المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القاعدة الثالثة والعشرون - ترتيب الفروق واختصارها - جـ ١

[البقوري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌ترجمة الإمام الفقيه أحمد بن ادريس القرافي (*) مؤلف كتاب الفروق في القواعد الفقهية:

- ‌ترجمة الفقيه الشيخ ابن الشاط

- ‌ترجمة الفقيه الشيخ محمد بن ابراهيم البقوري

- ‌القواعد الكلية بالنسبة إلى ما بعدها

- ‌القاعدة الأولى: في تقرير أنه الشريعة قامت برعاية المصلحة ودرء المفسدة

- ‌القاعدة الثانية: في أقسام المصلحة والمفسدة على الجملة

- ‌القاعدة الثالثة: في الحكم في اجتماع المصالح، وفي اجتماع المفاسد، وفي اجتماعهما

- ‌القاعدة الرابعة: في حكم المصالح والمفاسد المبنية على الظن

- ‌القاعدة الخامسة: فيما يترك من الصالح لسبب، وفيما يفعَل من المفاسد لسبب

- ‌القاعدة السادسة: في بيانه أنه ليس كل المصالح يؤمر بكسبها، ولا كل المفاسد ينهى عن فعلها

- ‌القاعدة السابعة: فيما به يعرف ترجيح المصلحة والمفسدة

- ‌القاعدة الثامنة: في أمر الثواب والعقاب، هل هو في التفاوت وعدمه مرتبط بالأعمال أو بالمصالح والمفاسد

- ‌القاعدة التاسعة: في تقرير أن المصالح والمفاسد لا يرجع شيء منها إلى الله جل وعلا

- ‌القاعدة العاشرة: في أن الصالح والمفاسد بحسب العبيد -كما قلنا- قائمة معتبرة في الشرع

- ‌القاعدة الحادية عشرة:

- ‌القاعدة الثانية عشرة:

- ‌القاعدة الثالثة عشرة:

- ‌القواعد النحوية وما يتعلق بها

- ‌القاعدة الأولى: في الشرط

- ‌القاعدة الثانيةفي تقرير مقتضى إن، ولو، الشرطيتين، بحسب الزمان

- ‌القاعدة الخامسة: قاعدة التشبيه

- ‌القاعدة السادسة

- ‌القاعدة السابعة

- ‌القاعدة الثامنة

- ‌القاعدة التاسعة:فيما به يفترق جزء العلة عن الشرط وفيما به يشتركان

- ‌القاعدة العاشرة:في بيان المانع

- ‌القاعدة الثانية عَشْرَة

- ‌القاعدة الثالثة عشرة

- ‌القاعدة الرابعة عشرة

- ‌القاعدة الحامسة عشر

- ‌القواعد الأصولية

- ‌القاعدة الخامسة:في تقرير أنه ما ليس بواجب لا يُجْرِئُ عن الواجب

- ‌القاعدة الثالثة والعشرون

- ‌المتعلق منها بالعموم والخصوص وما يناسبها:

- ‌المفهوم

- ‌الخبر

- ‌القاعدة الأولى:في الفرق بين الرواية والشهادة

- ‌قواعد العلل

- ‌الاجتهاد:

- ‌القواعد الفقهية

- ‌قواعد الصلاة

- ‌الصوم

- ‌الزكاة

- ‌الحج

- ‌الجهاد

- ‌الذكاة

- ‌الأطعمة

- ‌الأيمان

الفصل: ‌القاعدة الثالثة والعشرون

بعضِ لزم خلاف الِإجماع، فإن القائل قائلان: قائلٌ بالحِنث في الجميع وهو مالك ومن قال بقوله، وقائل بأنْ لَا حنث في الجميع وهو الشافعي ومن تبِعه، فهذه هى صورة الفرض والبناء. وضابطها أن يكون الانسانُ يُساعده الدليل في بعض صور النزاع دون بعضِها، فيُفرضُ الاستدلال في تلك الصورة التى يساعده الدليل عليها، فإذا تَمَّ له فيها الدليل بَنَى الْباقي على ذلك.

وردَّ شهاب الدين رحمه الله هذا أيضا بِسبب أن المُناظِر قائمٌ مقام إمامه المجتهد، فلَهُ - إذا قال خضمُه: لا يحنث عندي في الجميع - أن يقول: يحنث عندي في البعض دون البعض.

نعَم، هذه الطريقةُ تَتِم في المناظرة جدلا بعد تقرير المذاهب، أمَّا والمجتهدُ مُجْتهد (165) فلا يصح له الاعتماد على ذلك. (166)

‌القاعدة الثالثة والعشرون

(167)

ذكر شهاب الدين رحمه الله فرقين في كتابه:

(165) هكذا في النسختين باسم الفاعل، والذي في الفروق يجتهد بالفعل المضارع.

والمعنى واحد، واسم الفاعل حقيقة في الحال، والفعل المضارع يدل على التجدد والاستمرار.

(166)

وقد اعتبر القرافي طريقة الفرض والبناء ضعيفة بسبب أن الناظر قائم مقام إمامه المجتهد، والمجتهدُ لا يجوز له أن يعتمد على قولنا: لا قائل بالفرق (اي بين المسائل التي يساعد فيها الدليل والمسائل التى لا يساعده فيها) في مسائل الحلف باليمين والحنث فيها، وبين الصورة المجمع على الحنث فيها والصور المختلف فيها) فليتأمل في مسائل هذه القاعدق الثانية والعشرين من اولها إلى اخرها. ولذلكم قال القرافي في آخر الجملة والفقرة عند قوله: والمجتهد يجتهد فلا يصح له الاعتماد على ذلك قال: وبالجملة فالمسألة عندنا مشكلة إشكالا قويا، فتأمله.

وعقب ابن الشاط على هذا الْكلام بقوله: الإشكال على المذهب كما قال بناء على ما قرَّر. ولقائل أن يقول: إن مُدرك مالك رحمه الله الاحتياط للأيمان فأخذ بالْأشد، ومُدْرك الشافعي رحمه الله حَملُها على مقتضاها المتيقن فأخذ بالأخف، فلا إشكال، والله أعلم وليتأمل ما جاء في هذه القاعدة من صورة اليمين واحنث فيها لفهم كلام القرافي وكلام ابن الشاط رحمهما الله.

(167)

هى موضوع الفرق العاشر والمائة بين قاعدة ما تصحح. النيابة فيها وقاعدة ما لا تصح النيابة فيه عن المكلف. جـ 2 ص 204

وانظر الفرق الحادي والسبعين والمائة بين قاعدة ما يجزئ فيه فعل غير المكلف عنه وبين قاعدة ما لا يجزئ فيه فعل الغير عنه. جـ 3. ص 185.

ص: 193

الفرق العاشر والمائة بين قاعدة ما تَصح فيه النيابة وبين ما لا تَصح، والفرق الثاني: الحادي والسَّبْعين والمائة بين قاعدة ما يجزئ فيه فعل غير المكلَّف عنه وبين قاعدة مالا يجزئ فيه فعل الغير عنه، ورأيتهما شيئاً واحداً، (168) فلنقرر مقتضاهما معاً في هذه القاعدة، فقال رحمه الله:

الأفعال المأمور بها ثلاثة أقسام (169):

(1)

قسم اتفق الناس على صحة فعل غير المأمور به عن المأمور، وذلك ما تحصُلُ مصْلحتُهُ مع قطع النظر عن فاعله، كرد الغصوب، وأداء الديون.

2) وقسْم اتفِقَ على عدم إجزاء ذلك، وذلك ما تتوقف مصلحته على المأمور به، كالإيمان، والتوحيد، فإن مصلحتهما الخشُوعُ والإجلال، وإنما يحصل من جهةِ فاعلهما.

= وقد ذكر ابن الشاط رحمه الله كلاما هاما ونفيسا في موضوع ما تصح فيه النيابة عن المكلف ومالا تصح، رأيت أن أنقله وأضيفه إلى كلام القرافي وكلام البقوري رحمهم الله جميعا، فقال معلقا على كلام القرافي هنا:

صحة النيابة في الافعال كلها: القلبية وغيرها، جائز عقلا، لكن الشرع حكم بصحة النيابة في بعضها دون بعض، فأما الاعمال القلبية فلا أعلم خلافاً في عدم صحة النيابة فيها إلا ما كان من النية كإحجاح الصبي وفي سائر نيات الأعمال التي تصح النيابة فيها على حسب الخلاف في ذلك أيضاً، وأما غير القلبية، فالمالية المحضة لا أعلم خلافا في صحة النيابة فيها، وأما غير المالية المحضة فقد حكى بعضهم الإجماع في عدم صحتها في الصلاة، والخلاف فيما عداها، وحكى بعضهم الخلاف في الصلاة أيضا.

وما قاله شهاب الدين وجعله ضابطا للوفاق والخلاف، من مراعاة كون مصلحة ذلك الأمر يُشْتَرط فيها حصولها من النائب كحصولها من المنوب عنه، وحينئذ تصح، ينتقض بالصوم، فقد صح الحديث بجواز النيابة فيه، وما رجح به مذهب مالك في الحج ظاهر، والله أعلم اهـ.

(168)

ملاحظة الشيخ البقوري على هذين الفرقين بأنهما شيء واحد، هي نفس ملاحظة الفقيه ابن الشاط حيث قال في مطلع الفرق 171:

إن ما ذكر القرافي في هذا الفرق هو بعينه ما ذكره في الفرق قبله 110. عمر أنه في الفرق الواحد والسبعين والمائة ذكر مسائل لم يذكرها في الفرق العاشر والمائة، كما نه ذكر بعد هذا في الفرق السادس عشر والمائيين (216) قاعدة ما يجوز التوكيل فيه وقاعدة ما لا يجوز التوكيل فيه، وهو قريب منه أو هو، هُوَ.

(169)

تقسيم الأفعال المأمور بها إلى ثلاثة أقسام، وما جاء بعدها من المسائل هي مما ذكره القرافي في الفرق الواحد والسبعين والمائة، فليرجع اليه من أراد التوسع في مسائله.

ص: 194

3) وقسم يختلف فيه (170)، وهذا المختلف فيه نذكر فيه أرْبَعَ مسائل:

المسألة الأولى: الله؛ إنْ أخرجها أحَدٌ عن أحد بغير علم صاحبها، إن كان إماماً وأخذها كَرْها أجزأت عند مالك والشافعي، اعتمادا على فعل الصّديق رضى الله عنه (171)، لِظاهر قوله تعالى:"خذْ من أموالهم صدقةً"(172) وأبو حنيفة قال: لا يَاخذها ولكن يحبسه، وهذا لأنها تعبّد، تحتاج إلى نية، ومصلحتها حاصلة في نفس المعطي، لها فلا نيابَة، وإن كان غير إمام فالأصح عندنا أنها لا تجزئ، لأنها تفتقر إلى نية، ولكنه وقع في الأضحية أن صديقا لو ذبح لصديقه أجزأت إن كانت الصداقة متمكنة بينهما، وعلى هذا فالزكاة كذلك، إذ هي كلُّها تعبُّدِيَّة، ولكنه أجازها فيها كلها (173) وكذلك هنا.

قلت: وفيه - عن مالك - خروج (174) إلى قول من يقول بجواز إخراجها مطلقا ولا يحتاج إلى نية، لأن المصلحة المطلوبة فيها انتفاع المساكين، فهي كالدين يؤدى. والصحيح أنه لا يجوز، لأنه وإن كانت المصلحة في الزكاة من

(170) في نسخة ح ط: مختلف فيه (بصيغة اسم المفعول).

(171)

إشارة إلى محاربة أبى بكر لأهل الردة الذين كان منهم من ارتد عن دينه بالمرة ومنهم من امنتع عن أداء الزكاة وأراد أن يعطلها، فقاتلهم أبو بكر ضي الله، بجيوش المسلمين، وقال في ذلك لعمر ابن الخطاب رضى الله عنْهُ قولته المشهورة: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عناقاً (أى شاة) كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها، قال عمر: فما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أقوله بكر للقتال، فَعَلمتُ أنه الحق، وتفصيل حروب الردة مذكور في كتب التاريخ الاسلامى.

(172)

سورة التوبة: الآية 103.

(173)

ولكنه أجازها فيها هنا. وفي نسخة أخرى، إذ هى كلها تعبد بها، ولكن أجازها فيها فكذلك هنا.

(174)

كنا في نسخة ح، ونسخة اخرى: جنوح (أيْ ميل)، ومنه الآية الكريمة: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله

" وكلمة جنوح هنا أكثر استعمالا في مثل هذه المسائل الفقهية، وفي نسخة ع خروج (اي توجه وخذ بالقول). وكلمة مطلقا، تعنى جواز إخراجها من غير من وجبت عليه، سواء أكان الخرج لها بالنيابة تجمعه صداقة حميمة، وعلاقة وثيقة المخرج عنه أولا، اذ كلمة الاطلاق تفسر دائما بما قبلها أو بما ياتي بعدها من الكلام.

ص: 195

حيث سدُّ خَلّةِ الفقير، ففيها الصلحة من حيث المعطِي قوله، وذلك زوال رذيلَةِ البخل، وغيبر ذلك مما يذكر فيها إنما يحصل بإعطائها من قبلهِ وبعلمه (175).

والمسألة الثانية: الحج عن الغير منعه مالك رضي الله عنه، وجوَّزه الشافعي. (176) رضي الله عنه. فمالك غلب عليه النظر إلى أنها عبادة غير معقولة المعنى، فمصلحتُها من حيث فعْلُ الذى وجبتْ عليه، والمالُ عنده عارضٌ، كما يَعرض لمن تجب عليه الجمعة، ودارُهُ بعيدَة، فَيكتري دابةً لذلك.

والشافعي رأى مسألة الجمعة ليست كالحج، لأن احتياج الحج للمال كثير، والجمعة ليست كذلك، وأيضا فمعَهُ قولُه صلى الله عليه وسلم لمن قال له:"ألهذا حج؟ فقال: نَعَم، ولك أجر"(177)

المسألة الثالثة: الصوم عن الميت إذا فرَّط فيه، جوَّزه اُحمد والشافعي، ولم يجوزه مالك رحمه الله، لقوله تعالى:"وأن ليس للانسان إلا ما سعى". (178)

قلت: هذه المسألة ليست من القسم الثالث، وإنما هي قوله من القسم الذي، المصلحةُ فيه لا تكون إلا من حيث فعل الكلف، كالايمان والتوحيد والصلاة، فكان حقها أن لا تجوزَ، لتلك القاعدة، لكنه جاء الخلاف فيها بعد

(175) في نسخة ح: وفعله، والأولى أظهر، لأن المطلوب وهو نية إخراجها، وإذنه فيه حاصل بعلمه، وليس حينئذ من اللازم والضروري اخراجه لها بنفسه وفعله الشخصى.

(176)

في نسخة ثالثة: وأجازه ابو حنيفة والشافعى رحمهما الله. والذي في الفروق، منعه مالك، وجوزه الشافعى، رضى الله عنهما، وهو الأظهر من عودة الضمير عليهما معا.

(177)

ونصه عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال: رفعَتْ امرأة صبياً، فقالت: يا رسولَ الله، ألِهذا حج؟ قال: نعَمْ، ولك أجر، رواه كل من الإِمام مسلم والإمام الترمذي رحمهما الله.

وتبقى الإِشارة إلى أن حج الصبي قوله يكون نافلة، ولا يُغنى ولا يجزئ عن الحجة الفريضة، لأنه حين الحج في الصبا لم يكن مكلفا ولا مطالبا بالحج على سبيل الفرض والوجوب.

(178)

سورة النجم، الآية 39، ولقياس الصوم على الصلاة التي قوله لا تجوز فيها النيابة بالإِجماع.

ص: 196

ذلك لظاهر الآية العامة، وللحديث الصحيح في ذلك، (179) والرجوع للحديث أوْلَى، فإنه خاصٌّ والآية عامة، فهو جمعٌ بين الدليلين، الا أنه يتقَوَّى عموم الآية بهذه القاعدة، والله أعلم.

المسألة الرابعة: عتق الانسان عن غيره. قال صاحب الجواهر (180): في العتق عن الغير ثلاثة أقوال: الإجزاء، وهو المشهور، قالهُ ابن القاسم، وعَدَمُ الإجزاء قاله اشهبُ، وقال عبد الملك: انْ أذِن في العتق أجرأ عنه، وإلا فلا، وقاله الشافعي، وقال اللخمي: فَرَّق بعْض الأصحاب بيْن عتق الانسان عن غيره وبين دفع الزكاة عنه فلا يجزئ في الثاني، لأخها ليسَت في الذمة، والكفارة في الذمة، قال: والحقُّ الإجزاء فيهما، لأنهما كالدَّيْن.

قال شهاب الدين رحمه الله: وهذه المسألة دائرةْ بين قواعد:

القاعدة الأولى: قاعدة التقادير الشرعية وهي إعطاء المَوْجود حكْمَ المعدوم، كإلغاء الغرر القليل، وإعطاءُ المعدُوم حكم الوجود، كتوريث الورثة دِية الخطأ. (181)

القاعدة الثانية: أن الهبة إذا لم يتصل بها قبض بطلت.

القاعدة الثالثة: أن الكفارة عبادة يُشترَط فيها النية وهو المشهور عندنا.

القاعدة الرابعة: كلُّ من عمل لغيره عملا أو أوصَلَ نفعا لغيره من مال أو غيره، بأمره أو بغير أمره نفَذَ ذلك، فإن كان متبرعا لم يرجع به، وإن كان غيْرَ

(179) ونصه: من لم يَصُمْ صام عنه وليه.

(180)

هو أبو محمد محمد الله بن نجم الدين بن شاس الفقيه المالكي المصري المتوفى عام 1616 هـ مصنف كتاب "الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة" وهو اكثر الكتب فوائد في الفروع.

(181)

وذلك بتقدير اللك في الدية مقدَّما قبل زهوق الروح في المقتول خطأ حتى يصِحُّ فيها الارث فإنها لا تجبُ الا بالزهوق، وحينئذ لا يَقبَل المحل المِلك، والميراث فرع ملك الموروث، فيقدر الشارع المِلك متقدما قبل الزهوق بالزمن الفرد حتى يصح الإرث، كتقدير النية في اول العبادات ممتدة إلى آخرها، كتقدير الإيمان في حق النائم الغافل حتى تعصم دماؤهم وأموالهم إلخ ..

ص: 197

متبرع وهو منفعة، فلهُ أجرةُ مثله، بشرط أن يكون المعمول له لابد له من عمل ذلك بالاستئجار، أما ان كان يفعله بنفسه أو بغلامه فلا شيء عليه، وإن كان مالاً فله ماله، والقولُ في ذلك قول العامل في عدم التبرع، فهذه قاعدة مالك، نص عليها ابن أبي زيد رحمه الله في النوادر، وصاحب الجواهر في كتاب الاجارات.

وقال الشافعى: الأصل في فعل الغير التبرع، وإذا لم ياذن المدفوع عنه بلسان المقال لا يرجع عليه بشئ، ولم يعتبر لسان الحال كما اعتره مالك. فمالك يقول: المعتِقُ قام عن المعتَقِ عنه بواجب وما شأنه أن يفعله، ويقدَّر انتقال مِلكه عنه للمعتَق عنه قبل صدُور العِتق بالزَمنِ الفرد حتى يثْبت الولاءُ وتَبْرأ ذمَّتُه من الكفارة.

ويشكل عليه بقاعدة النيَّة فإنه يشتزطها وهى متعذرة، فيقيسها على العتق عن الميت، ويفرق الخصم بأن الميت تعذر عليه ذلك الخير، والحي ليس كذلك، فناسب الميتَ التوسعةُ دون الحي، وله القياس على أخْذ الزكاة منه كرها، ويفرق أيضا بالضرورة ثمة، وبأن الزكاة مصلحة عامة وهذه خاصة.

وأشهب يقول: إلاذْنُ من باب الكلام لا من باب المقاصد، فلم يَعتبر تفريق عبد الملك، (182) ورأى أن عملا بلا نية لا يصح، وأبو حنيفة أجاز ذلك بالجُعل (183) لا بالهِبَة، لأنها لا تتم الا بالقبض (184) ولا يحتاجُ حينئذ إلى قصد.

(182) أى في التفريق بين وجود الإذن من مالك الرقبة في العتق فيجزئ ذلك عنه، وبين عدم إذنه فلا يجزئ العتق عنه، كما سبق في بداية الكلام على مسألة العتق عن الغير وحكاية الاقوال الثلاثة فيه.

(183)

الجعل بضم الجِيم كما يعرفه الفقهاء هو: الإجارة على منفعة يضمن المجعوُل له حصولها، كحفر بئر، وكرد آبِق وشاردٍ من الأنعام أو الإِنسان الخ .. وهو جائز، ويتميز عن عقد الاجارة بوجوه نص عليها الفقهاء في محيب الفقه المختلفة (فليرجع اليها من اراد التوسع في ذلك).

(184)

كذا في نسختى ع، وح، وفي نسخة ثالثة: بالجواز (بدل القبض) وما في النسختين الأوليين أظهر وأصوب، لأن الفقهاء ينصون على أن الهبة تتم بالحوز، وهو القبض.

ص: 198

قلت: قد مضى الإشكال الوارد على القاعدة المسماة بقاعدة التقدير، وذلك مِمَّا يزيد المسألةَ إشكالا، والله أعلمُ (185).

قلت: ولشهاب الدين رحمه الله قاعدة أخرى، وهى الفرق الثاني والسبعون والمائة بين قاعدة ما يصل إلى اليت وقاعدة ما لا يصل إليه، رأيت ذِكر هذا الفرق هنا بإثر هذا، وإلحاقَه بهذه القاعدة. (186).

قال شهاب الدين رحمه الله:

القُربات ثلاثة اقسام:

1) قسْم حجَّر اللهُ على عباده في ثوابه، ولم يجعل لهُم نَقلَه لغيرهم، كالإيمان والتوحيد، فلو أراد أحدٌ أن يهبَ قربية الكافر إيمانَه ليدخل الجنة دونه لم يكن له ذلك، بل إنْ كفَرَ اروىُّ هلَكَا معَاً.

قلت: لا شك أن الإيمان الحاصل عند زيد لا يقبل الهِبة بأن يحصل لزيد الكافر، وكلامُنا ليس في ذلك، إنما كلامنا في أن يستقر الايمان لزيد، وما

(185) قال القرافي رحمه الله بعد كلامه على القواعد الأربعة التي قوله ذكرها في مسألة العتق هذه ما نصه: فهذه القواعد هى سر هذه المسألة، وهي مشكلة، وأشكَلُ منها ما نصَّ عليه عبد الحق أنه يجوز العتق عن الغير تطوعا بغير اذنه، وهذا أشكل من الواجب، لأن الواجب فيه دلالة على الحال دون المقال، وها هنا لا دلالة حال ولا مقال فلا يتجه، ويكون أبعد من العتق عن الواجب. ومن يشترط الإذن يقول: الإذن تضَمن الوكالة في نقل ملكه للآذن وعتقه عنه بعد انتقال الملك، ويكون المأذون وكيلا في الأمرين ومتوليا لطرفي العقد. والموجب لهذه التقادير كلها أنه لا يصح هذا التصرف إلا بها، وما تعذر تصحيح الكلام إلا به وجب المصير إليه، صونا للكلام عن الإلغاء. فهذا تحرير هذا الفرق ومسائله.

وقد عقب عليه ابن الشاط رحمه الله بقوله: لا إشكال في ذلك، بناء على قاعدة جواز النيابة في الأمور المالية، عبادة كانت أو غيرها، ولا يحتاج فيها إلى الإذن ولا إلى تقدير الملك والوكالة، والله أعلم.

(186)

هذا الفرق المذكور الموفي الفرق 172 جـ 3. ص 192، قال عنه ابن الشاط رحمه الله. "ما قاله القرافي في هذا الفرق صحيح". فليتأمل ما اورده فيه وذكره بتفصيل واختصره ولخصه تلميذه البقورقوله، رحمهما الله، ورحم كافة علماء المسلمين، وسائر المؤمنين، فإن كلامهما فيه نافع ومفيد إن شاء الله، ومزيل لما يستشكله بعض الناس في هذا الموضوع.

ص: 199

يعطاه عليه من ثواب. خرج عنه للكافر، فهذا ليس يمتنع عقلا، ولكنه لا أحد ينقل في هذا أن الله أذِنَ فيه.

قال: وقسم اتفق الناس على أن الله تعالى أذن في نقل ثوابه للميت، وذلك القربات المالية، كالصدقة والعتق.

وقسم اختلِف فيه، وهو الصيام والحج وقراءة القرآن، فلا يصل من ذلك للميتِ شئ عند مالك والشافعى. وقال أبو حنيفة وابن حنبل: يصل ثوابُ القراءة للميت.

قلت: قد مضى أن الشافعى رُوى عنه جوازُ الصوم، وابنُ حنبل ذكره عنه، فليس يزيد في النقل - ها هنا - عنه القراءة، أن الصوم بخلاف القراءة. والخلاف في هذه المسألة يرجع إلى المسألة الأولى، وهي أن الاعمال البدنية لا ينوب فيها أحد عن أحد، لأن الصلحة فيها للعامل، بخلاف الماليات وما يشبهها مما المصلحة فيها لا تتوقف على العامل، كرد الغصوب، والثوابُ مرتَّب على الأعمال، فحيث كانت المصلحة تحصل دون العامل وصحت النيابة، صح انتقال الثواب.

قال شهاب الدين رحمه الله:

واحتج ابن حنبل بالقياس على الدعاء فإنه مجمَعٌ عليه، وبظاهر قوله عليه والسلام:"صلِّ لهما مع صلاتك، وصُمْ لهما مع صيامك"، يعني أبويه (187)

(187) الصلاة لغةً هي الدعاء، وشرعاً هي العبادة الخصوصة على الكيفية الخصوصة والمشروعة، وهي عبادة وفريضة عينية على كل مسلم ومسلمة، وهذا الحديث لم أطَّلعْ بعد على من رواه وأخرجه. وبمعنى الدعاء فسر المفسرون قول الله تعالى خطابا لنبيه الكريم في شأن أخذ الزكاة من المؤمنين:"خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم"(اي أدع لهم)"إن صلواتك سكَن لهم"، اى إن دعاءك لهم رحمة وسكينة وطمانينة يجدونها في نفوسهم وقلوبهم.

وللنسائي حديث يقول: "لا يُصَل أحد عن أحد، ولا يصم أحد عن احد"، وهو مستند ودليل من أدلة من يري عدم صحة الصلاة والصيام عن الميت، والمسألة خلافية بين الائمة والصلاة على الخصوص هي محل إجماع في عدم صحة النيابة فيها عن الغير.

ص: 200

ثم قال: والجواب عن الأول أن القياس على الدعاء لا يستقيم، فإن الدعاء فيه أمران: أحدهما متعلقُه الذي هو مدلوله، نحو المغفرة، في قولهم: اللهم اغفر له، والَاخر ثوابُه، فالأول هو الذى يرجى حصوله للميت، ولا يَحْصُلُ إلا لَه، فإنه لم يدْعُ لنفسه. والثاني - وهو الثوابُ على الدعاء فهو للداعي فقط، وليس للميت فيه شيء.

وأمَّا الحديث، فنقول: إنه خاصٌّ بذلك الشخص، أو نعارضه بمثل قوله تعالى:"وأنْ ليس للإنسان إلَّا ما سَعى"، وبجميع ما تقدَّم من أن الأصل عدم الانتقال. (188).

وقال بعضهم: إذا قِرئ على القبر حصل للميت أجْرُ المستمِع، قال: وهذا ضعيف من حيث إن الموتى انقطع عملهم، وهذا من باب ترتيب الثواب على العمل.

(188) وفي نسخة ح: ومن أن الأصل، وهي أظهر أوضح، ومتناسبة مع عبارة القرافي في الفروق وهي: "وأما الحديث فإما أن نجعله خاصا بذلك الشخص أو نعارضه بما تقدم من الأدلة، ويعضدها بأنها على وفق الأصل، أن الأصل عدم الانتقال.

والذي انتهى اليه الإمام القرافي وقاله في هذا الشأن هو قوله:

والذي يتجه أن يقال ولا يقع فيه خلاف، أنه يحصل لهم بركة القرآن لا ثوابها، كما تحصل لهم بركة الرجل الصالح يدفن عندهم أو يدفنون عنده. فإن البركة لا تتوقف على الامر (اى الامر بحصول العمل الذي تنتج عنه) ثم زاد قائلا: وهذه المسألة وإن كانت مختلفا فيها، فينبغى للانسان أن لا يهملهما، فلعل الحق هو الوصول إلى الموتى، (أي وصول ثواب قرآة القرآن اليهم)، فإن هذه الامور مغيبة عنا، وليس الخلاف في حكم شرعي، إنما هو في أمر واقع، هل هو كذلك أم لا، كذلك التهليل الذى عادة الناس يعملونه اليوم ينبغى أن يعمل، ويعتمد في ذلك على فضل الله تعالى وما ييسره، ويلتمس فضل الله بكل سبب ممكن، ومن الله الجود والاحسان، هذا هو اللائق بالعبد.

وهذا التوجه والاقتناع به في هذه المسألة عند القرافي هو الذي سار عليه تلميذه الشيخ البقورى، ويظهر ترجيحه له من خلال كلامه حيث قال:"بل الظاهر ما قاله احمد بن حنبل"(اى في انتفاع الميت بقراءة القرآن وثوابه من الحي مثلما ينتفع بالدعا والصدقة).

والملاحظ في هذا الموضوع أن العلامة المحقق قاسم ابن الشاط رحمه الله لم يعلق عليه بشئ من تحليقه وتحقيقه المعتاد في أغلبية الفروق. ولعل سكوته عنه يفهم منه التوقف في الامر، وصواب وصحة كلام القرافي في هذا الفرق، والله أعلم.

ص: 201

قلت: بل الظاهر مَا قاله ابن حنبل، فإنه إذا كانت الصدقة عن الميت ينتفع بها الميت، والدعاء له ينتفع به، وليست تلك الأعمال بوجهٍ منسوبةً للميت، وإنما هي للحى، ولكنه مع ذلك سَرَى الثواب للميت، وهل سَرَى الثواب له ولا بقى للحيِّ منه شئ، أو سَرَى وبقي للحي، فإن الله كريم، وخزائنه لا تفنى. فإذا رأى جوادًا قد جاد على فقير وأعطاه ما بيده زاد قربة إلى الله، (189) فأمضى فعله، ولم ينقصه من ثوابه شيئاً لإمداد الله له؟ الأمر محتمل، والاجماع منعقدٌ على الدعاءِ أنَّهُ ينفع، وهو عمل ليس للمدعوّ له، فكذلك سائر الأعمال.

ثم قوله: المغفرة هي التى حصلت له فقط، ولم تحصل للداعي، ليس كذلك، بل صحَّت المغفرة للمدعوّ له، وللداعى بقول المَلَك مجيبًا للداعي:"ولَكَ مِثلُهُ"، هكذا في الحديث الصحيح. وقولُ المَلَكِ، يحتمل أن يكون دعاءً ويحتمل أن يكون خبرًا، كيف كان فللداعى. وإذا كان الاشتراك بينهُما في المغفرة هكذا فكذلك إذا قرأ قاصدًا إدخال الراحة عليه بل يجري هذا في كل عمل حتى الإيمان؛ لأنا قد قلنا: ليس المراد إلا إعطاء الثواب، وإذا كان الثواب يجوز إعطاؤه في وجه، جاز إعطاؤه في كل وجه، لولا أن الكافر جاء أنه لا يغْفَرُ له إذا مات على الكفر. (190)

ثم مما يقوى هذه القاعدة، الحديث الصحيح في الصوم، حيث قال عليه الصلاة والسلام:"أرأيت لو كان على أبيك دين أكنتَ تقضيه؟ قال: نعم، قال فدَين الله أحقُّ أن يُقضَى" وأمره بالصوم عنه (191)، وكذلك هذا الحديث الذي فيه الصلاة والصوم، والله أعلم.

(189) في نسخة خ: قُرْبُهُ (بالهاء)

(190)

مصداقا لقول الله تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما".

(191)

ونص الحديث رواه الشيخان وغيرهما من أصحاب السنن عن عبد الله ابن عباس رضى الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رسول الله، إن امِّي ماتت وعليها صوم شهر أفاقضيه عنها؟ فقال: لو كان على أمك دين أكنت قاضِيَهُ عنها؟ قال: نعم. قال: "فدين الله أحق أن يقضى" .. والملاحظ أن الرَّجل في هذا الحديث تحدث عن أمه، ولعل هناك رواية فيها إن أبي مات وعليه صوم شهر

الخ. وقد سبق ذكر حديث عند البقوري، ينص على الأمر بالصلاة والصيام عن الوالدين، وقد بينت في التعليق أن المراد بالصلاة الدعاء، وأن هناك حديثا يعارض الحديث الذي يرغب في الصلاة والصيام عن الوالدين، فليراجع وليصحح، وليحقق ذلك.

ص: 202

قلت: ويلحق ايضا هذه القاعدة فرق آخر، ذكره شهاب الدين، وهو الحادى والمائة (192) بين قاعدة غير المكلف لا يُعَذب بِفِعْل المكلف، وبين قاعدة البكاء على الميت يعذَّبُ به الميت، وإنما ألحقتها بهذه القاعدة، لأن الكلام في فعل أحدٍ هل يكون فعلاً لغيره، أعمُّ من أن يكون خيرًا، وذلك ما سبق الكلام عليه، وبقى أن يكون شَرًّا، فينبغى أن يكون الكلام عليه ها هنا.

قال شهاب الدين رحمه الله: جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الميتَ لَيُعذَّب ببكاء الحى عليه"، والحديث صحيح، إذ هو مذكور في الصحاح، فأشكل ذلك من جهة أن الإنسان لا يُواخَذ بذنب غيره، وهذه القاعدة متفق عليها لقوله تعالى:"ولا تزِر وازرةٌ وِزْر أخرى"، (193) ولا يسري عقاب لأحدٍ من ذنب غيره، وليست هذه كما في ضده الذي هو الخيْرُ، فعَدَل الناس إلى النظر في الحديث (194).

وأما القاعدة فمتفق عليها، فمن الناس من طرق الوهْمَ للمحَدِث، وذلك أن عائشة رضى الله عنها، قالت: وَهِم أبو عبد الرحمان، انما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودية يبكى عليها أهلها، فقال عليه السلام: انكم لتبكون عليها وإنها لتُعذَّبُ.

قلت: وهذا لا يتمشى ولا يستقر جوابًا، فإنه رواه جماعة، وهم يقولون: ان الميت ليُعَذّب ببكاء الحى، وقال ناس آخرون: إنما هذا إذا أوصى بالنياحة.

(192) انظر هذا الفرق في الجزء الثاني من كتاب الفروق للقرافي، ص 176،

(193)

سورة الإسراء: الآية 15.

(194)

ومن ذلك ما جاء عن عائشة أم المومنين رضى الله عنها، وقد ذكر لها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إن الميت ليعذب ببكاءِ الحي، أو ببكاء أهله عليه، فقالت: رحم الله عمر، والله ما حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكن قال:"إن الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه، وقالت: حسبكم القرآن"، أي يكفيكم القرآن في هذه المسألة:"ولا تزر وازرة وزْرَ أخْرى" وذلك ما ذكره الشيخ البقورى رحمه الله برواية أخرى.

ص: 203

قلت: ويبعدُ هذا من حيث الإطلاق الوارد فيه، وهذا التقييد خلاف الأَصْل، وقال ناسٌ: إنهم كانوا يذكرون في النياحة مفاخر الميت من حيث جُرأتُه ومَهابته، وهى فسوق في الشريعة كالقتل والغصب.

قال شهاب الدين رحمه الله:

وهذه الأجوبة اجتمعت في أنْ ردت الحديثَ إلى مقتضى القاعدة، ثم قال: والفرق في التحقيق، إن أبقينا اللفظ على ظاهره، ما وقع لبعض العلماء، وذكر حكايته عن امرأة مات لها ولدٌ فبكته وأطالت البكاء عليه، ثم سافرت من بلدها، فجآءت المقبرة التى بالبلد الذي كانت فيه، وبكت فنامَتْ، ورأت الموتى قد قاموا إليها، وقالوا لها: أين ولدُكِ يَا هذه، ليس هو عندنا، قد آذيتنا، فخبطوها، فقامت وهي متألمة.

قال: فدلَّت هذه الحكاية على أن الأرواح تتألم من المؤلمات، وتفرح باللذات في البرزخ كما كانت في الدنيا، وهو ظاهر، وبذلك (195) تعَذَّبُ الكفار في قبورها، فالأوضاعُ البشرية في الأرواح لم تتغير، وإنما كانت في مَسْكن (196) فارقته فقط، وبقيت على حالها في أوضاعها. ولما كان العويل والبكاء في الحياة تتأذَّى به الأرواح وتنقبِضُ كانت بعد الموت كذلكَ تَتأذَّى به، كان عليها أو على غيرها، وهو عليها أشد نكايةً، لأنها هى المصابة حينئذ. وقد ورد أن الموتى يفرحون بالزيارات، ويتألمون لانقطاعها، ويكون الفرق بين القاعدتين على هذا أن الإنسان لا يعذب بفعل غيره (197)، أي عذاب الآخرة الذي هو عذاب الذنوب، والبكاء ليس البكاء الذي يكون به هو عذاب الآخر، بل المراد الألم الجبِلِّي، (198) الذي إذا

(195) عبارة القرافي: وكذلك، ولعلها أظهر وأبين بالتشبيه.

(196)

في نسخة ح: سَكَن، والذي عند القرافي: مسكن، وهما بمعنى واحد.

(197)

أي الفرق السابق بين قاعدة غير المكلف لا يعذب بفعل المكلف، وبين قاعدة البكاء على الميت يعذب به الميتُ.

(198)

عبارة القرافي: "والبكاء عذاب ليس عذاب الآخرة الذي هو عذاب الذنوب، المتوعَّدُ به من قبل صاحب الشرع، بل معناه الألم الجبلِّى الذي إذا وقع في الوجود قد يكون رحمة من الله الخ

وهي عبارة تبدو أظهر وأوضح.

ص: 204

وقع في الوجود قد يكون رحمة من الله تعالى، كمن يبتليه الله بالألم لرفع درجاته كما يفعل في دار الدنيا بالأمثلِ فالأمْثَلِ، فهم أشد بلاءً (199)، والله أعلم.

قلت: ولْنذكر ها هنا فرقًا آخر، وهو المائة في كتاب شهاب الدين، (200) إذ هو مسألة من هذه المسائل فنقول:

النُّواح جاء فيه التحريم، والمراثي فيها الإباحة. والفرق بينهما حتى اختلفا في الحكم أن النائحة، الغالبُ عليها عدم الرضى بالقضاء، ونِسبةُ البارى تعالى إلى الجوْر، فلذلك حرِّمت النياحة، حتى انها لتذكر شيئاً من محاسن الميت حال لطمها لخدها، فكان ذلك مقويا لما قلناه، المراثى تَعْرى عن ذلك، فلوْ وجد من المرائي شيء عن ذلك لحرمت ايضا، وهكذا قال عز الدين ابن عبد السلام، وسجن شاعرًا سمع ذلك منه مرَّةً.

(199) إشارة إلى الحديث النبوي الشريف المروى عن مُصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمْثَلُ"، أي المقارب لهم في قوةِ الإيمان والفضل وصلاح الأعمال، رواه ابن ماجه والحاكم رحمهما الله.

ومثله رواية أبى سعيد رضى الله عنه قال: يا رسول الله، من أشدُّ الناس بلاءً؟ قال الانبياءُ، قال: ثمْ من؟ قال: العلماء، قال: ثم من؟ قال: الصالحون

رواه ابن ماجه والحاكم رحمهما الله.

(200)

هو الفرق المائة بين قاعدة النواح حرام وبين قاعدة المرائي مباحة" جـ 2 ص 172. قال عنه الإِمام القرافي رحمه الله في أوله: إعْلم أنه قد اشتهر بين الناس تحريم النواح وتفسيق النائحة دون تفسيق الشعراء الذين يرثُون الموتى من الملوك والأعيان، وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله يقول: إن بعض المراثي حرام كالنواح، ثم ذكر القرافي تحرير القول فيهما وضبطهما، مما اختصوه هنا ولخصه البقوري في هذه المسألة رحمهم الله جميعا.

ص: 205

القاعدة الرابعة والعشرون (201):

نقرر فيها الفرق بين قاعدة ثبوت الحكم في المشترك وبين قاعدة النهي عن المشترك (202)، فنقول:

قد مضى أن النهى مع التخيير لا يجتمعان، وإن الأمر مع التخيير يجتمعان، وهذا هو المعنى المقرر هنا، وقد كان حق هذه القاعدة أن تكون مع تلك، ولكني أفردتها مخافة التطويل عند استيفائي جميع ما ذكر في القاعدتين، فقال رحمه الله:

النهي كالنفي، والأمر كالثبوت، ومن المعلوم البيِّن أن وجود الْأَخص يلزم منه وجود الْأَعَمِّ، فإذا ثبت الْأَخص ثبت الْأَعَمُّ، والعام إذا انتفى انتهى الْأَخص، وليس إذا انتفى الأخص ينتفى الْأَعم. وقد قلنا: الأمر كالثبوت، فوجود فرد من الكفارة يثبت وجود الكفارة، والكفارة كانت مطلوبة بالأمر، فقد كان ثبوت الحكم في

(201) هي موضوع الفرق الخامس والعشرون بين قاعدة ثبوت الحكم في المشترك وبن قاعدة النهى عن المشترك". جـ 1 ص 151.

قال القرافي رحمه الله في أوله، مبينًا وموضحا لأهميته وفائدته: هذا الفرق جليلُ عظيم، دقيق النظر خطير النفع، لا يحققه الأ فحول العلماء والفقهاء، فاستقبِلْه بعقل سليم وفكر مستقيم

" وقد اطال الكلام في بيانه وإيرادِ بعض المسائل والقواعد التطبيقية فيه لتحقيق فقهه وفهمه.

(202)

المشترك عند علماء الأصول والمنطق، قسم من أقسام اللَّفظ المفردَ، وهو اللفظ الذي وُضع لكل واحدِ من معنَييه أو معانيه بوضع خاص، وسمى مشتركا (بفتح الراء) لاشتراك معانيه فيه كالعين للباصرة والجارية بالماء، والذهب والفضة، ويذكره علماء الأصول وعلماء المنطق اثناء الكلام على نسبة الألفاظ للمعاني، وهي عندهم خمسة أقسام:

التواطؤ، ويراد به التوافق، والتشاكك، والتخالف، والاشتراك والتشارك، والترادف، وهو تعدد الالفاظ لمعنى واحد وتَواردُها عليه، كالحنطة والبرُ للقمح، ويسمونه الاشتراك المعنوى، لاشتراك عدةِ ألفاظ في معنى واحد، على عكس الاشتراك اللفظي المتقدم حيث تشترك عدة معان في لفظ واحد كالعين مثلاً، وقد جمعها العلامة الاخضري في منظومته الشهيرة والسماة بمَتْن السلم في علم المنطق فقال:

ونسبة الالفاظ للمعاني

خمسة أقسام بلا نقصان

تواطؤ تشاككٌ تخالف

والاشتراك عكسه الترادفُ

والتوسع في هذا الموضوع ومصطلحات هذه الكلمات يرجع فيه إلى كتب أصول الفقه وعلم المنطق.

ص: 206

المشترك يثبتُ بفرد من الأفراد الداخلة تحت ذلك المشترك، وقلنا ايضا: النهي كالنفي، فنفْيُ المصنوع من ماء العنب مع وجود الخمر المصنوع من التمر لا يحقق الانتهاء، كما أن رفع الإنسان دون الحمار لا يتحقق معه رفع الحيوان، وإنما يتحقق رفع العام برفع كل فرد من الأفراد الذي تحته، كذلك إنما يتحقق الانتهاء برفع جميع الأفراد، وهذا بَيِّنٌ لا خفاء به، ثم قال:

"تنبيه جليل":

اعْلَمْ أن نفي المشترك، والنهيَ عنه إنما يعُمُّ إذا كان مدلولا عليه بالمطابَقَة، أما إذا كان مدلولا عليه بطريق الالتزام فلا يلزم، فالمدلول عليه بالمطابقة، كقولك: نهيتك عن مطلق الخمر، والمدلول عليه التزاما كأن يقول: ألزمتك النهي، فهذا النهي حاصل في منهي لم يعينه، فلو عَيَّنه بعد هذا كان ذلك التعيين تفسيرًا، وفي قوله: نهيتك عن الخمر، لو أبقى بعد ذلك خمرًا مخصوصا لكان مخصصا لذلك العام، قظهر أن المدلول بالمطابقة هو الذي يعم، والآخَرُ لا يَعُمُّ.

قال (اي القرافي رحمه الله -: تظهر فائدة هذا الفرق في مسألتين فقهيتين:

الواحدة إذا حلف بالطلاق وحنث، وله زوجات، فإن الطلاق يعمهن إذا لم تكن له نية، لأنه ليس البعض أولى من البعض، وإلَّا يلزمْ الترجيح من غير مرجِّح (203)، فلو قصد بذلك اللفظ بعضهن دون بعض لم يحصل (204) الطلاق إلا على المقصودة وحدها. وهذا، لأن القول بتطليق الكل ما كان من حيث عموم النهي؛ لأن النهي ما كان عامًا؛ لأنه لم يدل بالمطابقة على الزوجات، وإنما دل على

(203) التقدير: وإلا يعمهن الطلاق يلزَم الترجيح دون مرجح، فحذِف فعل الشرط لكونه مفهومًا ومدلولا عليه بالعبارة السابقة في الكلام، وهي قوله:"فإن الطلاق يعمهن".

وحذف فعل الشرط أو جوابه جائز إذا دل عليه ما قبله من الكلام وأُمنَ اللبس، لقول ابن مالك في الفيته:

والشرط يغنى عن جَواب قد عُلم

والعكسُ قد يأتي إن المعْنَى فُهِمَ. اهـ

(204)

في نسخة: لم يقع، وهي بمعنى لَم يحْصُلْ.

ص: 207

الزوجة بالالتزام (205)، إذ الطلاق يستلزم مطلَّقَة، بل ما كان التعميم إلا من حيث إنه ليس تعيين البعض عن البعض براجح، فلأجل عدم الرجحان قلنا بالتعميم، فإذا وجدت النية وجد المرجح، فلا تعميم. (206)

المسألة الْأَخرى، إذا أتى بصيغة عموم، فقال: والله لا لبست كتانا، وقصد به بعض الثياب، ذَاهِلاً عن البعض فإنه لا ينفعه ذلك؛ لأنك ستقف على الفرق بين النية المؤكِدة والنية المخصصة، وهذا عام يحتاجُ إلى التخصيص بالْمُخْرِج

(205) من مباحث علم أصول الفقه وعلم المنطق مبحث تقسيم دلالة اللفظ على المعنى إلى ثلاثة أقسام: دلالة المطابقة (بفتح الباء)، ودلالة التضمن، ودلالة الالتزام، فالأولى هي دلالة اللفظ على تمام مسماه ومعناه، كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق، ودلالة علي أو خالد أو زيد على ذات شخص معيَّنةً، وذلك لمطابقة اللفظ لمسماه الذي وضع له. ولثانية، في دلالة اللفظ على جزء مسماه وعلى بعض معناه، كدلالة الإنسان عى الحيوان فقط، أو الناطق (اى المفكر) فقط، وذلك لأن اللفظ تضمن لها معناه الكل، والثالثة هي دلالة اللفظ على أمر خارج عنه، لازم له في الذهن كدلالة الأسد على الشجاعة مثلا.

وقد جمع هذا الأنواع الثلاثة للدلاله الفقيه العلامة الاخضرى في بيتين من منظومته متن السلم، والمشار إليها آنفًا، بقوله:

دلالة اللفظ على ما رافقَه

يدعونها دلالة المطابقة

وجزئه تضمُّناً، وما لزم

فهو التزامٌ إن بعقْل التُزِم

(206)

علق ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذه المسألة الأولى، ولخصه البقورى فيها، فقال: كان ينبغى على ما قرره من أن المدلول عليه التزاما مطلق، ألَّا يعمهن الطلاق، ويخيَّر في التعيين أو يقرع بينهن، ولم يقل العلماء بعموم الطلاق فهن إلا احتياطا للفروج وصونا لها عن مواقعة الزنى، فإن الطلاق قد ثبت بقوله: علّي الطلاق أو ما اشبه ذلك، ووقع الشك والاحتمال في عمومه لمحاله أو خصوصه، فحمل على العموم بها احتياطًا، كما فيما إذا طلق وشك هل واحدة أو ثلاثًا يحمل على الثلاث، بخلاف ما إذا شك في أصل الطلاق فإنه لا يلزمه شيء، استصحابا لأصل العصمة"اهـ. كما علق على مسألة مماثلة ذكرها القرافي، وهي قول القائل: "الطلاق يلزمنى" فقال (اي ابن الشاط: إن كان للعموم فهو في معنى كل طلاق أملكه يلزمنى، فيلزم على ذلك طلاق جميع الزوجات، وفي كل واحدة جميع الطلاق كما سيأتى الكلام عليه في الفرق الذي أحالَ عليه. اهـ.

كما علَّق ابن الشاط على مسألة مماثلة ذكرها القرافي وهي قول القائل: "الطلاق يلزمنى"، فقال: إن كان للعموم فهو في معنى كل طلاق أملكه يلزمنى، فيلزم على ذلك طلاق جميع الزوجات وفي كل واحدة جميع الطلاق كما سيأتى الكلام عليه في الفرق الذي أحال عليه.

ص: 208

المُنافى، فإذا فُقِد جرَى اللفظ على عمومه للسلامة عن العارض، وإذا وجد نفى ما عدا المخرَجَ بعموم اللفظ، بخلاف صورة الالتزام، ويكْمُلُ البحث فيها (207) بمطالعة الفرق بين النية المخصِصة والمؤكدة، قال: وأحقق هذا الفرق بأربع مسائل:

المسألة الأولى: قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (208)، علق الوجوب بالقدر المشترَك بين الرقاب، ويصْدُق على جميع الرقاب، ويكفى في ذلك صورة واحدة بالإِجماع. (209).

المسألة الثانية: لو قال الشارع حرَّمتُ عليكم القدْرَ المشترك بين الخنازير لحَرُمَ كلُّ خنزير. (210)

المسألة الثالثة: إذا قال لنسائه: إحداكن طالق حَرُمْن بأجمعهن، بناء على قواعد:

القاعدة الأولى: أن مفهوم أحد الأمور قدر مشترك بينها لصدقه على كل واحد منها، والصادق على عدد وأفراد، مشْتَركٌ فيه بين تلك الأفراد. (211)

القاعدة الثانية: أن الطلاق تحريم، لأنه رافع لموجِب النكاح، وذلك الإِباحة، ورافع الإِباحة مُحَرِمٌ، فالطلاق تحريمٌ.

(207) في نسخة ح: في هذا، وهو متفق مع عبارة القرافي هنا حيث قال:"ويكْمُلَ لك الكشفُ عن هذا الموضع بمطالعةِ الفرق بين النية المخصِّصة والمؤَكِّدة، وهو بَعْدَ هذا".

(208)

سورة المجادلة، الآية 3.

(209)

قال ابن الشاط في تعقيبه على هذه المسألة: لم يُثبتْ الوجوب في القدر المشترك، بل أثبته في رقبة واحدة غير معيَّنة فلا يَعم، بل تكفى صورة واحدة بالنص، والإِجماع تابع للنص.

(210)

قال ابن الشاط: ذلك صحيح، لأن تعليق الحكم بالأعم يلزم منه تعليقه بالأخص من غير عكس. اهـ.

(211)

قال ابن الشاط: ليس أحد الأمور هو القدر المشترك، بل أحد الأمور واحد غيرُ معيّن منها، ولذلك صدَق على كل واحد منها.

ص: 209

القاعدة الثالثة: أن تحريم المشترك يلزم منه تحريم جميع الجزئيات كما تقدم، فيحْرمنَ كلهن بالطلاق وهو المطلوب (212)، وهذا هو الحق، لا أن يقال: إنما عمَّم الطلاق احتياطًا للفروج، فإنهُ إذا قيل: ما الدليل على مشروعية هذا الاحتياط؟ لا يوجد. وظاهر الفرق بين خِصال الكفارة وهذه المسألة، القاعدة المقررة أولاً.

المسألة الرابعة، قال مالك رحمه الله: إذا أعتق أحدَ عبيدِه، له أن يختار واحدًا منهم فيعينه للعتق، بخلاف ما تقدم في الطلاق، مع أنه في الصورتين أضاف الحكم (اى للمشتركين بين الأفراد)، وكما أن الطلاق محرم، (213) كذلك العِتْق محرم للوطء، والفرق حينئذ عسيرٌ.

والجواب أن التحريم دل عليه الطلاق بوضعه، فإنهُ له وُضِع، والعِتْقُ دل على تحريم الوطء لزومًا، فتحريم الوطْء تابع للعتْق الذي هو قُرْبة، وراجعٌ إلى الأمر

(212) عقب ابن الشاط على كلام القرافي في هذه القاعدة فقال: القاعدة الثالثة ايضا صحيحة، ولكن لا يلزم أن يُحرمن كلهن، لما سبق من عدم صحة القاعدة الأولى.

ثم قال في هذه القاعدة ومسألتها ايضا، معلقًا على كلام القرافي فيها: صار الصدر في هذه المسألة غير صدْر، لتسليمه القاعدة الأولى، وهي غير مسلّمة ولا صحيحة، فكذلك ما بناه عليها.

والجواب الصحيح - يقول ابن الشاط - ما أجاب به الأكابر (اي من أفاضل العلماء والفقهاء). وهو أن الحكم إنما عم (اي في هذه المسألة والنازلة)، احتياطًا للفروج. ودليل مشروعية هذا الاحتياط هو كل دليل دل على توقي الشبهات". اهـ.

ذلك أن القرافي رحمه الله قرر ما قرر من التعميم للحكم في مسألة الطلاق المذكورة، بناء على القاعدة الثالثة السالفة، بينما أكابر العلماء كانوا يوجهون تعميم الحكم ويعللونه بالاحتياط في الفروج، وهذا الاحتياط يراه القرافي غيرَ مؤسّس ولا مبنى على دليل شرعى، فأوضح الشيخ ابن الشاط أن دليلهم الشرعي في ذلك هو توقي الشبهات والاحتياط.

(213)

في نسخة ع، وح:"وكان الطلاق محرمًا" بصيغة الفعل الماضي، وفي نسخة أخْرى، وعند القرافي: وكما أن الطلاق محرِم للوطء، بأداة التشبيه، وهو أظهر وأسلم في المراد والمعنى، وقد علق ابن الشاط على ما جاء في هذه المسألة الرابعة بقوله: ما قاله القرافي في ذلك صحيح، وأن المتكلم في مسألة الطلاق أو العتق في مسألة العتق ما أضاف الحكم لمشترك، بل أضافه لفرد غير معين". اهـ.

ص: 210

ايضا، والطلاق دل على تحريم الوطء مطابقة، وهو مما يرجع إلى النهي، لأنه جاء فيه "أنه أبْغَضُ الحلال إلى الله"(214)، فكان التعميم في الطلاق ولم يكن في العتق للقواعد المقررة. (215)

القاعدة الخامسة والعشرون (216)

نقرر فيها الفرق بين كون الزمان ظرفا لايقاع المكلَّف به فقط، وبين كون الزمان ظرفا لإيقاع المكلف به، وكل جزء من اجزائه سببا (217) للتكليف والوجوب، فتجتمع الظرفية والسببية في كل جزء من الأجزاء، فنقول:

يظهر الفرق بذكر أربع مسائلَ:

المسألة الأولى: أوقات الصلوات، كالقامة مثلاً بالنسبة إلى الظهر، هي ظرف للتكليف، لصحة وقوع الصلاة فيها، وكل جزء من تلك الأجزاء سببٌ للتكليف، وليس الزوالُ فقط سببًا للتكليف، وإلَّا لزم أن يكون من أسلم وسط القامة لا يلزمه الظهر، من حيث إن السبَّبَ لا يتقدم سبَبَه، وذلك باطل، فلزم ما

(214) رواه أبو داود والحاكم رحمهما الله عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(215)

قال ابن الشاط: على تسليم أن الطلاق تحريم، والعتْق قُرْبة، وكون العتق قربة لا يمنعه أن يكون تحريمًا، بل هو تَحريم للتصرف في المملوك، فلا فرقَ".

(216)

هي موضوع الفرق الثاني والأربعين بين قاعدة كون الزمان ظرفا لإيقاع المكلف به فقط، وبين قاعدة كون الزمان ظرفا للإيقاع، وكل جزء من أجزائه سبب للتكليف والوجوب، فيجتمع الطرفان: الظرفية والسببية في كل جزء من الأجزاء. جـ 1 ص 220.

(217)

كذا في نسخة ع، وح بنصب كلمة سببًا. فيكون وجه النصب على هذا أنه مدخول لكونٍ مقدر في العطف، (أى مع كون كل جزء سببًا). ومن المعلوم أن مصدر الفعل الناقص يعمل عمل فعله، ومن ذلك البيت المشهور القائل:

بِبَذْل وحِلْمٍ ساد في قومه الفتى

وكَونكَ إياهُ عليك يسير (أي سهل ميسَّر)

وفي نسخة أخرى، وفي كتاب الفروق: سبب بالرفع، ووجْهُهُ أنه خبر للمبتدأ الذي هو كل جزء، والجملة حالية، تفيد معنى المعية، فتكون العبارتان صحيحتين وسليمتين معا، وتؤدِّيانِ معنى واحداً وهو المعية والمصاحبة. أما الرفع فوجهْه ظاهر، كما عند القرافي، والمسألة الأولى هنا.

ص: 211

قلناه، وما يتوهم أن السبب للوجوب، (218) الزوالُ فقط، باطل.

المسألة الثانية: أيام الأضاحى الثلاثةُ أو الأربعة، على الخلاف في ذلك، ظروف للتكليف، لصحة وقوعِ الذبْح فيها، وهي -أيْضًا- أسباب للتكليف، بل كلُّ جزْء من أجزاء الأيام، وإلا لزم الَّا تجب على من أَسْلَم في اليوم الثانى أو في اليوم الثالث، وذلك باطِلٌ.

المسألة الثالثة: شَهْرُ رمضان المعظم، أيَّامُه ظروف لَلتكليف بالصوم، وأيَّامه ايضا أسبابٌ للتكليف، بذلك الدليل بعينه، إلا أن أجْزاء اليوم ليست بأسباب، (219) كأجزاء وقت الصلاة، ولذلك كان من أسلَم في يوم لم يجب عليه ذلك اليوم، ومن أسلم في ليلةِ يوم وَجَبَ عليه اليوم الذي أسلم قبل طلوع فجْره، وفي أجزاء الصلاةِ ايضا خلاف في بعض الأجزاء، من أدرك ركعة من الصلاة، يقال: إنه سببُ، وأقلُّ منه ليس سببًا للتكليف عند مالك، وهو عند غيره سبب كسائر الأجزاء قبله. فهذه المسائل الثلاث هى ظروف وأسباب.

(218) في نسخة ح: "من أن السبب"، بذكر حرف الجر لِلبيانِ، على حد قوله تعالى في سياق فِرعون وملائه {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} ، فمن آيةٍ، بيان لما يريهم الله من علامات ودلالات على وحدانيتهِ وإحاطة علمه وكامل قدرته وإرادته. وتخرج نسخة ع، على أن حذف الجر: من، مُطّرد قبل أنْ وأنّ، كما في قوله تعالى:{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وإلى ذلك يشير ابْنُ مالك في بيت من الفيته حيث قال:

وعَدِّ لازمًا بحرف الجرّ

وإن حُذِف فالنصبُ للمنجَر

نقلا، وفي أنَّ وأنْ يطَّرِدُ

مع أمْنِ لبس كَعَجبتُ أن يدوا

أي عجبتُ أن يعطوا الدية، من الفعل الثلاثى وَداهُ يديهِ، مثل وقاهُ لقيه، إذا ادَّى ديته نتيجة القتل خطأ.

(219)

في نسخة ح: أسبابا، وكلاهما صحيح وسليم، إذ من المعلوم أنَّ خبر ليس تدخل عليه الباء للتوكيد، على حد قوله تعالى، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]، كما قد تدخل الباء على خبَر ما النافية المشبهة بليس، والعاملة عملها، كما في قوله تعالى:{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74]، وقوله سبحانه:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]. وقد نص على ذلك علامة النحو والصرف في زمانه ابْن مالك قال في منظومة ألفتيه:

وبعدمَا وليس جرَّا البا لخبَر .. وبعْدَ لا ونَفْي كان قد يجر

أي قد يجر خبرُ لا النافية، وخبر كان بحرف الجرالبا، على سبيل الندرة، بينما جره بعد ما وليس على سبيل الاطراد والكثرة.

ص: 212

فلنذكر ثلاث مسائل هي ظروف للتكليف فقط:

المسألة الرابعة: قضاء رمضان يجب وجوبًا موسَّعًا إلى شعبان من تلك السنة، كما يجب الظهر وجوبًا موسَّعا من أول القامة إلى آخرها. غير أن هذه الشهور هي ظروف للتكليف فيها بالقضاء، دون أن يكون شيء من أجْزائها سببا للتكليف، بدليل أن من زال عذره فيها لا يلزمه شيء، وإنما السببُ في وجوب هذا الصوم أجزاء رمضان السابق، فكل يوم هو بسبب لوجوب القضاء في يوم آخر من هذه الشهور إذا لم يصم فيه. ولا يعتقد أن رؤية الهلال له سبب في القضاء إلا من حيث إنه سبب لجعل كل يوم من أيام الشهر سببا لوجوب الصوم (220)، ثم إذا ترك ذلك الواجب كان سببا، فالسبب الترك لا الهلال، ولكنه انْبَتَى على الترك أنه سبب على وجوب الفعل، والله أعلم.

المسألة الخامسة: جميع العُمُر ظرف لوقوع النذُور والكفارات، لوجود التكليف في جميع ذلك، وهذا بعد البلوغ ولزوم التكليف، وليس شيء من ذلك سببا، بل السبب اليمين أو الالتزام.

المسألة السادسة: شهور العِدّة ظرف للتكليف بالعِدة لوجودها فيها، وليس شيء من أجزائها سببا للتكليف بالعِدة، بل السبب الوفاة أو الطلاق، وهذه الشهور تشبه شهور قضاءِ رمضان من هذا الوجه، وتفارقها من جهة أنها مضيَّقة، وتلك، التكليفُ فيها موسعٌ، ولنذكر المسألة السابعة لِمَا تركّبَ من القسمين.

المسألة السابعة: زكاة الفطر، قيل: تجب بغروب شمس آخِرِ أيام رمضان، وقيل: بطلوع الفجر يومَ الفطر، وقيل: بطلوع الشمس منه، وقيل:

(220) عبارة القرافي هنا أظهر حيث قال: ولا يعتقد أن سبب وجوب القضاء هو رؤية الهلال فقط، بل رؤية الهلال سبب لجعل كل يوم من أيام رمضان سببا للوجوب وظرفا له، فيصير سببُ رؤية الهلال كل يوم سببا لوجوب الايقاع فيه، وتفويته سببا للصوم في يوم آخر من هذه الشهور فقط، فتأمل ذلك فقَل من يتفطَّن له، بل يعتقد في بادئ الرأي أن سبب القضاء والأداء هو رؤية الهلال فقط، وليس كذلك

الخ.

ص: 213

تجب وجوبًا موسّعا من غروب الشمس آخر أيام رمضان إلى غروب الشمس يوم الفطر.

وقولُ هذا القائلِ: تجبُ زكاة الفطر وجوبًا موسّعا من الغروب إلى الغروب، معناه لا يأثم بالتاخير بعد الغروب يومَ الفطر. والمنقول عن صاحب القول الأول أنه لا يأثَم بالتاخير إلى غروب الشمس يوم الفطر، وإنما يأثم بالتاخير بعد الغروب يوم الفطر، وهذا هو عين القول الرابع.

وقد عَسُرَ الفرقُ على جماعة من الفضلاء بين هذين القولين، والفرقُ بينهما إنما يستفاد من معرفة الفرق بَيْنَ هاتين القاعدتين، وذلك أن القائل الأول يقول: غروب الشَّمس يومَ الصوم سَبَبٌ، وما بعده ظرف للتكليف فقط، ولا يكون شيء من أجزاء هذا الزمان سببا للتكليف، والقائل الرابع يقول: كل جزء من أجزاء هذا الزمان من الغروب إلى الغروب ظرف للتكليف وسبب له، فقد اشتركا في التوسعة، لكن توسعة الثاني كتوسعة صلاة الظهر، والآخر كتوسعة قضاء رمضان.

ويُخَرَّجُ على القولين من بلغ في هذا الوقت أو أسلم، فيتوجه الأمر على القول الثاني، ولا يتوجه على القول الأول.

القاعدة السادسة والعشرون (221)

نقرر فيها الفرق وإن كون ظرف الزمان للتكليف دون ايقاع المكلف به، وبين أن يكون ظرفا للتكليف لإيقاع المكلف به معا، ويتضح هذا بذكر ثلاث مسائل.

(221) هي موضوع الفرق الحادى والأربعين بين قاعدة كون الزمان ظرف التكليف دون المكلف به، وبين قاعدة كون الزمان ظرفا لإيقاع المكلف به مع التكليف، جـ 1 ص 218. قال في أوله الإِمام القرافي رحمه الله: "هذا الموضح التبس على كثير من الفضلاء واختلطت عليهم القاعدتان، فوردت إشكالات بسبب ذلك، ويتضح الفرق بينهما بذكر ثلاث مسائل

الخ.

ص: 214

المسألة الأولى في كون الكُفار خوطِبوا بفروع الشريعة أم لا، ثلاثة أقوال: مخاطَبون، ليسُوا مخاطَبين. الفرق بين الأوامر والنواهي، فهم مخاطَبون بالنواهي دون الأوامر. (222)

فمن قال: ليسوا مخاطَبين قال: لَو وجبت عليهم الصلاة لوجبتْ إما حالةَ الكفر وإما حالةَ الإِسلامْ، والقِسمان باطلان، فالقول بالتكليفِ (223) كذلك:

أمّا حالة الكفر فلان التقريب بها من الكافر لا يتعقَّل ولا يصحُّ حينئذ، وأمَّا في حالة الاسلام فلانعقاد الإِجْماع على أن الإِسلام يَجُبُّ ما قبلهُ.

والجواب أن نقول: نختار التكليف حالة الكفر. وقولُهُ لا تصح، قلنا: مُسَلّم، ولا يتحصَّلُ له مقصود، (224) لأن هذا الزمان ظرف. للتكليف فقط لا لإِيقاع المكلَّف به، والإِيقاع هو الذي لا يصح، ومعنى هذا أنه أُمِر في زمان الكفر أن يزيله ويبدِّله بالِإيمان، ويفعل الصلاة في زمن الإِسلام لا في زمن الكفر، فصار زمن الكفر ظرفا للتكليف فقط، وزمن الإِسلام هو للتكليف ولإِيقاع المكلف به.

المسألة الثانية: المحْدِثُ مأمور بإيقاع الصلاة ومخاطَبٌ بها في زمن الحدث إجماعا، والكفر هو الذي وقع الخلافُ فِيهِ، أما زمن الحدَث فلا. ثُمَّ إن الإجماع انعقد على أن المحدِث لا تصح صلاتُه في الزمن الذي هو فِيهِ مُحْدِثٌ، وإنما تصح في زمن الطهارة، وزمان الطهارة هو زمان التكليف بإيقاع الصلاة دون زمان الحدث، وزمان الحدثِ هو ظرف التكليف فقط.

قلت: كذا وقع هذا في الفروق لشهاب الدين رحمه الله، وآخر الكلام يناقض أوله.

(222) زاد القرافي هنا قوله: واتفقوا على أنهم مخاطَبُون بالإيمان وقواعد الدين، وإنما الخلاف في الفروع، وتقرير المسألة مبسوطا في أصول الفقه.

(223)

في نسخة ح: فالتكليف كذلك.

(224)

عبارة القرافي هنا، أظهر، وهي: ولا يلزم من ذلك عدم حصول التَّكْليف في هذه الحالة وفي هذا الزمان".

ص: 215

فقوله: المحدث مامور بإيقاع الصلاة في زمن الحدث إجماعا، يخالف قوله في آخر المسألة:"وزمن الحدث هو ظرف للتكليف فقط"، والآخرُ هو الحق، (225) وهذا إذا لم يكن مضطرا، فإن لم يجد ماء ولا صعيدًا فهي المسألة حينئذ خلاف قد ذكره الفقهاء (226).

المسألة الثالثة: الدُّهري (227) مكلّف بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه جاحد للصانع، والأمر فيه كالأمر في المسألتيْن. (228)

(225) في هامش نسخة ع عند قول الشيخْ البقوري: "وآخر الكلام يناقِضُ أوله" ما نصُه: لا تَناقُضَ؛ لأن قولَه (أي القرافي): في زمن الحدثِ إجماعًا، متعلق بمأمور لا بإيقاع، وكأن البقوري فهم تعلقه بإيقاع" اهـ.

(226)

نظم بَعْضُهُمْ الخلاف في هذه المسألة، وجمع أقواله في بيتين، فقال:

ومَن لم يجد ماءً ولا متيمَّمَا

فأرْبعةُ الأقوال يَحْكينَ مذْهبَا

يصلّي ويقضي، عكسه قال مالك

وأصبَغُ يقضِي، والأداءُ لأشهَبا

(227)

الدهري بضم الدال في أشهر الاستعمال والسماع، وفتحه قياسي غير سَماع، وهو نسبة إلى الدهر أي الزمان، والدهريُّ هو الكافر الملحد، المنتسب إلى فرقة الدهرية، وهم المنكرون لوجود الله، ووحدانيته، ولخلقه لهذا الكون، مثلما ينكرون البعث والنشور يوم القيامة، فيقولون بأن الذي يهلك الإنسان ويفنيه هو الزمان والدهر، فينتهى الإنسان في زعمهم وظنهم انتهاء أبَدِيًا بانتهاء حياته في الدنيا، وقد حكى الله ذلك عنهم، وأبطل زعمهم وضلالهم، وفَنَّدَ اعتقادَهم الفاسد، قال سبحانه وتعالى:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24].

(228)

أي ان زمن الكفر والالحاد، وزمن الحدث هو ظرف للتكليف دون ايقاع المكلف به، والزمن الثاني في الكافر الملحد، والمحدث -وهو زمن حصول إسْلامه- هو ظرف وزمن التكليف وإيقاع المكلف به. قال الإِمام القرافي رحمه الله في ختام كلامه على هذا الفرق: فتأمل الفرق بين القاعدتين، والسر بين المعنيين يتيسر عليك الجواب عن أسئلة الخصوم وشبهاتهم، وهو فرق لطيف شريف".

ص: 216

القاعدة السابعة والعشرون (229)

نقرر فيها الفرق بِيْن ما يُطْلَبُ جمعه وافتراقه، وبين قاعدة ما يُطلَبُ جمعُه دون افتراقه، فنقول:

المطلوب في الشريعة ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما يُطلَبُ وحده ومع غيره، كالإيمان بالله تعالى وبرسوله، فإنه مطلوب في نفسه، وهو شرط في كل عبادة، والشرط مطلوب الحصول مع المشروط، إلا أنه قد يُكتفى منه بالايمان الحكمي تخفيفًا على العبد، ويُكتفَى بتقدمه فعلاً (230)، وكالدعاء والتسبيح والتهليل مطلوبات في أنفسها، ومطلوب جمعُها مع الركوع والسجود.

القسم الثاني: ما يُطلب مفردًا دون جمعه مع غيره، وهذا كالقرآة باعتبار السجود والركوع، لقوله عليه الصلاة والسلام:"نُهِيتُ أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدًا"(231)

القسم الثالث: ما يُطْلَبُ جمعه دون افتراقه، كالركوع مع السجود في الصلاة، وكالحلاق مع الحج والعمرة، فإنه لا يكون قُربَةً إذا انفرد، وإنما يكون قربة إذا اجتمع هكذا.

ثمَّ وجْه المناسَبَة قد يُطَّلَعُ عليه وقد لا، وما لا يطلع عليه نعلمُ أنَّه لحكمةٍ وإن كنا لا نعرف وجْهها. فالإِيمان، وجْهُ اشتراطه في العبادات حتى كان

(229) هي موضوع الفرق السادس والأربعين بين قاعدة ما يُطلَب جمعُه وافتراقه وبين قاعدة ما يُطلَبُ افتراقه دون جمعه، وبين قاعدة ما يطلب جمعه دون افتراقه.

وهذا الفرق هو أول الفروق المذكورة في الجزء الثاني (ص 2) حسب تجزئة الكتاب إلى أربعة أجزاء، كل جزءين في مجلد واحد، حسب الطبعة الأولى للكتاب لسنة 1344 هجرية.

(230)

عبارة القرافي تظهر أكثر وضوحا حيث قال: "فإن استحضار الإيمان في كل عبادَة وفي جميع أجزائها هو مما يشق على المكلف، فيكتفى بتقدمه فعلاً، ثم يستصحَبُ حُكْما

اهـ.

(231)

أخرجه الإِمام احمد والإمام مسلم، وهذا ما لم تكن الآية دعاءً، فيجوز الدعاء بها في السجود.

ص: 217

الجمع، (232) من حيثُ إنه أصل، وما سواه فرع، والجمعُ بين الأصل والفرع مناسِب. وأما الدعاءُ مع السجود، والثناءُ مع الركوع، (233) وعدم القرآة معهما، فذلك في الدعاء من حيث إن العبْدَ مأمور بالتعظيم لبارئه، وجعَلَ له في ذلك التعْظيم التشبهَ بفعْل المتواضعين مع ملوكهم، كل ذلك ليرسَخ في باطنه عظمة مولاه فينتفع بها، لا لأنَّهُ تعالى يلحقُهُ من ذلك شيء، بل هو الغنى عن العالَم، ولا ضرر يلحَقُهُ ولا نفع. والِانحناء في الركوع تواضع، والسؤال مناسب له، وتواضع السجود أكثر، فكانت الرغبة منه أجدَرَ بالإِجابة، ولهذا قيل: "أقربُ مَا يكون العبدُ من ربه وهو ساجد، فاجتهِدُوا بالدعاء فقمِنٌ أن يستجابَ لكم (234).

أما كون القرآة لا تكون حينئذ فذلك من حيث إنها حالة خضوع بمشقة تَلْحَق العبد، والقرآة مَحَلٌّ للفكرة، والفكرة تضعف مع تحمل المشقة، فلم تكن لائقة بذلك الموضع.

(232) (أي حتى وجب وثبت الجمع بين الإيمان وبيْن كل عبادة لله تعالى، أنه أصل. فيكون الفعل الناقص كان تاما يكفي بمرفوعه على أنه فاعل يكمل به المعنى، على حد قوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} ، أي إن وجد ذو عسرة، بالبِناء للفعل المجهول، فيتعين إنظاره أي إمهاله لحين الوجْد وقدرته على أداء الدين، واكتفاء الفعل الناقص في باب كان وأخواتها بالمرفوع على أنه فاعل، ليتم المعنى، هو ما أشار إليه ابن مالك في ألفيته بقوله: وذو تمام ما برفع بكتفي.

وما سواه ناقص، والنقص في

فتئ ليس زَال، دائمًا قُفِي

(233)

في جميع النسخ الثلاث التي بين أيدينا من كتاب ترتيب الفروق، العبارة هكذا، وأما الدعاء مع السجود ومع الركوع" بحذف كلمة الثناء، وهي ثابتة في الأصل الذي هو كتاب الفروق، وهي كلمة يقتضيها المعنىَ، وتقتضيها الموافقة مع الحديث الشريف الآتي بعدُ، والذي جاء بالأمر والتوجيه في الإرشاد للأمة إلى الاجتهاد بالدعاء في السجود، مبينًا حكمة ذلك بأنه قرب من اللهِ ومَوطِنُ استجابة الدعاء، حيث يكون العبدُ أقرب ما يكون من ربه، وكما جاء في حديث آخر: أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فادعوا بما شئتم، فقمن أن يستجاب لكم"، وهذا يعطي ويوضح أن حذف كلمة الثناء في النسخ المختلفة للكتاب قد يكون من الناسخ سهوا أو قصدًا بدون تأمل، اعتمادًا على النسخة المنقول فليصحح منها.

(234)

اخرجه الإمام مسلم، وبعض الأئمة أصحاب السنن، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 218

قلت: ويمكن أن يقال: كان ذلك من حيث أنه إذا سجد فقد تمحضت صفة العبد، الخاصةُ به، وذلك التواضعُ، ولم يلِقْ بها أن يكون حينئذ تَالِيًا لكتابه العزيز، فإنه صفة جليلة يكتسبها حينئذ من حيث تلاوته لكلام ربه. وإنما يليق بتلك الحالة الارتفاعُ والانتصاب، فصِفة الحق غلبت في حالة القيام، وصِفة العبد غلبَتْ في حالة السجود، ولهذا هُوَ موضع إشكال، أيهما أفضل: القيام أو السجود؟ فجاء: "أفضل الصلاة طول القنوت"، (235) وجاء "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، والحديثان صحيحان أخرجهما مسلم، والله أعلم، وقد قيدنا (236) عليه شيئاً في إكمال الإِكمال على كتاب مسلم، فانظره،

قال شهاب الدين رحمه الله:

وعلى هذا الفرق انبنَى قول القائل: لو لم يكن الصومُ شرطًا في الاعتكاف لما صار شرطًا له بالنذر كالصلاة، لكنه إذا نذره لزمه ذلك ووجب الصوم، فصحة هذا الكلام تَنبني على قاعدتين:

القاعدة الأولى: النذْر لا يؤثر إلا في مندوب، فأما النذر في وجوب الصوم مع الاعتكاف إذا نذَره، فإنه يدل على أنه مطلوب أن يجمع بينهما.

القاعدة الثانية: إذا نذر أن يصلي صائمًا لم يلزمه ذلك؛ لأن الجمع بين الصلاة والصوم غيرُ مطلوب، وإن كان كل واحد منهما مطلوبًا في نفسه.

(235) أخرجه كل من الإِمام أَحْمد، ومسلم، والترمذي عن جابر رضي الله عنه. ورحمهم أجمعين.

(236)

قف على نَصِّ الشيخ البقوري رحمه الله على كتابه في شرح الحديث: المسمى (إكمال الاكمال) على صحيح الإمام مسلم. وهو كتابٌ يذكره وينسبه له العلماءُ في ترجمتهم له. ولحد الساعة لم يعرف لهذا الكتاب وجود في خزانة من الخزانات العامة أو مكتبة من المكتبات الخاصة حسبما بلغ إليه بحثى وسؤالي عنه، واهتمامي به كثيرا، ولعل البحث يكشف عنه مستقبلا في خزانة من الخزانات العلمية، المنبثة في مختلف البلاد الإِسلامية، وغيرها من البلاد الإسلامية التى تزخر خزائنها بكثير من أمهات الكتب العربية والتراث الاسلامي على اختلاف علومه ومعارفه.

ص: 219

القاعدة الثامنة والعشرون (237)

نقرر فيها أن الفعل إذا دار بين الوجوب والندب فُعل، وإذا دار بين الندب والمحرّم ترك، تقديما للراجح على المرجُوح، وما يتخيَّل من أن صوْمَ يوم الشك ممنوع منه يقدح في هذه القاعدة ليس كذلك.

بيانه أنا نقولُ: لا خفاءَ بوجهِ تلك القاعدةِ من حيث إنّ الأرجح ظاهر تقديمه في الشريعة على المرجُوح، وأما صومُ يوم الشك فقد يقول القائل: صَوْمُه هو الظاهر كما يقول الحنابلة، لِأنه أنّ كان من شعبان فهو ندْبٌ، وإن كان من رمضان فهو واجب فيفعَل، فالقول بأنه لا يصام، مُخالفة لها (238)، فنقول: يُمنع من ذلك، بل هو مما دار صومه بين التحْريم والندب، فيتعيّن ترك صومه.

وبيانه أن رمضان شرط صحة صومه أن يكون بنية جازمة، وصومُه بطريق الترداد حرام، فهو إذا صامه كذلك، إن كان من شعبان كان ندْبا، وإن كان من رمضان فقد كان ذلك الصوم محرّما، لأجل الترداد. والقاعدد فيما كان كذلك أن يُتْرك، وأيضًا فقد جاء النهي عن صيام يوم الشك. (239)

(237) هي موضوع الفرق الرابع والمائة (104) بين قاعدة أن الفعل متى دار بين الوجوب والندب فُعِل، ومتى دار بين الندب والتحريم ترك، تقديما للراجح على المرجوح، وبين قاعدة يوم الشك، هل هو من رمضان أم لا؟ جـ 2 ص 186.

(238)

علق ابن الشاط على قول القرافي هنا: "فإن يوم الشك يحرم صومه مع أنه إن كان من شعبان فهو مندوب، بقوله: ليس بمسَلم، بل هو من شعبان لا على القطع بل على الشك، وهو ممنوع الصوم للنهي عنه، الوارد في الحديث، وعلى هذا، الإشكالُ في قولنا بالمنع من صومه، أما على قول الحنابلة فصومه على وجه الاحتياط جارٍ على قاعدة الفرق المذكور، وذلك، والله أعلم - لعدم صحة الحديث عندهم.

(239)

روى أصحاب السنن، والبخاري، تعليقا عن عمار بين ياسر قال:"من صامَ اليوم الذي يشك فيه الناسُ فقد عصى أَبا القاسم" وأبو القاسم كُنْيَةً للنبى صلى الله عليه وسلم بأحَدِ اولاده القاسم، كما هو معلوم من كتب الحديث الشريف والسيرة النبوية الطاهرة.

وقد علق ابن الشاط على قول القرافي بأن صوم يوم الشك عندنا دائر بين التحريم لتعذر النية الجازمة وبين الندب، فتعين الترك إجماعًا على هذا التقدير، لأن النية الجازمة شرط، وهي هنا متعذرة، وكل قربة بدون شرطها حرام، فصوم هذا اليوم حرام، فقال أي ابن الشاط: ليس قوله ذلك بمسلم، لأن لِقائلٍ أن يقول: ليست النية الجازمة شرطًا الا مع عدم تعذرها، وما ذكره لم يأت عليه بحجة، فلا يبقى إلا الحديث إن صح". اهـ.

ص: 220

ومما يُظَنُّ فيه مخالفة القاعدة، إذا شك هل صلى ثلاثًا أم أربعًا فإنه يأتي بركعة، مع أنها دائرة بين الرابعة الواجبة والخامسة المحرمة، وإذا تعارض الواجب والمحرَّم قُدِّم التحريمُ، لأن التحريم يعتمد المفاسدَ، والوجوب يعتمد المصالح. (أي فعناية صاحب الشرع والعقلاء، بِدَرْء المفاسد أشد من عنايتهم بجلب المصالح كما قال القرافي رحمه الله.

وكذلك إذا شك في وضوئه، هل هي ثالثة أو ثانية، فإنه يتوضأ ثالثة مع دورانها بين الندب والتحريم، والتركُ هنا أقوى، لأن الندب أخفض رتبة من الواجب.

فأجيبَ عن الصلاة بأن الخامسة إنما هى محرمة إذا تَيَقَّنا الرابعة، لا في الصورة التى وقعت فيها بالشك، وكذا الأمر في الوضوء ايضا.

قال شهاب الدين رحمه الله: وأشكل قولُ مالك رحمه الله:

إذا شك هل طلع الفجر أو لا، فإنه لا يأكل، مع أنه قال: إذا شك في اليوم فإنه لا يصومه، فأجابَ بأن الليل كان أصله الصوم، وخفف بعد ذلك، فهذا المشكوك فيه بيقيه على أصله في أنه يصام، ولا يخرجه إلى الأكل فيه كما خرج المتيقن. (240)

قلت: والأظهرُ عندي أن يقال: هذا خرج عن القاعدة من حيث إن ترْكَ أكله دائر بين أن يكون واجبًا أوْ جَائزًا، فيصيرُ إلى تركه ولا بد، عملاً بالأرجح، والله أعلم.

(240) علق ابن الشاط على كلام القرافي هنا فقال: ليس ما قاله القرافي من أن الأصل في الليل الصوم، بصحيح، وإنما كان الممنوع بالليل الأكل والوطْءُ بعد النوم خاصة، أما غير ذلك وهو ما قبل فلا.

ثم إن جوابه معارض للنص في قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، فنصَّ على أن الغاية تبيُّن الفجرِ. وما أرى المالكية ومن قال بقولهم في وجوب إمساك جزء من الليل ذهبوا إلى مخالفة الآية، عملاً بالاحتياط، بل حملوا الآية على المراقب للفجر وهو قليل في مجرى العادة، فأطلقوا القول، بناء على الغالِب، وهو عدم المراقبة، والله أعلم، ثم قال ابن الشاط: وما قاله القرافي بعد ذلك في هذا الفرق من السؤال والجواب عنه في المسائل المذكورة لحد مسألة الصيام، فصحيح، والله أعلم.

ص: 221