المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌القواعد الفقهية ولنبدأ منْ ذلك بالطهارة، وفيها سِتُّ قَواعِدَ:   القاعدة الأولى (1) نقرِّرُ - ترتيب الفروق واختصارها - جـ ١

[البقوري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌ترجمة الإمام الفقيه أحمد بن ادريس القرافي (*) مؤلف كتاب الفروق في القواعد الفقهية:

- ‌ترجمة الفقيه الشيخ ابن الشاط

- ‌ترجمة الفقيه الشيخ محمد بن ابراهيم البقوري

- ‌القواعد الكلية بالنسبة إلى ما بعدها

- ‌القاعدة الأولى: في تقرير أنه الشريعة قامت برعاية المصلحة ودرء المفسدة

- ‌القاعدة الثانية: في أقسام المصلحة والمفسدة على الجملة

- ‌القاعدة الثالثة: في الحكم في اجتماع المصالح، وفي اجتماع المفاسد، وفي اجتماعهما

- ‌القاعدة الرابعة: في حكم المصالح والمفاسد المبنية على الظن

- ‌القاعدة الخامسة: فيما يترك من الصالح لسبب، وفيما يفعَل من المفاسد لسبب

- ‌القاعدة السادسة: في بيانه أنه ليس كل المصالح يؤمر بكسبها، ولا كل المفاسد ينهى عن فعلها

- ‌القاعدة السابعة: فيما به يعرف ترجيح المصلحة والمفسدة

- ‌القاعدة الثامنة: في أمر الثواب والعقاب، هل هو في التفاوت وعدمه مرتبط بالأعمال أو بالمصالح والمفاسد

- ‌القاعدة التاسعة: في تقرير أن المصالح والمفاسد لا يرجع شيء منها إلى الله جل وعلا

- ‌القاعدة العاشرة: في أن الصالح والمفاسد بحسب العبيد -كما قلنا- قائمة معتبرة في الشرع

- ‌القاعدة الحادية عشرة:

- ‌القاعدة الثانية عشرة:

- ‌القاعدة الثالثة عشرة:

- ‌القواعد النحوية وما يتعلق بها

- ‌القاعدة الأولى: في الشرط

- ‌القاعدة الثانيةفي تقرير مقتضى إن، ولو، الشرطيتين، بحسب الزمان

- ‌القاعدة الخامسة: قاعدة التشبيه

- ‌القاعدة السادسة

- ‌القاعدة السابعة

- ‌القاعدة الثامنة

- ‌القاعدة التاسعة:فيما به يفترق جزء العلة عن الشرط وفيما به يشتركان

- ‌القاعدة العاشرة:في بيان المانع

- ‌القاعدة الثانية عَشْرَة

- ‌القاعدة الثالثة عشرة

- ‌القاعدة الرابعة عشرة

- ‌القاعدة الحامسة عشر

- ‌القواعد الأصولية

- ‌القاعدة الخامسة:في تقرير أنه ما ليس بواجب لا يُجْرِئُ عن الواجب

- ‌القاعدة الثالثة والعشرون

- ‌المتعلق منها بالعموم والخصوص وما يناسبها:

- ‌المفهوم

- ‌الخبر

- ‌القاعدة الأولى:في الفرق بين الرواية والشهادة

- ‌قواعد العلل

- ‌الاجتهاد:

- ‌القواعد الفقهية

- ‌قواعد الصلاة

- ‌الصوم

- ‌الزكاة

- ‌الحج

- ‌الجهاد

- ‌الذكاة

- ‌الأطعمة

- ‌الأيمان

الفصل: ‌ ‌القواعد الفقهية ولنبدأ منْ ذلك بالطهارة، وفيها سِتُّ قَواعِدَ:   القاعدة الأولى (1) نقرِّرُ

‌القواعد الفقهية

ولنبدأ منْ ذلك بالطهارة، وفيها سِتُّ قَواعِدَ:

القاعدة الأولى (1)

نقرِّرُ فيها الفرق بين الماء المطلَقِ وبيْنَ الماء المستعْمَل، فنقول:

المطلَق هو الباقي على أصل خِلقته، ويُلحَقُ به المتغيِّر بما لا ينفكُّ عنه غالبا، وكَان الأصل أن لا يقال في هَذا: انهُ مطلَق، ولكنه سُمي بذلك كالذي بقي على أصل خِلقتِه، لأنه إذا عُبِّر عنه يقال: هذا ماءٌ، فيطلَقُ ولا يقيَّدُ؛ وماءُ الورد وما أشبهَه بخلاف ذلك، لا يطلَق عليه أنه ماء إلا بالمجاز، بل يقال: هذا ماءُ ورْدٍ، والمضافُ من المياه كلِها خرج عن هذا الاسم بالأصل. فلا سؤال عنه في كوْنه لا يقال: إنه مطلَقٌ، وإنما كان السؤال في المتغَير بما لاينفكُّ عنه غالبا، فألْحَقَهُ المشَرِّعُ بالأول، وعِلَّة التسمية أبْديناها.

والماء المستعمَل هو الذي أُدِّيتْ به طهارةٌ وانفصَل عن الأعضاء، والماءُ ما دام في الأعضاء فلا خلاف أنه طهور وأنه مُطْلَق، فبعْدَ الانفصال اختُلِف فيه، هلْ هو صالح للتطهر أوْلا، ؟ وهل هو نجس أو لا، وهل ينجِّس الثوبَ إذا لاقاه أوْ لا؟ .

(1) هي موضوع الفرق الثالث والثمانين بين قاعدة الماء المطْلَقِ، وبين قاعدة الماء المستَعْمَل لا يجوز استعماله أو يُكْرَه على الخلاف". جـ 2 ص 117.

وقد عبر الشيخ خليل المالكي رحمه الله عن ذلك المعنى بقوله في مختصره: بابٌ يُرْفَعُ الحدَثُ وحكْمُ الخبثِ بِالمطلَق، وهو ما صَدَقَ عليه اسْمُ ماءٍ بلا قيدٍ، وإن جُمِع من نَدَى أو ذاب بَعْدَ جموده

الخ.

وفي نسخة ثالثة لهذا الكتاب، التمثيل للمتغير بما لا ينفك عنه غالبا بقوله فيها: كالترابِ والزرنيخ ..

ص: 361

واختلف القائلون بخُروجه عن صلاحيته للتطهر، هَلْ ذَلك معلَّلٌ بإزالة المانِعِ، أو بِأنه أدِّيَتْ به قُرْبَةٌ، ويُخَرَّجُ على القولين مسائلُ:

فإذا قلْنا: العلةُ إزالةُ المانِع، لم يندَرِجْ في الماءِ المستعمل الغَسْلُ في المَرّة الثانية والثالثة إذا نَوَى بالأولى الوجوبَ، ولا الماءِ المستعمَلُ في تجديد الوضوءِ، ونحو ذلك مما لا يُزيل المانع، وينْدَرِجُ فيه الماءُ المستعملُ في غسل الذمية، لأنه أزالَ المانعَ، فلو عَلَّلناه بأنه قُرْبَةٌ لَمَا اندرج فيه المستعمَلُ في غسْلِ الذِمية، واندرَج الآخَرَانِ (2).

قال شهاب الدين رحمه الله: ولِلْقائلين بخروجه عن كونِه صالحا للتطهر مَداركُ، أحْسَنُها أن قوله تعالى:"وأنزلنا من السماء ماءً طَهورا"(3)، مطلق في التطهير، والمطْلَق يدل على أصْلِ الفعل، وهو -هاهنا- التطهير لا المَرَّة والمرّتان، فإذا حصَلَتْ المَرَّة فقد حصل مُوجب اللفظ وبقِيتْ المرةُ الثانية فيه غيْرَ منطوق بها، فَتَبْقَى على الأصل غيرَ معتبَرَة، فإنَّ الأصل في الاشياء عدمُ الاعتبَار في التطهير وغيره، إلا ما وردت به الشريعةُ، قال: وهذا وجْهٌ قوِيٌّ حسنِ (4).

قلت: الاصل خلافُهُ، وهو الأظهر؛ فإنه لَمّا قَضَيْنا على الماءِ بمطلق التطهْير فذلك حاصل له وثابت مع المرَّة الأولى وثابتٌ له مع الثانية والثالثة هكذا، غيرُ زإئل حتى يدُل دليل على زوال ما ثبت له بذلك الإِطلاقِ، والله أعلم.

(2) عبارة القرافي هنا رحمه الله تعطى وضوحًا اكثر وهي قوله: وإن قلنا: إن سبب ذلك كونه أدِّيت به قربة اندرج فيه الماء المسْتعمل في المرة الثانية والثالثة، وفي تجديد الوضوء، ولا يندرج الماء المستعمل في غسل الذمية، لأنه لم تحصل به قربة، عكس ما تقدم، وانما حصل به ازالة المانع من الوطء

وهكذا تظهر عبارة البقوري وتتضح أكثر.

(3)

سورة الفرقان: الآية 48.

(4)

عبارة القراقي: وهذا وجْهٌ قوي حسن ومُدْركٌ جميل

ص: 362

القاعدة الثانية (5)

أقرر فيها ما يمكن أن يُنْوَى قُربة مما لا يكون كذلك، ثمّ ما يحتاج إليها ولا بد منها فيه ممَّا ليس كذلك، فأقول أوّلاً:

قال شهاب الدين رحمه الله: ما لا يمكن أنْ يُنْوَى قُرْبةً قسمان:

أحدهما النظر الأول المفْضي إلى العِلْم بثبوت الصّانع، فانعقد الاجماع على أنه لا يُمْكِن أن يُّنْوَى التقربُ به، فإنَّ قصدَ التقرب فرْعٌ عن اعتقاد ثبوت الصانع، وهو حينئذ لم يثبت فلا يصح. (6)

الثاني فعل الغير تمتنع النية فيه، فإن النية محصِّصَة للفعل في بعض جهاته من الفرض والنفْلِ وغر ذلك من رُتب العبادات، وذلك يتعذَّرُ على الانسَان في فعل غيره (7)، قال: وما عَدَا هذَيْنِ القِسْمَيْن تُمْكِنُ نيتُهُ.

قلت: وتنقضَه: النية لا تحتاج إلى نية، (8) ولا يمكن أن يُنْوى، فإنه لو كان كذلك للزم التسلسل، وهو محال، وما لزِمَ عنه المحال فهو محال.

(5) هي موضوع الفرق الثامن عشر بين قاعدة ما يمكن أن يُنْوَى قُربَةً وقاعدةِ ما لا يمكن أن يُنْوَى قُربَةٌ". جـ 1. ص 129.

(6)

علّقَ الشيخ قاسم ابن الشاط رحمه الله على هذا القسم عند الامام القرافي بقوله: "ما قاله في ذلكِ صحيح".

(7)

وعلَّقَ ابن الشاط على هذا القسم الثاني عند القرافي بقوله: قلتُ: لا يَخْلُو أن يُّريدَ أن نية فعْل الغير تمتنع عقلا أو عادةً أو شرعًا، أمَّا عقْلا او عادة فلا وجْه للامتناع، وأما شرعًا فالظاهرُ من جواز احْجَاج الصَّبيّ أن الوَالي ينْوى عنه، وكذلك في جَواز ذببحة الكتابي نائبا عن المسلم. وعلقْ على ما عدا هذين القسمين بقوله: ما قَاله في ذلك صحيح"

(8)

كذا في نسخة ع: "تنقضه" بالفعل المضارع. وفي نسخة أخرى: "ونقضه، هكذا "بالمصدر، والضمير يعود إلى ما سبق الكلام فيه عند القرافي في القسم الثاني المتعلق بفعل الغير، والذي لا يمكن أن ينوى قوبة، وكذلك ما بعده مما تمكن نيته.

والمعنى: وتنقض هذه القاعدة، وهي: النية لا تحتاج إلى نية، ما قرره القرافي وذكره قبل هذا التعقيب من الشيخ البقوري، فليتأمل هذا التعليق، وكلام القرافي قبله، فإنه دقيق.

ص: 363

قال شهاب الدين رحمه الله:

ثم الذي تمكن نيته، منه ما شرِعَتْ فيه النية، ومنه ما لم تُشرع فيه.

وبيان ذلك أن نقول: المشروعاتُ إمَّا مأذونٌ فيها واما مطلوبة، فالمأذون فيها لم تشرع النية فيها من ذلك الوجه، ولكن من نَوى التقَوِّيَ (9) بالمباح على طاعة الله فهو حسَنٌ، وله التقرب به من هذا الوَجْه.

والمطلوبُ إمّا مطلوب الترْك وإمَّا مطلوب الفعل، فالذي طُلب تركُه يصح فعله في الشريعة ويُجزئ دون نية، ولكن النية مع الترْك تُدْخله في الثواب، وبِلا نيَّةٍ كان معه السلامة من العقاب. (10).

والذي طُلِبَ فعله، إما أن تكون صورة فعله كافية في المصلحة الطلوبة منه أوْ لا، فإن كان الأول كرَد الديون فلا يحتاج إلى نية فيه، والنية أيضا تدخله في المثوبات، ولو لم تكن النية لما كان في ذلك ثواب.

قلت: هذا بَيْعُدُ، (11) فإن من أعْطى نفقة الأقارب والعيال، الظاهر من الشرع أن المثوبة له ولابد، لأنه خيْر ثعَدَّى منه إلى غيْره، وحصل نفْعُ غيره به،

(9) في نسخة ع: التقرب من القرب، والذي في نسخة ح: التقوي من القوة، وهو ما في نسخة اخرى ثالثة، وهو الأظهر والأصوب الذي يقتضيه السياق والمعنى المراد، وتدل عليه عبارة الإِمام القرافي بقوله: "فغيْرُ المطلوب لا يُنْوى من حيث هو غيْرُ مطلوب، بل يقصد بالمباح التقوى على مطلوب، كمن يقصد بالنوم التقوي على قيام الليل، فمن هذا الوجه تشرع نيته لا من جهة أنه مباح.

وقد علق الشيخ ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي فقال: ما قاله في ذلك صحيح.

(10)

عبارة القرافي: المطلوب في الشريعة قسمان: نَواهٍ وأوامر، فالنواهى لا يحتاج فيها إلى النية شرعا، بل يخرنج الإِنسان من عهدة المنهي عنه بمجرد تَرْكِهِ وإن لم يشعر به، فضلا عن القصد إليه، نعَم إن نوى بتركها وجْه الله العظيم حصل له الثواب وصار الترْك قرَبة.

قال ابن الشاط، ما قاله القرافي في ذلك صحيح.

(11)

كذا في نسخة ع، وح، بالفعل المضارع، وفي نسخة ثالثة: بَعيدٌ، على وزن فعيل بصيغة الصفة المشبَّهة باسم الفاعل في العمل.

ص: 364

وقال ص: "في كل كبِدٍ رطبة أجْرٌ"(12)، فهو لو سُرِق له كان له الأجر، فكيف، (13) وان كان الثاني، وهو ألَّا تكون صورته كافية في تحصيل مصلحته، فلا بُدَّ فيه من النية، وهذا كالأمور التعبدية كلها، فالصلاة شُرِعَتْ لتعظيم الرَّب تعالى وإجْلاله، والإِجلال إنما يحصل بالقصد.

قلت: هذا أحسَنُ من قوْل بعض الفقهاء في النية:

لِمَ كانتْ في الوضوء ولم تكن في إزالة النجاسة؟ والجميع طهارة، فقال: لأن إزالة النجاسة توجَّه الأمر إلى تركها، وما طريقُهُ التَّرْك لا يفتقر إلى نيَّة، يدلك عليه ترْك الكلام في الصلاة، (14) والوضوءُ إنما توجّه الأمر فيه إلى ايجاد فعل، وذلك يفتقر إلى نية، يدلك عليه الصلاة والصوم، فإنه ينقض عليه بالصوم، فإنه ترْكٌ وليس بفعل. (15)

قال: ونذكرُ هنا أربع مسائل:

(12) اخرجه الإِمام البخاري رحمه الله في باب فضل سقي الماء، وذلك كما جاء في أوله أن رجلا سقى كلبا يلهثُ من العطش، فشكر الله له ذلك فغفَر له، فقالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجْراً، قال:"في كل كبدٍ رطبةٍ أجْرٌ" أي في كل حيوان ذى كبدٍ رطبة اجر على إغاثته ونفعه.

(13)

كذا في جميع النسخ الثَلاث من الكتاب: ع، وح، ت، ولعل في الكلام حذفا مفهوما من السياق وما يقتضيه تمام المعنى وهو: كيف وقد انفقه وصرفه فيما حصل به نفع للغيْر، أي فيكون له الأجْر، وان لم ينو بذلك القرْبْةَ، والله أعلم.

(14)

كذا في نسخة ع، وهو واضح الدلالة والمعنى المراد، وفي نسخة أخرى: يدلك عليه الكلام في الصلاة، وفى نسخة ح:"فذلك علة ترْك الكلام". وما في نسخة ع هو الأظهر والأوضح، وهو الظاهر والأَصوب كما يظهر من سياق الكلام في أوله وآخره. فليتأمل ذلك.

(15)

هذا السَّطر الاخير من هذه الفقرة، وهو قوله: فإنه ينقض عليه بالصوم مرتبط بما قاله الشيخ البقوري وذكره في اول الفقرة من كلام بعض الفقهاء ومن تساؤله عن الفرق في كون النية مطلوبة في الوضوء، دون إزالة النجاسة مع ان الجميع طهارة، وجواب ذلك البعض عن ذلكم التساؤل

الخ.

والمعنى أن ما تساءل به ذلك البعض من الفقهاء، وأعطى جوابا عنه، يُنْقض عليه ويُعترَض عليه بأمر الصيام، فإنه ترْك وليس بفعل، ومع ذلك لابد فيه من النية مثل الوضوء والصلاة وغيرهما من فرائض العبادات.

ص: 365

المسألة الأولى، قال: تقدَّمَ لنا إن الإنسان لا ينوِي فعْل غيْرِه وإنما ينوى فعل نفسه، ونحن في الصلاة ننوي فَرْضها أَو نَفْلها، والنقلية أو الفرضية ليستْ كسبنا، وانما هي أحكام ورَدتْ علينا، لا دَخل لنا فيها.

فأجاب رحمه الله بأن قال: النية تعلقتْ بعَيْن الكتَسَب لِتَعُودَ للكاسب، أما استقلالا فَلَا. (16) قال: وبهذا نجيبُ عن كون الإِمام ينوي الإِمامة في الجمعة، مع أن فِعْل الامام مساوٍ لفعل المنفرد.

وإذا كان كذلك فهو نية بلا مَنْوي إذا قلنا: متعلق النية كونه مقتدى به، وهذا، وإن لم يكن من فعله، لكن صحتْ النية تبعا لما هو من فعله. (17)

المسألة الثانية: النية لا تحتاج إلى نية، قال جماعة من الفضلاء: لئلا يلزَم التسلسل، ولا حاجة إلى التعليل بالتسلسل، بل النية هي صورتها كافية في تحصيل

(16) كذا في النسختين: ع، وح. والذي في نسخة الفروق المطبوعة قوله: "والجواب عنه أن النية تتحلق بغيْر المكتَسَب تبعًا للمكتسِب، وبهذا نجيب عن سؤال صعب هو إلخ

وهذه المسألة المجاب عنها تتضح عند القرافي أكثر مما هي عند البقوري في هذا الاختصار، حيث قال القرافي رحمه الله:

تقدم أن الإِنسان لا ينوي إلا فعل نفسه وما هو مكتسَبٌ له، وذلك يُشكل بأننا ننوي الفرض والنفل، مع ان فرضية الظهر ونفلية الضحى ليستا من فعلنا ولا من كسبنا، بل حكمان شرعيان، والأحكام الشرعية صفة الله تعالى وكلامه ليست مفوضة للعباد، فكيف صحت النية في الأحكام؟ والجواب عنه ان النية

الخ.

(17)

علق ابن الشاط على كلام القرافي في هذه المسألة بقوله:

قلت: أليس تعيينه نفسه (اي الامام) للاقتداء به، وتقدُّمُهُ لذلك، من فعله؟ فذلك هو متعلق نيته، وسَهلتْ الصعوبة، والحمد لله.

وهو بذلك يشير إلى كلام القرافي السابق، حيث قال: وبهذا نجيبُ عن سؤال صعب، وهو أن النية تتعلق بغير المكتسَب تبعا للمكاسب اهـ. فعلّق عليه ابن الشاط بما سَبق من التعقيب والتصويب.

ص: 366

مصلحتها، لأن مصلحتها التمييز وهو حاصل بها، قصد ذلك أو لم يقصِدْ (18)

قلت: الأولى أن يقال: هو من القِسم الذي لا تصح فيه النية، كالنظر الأول إلى إثبات الصانع كما قلنا أولا، لا كما قال شهاب الدِّين رحمه الله في رده على الفضلاء، فانظره، والله أعلم.

المسألة الثالثة: الذي ينوي فرض صلاة الظهر خرج له سُنَنُ الظهر فلا يثاب عليها، وهذا لم يقلْهُ أحَدٌ، فإن قلنا: ينوي ما في الظهر من فرض الفرضية، وما به منْ سُنةٍ فينويهِ هو أيضا، لم يَقُلْ به أحد.

فأجاب بأن النية المجملة من حيث الفرضية عَمَّتْ الفروض والسُّنّنَ، وانسحبَتْ على ذلك إجماعا فلا تحتاج إلى تفصيل. (19)

قلتُ: يُوهِمُ كلامُهُ أن الإِجماع رفَع هذا الاشكال، ووجَبَ الانقيادُ له على ما هو الأمر عليه، وليس كذلك. فالفرض توجَّه نحو هذا المجموع من حيث هو مجموع، ثم ذلك المجموع له أجزاء، بعضُها فرائضُ، وبعضها سُنَنٌ، وبعضها فضائلُ، والنية متَوجِّهَة نحو المجموع الذي سمِّيَ بالظهر أو غيره من الأسماء. (20)

قلت: ومن تَمام هذِهِ القاعدة أن نبيّن الفرقَ بين ما تتوزَّع فيه النية فتصحُّ وبين ما لا يصح إذ ذلك (21) فنقول:

(18) علَّق ابن الشاط على هذه المسألة عند القرافي بقوله:

لقائل أن يقول: لا يلْزَمُ التسلسل، لأنه إذا نوى إيقاع صلاة الظهر مثلا لابُدَّ أن ينوي امتثال أمر الله تعالى في ايقاع الصلاة منوية، فإن النية في الصلاة مشروعة شرطاً في صحتها، ولم يشرع له ان ينوى نية امتثال حتى يلزم التسلسل، وعلى ذلك لا يصح قوله:"النية لا تحتاج إلى نية، والله أعلم".

(19)

علق الفقيه ابن الشاط على هذه المسألة عند القرافي بقوله: ما قاله فيها صحيح.

(20)

أقول: وتعقيب الشيخ البقوري رحمه الله، وتصويبه هذا يبدو دقيقا ووجيها، والله اعلم.

(21)

في نسخة ح: فيصح بالياء في الفعلين، على أن الضمير يعود على ما، وهو أظهر، على اعتبار أن الصحة وعدمها تتعلق بما تتوزعه النية، لا بالنية نفسها.

ص: 367

قيل: ما لا يجوز فيه تِفريق النية من العبادات، العبادة المرتبطة بعضها ببعض، حتى إن أولها ليفسُدُ بفساد آخرها ولا يتخلّلُها ما ليس من جنسها، كالصلاة، هذه لا يصحُّ التوزيع في نيتها، وما لمْ يكُن مرتبطا كالزكاة يجوز التفريق، وماكان مرتبطا ولكنه تخلَّلها ما ليْسَ من جنسها كالوضوء، قيل: بالتفريق، وقيل: لا يجوز، وكالحج فإنه يُفَرقُ.

القاعدة الثالثة (22)

نقرر فيها الفرق بين ما يُبَسْمَلُ فيه ممّا لَا، فنقول:

أفعال العباد إما قُرُباتٌ وإما مُحَرمات، وإمّا مكروهات، وإما مباحات، .

فالمباحات جآت البسملة في بعضها كالأكل والشرب والجماع، والحثُّ على ذلك في بعضها آكَدُ من بعض، ولم يات (اي الحث) في كل شيء من المباح، وما لم يات فيه فحسَنٌ (23) للانسان أن يستعمله ليجدَ بركة ذلك. وأما المحرَّمات والمكروهات فيكره له التسمية عند الشروع فيها، من حيث قصْدُ البركة بها، وذلك لا يُرَادُ في الحرام والمكروه، بل المراد من الشرع عدَمُهُ وترْكُهُ، وأمّا القُرُبات فقد

جاء في بعضها وأكد فيه كالذيح، وجاء عند قرآة القرآن.

(22) هي موضوع الفرق التاسع عشر بين قاعدتي ما تُشْرع فيه البسملة وما لا تشرعُ فيه". جـ 1 صفحة 132.

قال الشيخ خليل بن اسحاق المالكي في مختصره الفقهي، وهو يعُدُّ فضائل الوضوء ومستحباته التي من بينها التسمية، بأن يقول المرء باسم الله في أول الأمر، قال:

وفضائله موضع طاهر، وتلة ماء بلا حَدٍّ كالغسل، وتيمُّنُ أعضاء وإناء إن فتح، وتسمية.

ثم زاد قائلا: وتُشرع (أي التسمية) في غسل وتيمم، وأكل وشرب وذكاة، وكوب دابة وسفينة، ودخولٍ وضده لمنزل ومسجد، ولبس وغلق باب، واطفاء مصباح ووطء، وصعود خطيب منبرا، وتغميض ميت ولحده

والمشروعية حالة السنية والاستحباب، والوجوب كالذكاة مثلا، فإن التسمية فيها واجبة مع الذكر والقدرة.

(23)

في نسخة ح: يحسُنُ بالفعل المضارع، وهو ما يظهر من كتابة الكلمة في النسخة.

ص: 368

واختُلف فيه في بَعْضِها كالغسل والوضوء والتيمم، وليس مشروعًا عند الأذكار، ولكنهُ إن استُعمِلَ فحسَنٌ فهو الظاهرُ مِنْها مع الْقُرُباتِ بأجْمَعِها، والله أعلم. (24)

القاعدة الرابعة (25)

نُقَرِّرُ فيها الفرق بين الإِزالة والإِحالة بحسَبِ النجاسات، فنقول:

ذهاب النجاسة في الشريعة يقع بثلاثة أوجه: بالإِزالة، والإِحالة، وبهما معا، ولكلِ وجْهٍ خاصيةٌ يمتاز بها.

فالإِزالة بالماء في الثوب والجسد والمكان، والإِحالةُ في الخمر تصير خلّا، وهُما معا في الدِّباغِ فإنه إزالةٌ للفَضلات المستخبثَة، بالدباغ الْقابِضِ الذي يوجب العصر فيخْرِجُ ما في الجلود من ذلك، وأما الإحالة فلأنَّ صفة الجلود تتغير عن هيئتها إلى هيئة أخرى. فخاصيَةُ الإِزالة، الماءُ الطَّهُور، والنيةُ على الخلاف، ووصولُ الغسل إلى حدِّ ينفصل الماء غير متغير، وأن السبب الاستقذار. وخاصية الاحالةِ

(24) وتمام هذا الكلام وتوضيحه أكثر، ما جاء عند القرافي في هذا الفرق وهو مهم أنه قال: "وهذه الأقسام تتحصَّلُ من تفاريع أبوابٍ الفقه في المذهب.

فأما ضابط ما تُشرع فيه التَّسْمِيَّة من القربات وما لم تُشرعْ فيه فقد وقع البحث فيه مع جماعة من الفضلاء، وعسُرَ تحرير ذلك وضَبْطهُ، وأن يعضهم قد قال: إنها لم تُشْرَع في الأذكار وما ذكر معها، لأنها بركة في نفسها، فورَد عليه قراءة القرآن، فإنها من أعظم القربات والبركات، مع انها شِرِعَتْ فيه

فإن الإِنسان قد يعتقد أن هذا لا إشكال فيه، فإذا نبه على الإِشكال استفاده وحثَّه ذلك على طلبَ جوابه، واللهُ تعالى خلاق على الدوام، يهَب فضله لمن يشاء في أي وقت شاء" اهـ.

وقد علق الفقيه ابن الشاط على ما جاء عند الإِمام القرافي في هذا الفرق بقوله: ما قاله فيه صحيح.

(25)

هي موضوع الفرق الثمانين بين قاعدة الإزالة في النجاسة وبين قاعدة الإِحالة فيها. جـ 2 ص 111.

ص: 369

عدمُ الماء، والنية والاستقذار، فلا يُحتاج للماء، بل قد يوجَد مع عدمه (26) وقد يلقى في الخمر ما يكون ذلك سبباً لإِحالة الخمرْ خَلا، وكذلك السبب في تنْجيسها طلبُ الإِبْعاد، لا الاستقدارُ، والنية مانعة من التطهير. والصورة التي يجتمعان فيها، خواصها عدم اشتراط الماء، وعدم اشتراط النية إجماعا، والاستقذار. (27)

قاعدة تُعْرَفُ بِجَمْع الفرق، وهو أن العنى الواحد يوجب الضدين المتنافَيْين، وهو قليل في الشريعة، وله أمثلة:

أحدها هذه المسألة، فإن القصد مناسِبٌ للتطهير، فاشترطه من اشترط والمناسبة في الإِزالة، وجَعَله مانعا في الإِحالة، سداً للذريعة، فإنه إذا جوزنا القصد للتخليل جوّزْنا إبقاءها في المِلْك، ففي ذلك الزمان ربّما انْبَعَثَتْ الدواعي على ما لا ينبغي، فترتب على القصدِ الضَّدّانِ: الإِباحةُ والمنعُ.

الثاني: السفيه يُمْنع من التصرف في مالِهِ حيطةً على ماله، وتمضى وصيتُه وتُنَفَّذ، مخافة أن لا يصل اليه نفع بماله.

(26) كذا في النسختين بالياء، وفي كتاب الفروق: "فلا تحتاج للماء، بل قد توجَدُ مع عدمه. وقد يُلقَى في الخمر ماءٌ فيكون ذلك سببا لإِحالتها للخلِّية، غير أن الماء غيرُ محتاج إليه في الإِحالة ويحتاج إليه في الماء.

(27)

كذا في النسختين، والذي عند القرافي في هذه الفقرة هو قوله: "وأما الصُّورة التي يجتمعان فيها (أي الإزالة والإِحالة)، وهو الدِّباغ، فمن خواصِّه عدم اشتراط الماء وعدم اشتراط النية اجماعا، وليس القصد مانعا اجاعا، بخلاف الاحالة المنفردة، والاستقذار والاستخباث سببُ التنجيس لأجْل ما فيها من النجاسة، فخواصها أيْضا ثلاثة، فهذه خواصُّ هذه القواعد، وبها يحصلُ الفرق بينها اهـ.

وقد وقع في هذه القواعد والفرق بينها قاعدة تعرف بجمع الفرق، كما تعرف عند علماء الأصول بجمع المتفرقات.

ص: 370

الثالث، الجهالة ممنوعة في البيع والإِجارة، والأجلُ المحدودُ لا يصحُّ أن يعيَّن منه يوم لخياطة ثوب مثلا، فصار الجهْلُ مطلوبا متروكا. (28)

الرابع، الأنوثة اقتضى ضَعفُها التأخرَ عن الولايات، واقتضى ضعفها ولايةَ الحضانة.

قلت: ليس ضعفها أوجب تقدمها قط، بل الضعف موجبٌ للتأخر أبدا، وما تقدمت في الحضانة إلا لأنها في ولَايةِ الأولاد أقوى من الرجُل كما يقرَّر في موضعه.

الخامس، قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اقتضى تعظيمُها بذْل المال لهَا، واقتضى أيضاً منع الربهاة منهم، فكانتْ هذه الأشياءُ تُوْجِبُ فيها ما قلناه. (29)

القاعدة الخامسة (30)

نقرر فيها أن إزالة النجاسة ليستْ من باب الرخصة في الشريعة.

وبيَان ذلك أن نقول أوّلا:

إن قوما قالوا: إن النجاسة إذا مسها ماءٌ، تنجس بمُلاقاته لتلك النجاسة، (31) فإذا لاقاه آخر فكذلك، فلا يُتصوَّرُ تطْهير للنجاسة أبداً.

(28) هذه المثال الثالث جاء واضحا عند القرافي أكثر، فقد فصل في ذلك فقال رحمه الله:

الجهالة مانعَةٌ من عقد البيع والإِجارة ونحوهما، وهي شرط في الجعَالة والعارية والقراض، فلا يجوز إلى يَوْمٍ معلوم، لأن المطلوبَ قد لَا يَحْصُل في ذلك الأجل، فاقتضت مصلحةُ هذه العقود أن يكون الأجل مجهولا، ولذلك لا يجوز أن يحَدِّدَ لخياطة الثوب وغيره من الاجارات يوما معلوما، لأنه يوجب الغرر، ويُفَوِّت المصلحة، بل المصلحة تقتضى بقاء الاجَلِ مجهولا" اهـ.

(29)

قال الشيخ شهاب الدين القرافي هنا رحمه الله: "وإنما قلتْ هذه النظائر، لأن الأصل في المناسب أن يُنافِيَ ضدَّ ما يُناسِبُهُ.

(30)

هي موضوع الفرق الحادي والثمانين (81) بين قاعدة الرخصة وقاعدة إزالة النجاسة. ح.2، ص 113.

(31)

في نسخة ع: ما تنجَّس، وفي نسخة أخرى ما ينجس. والصواب ما في نسخة ح، وهو: أن النجاسة إذا مسها ماءٌ، تنجس بملاقاته لها، فيكون الكلام تام المعنى بذكر شرطِ إذا وَجَوابها، ويكون مجموعهما خبرَ إن، والخبر هو الجزء المتمم للفائدة ح المبتدأ، بخلاف ما في النسخَتين الأخريين لا يكون الكلام تاما.

وعبارة القرافي رحمه الله في اول هذا الفرق هي قوله: وذلك أن جماعة من العلماء، قالوا: إزالة النجاسة رُخصة بسببِ أن السبب في تنجيس الطاهر ملاقاته للنجس إجْماعا".

ص: 371

والجواب أن النجاسَةَ ليست نجاسَتُها من حيث عينُها وجَوْهَرُها، بل لعرَضٍ ووصف لاحِقٍ بذلك الجوهر، فإذا ذهبَ ذلك العرضُ من الرائحة أو اللون أو الطعْم فقد ذهبت النجاسة وزالت حقيقةً لا رخصةً، فإن الحكم تابعٌ لِلسَبَّبَ، فإذا زال سَبَبُهُ زال هو، واذا وجِدَ وُجِدَ الحكم.

قلت: ذكر شهاب الدين رحمه الله الفرق بين النجاسة في الباطن من الحيوان، وبين ما يَرِدُ على الباطن، (32) رأيت إلحاقه بهذه القاعدة أوْلى فأقول:

الفرق بين ما ينشأ في باطن الحيوانات من النجاسات وبيْن ما ورد عليه من النجاسات، أن الذي نشأ فيه، أصله الطهارة فاسْتُصْحِبتْ، والواردُ قُضي عليه بالنجاسة قبل أن يرِدَ، فكان الأصل فيه النجاسة فاستُصْحِبَتْ، فاستصحابُ الحُكْم فيهما أوجب الحكْمَيْن المختلِفين، وسواءٌ في هذا، الدّمُ والبلْغم، والسوْداءُ والصفراء وسائر الأتفال والفضلات المائعات، وانما يقَع التنجيس بعد الانفصال، ويقع عند مالك في بعضها لا في الكل، إذْ الصفراء والْبَلغم ليسا بنجَسين عنده، بخلاف الدّم والسوداء والاتفالِ والبول، وفي العَرَق إذا كان عن نجس - قولان، واللهُ الموفِّقُ للصواب. (33)

(32) هو الفرق الرابع والثمانون بين قاعدة النجاسات في الباطن من الحيوان وبين قاعدة النجاسات ترد على باطن الحيوان". جـ 2. ص 119.

(33)

وقد ذكر الشيخ خليل رحمه الله في مختصره الأشياء الطاهرة وعدّها، فقال:

فصْل: الطاهِرُ ميْتُ ما لا دم له، والبحري ولو طالت حياته بِبَر، وما ذُكيَ وجُزُؤه إِلا محرم الأكل، وصوف ووبَرٌ وزغبُ ريش، وسْعَرٌ ولو من خنزير إن جُرتْ، والجماد وهو جسْمٌ غيْرُ حيّ وغير منفصل عنه، (كالتراب والحجر والماء) إلا المسْكِرَ، والحيُّ (اي والطاهر الحي، ودمعُه وعَرَقُهُ ولعابه ومخاطه وبيضه، ولو اكل نجسا إلا البيض المَذِرَ (أي العَفِنِ) والخارج بعد الموت، ولبن آدمي الا الميت، ولبن غَيْره تابع أي للحمه في الطهارة بعد التذكية، وبول وروْث من مباح الا المتغذي بنجس، وقيء إلَّا المتغير عن الطعام، وصفراء، وبلغَمٌ ومرارة مباح، ودَمٌ لم يسفح، وهو الباقي في عروق الحيوان المباح المذكي، ومسك وفارته (أي الجلدة التي يكون فيها، وزرع سقي بنجس، وخمرٌ تحجر او جمد لزوال الاسكار منه، (والحكم يدور مع علته وجودا أو عدما)، او خمر خُلِّلُ (أو تخلل بنفسه) لنفس العلة، وهي زوال الاسكار عنه، فهذه أشياء كلها طاهرة كما عدها الشيخ خليل رحمه الله.

ص: 372

القاعدة السادسة (34)

في الفرق بين إزالة الوضوء للجنابة بالنسبة إلى النوْم خاصة، وبيْن إزالة الحدث عن الرجْل خاصة بالنسبة إلى الخُفِّ.

جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الجُنُب (35) بالوضوء إذا اراد النومَ، فقال الفقهاء: إنه رافع للجنابة بالنسبة إلى النوم خاصة، ولا يزيل الحدث الأصغر وإنما يزيل جنابة أخرى.

قلت: وينبغي أن يقولوا: وهو رافع للجنابة بالنسبة إلى الأكل، لما جاء في ذلك أيضا.

ثم إنهم قالوا أيضا: الماسح على الخُفِّ إذا غسَل إحدى رجليه ثم لبس خفه قبلَ غسْل الأخرى، هل يصح له المسح على هذا الغسْلِ أم لا؟ قولان،

(34) هي موضوع الفرق الثاني والثمانين بين قاعدة ازالة الوضوء الجنابة بالنسبة إلى النوم خاصة، وبين قاعدة إزالة الحدث عن الرِّجْل خاصة بالنسبة إلى الخف، جـ 2 ص 114.

قال عنه القرافي رحمه الله في اوله: إعْلَمْ أنه قد وقع في مذهب مالك رحمه الله وفي غيره من المذاهب فتاوى مشكلة في الأحداث وأحكامها، وقد ورد الحديث الصحيح في الجنبِ يريد النوم أنه يتوضا للنوم خاصة لا للصلاة ولا لغيْرها، فقال الفقهاء: هذا وضوء رفع حدث الجنابة، بالنسبة إلى النوم خاصة، إلى آخرها ما ذكره القرافي، وأورده الشيخ البقوري مختصرا في هذه القاعدة.

ولم يعلق ابن الشاط بشيء على ما جاء عند القرافي في هذا الفرق، رحمهم الله جميعا.

(35)

كذا في كل من نسختي ع، وح بالمصدر، وفي نسخة أخرى: أنه أمَرَ الجنب بالوضوء ونصُّ الحديث في الموطأ عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: "إذا أصاب أحدكم المرأة ثم أراد أن ينام قبل ان يغتسل فلا يَنَمْ حتى يتوضأ وضوءه للصلاة

" قال ابن رشد في المقدمات: والمسنون منه وضوء الجنب إذا أراد أن ينام، أو قبل أن ينام. وقال ابن جزي رحمه الله متحدثا عن أنواع الوضوء وأقسامه الخمسة: وأما السنة فوضوء الجنب للنوم، وأوجبه ابن حبيب من المالكية وكذا الظاهرية".

أقول: ويُمْكِن اعتبار الوضوء من الجنابة للنوم من باب التعبد، حيث أمرنا الشارع بفعله ولم يطلعنا على حكمته، ما دام هذا الوضوء لا يغني عن الاغتسال ولا يقوم مقامه، كما يمكن دخوله في باب التخفيف والتيسير على الْمرْءِ يجعل المومن يشعر حين توضأ وكأنه قد زالت عنه الجنابة وتخفف منها وكذا الأمر بالنسبة للأكل، وهذا اللحظ التعبدي في هذه المسألة سنجد البقوري نبه عليه فيما ياتي له من كلام القرافي رحمه الله.

ص: 373

أجْرَوْا الخلاف على أنه يكمل كل عضو بالفراغ منه ويَرْتْفع حدثه أو حتى يتم الجميع؟

وردَّ عليهم شهاب الدين في هذا من حيث إن الحدث الذي يصح رفعُه هو المنْعُ من الصلاة وما أشبهها، لا الأسبابُ التي توجب الوضوء كالبول والغائط، فإنها لا يصح رفعهَا (36)، فإذا كان كذلك فالمنع ليس متعلقا بالأعضاء حتى يقال هذا الذي قالوه، وإنما هو متعلق بالمكلف.

ثم قال: فإن قيلِ: فلِمَ لا يجوزُ أن يكون يرفَعُ المنعَ (37) عن المكلف باعتبار لبس الخف خاصَّةَ ويبقى المكلف ممنوعا من الصلاق كما قيل في الوضوء يرفع الجنابة باعتبار النوم خاصة، فتكون القاعدة كالقاعدة؟

فأجاب بأن القول بأن الوضوء يرفع الحدث الأكبر باعتبار النوم خاصةً، سببه الحديث الوارد، وهذه الامور تعبدية، والأمور التعبدية لا قياس فيها. فالقول برفع الحدث عن كل عضو، باطل، وانما يصح لو ثبتتْ الاباحة عقِبَه، لكن المنعَ باق إجماعاً، فالحدث باقٍ.

فظهر أن المنع متعلق بالمكلف لا بالأعضاء، لأجْل ذلك لا يصح شيء من هذه القاعدة، أعني قاعدة الخُفِّ.

ويظْهر لك أيْضا بطلان قول من يقول: التيمُّم لا يرخ الحدث، من حيث إن الحدث، المراد به المنعُ من الصلاة، والمنع متعلق بالمكلف لا بالأعضاء، ولا

(36) فالحدث كما قال القرافي، له معْنيانِ: أحدهما الأسباب الوجبة له (اي للوضوء والغسل) كالخارج من السبيلين ونحوه على وجه العادد. وثانيهما المعْنى المرَتَّبُ على هذه الأسباب، يسمى حدثا ايضا، وهو حكم شرعي يرجع إلى التحريم الخاص بالإِقدام على الصلوات ونحوها، فهذا المنع يسمى حدثا ايضا، وهو الذي يقول الفقهاء فيه: إن المتطهر ينوي رفع الحدث، أي ينوي بفعله، ارتفاع ذلك المنع، والمنعُ قابل للرفع، كما يرتفع تحريم الاجنبية بالحقد، وتحريم المطَلَّقة بالرجعة، وتحريمُ الميتة بالاضطرار، وأما رفع تلك الفضلات الخارجة من السبيليْن فمتعَذر. اهـ.

(37)

في نسخة: لِمَ لا يجوزُ أن يكون يرتفع المنع عن المكلَّف.

والعبارة كما في كتاب الفروق: فإن قلت: فلِمَ لا يجوز أن يكون غسْلُ الرِجْل يرتفع المنعُ به من المكلف باعتبار لبس الخف خاصة

" الخ

ص: 374

خلاف أن المتيمم إذا استعمل تيممه بشروطه فإنه يصح له أن يصلي به، فكيف يقال: لا يرفعُ الحدث.

قلت: بعض اصحابنا المالكيين يقول: كان للابس الخُف المسْحُ عقب الطهاز بالماء ولم يَكُنْ عقب التيمم، والجميعُ طهارةٌ تستباح بها الصلاة، من حيث إن التيمم لا يرفعُ الحَدَث، فلم يَجُزْ أن يمسح بذلك. لأنه برؤية الماء يلزمه غسل رجليه، وليس كذلك الطهارةُ بالماء، لأنه يرفع الحدث، فهو أقوى من التيمم فافترقا. وهذا ما ذكره. وعلى ما ذكره شهاب الدين يبطُلُ له هذا التعليل.

وأيضا، فالظاهر أن يقال: المسحُ على الخفِ رخْصة، وهو إنما ورد عقبَ الوضوء، لقوله عليه الصلاة والسلام:"دعْهُما فإني أدْخلتُهما، وهُما طاهرتان"، فلا يقاس التيمم على ذلك، لأن الرخَصَ تُقصَرُ على ما وردت عليه. وايضا، فالمسحُ إنما كان تخفيفا، وما يُعمَل ذلك إلا بحسب المتوضيء لا بحسب المتيمم. ومن قال بأنه لا يرفع الحدَثَ استدل بقوله صلى الله عليه وسلم لجنُبٍ:"أصَلَّيتَ بأصحابك وأنتَ جُنُبٌ"(38)؟ ! وأيضا، فإنه إذا وجد الماء يغتسل.

(38) عن عَمْرو بن العاص قال: احتلمتُ في ليلة بارق في غزوة ذات السلاسل. فأشفقْتُ أنْ أغتسِلَ فأهلِكَ، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عَمْرُو، صَليتَ بأصحابك وأنت جُنُبٌ؟ ، فأخبرتُه بالذي منَعني من الاغتسال، وقلت: إني سَمعتُ الله يقول: "ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما"، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا"، أخرجه الإمامان: البخاري وابو داود رحمهما الله.

وفي مسألة رفع التيمم للحدث الاكبر والأصغر أو عدم رفعه لذلك، قال ابو الوليد محمد بن رشد الجد في محابه الشهير: "المقدمات الممهِّدات لبيان رسوم المدونة من الاحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات، قال فيها رحمه الله:

فصل: "والتيمم لا يرفع الحدث الأكبر ولا الأصغر عند مالك -رحمه الله تعالى- وجميع اصحابه وجمهور اهل العلم، خلافا لسعيد بن المسيب وابن شهاب في قولهما: إنه يرفع الحدث الاصغر دون الاكبر، وخلافا لقول أبي سلمة بن عبد الرحمان في أنَّه يرفَعُ الحدثين جميعا: حدَث الجنابة، والحدث الذي ينقض الوضوء .... "

ثم قال ابن رشد بعد ذلك: "وإذا كان التيمم عيد مالكٍ واصحابه لا يرفع الحدث جملة فإنه يستباح به عندهم ما يستباح بالوضوء والغسل من صلاة الفرائض والنوافل وقرآة القرآن، نظرا وظاهرا، وسجود التلاوة وما أشبه ذلك مما تمنعه الجنابة او الحدث الذي ينقض الوضوء

"

ص: 375

وقد أُجيبَ الأولُ بالمنع من اقتضاء ذلك ما قصدوه. والثاني (39) بأن الرفع كان لغايةٍ، على نوع ما يكون النكاح مُبيحاً إلى غاية الطلاق.

قلت: ولنذكر مسائل، تتمةً للباب.

= قلت: وانظرْ هذا مع ما سبق عند القرافي من اعتباره بطلان القول بعدم رفع التيمم للحدث، وتساؤله بصيغة الاستبعاد لهذا القول حين قال: فكيف يقال: إنه لا يرفع الحدث؟ !

وليتأمل في التوفيق والتحقيق في هذه المسألة بيْن ما قاله ابن رشد، وما قاله القرافي رحمهما الله.

(39)

كذا في كل من نسخة ع، وح: "وقد أجيب الأول بالأخ

، والثاني بأن الرفع كان لغاية

).

وفي نسخة ثالثة: وأجيب عن الاول وعن الثاني، ويكون الضمير في هذا الفعل نائبا عن الفاعل، عائدا على القائل من الفقهاء بأن التيمم لا يرفع الحدث، فأجيب عن دليله الاول النقلي، وعن دليله الثاني العقلى، وعن دليله. الثالث الذي هو الترجيح بقول الجمهور، ويظهر أن ما في هذه النسخة أوضح وأبْين، يؤيد ذلك ما جاء عند القرافي هنا حيث قال في الجواب عن الاول .... ، وعن الثاني .... " وعن الثالث .... الخ.

وهذه الفقرة المختصرة هنا عند البقوري تتضح أكْثر بكلام القرافي مفصّلا ومتوسعا فيها حيث قال:

ويستفاد من هذا البحث أيضا بطلان قولهم: إن التيمم لا يرفع الحدث، (وهو عكس المسألة الاولى) التي قيل فيها بأن الحدث يرتفع عن كل عضو وحده بغسله، وهي كذلك مقالة باطلة عند القرافي وفي نظره، بسبب أن الحدث هو المنع الشرعي من الصلاة، وهو متعلق بالمكلف، وهو بالتيمم أبِيحَتْ له الصلاة إجماعا، وارتفع المنع اجماعا، لأنه لا منْع مع الاباحة، اذ هما ضدان، والضدان لا يجتمعان، واذا كانت الاباحة ثابتة قطعا، والمنعُ مرتفعا قطعا، كان التيمم رافعا للحدث فطعا، فالقول بأنه لا يرفع الحدث باطل قطعا.

ثم قال القرافي: فإن قلت: يدل على انه لا يرفع الحدث النص والعقول.

1) النصُّ قوله صلى الله عليه وسلم وسلم لمن كان جنُبا فتيمم وصلى بالناس: "أصليتَ بأصحابك وأنتَ جنُبٌ؟ " فسمَّاه جنبا مع التيمم.

2) وأمّا المعقول فلأِنه يجب عليه استعمال الماءِ في غسل الجنابة إذا وجد الماء، فلو كان الحدث ارتفع لكانت الجنابة ارتفعت بالتيمُّمِ، ولمَا احتاج للغسلِ عند وجود الماء، فهذا ظاهر في بقاءِ الحدثِ وصحة القول به.

3) ثم هذه المقالة قال بها اكثرُ الفقهاءِ، والقائلون بأنه يرفع الحدث قليلون جدا، والحقُّ لا يفوتُ الجمهورَ غالبا.

ثم قال القرافي رحمه الله: قلت: الجواب عن الاول أنّ قوله صلى الله عليه وسلم خرج مخرج الاستفهام للاستطلاع على ما عند المسؤول من الفقه وبماذا يجيب، فيظهر فقهه لرسول الله ص، كما سأل معاذاً لما بعثه إلى اليمن، بمَ تحْكم؟ قال: بكتاب الله تعالى. إلى آخر الحديث، لا أنه عليه الصلاة والسلام أصدرَ هذا الكلام مصدر الخبر الجازم حتى يلزم الحجة منه، ولو كان قد خرج

ص: 376

المسألة الأولى (40): قال مالك بغسل قليل النجاسة كثيرها، وهو لا يقول بغسل قلِيل الدم، فلِمَ كان هذا، والجميع نجاسة؟

فالجواب أن قليل الدم لا يمكن الاحتراز منه، لِأن الانسان لا يخلو عنه، كذلك سائر النجاسة، لأنها يمكن الاحتراز منها من غير مشقة.

= مخرج الخبر لوجب تاويله وحملُهُ على المجاز، لآن ما ذكرناه نكتة عقلية قطعية، فمتى عارضها نص وجب تاويله، هذا هو قاعدة تعارض القطعيات مع الالفاظ.

وعن الثاني بأن وُجُوبَ استعمال الماء عند وجوده ليس متفقا عليه، فلنا منعه على ذلك القول. ولو سلمناه لكنا نقول: التيمم رفع الحدث ارتفاعاً مغيّىً بأحد ثلاثة اشياء: إمَّا طريان الحدث بأن يطأ امرأته او يباشر حدثا من الاحداث، أو يفرغ من الصلاة الواحدة وتوابعها من النوافل، فيصير محدِثا حينئذ، ممنوعا من الصلاة، أو يجد الماء فيصير محدِثا عند وجود الماء، ويكون الحكم ثابتا إلى آخر غايات كثيرة او قليلة فهو معقول.

وأما ثبوت المنع الاباحة واجتماع الضدين فغير معقول، واذا تعارض المستحيل والممكن وجب العدول إلى الفول بما هو ممكن، وقد رفع استعمال الماء الحدث إلى غاية وهي طريان الحدث، فجاز أن يرفع التيممُ الحدث إلى غايات، وكذلك المرأة الأجنبية ممنوعة محرمة، والعقد عليها رافع لهذا المنع ارتفاعا مغُيَّى بغايات هي: الطلاق، والحيض، والصوم، والإِحرام، والظهار

وعن الثالث مِنْ أن كون الجمهور على شيء (او قول) يقتضى القطع بصحته، بل القطع انَّمَا يحصل في الإِجماع، لأن مجموع الأمة معصوم، أما جمهورهم فلا. فالظاهر أن الحق معهم، والظاهر إذا عارضه القطع قطعنا ببطَلان ذلك الظهور، وها هنا كذلك، لِأن اجتماع الضدين مستحيل مقطوع به، فيندفع به الظهور الناشئ عن قول الجمهور، فظهر لك بهذه المباحث بطلان هذين القولين (اي ثبوت المنع مع الاباحة)، وكون الجمهور على شيء يقتضى القطع بصحته)، وظهر الفرق بين قاعدة رفع الوضوء الجنابة باعتبار النوم، وقاعدة رفع غسل الرجل للحدث باعتبار لبس الخف" اهـ.

وبهذا التفصيل والتوسع في هذا البحث والحوار والحجاج النقلي والعقلي حاول القرافي رحمه الله الاقناع بقوله: إن التيمم يرفع الحدث، وترْجِيحَهُ على القول بخلافه، فيتأمل في ذلك بِنظر وتأمل.

(40)

هذه المسألة والمسائل الثمانية الاخرى الموالية لها، هي مما أورده وأضافه الشيخ البقوري في كتابه هذا إلى كتاب الفروق، وهي واردة في نسخة ح، ومذكورة فيها، وكذلك في نسخة من تونس.

وهي تدل على مكانته وسعة اطلاعه وتمكنه من العلوم الشرعية وهضمه القواعد الفقهية بكيفية عامة، ولاستيعابه لكتاب شيخه الفراقي في الفروق بكيفية خاصة، للقواعد والعلوم والمعارف كما يقول العلماء، مِنَحٌ الإِهية، ومواهب اختصاصية، فغيْرُ مستغربٍ ولا مستبعَدٍ أن ييسِّرَ الله لِكثيرٍ من المتأخرين ما عسُر فهمُه على كنير من المتقدمين، وأن يدخر لهم ما غاب عن إدراك عديد من السابقين، وذلك فضل الله، يوتيه ويختص به من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

فرحم الله الجميعَ ونفع بعلومهم، آمين.

ص: 377

المسألة الثانية: قال مالك: يَمْسَحُ على الخفين إذا لبسهما بعد كمالَ الطهارة بالماء، وأما بالتيمم فلا يمسح عليهما، والجميع طهارة تستباحُ بها الصلاة، فما هو الفرق؟

فالجواب أن التيمم كان طهارة للضرورة، وذلك من حيث استباحة الصلاة به ولا يرفع الحدث، فَلم يَجُزْ أن يمسَحَ على الخفيْنِ، لأنه برؤية الماء يلزمُهُ غسل رجليه، وليس كذلك الطهارة بالماء.

قلت: بل الأولى أن يقال: المسحُ على الخفيْنِ رخصة، وهي إنما وردَتْ عقبَ الطهارة بالماء لا عقِبَ التيمم، فتُقْصَرُ الرخصة على محلها، وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم للمغِيرة، دعهما فإني أدخلتهما، وهما طاهرتان.

المسألة الثالثة: قال مالك: لا يُمْسَحُ على الخفين إلا بعد لبسِهما بعْدَ كمال الطهارة، ويمْسَحُ على الجبائر والعصائب وان لبسَهُما على غير وضوء، والجميع حائل، فلِمَ كان الفرق؟

فالجواب: ان الجبائر والعصائب، شدُّهما ليس موقوفا على اختياره، وانما هو على حسب ما تدعو اليه الحاجة، فقد يحتاج اليها وهو على غير وضوء، ولا يمكنه الصبر إلى أن يتوضأ، فلم يُعتَبَرْ في جواز المسح عليها أن يكون لبسهما على طُهْرٍ، والخفانِ ليس كذلك، لأنَّ لبسمهما موقوف على اختياره.

المسألة الرابعة، قال ابن القاسم: يجبر المسلِم امرأته النصرانية على الغسل من الحيض، ولا يجبرها على الغسل من الجنابة، وفي كلا الموضعين هو إجبار على غسل ليست مخاطَبَةً به، فالجواب أن المسلِمَ لا يجوز له وطء زوجته حتى تغتسل من الحيض، وله أن يطأ زوجته قبل أن تغتسل من الجنابة، فافترقا.

المسألة الخامسة، إذا أراد الجنبُ النومَ توضأ ولا يَلزَمُ ذلك الحائضَ، والحَدَث الموجود بهما يوجب الغسل، فالجواب أن الوضوء أمِرَ به الجنبُ ليكون ذلك سببا للاغتسال عند الشروع، والحائض لا يصح منها ذلك قبل انقطاع دم

ص: 378

الحيض، وأيضا فالجنُبُ قادر على رفع حدثه بالاغتسال، فلمَّا تركه غُلِّظ عليه بالوضوء، والحائض غير قادرة ولا مامورةٍ، فلم يتوجّهْ عليها تغليظ.

المسألة السادسة، لا يتكرر المسح في الوضوء ويتكررُ الغسلُ، والكل طهارةٌ، فلِمَ كان ذلك؟ فالجواب أن الغسل موضوع على التثقيل، فناسَبَ التكرار، والمسحُ موضوع على التخفيف فلم يناسب التكرار.

المسألة السابعة، قال مالك: لا يجوز المسح على خِمار وعِمامة ويجوز المسح على الخفيْن، وفي كلا الموضعين الْمسحُ على حائل دُون عذرٍ، فالجواب أن المشقة تلحق في نزع الخف عند ارادة الوضوء، ولا تلحق في مسح الرأس.

المسألة الثامنة، قال مالك: إذا مسَحَ رأسَه ثم حَلَقه لمْ يُعِدْ مسحه، وإذا خاح خفّيْه بعْدَ أن مسح عليهما غسل رجليه، وفي كلا الموضعين هُوَ ماسِحٌ على حائل فى ون البَشرة، فالجواب أن شعر الرأس أصْل بنفسه، وليس بَدَلا عن غيره، والخفُّ بدل، فإذا طَهُر المبْدَلُ عنه زال البدلُ.

المسألة التاسعة، قال سحنون في المرأة الجنُبُ تحيض ثم تطهُر فتغتسل:

إنْ نوت الحيض دون الجنابة أجزأها، وإن نوت الجنابة لم تجزها، فالجواب أن الحيْض يمنع أشياء لا تمنعها الجنابة، من ذلك الوطء، ووجوبُ الصلاة، وغير ذلك، فكان حكمه أغْلظ، فَنِيَّةُ الأغلظ تجزيءُ عن نيَّة الأدْوَنِ، ولا تنعكس.

ص: 379