الفقرة: "قلت: "الاسباب يَخْلُفُ بعضها بعضا، فكما أن عِظَم المصلحة سببُ الوجوب في عادة الشارع فكذلك هنا سبب آخرُ إذا فقدتْ هذه المصلحة، وهى مصلحة أدب العَبد مع الرب سبحانه وتعالى في أنه إذا وعَدَ ربَّه بشئ لا يُخْلفه إياه، لا سيما إذا التزمه وصمم عليه، فأدبُ العبْد مع الرب سبحانه وتعالى بحسن الوفاء وتلقى هذه الالتزامات بالقبول هو خلق كريم. وهو سبَبُ جلْب المصلحة التى في نفس الفعل، فقد يستفاد منْ هيئة الفاعل وأحواله وأخلاقه مع خالقه ومعبوده مصالح عظيمة، وأى مصلحة أعظمُ من الادب حتى قال. روَيْم لابنه: يابنى، اجعَلْ عملك مِلْحا، وأدبَكَ دقيقا، أي إستكثر من الادب حتى تكون نسبته في الكثرة نسبة الدقيق إلى المِلح، كثير الادب مع قليل من العمل الصالح أحسن من كثير من العمل مع قلة الادب
…
الح.
(154 م) في نسخة ح: لها أى المطعومات، وفي النسخة الاخرى ع. له بالتذكير يعود على لفظ ما أبيح، والمعنى واحد ..
(*) وهذه القاعدة هى موضوع الفرق السابع والثلاثين والمائة بين قاعدة ما يَحرُمُ لصفته وبين قاعدة ما يحرم لسببه" جـ 3. ص 96.
القاعدة الثانية والعشرون. (155)
نقرر فيها الانتقال من الحرمة إلى الإِباحة أنه يشترط فيه أعلى الرتب من الأسباب، بخلاف الانتِقال من الإِباحة إلى الحرمة فإنه يُشترط فيه أيْسَرُ الاسباب.
قال شهاب الدين رحمه الله:
وقعتْ في الشريعة صور كثيرة تقتضِي ما قلناه في القسمين معًا.
فهذه الأجنبية مباح العقدُ عليها، وهذه الاباحة تندفع بعقْد الأب عليها من غير وطْء، وهذا أيْسر شئ والمبتوتة (المطلقة ثلاثا) لا يذهب تحريمها إلا بعقد المحلِّل ووَطئه، وعقد الأب (156) بعد العدَّة. وهذه رتَبٌ (157) - قلت - ما تندفع إلا بعقد الأبِ ورضى الزوجة، ووجود صداق مع عقد الزوج، كما إذا كانت محرَّمة الوطء، فهذا التحريمُ يَندفع بما اندَفَعَتْ بهِ الْإباحَةُ لَا زَائِدَ عليها.
قال شهاب الدين رحمه الله:
وثانيها: المسلم محرَّم الدّم، لا تذهبُ عنه الحِرمة إلَّا بالردة أو زنىً بعد
(155) هو موضوع الفرق الحادي والثلاثين والمائة بين قاعدة الانتقال من الحرمة إلى الإباحة يُشْتَرَط فيها أعلى الرتب وبين قاعدة الانتقال من الإباحة إلى الحرمة يكفى فيها ايْسَرُ الأسباب
…
جـ 3. ص 73.
(156)
كذا في ثلاث نسخ من كتاب ترتيب الفروق للبقورى. والذى عند القرافي في هذا الفرق: "وعقد الأول بعد العدة". ولعل لكل واحدة من الكلمتين وجها تحمل عليه، وذلك بأن تحمل كلمة الأب في العباز على ما، في هذا الترتيب على معنى أن يتولى الأب لها عقد الزواج باعتباره وليا ولو كانت ثيبا رشيدة، حيث الولي ركن من اركان عقد الزواج عملا بحديث أصحاب السنن: . "لا نكاح الابوالي"، وبما عليه إلمسلمون سلَفا وخلفا من عملهم بذلك، وتحمل كلمة الأول في هذه العبارة عند القرافي على معنى أن يعقد عليها الأول المطلق لها ثلاثا بعد ان تزوجها الثاني وتوفي عنها أو طلقها وانتهت عدتها من الوفاة او الطلاق، فحينئذ يباح له ان يتزوج بها من جديد، لقول الله تعالى:"فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" فليتأمل ورود الكلمتين، والمرادُ بِهِمَا والأنسَبُ منهما.
(157)
وعبارة القرافي هنا، وهذه رتبة (بالإِفراد) فوق تلك الرتبة الناقلة عن الإباحة بكثير" وهي تزيد عبارة البقورى وضوحا وبيانا.
إحصانٍ، أو قتل نفْسٍ عَمداً عُدْوانا، وهي أسباب عظيمة، فاذا أبِيحَ دمُهُ بالرِدة حُرم بالتوبة، وفي القصاص بالعفْو، والتوبة أيْسر من الردة والقتْلِ.
قلت: بل التوبة أصعَب، أما من القتل فظاهِر، لأن القتْلَ فعْل جسماني يثيرُه غضب، والتوبة فعل قلبى يثيره معرفة الحق، والتوفيقُ إلى الحق بما عرف، وشتَّان بين الأمور القلبية والأفعال الجسمانية، فكيف إن زدْنا في النظر إلى الأسباب. وأمَّا أن الردة أيْسَرُ من التوبة فَلأِن الردة يثيرها الجهل، والتوبة تُثيرها المعرفة، والجهل أصل في الإنسان، والمعرفة ثانية.
قال شهاب الدين رحمه الله:
وثالثها الأجنبية لا يزول (158) تحريم وطئها إلا بالعقد المتوقف على إذنها ووليها، وصداق، وشهود، وإباحتها (159) بعد العقد يكفى فيها الطلاق فترتفع تلك الإِباحة بالطلاق. (160)
قلت: يُعَارَضُ بأن يقال: الأجنبية لا تزول إباحة العقد عليها لزيد إلا
(158) كذا في نسخة ح، وكتاب الفروق، وفي نسخة ع: لا يُزيل بالفعل الرباعى، وهو يستلزم ويقتضى أن تكون كلمة العقد مرفوعة على أنها فاعل به، بينما الكلمة مجرورة بحرف الجر، مما يتناسب الفعل يزول، أما المعنى فلا يكاد يختلف بينهما في شئ على ما يظهر،
(159)
كذا في نسختى ع، وح، وكتاب الفروق للقرافي، (وإباحتها بعد العقد). وفي نسخة ثالثة من هذا الترتيب للبقورى:(وتحريمها بعد العقد).
ولعل لكل كلمة وجها في المقصود والمعنى، فكَلمة إباحتها تعْنى إباحتها له بعد عقده عليها عقدا مستوفيا للشروط الشرعية المطلوبة فيه، يكفى في رفعها الطلاق الذي يستقل به الزوج، كلمة تحربمها تعنى تحريمها على نفسه بالطلاق بعد الإباحة لها بالعقد، فترتفع الإِباحة بالنسبة له. والله أعلم.
(160)
الطلاق أمر يستقل به الزوج كما جاء عند القرافي في وصفه للطلاق في هذه العبارة.
بِعقدٍ عمرو (161) عليها متوقف على إذنها ووليها وصدَاق، وهذه هي الصورة التى اعترضْنا بها أولا، فلَا اطراد. (162)
قال رحمه الله: ورابعها، الحربي مستباح الدَّم، تزول إباحته بالتأمين، وهو سبب لطيف. وإذ حرم دمه بالتامين لا يباحُ إلا بسبب قوي يزيل تلك الإِباحة من خروج علينا او ما أشبهه.
قلت: يمنع الخصم له تفاوتَ السببيْن، بل يعكس الأمر عليه، ثم قال (أي القرافي).: ونظائر هذه القاعدة في الشريعة كثيرة.
قلت: قد ظهر بما قلناه أن القاعدة لم تقرَّر بما ذكره، بل لو سلِمتْ له الصور من الاعتراض ما كانت هذه الصور لقلتها يكتهى فيها بتقرير هذه القاعدة، لا سيما مع ما أبديناه فيها، والله إعلم.
ثم قال شهاب الدين رحمه الله:
وقد رام الأصحاب التحنيث بجزء المحلوف عليه على هذه القاعدة، فإن الحنث خروج من الإباحة إلى الحرمة، ويكفى فيه أيْسَرُ سبب، فيحنث بجزء المحلوف عليه إذا حلف لا ياكل هذا الرغيف أكلَ منه لبابةً، لأنه على بر وإباحة
(161) كلمة عَمرو، موجودة في نسخة ع، وح، ساقطة في نسخة ثالثة، ولعل النسخة التي سقطت منها كلمة عمرو أنسب وأوضح، حتى يصح وصِف النكرة بالنكرة، إذ إضافة عقدٍ إلى عَمرو صيره معرفة بالإضافة، وكلمة متوقفٍ نكرة، والتطابقُ بين الوصف والوصوف في التعريف او التنكير مطلوب، وفي ذلك يقول ابن مالك رحمه الله في الفيته، في باب النعت:
ولْيُعطَ في التعريف والتنكير ما
…
لما تَلا كامرُر بقوم كُرَمَا.
(162)
قلت: من المقرر شرعا وفقها أن المطلقة طلقة رجعية تعتبَرُ في عصمة زوجها إلى حين انتهاء عدتها، فإذا انتهب عِدتها وبانت بينونة صغرى، فإن من حق زوجها إذا رغب في ذلك أن يسترجعها ويتزوجها من أخرى بعقد جديد مستوف لشروطه الشرعية، ولذلك فإباحة التزوج بها من جديد ثابتة وحاصلة لا يمنع منها إلا تزوج الرأد بزوج آخر بعد انتهاء عدتها من الأول، ولذلك فلعل اعتراض الشيخ البقوري رحمه الله غير وارد، وغير ثابت، فيبقى اطراد ما قاله القرافي في مسألة الأجنبية، هذا ما ظهر في المسألة. والله اعلم.
حتى يحنث، ولا يبرأ إذا كان على حِنث الا بأكْل الجميع إذا حلف لياكلنه، إذ هو خارج من إباحة إلى حرمة.
ثم قال: وهذا التخرج ضَعيفٌ، لأنَّهُم إن ادعَوْا أن القاعدة متفق عليها مُنِعَ لهم من حيث إن صورة النزاع يمنعها الخصم، وهو الشافعى، وإن ادعوا ثبوتها بهذه الصورة فهى قليلة ولو كانت كثيرة، فإن القاعدة الكلية لا تثبتُ بالمُثل الجزئية.
قلت: كلامه هذا يؤْذِنُ بأنه ما ارتضى التقرير الذى قرره أولا، ولكن ما ذكره من أن القاعدة الكلية لا تثْبتُ من حيث جزئيات هذه المسألة هى مثل الاستقراء، والاستقراءُ ليس بدليل في القطعيات، وهو دليل في الظنيات، والمسائل الفقهية ظنية لا قطعية.
ثم قال رحمه الله: وخرج - أيضا - بعض الأصحاب هذه المسألة على قاعدة الأمر والنهي فقال: إذا حلف ليفعلن فهو كالأمر، أو لَا يفعلُ فهو كالنهي، والنَّهى عن الشيئ نهْى عن أجزائه، فيكون فاعل الجزء مخالفا، وهذه الطريق ايضا ضعيفة، بل الأمر بالعكس، فالأمر بأربع ركعات أمر بكل كعة ركعةٍ، وإيجاب لها إيجابُ المجموع، والنهي عن خمس ركعات في الظهر مثلا ليس نهيا عن أربع ركعات فيها، وإنما الذي أشكل على قائل هذا، الفرق بين الجزء والجزئي. (163) نعم الأمر بالماهية
(163) هذه كلمات ذات دلالات ومصطلحات يذكرها علماء الأصول والمنطق ويعرضون لها ويشرحونها بكثير من الإيضاح والتفصيل في كتبهم.
فالجزء عندهم هو ما تركب منه ومن غير كُلٍّ، مثل الحيوان، فإنه جزء من حقيقة الانسان، المركبة من الحيوانية والناطقية، حيث يقال في ماهيته وتعريفه: هو الحيوان الناطق (اي المفكر) ويسمَّى ذلك الجزء جزءاً طبيعياً، وهناك الجزء المادي مثل السقف بالنسبة للبيت المركب منه ومن الأعمدة والجدران.
ويقابله الكلُّ، وهو المجموع المركب من الأجزاء، والحكم عليه أى على جملة أفراده، من حيث كونها مجموعة لا يستقل جزء منها بنفسه في تكوين الماهية، ولا بالحكم عليه، كقولنا: كلُّ بني تميم يحملون الصخرة العظيمة، اى مجموعهم وهيشتهم المجتمعة من الأفراد لا كل واحد على حدة.
الكلية كالأمر بالإِعتاق ليس أمرا بإعتاق العبد المعيَّن، والنَّهْي عن الماهية الكلية نهْيٌ عن جزئياتها. (164)
قلت: ولهذا المعنى يصح الأمر المخيرُ كالكفارة، ولا يصح النهي مع التخيير، وقد مضى تحريرُ هذه القاعدة.
قال شهاب الدين رحمه الله: وأحسَنُ ما رأيتُ في هذه المسألة طريقة الفرض والبناء، وهي هذه: كان الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمة الله يقول: هذه المسألة ثلاثة أقسام: المعطوفات، نحو والله لا كلمتُ زيداً وعمراً، والجموع والمستثنيات نحو لَا أكلتُ إلا رغيفة أو الرغيفتين، وأسماء الحقيقة الواحد المفردة كالرغيف، فهذه الأقسام الثلاثة، الخلاف فيها واحد، فعند الشافعى لا يَحنَثُ الا بالجميع، وعندنا بالبعض في المسائل الثلاث، فنقول:
أجمعنا على ما إذا قال الحالف: واللهِ لا كلمتُ زيداً ولا عَمراً بصيغة لا النافية أنه يحْنث بأحدهما. واتفق النحاة على أن لا إذا أعيدت في اللفظ أنها مؤكده لا منشئة نفياً، وشأن التأكيد أن تكون الأحكام الثابتة معه ثابتة قبله وإلا لم يكن مؤكداً، فوجب التحنيث في هذه الصورة، للاجماع عليه في الصورة التى ظهر فيها حرف لا مؤكدا. فإذا اتضح هذا في هذه الصورة وجَبَ القول بالحنث في الصورتين الأخريين، لأنه لَا قائِل بالفرق، إذ لو ثبت الحنث في بعضها دون
= أما اللفظ الكلى فهو ما أفهبم الاشتراك بين أفراد بحسب وضعه ودل عليه بمجرد تعلقه وتصوره مثل رجل وامرأة، ويقابله الجزئي، وهو ما دل على معنى مشخص لا يتناول غيره مثل زيد وخالد وعلى مثلا، موضوع لشخص معين.
(164)
علق ابن الشاط على كلام القرافي في هذه المسألة فقال: ما قاله في ذلك ليس بصحيح، فإنه كما أن الأمر با الشئ أمرٌ بأجزائه لضروز تحصيله، ولا يتأتى تحصيله إلا بتحصيل أجزائه، كذلك النهيى عن الشئ نهي عن أجزائه لضرورة تفويته، ولا يتأتي تفويته إلا بتفويت أجزائه، فإن أجزاء الشئ لا تكون أجزاء له حقيقة إلا بتقدير اجتماعها، وأما قبل ابن عها فليست بأجزاء له حقيقة، بل بضرب من المجاز، وهو انها صالحة لأن تكون اجزاء له إذا اجتمعت. كثيرا ما يجري هذا الوهم على كثير من الناس في مثل هذه المسألة، فيعتقد أن جزء الشيء لا يزال جزءاً له في حال اتصاله بالجزء الآخر، وفي حال انفصاله عن الجزء الآخر، ولا يشعر أن الجزء في حال الاتصال بالآخر ليس عيْن الجزء في حال الانفصال من الآخر
…
الخ. اهـ