الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القواعد النحوية وما يتعلق بها
وفيها خمس عشرة قاعدة
القاعدة الأولى: في الشرط
. (1).
إعلم أنه يتميَّز لك بحقيقته وبذكر أضداده وبذكر أقسامه.
أما حقيقته فهو الذي يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجُودٌ ولا عدم لذاته، ولا يشتمل على شيء من المناسبة.
(1) هذه القاعدة هي مبحث الفرق الثالث عند الإمام القرافي في كتابه الفروق، والذى ما هو أصل وأساس ترتيبه واختصاره عند تلميذه الشيخ البقورى رحمهما الله.
وموضوعه هو الفرق بين الشرط اللغوى وغيره من الشروط العقلية والشرعية والعادية، قال عنه القرافي في أوله:
إن أكثر الناس يعتقدون أن الكل معنى واحد، وأن اللفظ مقول عليها بالتواطؤ، وأن المعنى واحد، وليس كذلك. بل الشروط اللغوية قاعدة مباينة لقاعدة الشروط الأخَر. ولا يظهر هو الفرق بين القاعدتين إلا ببيان حقيقة الشرط والسبب والمانع". ثم أخذ في تعريف كل واحِدٍ منها، كما هو عند البقورى هنا.
وهو من الفروق الطويلة المباحث الكثيرة الجزئيات عند القرافي رحمه الله.
وقد علق الشيخ قاسم بن الشاط رحمه الله على كلام القرافي في أوله بقوله: كان حقه - كما فرق بين الشرط اللغوى وغيره - أن يفرق بين سائر الشروط، فإن الشرط العقلى ارتباطه بالمشروط عقلي. ومعنى ذلك أن من حقيقة المشروط ارتباط ذلك الشرط به. والشرط العقلى ارتباطه بالمشروط شَرْعيٌّ، يعنى ذلك أن الله تعالى ربط هذا الشرط ومشروطه بكلامه الذي نسميه خطاب الوضع. والشرط العادى ارتباطه بالمشروط عادى. ومعنى ذلك أن الله تعالى ربط هذا الشرط بمشروطه بقدرته ومشيئته. والشرط اللغوى ربطه بمشروطه واضع اللغة، اى جعل هذا الربط اللفظي دالا على ارتباط معنى اللفظ بعضه ببعض. هذه فروق بين هذه الشروط واضحة.
وأما الفرق الذي ذكره (أى القرافي) فمبنى على اصطلاح أصولي، ولذلك احتاج في بيانه إلى ذكر الفرق بين الشرط والسبب والمانع عند أهل الأصول، وليس ذلك بمتفق عليه، فقد ذهب الاستاذ أبو إسحاق الاسفراينىي إلى خلافه. وما ذكره (أي القرافي) من رسوم السبب والشرط والمانع لا بأس به وما ذكره من أن الشروط اللغوية أسباب فبناء على ذلك الاصطلاح. وما ذكره من احتمال تسمية جميع تلك الشروط شروطًا باعتبار قدر مشترك بينها، وهو توقف الوجود على الوجود مع قطع النظر عما عدا ذلك، صحيح ظاهر". انتهى كلام ابن الشاط في هذا المجال والتعليق على هذا الفرق.
وقد توسع الشيخ الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله في الكلام عليها في كتابه الموافقات.
وبالقيد الأخير يتميز عن جزء العلة، وبما قبله تميز عن المانع وعن العلة، فيخرج المانع بالأول، والعلة بالثاني، وبقولنا: لذاته، تحرزْنا به مما إذا اقترن الشرط بالسبب.
وأما أضداده التى ذكرناها تُعرَف به فالمانع والسبب، فإن المانع هو الذي يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته. والسبب هو الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته. فالسبب مؤثر من حيث وجوده ومن حيث عدمه، والمانع من حيث وجوده فقط، والشرط من حيث عدمه فقط.
وأما أقسامه فهو ينقسم إلى شرط لغوي، والى شرط عقلي، وإلى شرط شرعي، وإلى شرط عادى، ويمكن تقسيمه باعتبار آخر، إلى غير هذه، ولكن لا حاجة إلى ذلك.
فالعقلى كالحياة في العلم، والعادي كالسُّلّم في الصعود، والشرعي كالطهارة في الصلاة، واللغوي كقولنا: إذا دخلتِ الدار فأنت طالق.
لكنه إذا عرضْنا الحقيقة المتقدمة على الأقسام وجدناها إنما تصدق على العقلى فقط، فإن الصعود قد يتصور دون السلم، والصلاة دون الطهارة، والطلاق دون الدخول. وأيضا فالشرط اللغوي إذا وجد مقتضاه وجد مشروطه ولا بد، فهو كالسبب. فعلى هذا، إذا أردنا الشرط اللغوي فالأولى أن نقول في رسمه (2):
(2) المعرف (بكسر الراء) لماهية الشيء وحقيقته، أو التعريف بها، أو الشارح لها، أو حدها ورسمها، كلها كلمات وعبارات اصطلاحية عند علماء المنطق والأصول، ويقصد بها ويراد منها في اصطلاحهم اللفظ المركب الذي يراد به تفسير الشيء وتصويره للغير، ويستلزم تصوره تصور ذلك الشئ أو امتيازه عن غيره، بذكر أجزاء ماهيته أو بذكر صفاته الخاصة به على وجه يشمل جميع أفراده، ويمنع غيرها من الدخول فيه.
ومن ثم قسم العلماء العرف أو التعريف إلى قسمين أساسيين هما: الحد والرسم، وكل منهما إما تام أو ناقص.
فالحد التام عندهم هو ما تركب من جنس الشيء. وفصله القريبين، كقولنا في حد الانسان وتعريفه مثلا: هو الحيوان الناطق. والرسم التام هو ما تركب من الجنس القريب ومن الخاصة اللازمة للمعَرَّف
هو المرتب على إن وما في معناها من حيث الشرطية، فظهر الفرق بين الشرط اللغوي والعقلى، فإن الشروط اللغوي يتوقف وجوده على شرطه، ووجود شرطه يقتضيه، وكذلك المشروط الشرعي لا يقتضى وجودُ شرطه وجودَه.
وعلى هذا فإطلاق الشرط على ما ذكر بالاشتراك أو على أحدهما بالمجاز، وادعاء التواطؤ في ذلك بعيد (3)، والله أعلم.
(بفتح الراء) كقولنا في رسم الانسان وتعريفه بالرسم هو: الحيوان الضاحك. وهناك قسم ثالث هو المعرِف أو التعريف اللفظى، ويكون بتبديل لفظ بلفظ آخر أوضح من الأول وأشهر منه، كتعريف البُر بالقمح. وقد أشار إليها الفقيه العلامة الاخضري ما في منظومته الشهيرة في علم المنطق، والمسمَّاة بمتن السلم في هذا الفن، فقال
معرف على ثلاثة قُسم
…
حد ورسمي ولفظي عُلِم
فالحدّ بالجنس وفصل وقعا
…
والرسمُ بالجنس وخاصة معا
وما بلفظي لديهم شهرا
…
تبديل لفظ برديف أشهَرَا
وذكر مثل هذه المسائل انما هو من باب الاستطراد والاستذكار والاستحضار لها بشيءٍ من الايجاز والاختصار. أما التوسع فيها بمنتهي التفصيل وكامل البيان فمحله الكتب الخاصة بعلم المنطق. وعلم أصول الفقه، والله الموفق للصواب.
(3)
في هذه الفقرة كلمات لها مدلولات إصطلاحية عند علماء الأصول والمنطق. وهي من أقسام اللفظ الفرد باعتبار وحدة لفظه ووحدة مدلوله وتعددهما.
فالاشتراك هو نسبة بين المعاني الكثيرة التى وضع اللفظ لها بأوضاع متعددة، لأنها هي التى تشترك في اللفظ الذي هو محل الاشتراك، ولذلك سمي مشتركا (بفتح الراء)، لأن المحافي اشتركت فيه بالوضع لكل منها على انفراد.
أما المَجاز فهو مقابل الحقيقة عند علماء البلاغة، وهو عند علماء الاصول والمناطقة كذلك. إذ هو اللفظ المستعمل في معنى لم يوضع له، لمناسبة بينه وبين المعنى الموضوع له من غير أن يترك استعماله في المعنى الاصلى، كالاسد اذَا استُعْمل في الرجل الشجاع.
أما التواطؤ أو اللفظ المتواطئ، فهو اللفظ الواحد المَوضوع لمعنى واحد غير مشخص، قابل لأن تشترك فيه أفراد كثيرة ذهنا وخارجا مع تساويها في المعنى الذي وضع له اللفظ من غير تفاوت بينها، بحيث يصدق الكليُّ عليها من غير اختلاف، كالانسان بالنسبة لأفراده من زيد وخالد وبكر مثلا، فإنهم لا يتفاوتون في المعنى المشترك بينهم، وهو الحيوان الناطق. وسمي متواطئا لتوافق أفراده في معناه، أو لتوافق المعنى في الأفراد، من التواطؤ وهو التوافق.
وقد أشار إليها الإمام الأصولي والفقيه الكبير تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي رحمه الله في كتابه الشهير جمع الجوامع (في أصول الفقه) قال: =
ولنذكر مسائل من حيث الشرط اللغوى تتحقق بها قواعد عند البحث فيها.
منها: المسألة الاولى: قال اللخمى في كتاب الظهار: "إذا قال: أنت طالق اليوم إن كلمتُ فلانا غدا، قال ابن عبد الحكم: إن كلمه اليوم حنث، وغدًا لا يحنث، لأن الحنث بالغد يقتضى اجتماع العصمة وعدمها، فإذا كلمه اليوم اجتمع الشرط والمشروط في ظرف واحد، فتَرتّبَ أحدهما عن الآخر، وقيل. يلزمه الحنث إن كلمه غدا. وفي الجواهر (4). لو قال: أنتِ طالق يوم يقدم فلان، فقدم نصف النهار، تطَلّق من أوله. ولم يحك خلافا. وقال ابن يونس: قول ابن عبد الحكم خلاف أصل مالك، بل يلزمه الطلاق، وقال الغزالي في الوسيط: إذا قال: أنت طالق بالامس وقال: قصدت إيقاع الطلاق بالامس لم يقع، لأن حكم اللفظ لا يتقدم عليه. وقيل: يقع في الحال، لأن وقوعه بالامس يقتضي وقوعه بالامس وفي الحال، فيقسط الأمس ويثبت الوقوع بحسب الحال (5).
وقال الفقهاء أيضًا: إذا قال: إن مات فلان فأنت طالق قبله بشهر، إن مات قبل مضى الشهر لم يقع طلاق، لئلا يتقدم الحكم على اللفظ، وبعد شهر وقع الطلاق قبله بشهر. وأبو حنيفة يفرق بين ما إذا قال: إن مات وإن دخل، فيلزم الطلاق قبل الموت بشهر، ولا يلزمه في الدخول وما أشبهه. وقال الغزالي: هو
مسألة: اللفظ والمعنى إن اتحدا، فإن منعَ تصور معناه الشركة فجزئي وإلا فكلي، متواطئ إن استوى، مشكك إن تفاوت. وإن تعددا فمتباين، وإن اتحد المعنى دون اللفظ فمترادف، وعكسه إن كان حقيقة فيهما فمشترَك، وإلا فحقيقة ومجاز.
وقد نظمها العلامة الاخضرى في منظومته متن السلم في علم المنطق فقال:
ونسبة الالفاظ للمعاني
…
خمسةُ اقسام بلا نقصان
تواطؤ، تشاكك تحالف
…
والاشتراك عكسه التَّرادف
(4)
المراد به كتاب الجواهر الثمينة في مذهب عالم الدينة، لمؤلفه الشيخ أبي محمد، عبد الله بن نجم بن الشاش، المتوفي بمصر عام 616 هـ وكتابه هذا من أكثر الكتب فوائد في الفروع، ويدل على غزارة علمه وفضله كما ذكَره مترجموه رحمه الله.
(5)
علق الفقيه ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذه المسألة وذكره اليقوري، فقال: جميع ذلك نقل لا كلام فيه.
تحكم. والفقهاء جعلوا مسألة التعليق المذكورة أولا كمسألة أنت طالق بالأمس فقالوا: لا يلزم الطلاق قبل الدخول أو القدوم، لأن حكم اللفظ لا يتقدم عليه.
وقال شهاب الدين: الحق في هذه المسألة وقوع الطلاق مقدمًا على القدوم الذي جعل شرطًا وعلى لفظ التعليق في زمانه، وقال: قولهم: حكم اللفظ لا يتقدم عليه، لا يتم، وقياسهم على قوله: أنت طالق، لا يصح (6)، وبيان ذلك بثلاث قواعد:
القاعدة الأولى: أن الأسباب في الشريعة قسمان: قسم قدره الله تعالى في أصل شرعه، وقدر له مسببًا معينًا فلا زيادة ولا نقص فيه، وهذا كجعله الزوال سببًا لصلاة الظهر.
وقسم جعله الله لخيرة (7) المكلفين، إن جعلوا أي شيء أرادوا سببًا لحكم
(6) علق الفقيه المحقق قاسم بن الشاط رحمه الله على هذه المسألة عند القرافي رحمه الله، فقال:
ما قاله عندي صحيح، لكنه مناقض لما حكى من الإجماع على استمرار العصمة وإباحة الوطء إلى حين قدوم زيد. والذي أظنه أن ذلك الإجماع لا يصح. وأنها لا يباح وطؤها في تلك المدة، لاحتمال وقوع الشرط، بل تحرم على كل حال. فإن قدم زيد، تبين لنا أن تحريمها للطلاق، وإن لم يقدم، تبين أن تحريمها للإشكال والاحتمال؛ في اختلاط المنكوحة بالأجنبية. الأجنبية حرام لأنها أجنبية، والمنكوحة حرام للاختلاط اهـ. فليتأمل كلام المحقق ابن الشاط فإنه مهم ودقيق في الموضوع والمسألة. وقد صحح ما قاله القرافي واليقوري بأن المقدرات لا تنافي المحققات.
وقال ابن الشاط في مسألة العتق عن الغير وتقدير ملكه: لا حاجة إلى التقدير للملك في هذه المسألة، فإنه لا مانع من عتق الانسان عبده عن غيره من غير تقدير ملك ذلك الغر للعبد ولا تحقيقه، والله أعلم.
وما قاله في مسألة دية الخطأ من لزوم تقدير ملك الدية وعدم تحقيقه ليس بصحيح، بل الصحيح أنه يملك الدية تحقيقا عند إنفاذ مقاتله وقبل زهوق نفسه، ولا مانع من ذلك، وإنما يحتاج إلى تقدير الملك في دية العمد، لتعذر تحقيقه بكون الدية موقوفة على اختيار الأولياء، وذلك إنما يكون بعد موته، والميت لا يَملِكُ، والله أعلم.
(7)
خيرة بكسر الخاء وفتح الياء مخففة على وزن فعلة، اسْمُ مصدر بمعنى الاختيار، ومنه الآية الكريمة في سورة الأحزاب:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} .
وفي نسخة ح: جعل الله تخييره للمكلفين، والمعنى واحد في النسختين.
كان كذلك، وحصر جعلهم لذلك في طريق واحدة هي التعليق (8).
القاعدة الثانية: المقدّرات لا تنافي المحقَّقات، بل يثبتان ويجتمعان. ويشهد لذلك أن الأمة إذا اشتراها شراء صحيحا أبيح له وطؤها بالإِجماع إلى حين الاطلاع بالعيب والرد به. وكذلك إذا قال: أعتق عبدك عني فأعتقه، فإنَّا نقدر دخوله في ملكه قبل عتقه بالزمن الفرد، مع أن الواقع عدم ملكه له. وكذلك دية الخطأ تورث عَنْ المقتولِ، ومن ضرورة الإِرث ثبوت الملك للموروث، فَنُقَدِّر (9) ملكه للدية قبل موته بالزمن الفرد فيصح الإِرث، ونحن نقطع بعدم ملكه للدية حال حياته، فقد اجتمع الملك المقدر وعدمه المحقق ولم يتنافيا. وكذلك صوم التطوع يصح عندهم بنية من الزوال. هذه الوجوه قرر بها شهاب الدين القاعدة المذكورة (10).
قلت: وهو منازَع في ذلك كله، فإنا نقول:
لا تقدير في شيء مما ذكرته (11). فالرد بالعيب رفع الحكم المتصل من اباحة الوطء وغيره وقطعه، وما قبل ذلك كان فيه إباحة الوطء محققا، ولا وجود لتقدير شيء يخالفه. وكذلك ورَّث الشرع ورثة المقتول خطأ من دية، ما ملكها قط، وكذلك عتق العبد عن زيد، جعل الشرع ذلك من غير تملك سابق له، لا تحقيقًا ولا تقديرا، والأمر في الصوم أبيَنُ.
(8) علق الشيخ ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذه القاعدة الأولى بقوله: جميع ما قاله القرافي في ذلك صحيح، غير قوله: ولو قال: جعلته (أي تعليق الطلاق وعتق العبد على دخول الدار وقدوم زيد) سببا من غير تعليق لم ينفذ ذلك، قال ابن الشاط: فهذا إنما يجري على قول الشافعية في تعيين الالفاظ، وإمَّا على قول أهل الذهب في عدم تعيينها فلا، والله أعلم.
(9)
في نسخة ح: فيقدر بالياء.
(10)
عقب الفقيه ابن الشاط على ما جاء عند الإمام القرافي في هذه القاعدة، مما لخصه الشيخ البقوري، فقال: ما قاله القرافي في ذلك صحيح، غير قوله: كقربات الكفار، موجودة حقيقة، ومعدومة حكما. فإن أراد قرباتهم حال الكفر والارتداد فذلك صحيح، وإن أراد في حال الإسلام قبل الارتداد فذلك غير صحيح، والله أعلم.
(11)
في نسخة ح: مما ذكرناه. والذي في نسخة ع ذكرته بتاء الخطاب، وهي أبين وأظهر، فإن أبا عبد الله البقوري يعقب بذلك على شيخه القرافي، وكأنه أمامه يخاطبه ويحاوره في المسألة.
القاعدة الثالثة: أن الحكم كما يجب تأخره عن سببه، كذلك يجب تأخره عن شرطه، ومن فرق بينهما فقد خالف الإجماع (12).
قلت: وأيضا، فقد تقدم لنا. أن الشرط اللغوي سبب، فإن المشروط يوجد بوجُودِهِ، إذ لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلتها، لزمه الطلاق.
قال شهاب الدين رحمه الله: إذا تقررت هذه القواعد، فنقول:
ليس من تقديم الطلاق على زمن اللفظ وزمن القدوم تقديم السبب على السبب، ولا المشروط على الشرط، لأنهُ عند وجود الشرط الذي هو القدوم - مثلا - يترتب عليه مشروطه بوصف الانعطاف على الأزمنة التى قبله، على حسب ما علقه، فهذا الانعطاف متأخر عَنْ الشرط، ولفظ التعليق بالتحريم فيما قبله إنما هو ثابت فيه تقديرا لا تحقيقًا.
قال: وبهذا يظهر أن العدة من يوم القدوم للمرأة في المسألة التى قال الفقهاء فيها: إذا قال لها: إن قدم زيد فأنت طالق قبل قدومه بسنة، فقدم بعد ذلك بسنة، أن العدة انقضت عند حصول الشرط (وهو القدوم)، ولا تعتد بعد ذلك، قال الضهاب: لأنه يوم لزوم الطلاق وتحريم الفرج، أما قبل ذلك فالإباحة بالإجماع، والعدة إنما تتبع المحقَّق لا المقدَّر.
وقال: فإن قالوا: تقدير الطلاق يمنع ثبوت الزوجية المبيحة للوطء. قلنا: المقدرات لا تنافي المحققات.
(12) علق الشيخ ابن الشاط على كلام الإمام القرافي في هذه القاعدة فقال:
ربط الحكم بسببه وشرطه وضعي، والأُمور الوضعية لا يلزم فيها على التعيين وجه واحد، بل هي بحسب ما وضعت له. فلو أن الحكم وضع على وجه التأخر عن سببه كان على ما وضع عليه، ولو أنه وضع على وجه التقدم على سببه كان كذلك، ولو أنه وضع على وجه أن يكون مع سببه لا متقدما عليه ولا متأخرًا عنه كان كذلك أيضًا. لكن الواقع من ذلك - فيما علمت - تأخر الحكم عن سببه وشرطه. كما حكى فيه الإجماع. وذلك في الأمور الشرعية المفتقرة للشرع. أما التى وكلت إلى قصد المكلف فهي بحسب قصده، والله أعلم.
قلت: كلامه كله هذا انْبَنَى على أن هذه القاعدة الثانية مقررة، وقد مضى أن ما ذكره لا يكفى في تقريرها، فلا يترجح ما قاله على ما ذكره بعض الفقهاء من أن العدة انقضت، والله أعلم.
قال: وأما قياسهم على قوله: أنت طالق من شَهْرٍ، فالفرق أن الاسباب الموضوعة في أصل الشرع قد استقل صاحب الشرع بمسبباتها ولم يجعل فيها انعطافات. قال: والتعلىيق موكولة لخيرة المكلف، ولا يلزم من التزام الانعطافات حيث خيرة المكلف أن تلزم حيث الحِجْر عليه.
قلت: قد جعل الانعطاف في مسألة الصوم، ثم أصل الانعطاف ممنوع منه على حسب ما تقرر في القاعدة الثانية، فالمسألة غير جلية على زعمه، والله أعلم.
المسألة الثانية: مسألة الدَّور.
قال أصحابنا: إذا قال: إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا فطلقها، لزمه الثلاث، أي عددٍ كان منجزًا كملّنا معه الثلاث.
وقال الغزالي في الوسيط: لا يلزمه شيء عند ابن الحداد، لأنه لو وَقعَ، لَوقَع مشروطه، وهو تقدم الثلاث، ولو وقع مشروطه لمنع وقوعه، لأن الثلاث تمنع ما بعدها. فيؤدي إثباته إلى نَفْيِهِ، وقال أبو زيد: يقع المُنَجَّزُ ولا يقع المعلّق، لأنه علق محالا. وقيل: يقع في المدخول بها الثلاث، أي أي شيء نجَّزه تَنَجَّز، وكمل من العلق، وقد تقدم (13).
والبحث في هذه المسألة يكون بعد تقرير ثلاث قواعد:
القاعدة الأولى: أن من شرط الشرط إمكان اجتماعه مع المشروط، وإلا لم تكن حكمة في جعله شرطًا.
(13) علق الفقيه ابن الشاط على مسألة الدور عند القرافي فقال: ما قال فيها إلى آخره صحيح، والله أعلم.
القاعدة الثانية: أنَّ اللفظ إذا دار بين مقتضاه اللغوي وبين مقتضاه الشرعي فَعَلَى الشرعي يُحمل.
القاعدة الثالثة: أن من تصرف فيما يملك وفيما لا يملك، نفذ تصرفه فيما يملك دون ما لا يملك.
إذا تقررت هذه القواعد فنقول:
قولك: إن طلقتك، يُحمل على المقتضى الشرعي لا على اللغوي. ثم هو لا يحمل على التحريم، لأنه يؤدى إلى ألا يجتمع الشرط مع مشروطه، وذلك باطل لا تقدم، فهو إنما يراد به طلقة واحدة أو طلقتانِ فيكمل له، الثلاث من الذي ذكر في الشروط. وما قاله ابن الحداد من التنافي يندفع من حيث إنه يقال: غاية ما فيه أنه اجتمع في الشروط ما يملك وما لا يملك، وقد قلنا في القاعدة: ينفذ التصرف فيما يملك ولا ينفذ فيما لا يملك، وهذا كمن قال: امرأتي وامرأة غيري طالق، تطلق زوجته عليه.
قلت: وامتناعه من أنه لا يحمل على التحريم، لما قاله من القاعدة، غير مسلَّم، من حيث إن عدم اجى خماع الشرط مع مشروطه في القضية كان لمانع منع منه. والذي قيل فيه إنه ليس بحكمة، أن يكون الشرط مع مشروطه لا يمكن اجتماعما، وهذا ليس كذلك، فإن الإمكان لا يرتفع للأسباب (*) وإلا بطلت الحقائق والطبائع.
المسألة الثالثة: قال الغزالي في الوسيط: إذا قال: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، طلقت عليه في الحال، لأن تعليقه على الدخول حلف، بخلاف إذا طلعت الشمس فليس بحلف، لأن الحلف ما يتصور فيه منع واستحثاث.
قال شهاب الدين رحمه الله: هذا لقوله عليه السلام: "الطلاق، والعتاق من أيمان الفساق"(14). ولِنَصِّ العلماء على أن تعليق الطلاق منهي عنه.
*) في نسخة: فإن الإِمكان لا يَرْفع الأسباب، ولعل الأولى اظهر وأقربُ، فليتأمَّل.
(14)
لم يسعف البحث فيما بين ايدينا واطلعنا عليه من كتب الحديث بالعثور على من اخرج نصه بهذا اللفظ.
المسألة الرابعة: قال الشافعية: إذا قال: إن بدأتك بالكلام فأنت طالق، فقالت: إن بدأتك بالكلام فعبدي حر، فكلمها، لم تطلق ولم تعتق العبد، لأن يمينه انحلت بيمينها، ويمينها انحلت بكلامه، فلم تفتد بشئ (15) ولا هو بكلام.
المسألة الخامسة: في التهذيب لمالك رحمه الله: أنت طالق إن شاء الله، يلزمه الطلاق الآن، بخلاف ان شاء هذا الحجر ونحوه. وأبو حنيفة والشافعي، يقولان بعدم اللزوم في الجميع. وقال سحنون: يلزم في الحجر ونحوه، لأنه نادم أو هازل.
قال شهاب الدين رحمه الله: والمسألة مبنية على أربعة قواعد (16):
القاعدة الاولى: من له عرف يحمل كلامه على عرفه، وهذا كحمل الصلاة على المعهودة لَا على الدعاء. وكذلك، قوله عليه السلام:"من حلف، واستثنى، عاد كمن لم يحلف (17) " يحمل على الحلف الشرعي، وهو الحلف بالله تعالى، لأن الحلف بالطلاق والعتاق أيمان الفساق.
قلت: القصد من ذكر هذه القاعدة: أن يتحقق له هذا الفرع، وهو: أن الحلف لا يقال على العتاق والطلاق، ولا يتقرر بما قاله، بل نقول بمقتضى القاعدة، ونقوق: الحلف في الشريعة، واليمين، يقالان على اليمين بالله، وعلى اليمين بالطلاق، والعتاق، وكون أحدهما يكره لا يخرجه عن أن يكون يمينًا، كما أن الآخر إذا أكثر من الحلف على الأشياء بالله تعالى يكره له، لقوله تعالى:{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} (18)، وليس هذا بمخرج له عن أن يكون يمينا.
(15) في ح: شيئًا بالنصب.
(16)
علق الشيخ ابن الشاط على ما جاء عند الإمام القرافي في هذه المسألة، وفي القاعدتين الأولى والثانية منها بقوله: ما قاله في ذلك صحيح ظاهر، والله أعلم، ولا شك أن الشيخ البقوري يتناول قواعد الفروق عند القرافي بشيء من الايجاز والاختصار، وهو أساس كتابه هذا: الترتيب للفروق.
(17)
أخرجه: ابن ماجة عن أبى هريرة بلفظ: من حلف فقال: إن شاء الله، فَلَهُ ثنِياهُ، عن ابن عمر بلفظ: من حلف واستثنى فلن يحنث
…
(18)
سورة البقرة: الآية 224.
القاعدة الثانية: كما شرع الله الأحكام شرع مبطلاتها (19) وروافعها، وهذا كثير، ومنه أن حكم اليمين أثبته ثم رفعه الاستثناء.
قلت: قال شهاب الدين رحمه الله هنا: فلا يلزم أن يكون رافعا لحكم التعليق، كما أن الطلاق (20) رافع للنكاح، لقوله عليه السلام:"من حلف واستثتى عاد كمن لم يحلف". وهذا مبتى على القاعدة الاولى، وقد ذكرنا أنه لم يصح له ذلك فيها، فكذلك ما ذكره هنا.
القاعدة الثالثة: مشيئة الله عز وجل واجبة النفوذ، فلذلك كل عدم ممكن يعْلَمُ وقُوعُهُ، يعلم أن الله تعالى أراده، وكل وجود ممكن يُعْلمُ وقُوعُهُ، يُعلم أن الله تعالى أراده، فتكون مشيئة الله معلومة قطعًا.
قلت: قوله: كل عدم ممكن يعلم وقوعه يعلم أن - الله أراده، إن أراد يُعْلَم أن الله أراد عدمه بحسب ذلك الوقت الذي كان فيه العلم فنعم، وليس كلامنا في ذلك، وإنما كلامنا في المشيئة بحسب الزمان المستقبل، وهي مبهمة علينا ولا بد. وإذا كان كذلك فمشيئة الله لا علم لنا بها حال قول القائل: أنت طالق إن شاء الله، لأنا لا ندري ما يكون في المستقبل.
قال شهاب الدين رحمه الله:
وأما مشيئة غيره فلا تعلم غايتها بل تظن (21)، وذلك إذا أخبرنا بها، فظهر بطلان ما يروى عن مالك وجماعة من العلماء من أنه علق الطلاق على مشيئة من
(19) في ح: بطلانها، ويظهر أن الأولى أصوب، لتوافقها مع روافعها، وهي جمع لاسم الفاعل وإن كان المعنى في كليهما يبْدُو متقاربًا ولا يختلف اختلافًا كبيرًا.
(20)
في ح: كما أن التطليق رافع لحكم النكاح.
(21)
في نسخة أخرى ولا نعلم غايتها، بل نظن، بنون المضارعة في الفعلين، وما جاء عند القرافي يوضح ذلك بقوله: "وأما مشيئة غير الله فلا تُعلَم، غايتهُ أن يخبرنا، وخبره إنما يفيد الظن
…
الخ. اهـ.
لم تعلم مشيئته، بخلاف التعليق على مشيئة البشر (22).
قلت: هذا ضعيف غاية، فظهر أن الانسان إذا قال: أنت طالق إن شاء الله هو بمنزلة ما إذا قال: إن شاء الله أن يصل فلان إلى هذه البلدة وصل، وإن شاء الله أن لا يصل فإنه لا يصل، فنحن لا نعلم في ذلك الوقت ما الذي عند الله تعالى في ذلك حتى يموت فلان المذكور، فيبرز لنا حينئذ مشيئته. وأما قبل موته: فمشيئة الله تعالى مغيبة عنا. وإذا كان الأمر هكذا صدق قوله في الطلاق، وقد تقدم التنبيه الآخر على ذلك.
القاعدة الرابعة: الشرط وجوابه لا يتعلقان إلا بمعدوم ومستقبل (23).
(22) علق الفقيه ابن الشاط على ما جاء في هذه القاعدة من أولها إلى آخرها عند القرافي، فقال: ما قاله في هذه القاعدة، من كون مشيئة الله معلومة قطعًا، بمعنى أنه ما من وجود ممكن ولا عدمه إلا مستند إلى مشيئته، فمشيئته على هذا الوجه معلومة عندنا، صحيح، وليس ذلك مراد مَالِكٍ وغيرهِ مِمَّنْ روى عنه إذا قال أنت طالق ان شاء الله يلزمه الطلاق، لأنه علقه على مشيئة من لا يعلم مشيئته، بل مراد من قال ذلك، أنه لا يعلم، هل أراد الطلاق على التعيين أم لا، وليس لنا طريق إلى التوصل إلى ذلك. وأما التوصل إلى علم مشيئة البشر فبوجوه، منها إخباره بذلك مع قرائن توجب حصول العلم.
وقوله: غاية خبره أن يفيد الظن، إنما ذلك عند عدم القرائن، مع أنه يحتمل أن يقال بالاكتفاء هنا بالظن، لأنه الغالب، والله أعلم.
فقوله: "فظهر بطلان ما يروى عن مالك"، قول باطل لا خفاء ببطلانه، ولو لم يظهر وجه بطلان قوله لكانت مخالفته لمالك كافية في سوء الظن بقوله، لتفاوت ما بينهما في العلم.
قلت: لعل الفقيه ابن الشاط رحمه الله وسامحه لم يتعمق في كلام القرافي وفي وجه قوله بطلان ما روي عن الإمام مالك في هذه المسألة، فسارع إلى القول باعتبارت مخالفته لمالك فيها كافية في سوء الظن بقوله. ح أن شهاب الدين القرافي رحمه الله بنى قوله ببطلان ما روي عن مالك رحمه الله فيها على ما قرره في أول هذه القاعدة الثالثة من أن مشيئة الله واجبة النفوذ، وانتهى من خلال ذلك إلى ما وصل إليه اجتهاده وفهمه العميق للقواعد والفروع من أن مشيئة الله معلومة قطعا، وعليه فلا داعى حينئذ لاعتبار مخالفته لإمامه في هذه المسألة وإبداء رأيه فيها كافية في إساءة الظن بقوله فيها، خاصة وأن القرافي على سعة اطلاعه وطول باعه ورسوخ قدمه في هذه العلوم، وعلى مكانته وعلو قدره فيها ممن يأخذ بالذهب ويتمسك به ويتبصر له، ولم يقل في قول، ولم يدِّع في مسألة - فيما أذكر وأستحضر - أنه إمام مجتهد يرتفع إلى مكانة إمام المذهب مالك بن أنس رحمه الله. فالكمال لله وحده، وفوق كل ذي علم عليم، والله أعلم بالحق والصواب. فليتامل.
(23)
علق الشيخ ابن الشاط رحمه الله على هذه القاعدة والعبارة عند الإِمام القرافي رحمه الله، فقال:"ليس ذلك بمطرد لازم، ولكنه الغالب والأكثر".
فإذا قَال: إن دخلت الدار فأنت طالق، يحمل علَى دخولٍ مستقبل بطلاق لم يقع قبل التعليق إجماعا، والمشيئة قد جعلت شرطًا، ولا بد لها من مفعول، فالتقدير إن شاء الله طلاقك، فهذا المفعول إما أن يكون الطلاق الذي صدر منه في الحال، أو طلاقا في المستقبل، فإن كان الأول فنحن نقطع أن الله تعالى أراده في الأزل، وهذه الشروط أسباب، ويلزم من وجودها الوجود، فيلزم أن يطلق في أول أزمنة الامكان وقبول المحل عند أول النكاح، ولم يقل به أحد. وان كان المفعول طلاقا مستقبلا فيكون التقدير إن شاء الله طلاقك في المستقبل فأنت طالق، فالمشروط لهذا الشرط أن يكون مستقبلا، لأن المرتب على المستقبل مستقبل فلا تطلق في الحال. وإن كان المعنى إن شاء الله طلاقك بغير هذا الطلاق الملفوظ به الآن، فلا ينفذ طلاق حتى يتلفظ بالطلاق مرة أخرى، فلا يكون - أيضًا - الطلاق في الحال. قال (أي القرافي): أما استثناء الكل من الكل فعبث، فظهر بهذه القواعد وبهذا التقدير أن الحق في هذه المسألة عدم لزوم الطلاق في الحال (24).
قلت: بحثه هنا من حيث ذكره لمفعول المشيئة، وتفريقه بين أن يكون الطلاق الأول أو غيره، بعيد، غايةً. ولو فرضنا القواعد التى بعد هذه سلمت له ما صح له مقصد، فكيف وقد مضى ما فيها.
فمن ضعف هذا البحث أنه قد قرر أن الشرط لا الاستقبال، وأن المرتب على المستقبل مستقبل. فإذا قلنا: قوله إن شاء الله شرط، فنقول: الطلاق هنا مستقبل ولا بد، من حيث الشرط الموجود في القضية، ثم مشيئة الله تعالى قديمة، لكن ظهورها هو الذي يحدث ويظهر أوْ لا، ولكنه لما كان لا يعلم ذلك وخفيت عنا مشيئة الله تعالى - لا كما قاله هو أن مشيئة الله معلومة - قال مالك رحمه الله: يلزمه الطلاق الآن لا في المستقبل، وجعل هذا الأمر كما لو علق بمشيئة زيد، وشاء في الوقت.
(24) علق ابن الشاط على هذه المسألة عند القرافي بقوله: ما قاله في هذه المسألة من أن الحق فيها عدم لزوم الطلاق في الحال، ليس بصحيح، بل الصحيح لزومه في الحال كما سبق." والله أعلم. اهـ.
المسألة السادسة: قال مالك في التهذيب: قوله: إن فعلت كذا فعلي الطلاق إن شاء الله، لا ينفعه الاستثناء. قال ابن يونس: قال عبد الملك: إن أعاده على الفعل دُون الطلاق نفعه، وأنت طالق إلا أن يبدو لي لا ينفعه الاستثناء إلا أن يريد الفعل خاصة فذلك له. وفي الجلاب (25): إن كلمت زيدا فعلي المشي إلى بيت الله إن شاء الله، لا ينفعه الاستثناء إذا أعاده على النذر، وإن أعاده على الكَلَامِ نفعه (26).
قال شهاب الدين رحمه الله: معنى قول عبد الملك: إن أراد أن ذلك الفعل المعلق عليه لم أجزم بجعله سببا للطلاق، بل فوضت - جعل سببيته إلى مشيئة الله، إن شاء جعله سببا وإلا فلا. وعلى هذا التقدير لا يكون الفعل سببًا فلا يلزم به شيء إجماعًا، وصاحب المقدمات (27) حكاه خلافا، وقال: الحق عدم اللزوم،
(25) أي في كتاب التفريع، لأبن الجلاب.
(26)
قال القرافي هنا رحمه الله: "إعلم أن هذه المواضع لا يدرك حقيقها إلا الفحول من العلماء، أو ممن يفتح الله عليه من نفس فضله وسعة رحمته ما شاء. وما الفرق بين إعادة الارادة القديمة والحادثة على الفعل أو غيره؟ وها أنا اكشف لك عن السر في هذه السائل ببيان قاعدة، وهي أن الله تعالى شرع بعض أسباب الاحكام في أصل الشريعة، ولم يكله إلى مكلف، كالزوال ورؤية الهلال والإِتلاف للضمان، ومنها ما وكله إلى خبرة خلقه، فإن شاءوا جعلوه سببا، وإلا فلا يكون سببا، وهي التعليقات كلها.
ثم قال القرافي: إذا تقررت هذه القاعدة فنقول: قول عبد الملك: إن أعاده على الفعل نفعه، معناه إن اراد ذلك الفعل العلق عليه لم أجزم بجعله سببا للطلاق
…
إلى آخر ما ذكره القرافي، وذكره البقورى باختصار.
وقد علق ابن الشاط على هذه الفقرة من أولها عند القرافي، فقال: ما قاله القرافي في ذلك صحيح، والله أعلم.
(27)
هو القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكى (الجد) من علماء القرن السادس الهجرئ من جملة تآليفه كتاب شهير في الفقه هو كتاب البيان والتحصيل، وكتابه هذا المشار إليه، وهو المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الاحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها الشكلات، وقد طبع هذا الكتاب طبعًا جيدا، وصدر في ثلاثة أجزاء بتحقيق الاستاذ الدكتور محمد حجي، وفقه الله وأعانه على مثل هذا العمل الجليل.
ويوصف ابن رشد هذا بالجد، تمييزًا له عن حفيده الفاضل العالم الجليل الفقيه المتضلع أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي صاحب التصانيف العديدة والمؤلفات الكثيرة في مختلف فروع المعرفة الاسلامية، وفي مقدمتها كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد في بيان اسباب الخلاف بين أئمة المذاهب السنية في المسائل الفقهية.
قياسًا على اليمين بالله تعالى إذا أعاد الاستثناء على الفعل، قال: وهذا يشعر بأن ابن القاسم يوافق في اليمين بالله تعالى ويخالف في الطلاق.
قلت: يمكن أن يقال بصحة الخلاف مع ما قاله شهاب الدين، وهذا لأنا إن نظرنا إلى الترتيب بين الشرط والمشروط فظاهرٌ أنه جَعَلَه سببا وإن نظرنا إلى قوله: إن شاء الله فهو يقتضي أنه لم يجعله سببا، ثم مع هذا يقال: الحق عدم اللزوم كما قال ابن رشْد، ويسقط الإجماع الذي قاله شهاب الدين.
قال: وقوله: أنت طالق إلا أن يبدو لي، ظاهر أنه لا يقع، لأنه لما طلق فقد انقطعت العصمة، ولا يردها قوله. وإذا علق الطلاق على فعل وأعاد إلا أن يبدو لي، وأراد أني ما صمت على جعل الفعل سببًا، بل الأمر موقوف على إرادة تحدث في المستقبل، فذلك ينفعه، وهذا كله لأن كل ما وكل للمكلف فسببيته لا تكون إلا بإرادته، وهذا المعنى هو ما قاله صاحب الجلاب (28).
المسألة السابعة:
في الجواهر (29): أنت طانق إن كلمت زيدا، إن دخلت الدار، هو تعليق التعليق، فإن كلمت زيدًا - أولًا - تعلق طلاقها بالدخول. والشافعي يقول: إن بدأت بالكلام لا يقع طلاق، وإن بدأت بالدخول ثم الكلام وقع الطلاق.
ومثل هذه المسألة: إن أعطيتك؛ إن وعدتك، إن سألتني، فأنت طالق، فالشافعي يعتبر الترتيب، فإن وقع السؤال، ثم الوعد، ثم العطية، وقع الطلاق، وإلا فلا، ونحن لا نعتبر الترتيب، بل حصول ذلك المجموع فقط، على حسب ما هو الامر مع الواو. وإمام الحرمين وافقنا على هذا.
قال شهاب الدين رحمه الله: والشافعي يتقوى قوله بقاعدتين:
(28) صاحب الجلاب: هو المراد به الفقيه المالكي الشهير، أبو القاسم بن الجلاب، مؤلف كتاب في مسائل الخلاف، وصاحب التفريع المشهور في المذهب، ت 398 هـ.
(29)
الجواهر: اسم لكتاب عظيم في الفقه الاسلامي، عنوانه الكامل: الجواهر الثمينة في مذهب عام المدينة لمؤلفه عبد الله بن شاس من علماء القرن السادس هـ كما سبق ذكره قريبا.
الواحدة أن الشروط اللغوية أسباب، يلزم من وجودها الوجود ومن عدمها العدم، وقد تقدم هذا، وليست الشروط الْأخَرُ كذلك.
والثانية: أن تقديم السبب على سببه لا يعتبر كالصلاة قبل الزوال. ولَمَّا كان الامر هكذا فهو يقول: سبب الطلاق الكلام، وسبب اعتبار الكلام في سببية الطلاق دخول الدار، فهذا وجه قوله.
وأصحابنا قالوا: أجمعنا على أن المعطوف بالواو يستوي فيه التقديم والتأخير، فكذا المذكورات بغير واو، لأن الانسان قد يعطف الكلام بعضه على بعض من غير عطف، كقولك: جاء زيد، جاء عمرو.
ومما يعضد قول الشافعي قولُه تعالى: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} (30)
وجاء ما يعضد قول مالك، وهو قوله تعالى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} (31). فإرادة النبيّ متأخرة في المعنى، كما هي في اللفظ، بخلاف الآية الأخرى. ويحتمل أن تُرَد هذه الآية إلى ما كان عليه الأمر في الآية الأخرى.
وقال ابن مالك في شرح مقدمته:
الثاني من الشرطين لا جواب له، وإنما الجواب للأول خاصة، وصدق، فإن هذا الشرط الثاني إنما اعتباره في الأول لا في الطلاق الذي جُعل مشروطًا، فذكر الشرط الأول سَدَّ مَسَدّ جوابه.
(30) سورة هود: الآية 34.
(31)
سورة الاحزاب: الآية 50.
"تفريع"(*):
إن قال: إن أكلت وإن لبست فأنت طالق، فلا ترتيب بين هذين الشرطين باتفاق، بل أيهما وقع قبل صاحبه اعتبر، ولا بد من وقوع الشرطين، (32). فإن قال: إن أكلمت فلبست تعين الترتيب، وكذا إن أكلت ثم إن لبست، وإن أكلت بل إن لبست، الشرط واحد وهو الأخير، وقد أضرب عن الأول. وكذا إن أكلت لا إن لبست، فالشرط الأول وحده. وإن أكلت أو لبست، الشرط أحدهما لا بعنيه، وكذلك إما إن أكلت وإما إن شربت يلزم الطلاق بأحدهما. وأم من حروف العطف لا تصلح هنا، لأنه لا جزم فيها، وإنما هي للاستفهام، والتعليق لا بد أن يكون جزمًا (33).
وذكر الشيخ في التهذيب - في الواو - أنها تطلق بكل واحد من الشرطين طلقة، قال: لأن حرف الشرط قد كرر، فوجب لكل واحد منهما جزاء، فتطلق بكل واحد منهما طلقة واحدة. وما قاله غير لازم، بل يكون حرف العطف يقتضى
(*) قال القرافي: (تفريع) أذكر فيه المعطوفات من الشروط، فإن قال إلخ
…
(32)
علق الشيخ ابن الشاط على كلام القرافي هنا بقوله: قوله صحيح، وكان حقه أن يقول: أو مع صاحبه، فالمعية والقبلية هنا سواء.
وقول القرافي: ولا بد من وقوع الآخر بعده، ليس بلإزم، فإنه - يقول ابن الشاط: إذا انفرد كل واحد منهما استقل بالشرطية، وإنما يلزم ما قاله لو قال القائل: إن أكلت ولبست
…
فإن مقتضى ذلك جعل الشرط مجموع الفعلين. وإذا كان كذلك فلا بد من وقوع الآخر بعده، وأما إذا تكرر حرف الشرط فإنه يدل على استقلال كل واحد بالشرطية، فلا يلزم وقوع الآخر بعده.
(33)
قال ابن الشاط عنه الله: ما قاله القرافي في ذلك صحيح، غير قوله: عكس المنسوق بغير حرف عطف يلزم أن يكون المتأخر في اللفظ متقدما في الوجود، فإنه مبنى على قاعدة أن الشروط اللغوية أسباب، والأسباب يلزم تقدمها على مسبباتها، وذلك كله أمر عرفي اصطلاحي، والربط بين الشروط اللغوية ومشروطاتها وضعي كما سبق التنبيه عليه. فصفة الربط من تقدم أو تأخر أو معية كذلك وضعي، والأمور الوضعية يجوز تبدلها وتبدل أوصافها بحسب قصد الواضع لها. فإن أراد أن المنسوق بغير حرف عطف يلزم ذلك فيه عرفا فهو صحيح، وإن أراد غير ذلك فليس بصحيح، والله أعلم.
مشاركة الثاني للأول في أنه شرط في هذا الجزاء (34).
قلت: قد مضى ما قاله ابن مالك في أن الشرط الأول هو الذي يحتاج للجواب خاصة، وذلك يُبَيِّنُ هذه المسألة، وهي راجعة إلى النحو، فيرجَعُ فيها إلى أئمة ذلك العلم، والله أعلم.
ذكر شهاب الدين، رحمه الله في هذا الوضع مسألة وطول فيها، وليس فيها كبير فائدة. فلنذكر طرفًا منها، ثم نذكر مسائل زائدة على ما ذكره، هي ماسة بقضية الشرط (35)، وهي فقهية، بطريق ابداء الفارق بين المتشابهين منها.
(34) علق الشيخ ابن الشاط على كلام الإمام القرافي هنا بدءَا من قوله: "وذكر الشيخ أبو إسحاق في الهذب هذه الفروع بالواو والفاء وثم، وصرح في الواو بأنها تطلّق بكل واحد منهما (أي الشرطين) طلقة واحدة، إلى قول القرافي: "وأمر الأمان مبنى على العوائد" بما يأتي:
ما قاله القرافي صحيح وهو الظاهر من قول القائل: ان أكلت أو لبست فأنت طالق، بخلاف إذا قال: إن أكلت فأنت طالق، أو لبست فأنت طالق، الظاهر من هذه تعدد الطلاق. وفي كلا المثالين إن انفرد الأكل أو اللبس لزم الطلاق، وإذا قال: ان أكلت ولبست فأنت طالق، فلا يلزم الطلاق إلا بمجموع الأمرين.
ويمكن أن يقال: إذا قال: إن أكلت وان لبست فأنت طالق، يحتمل قصد تعدد الجواب، واختصره لفظًا، فيكون بمنزلة من طلق وشكَّ في العدد، فيحمل على الثلاث، والله أعلم.
(35)
كذا في نسخة من تونس. وفي نسخة ع: هي مناسبة لقضية الشرط، وفي نسخة ح: هي ماسة يقتضيها الشرط. وأظهرها وأسلمها عبارة ما في نسخة تونس، ولوضوح معناها وسلامة تعبيرها. إذ يقال في التعبير اللغوى السليم: هذه المسألة ماسة بقضية كذا، أو هذه المسألة مناسبة لكذا، فنجد كل كلمة منهما تتعدى بحرف خاص من حروف الجر،
المسألة الأولى: (36)
أنشد بعض الفضلاء:
يقول الفقيه أيده الله
…
ولا زال عنده إحسان
فتى علق الطلاق بشهر
…
قبل ما قبلَ قبلِهَ رمضانُ؟
فنقول - أولا:
(36) هي المسألة التى أشار إليها الشيخ البقوري، وذكر أن شيخه القرافي أطال فيها، وليس فيها كبير فائدة. أقول: وهو كذلك على ما يبدو لقارئها ومتتبعها في كتاب الفروق، لما فيها من ألغاز وتعقيد، وإكثار من الأمثلة الافتراضية التى قد تكون بعيدة الوقوع، صعبة الفهم والإدراك.
وعلماؤنا الأقدمون رحمهم الله كانوا يتوسعون ويتعمقون في تلك الافتراضات والجزئيات، أحيانا ويصلون إلى تلك الألغاز ويفهمونها ويجدون حيولة وقابلية، ونشاطا ولذة في البحث عنها والوقوف عندها، وإيجاد الحلول والأحكام الشرعية لها. ولذلكم قال الإمام القرافي رحمه الله في أول كلامه عن تلك المسألة وعن ذينكم البيتين الواردين فيها.
إعلم أن هذا البيت من نوادر الأبيات وأشرفها معنى، وأدقها فهما وأغربها استنباطا، لا يدرك معناه إلا العقول السليمة، والأفهام المستقيمة، والفكر الدقيقة من أفراد الاذكياء، وآحاد الفضلاء النبلاء، بسبب أنه بيت واحد. وهو مع صعوبة معناه ودقة مغزاه مشتمل على ثمانية أبيات في الإنشاد، بالتغيير والتقديم والتأخير، بشرط استحمال الألفاظ في حقائقها دون مجازاتها مع التزام صحة الوزن على القانون اللغوي، وكل بيت مشتمل على مسألة من الفقه في التعاليق الشرعية، والألفاظ اللغوية، وتلك المسألة صعبة المغزى، وعرة المرتقى، ومشتمل على سبعمائة مسألة وعشرين مسألة من المسائل الفقهية والتعاليق اللغولة، بشرط التزام المجاز في الألفاظ واطّراح الحقائق، والإِعراض عن ضابط الوزن وقانون الشعر، بأن يطول البيت نحوا من ضعفه، ويحصل هذا العدد العظيم من هذه اللَّفْظات الثلاث، وتبديلها بأضدادها واستعمالها في مجازاتها وتنقلها في التقديم والتأخير مفترقة ومجتمعة على ما سيأتى بيانه إن شاء الله (أي في كلام القرافي عن هذه المسألة في الفرق الثالث بين الشرط اللغوي وغيره. قال القرافي رحمه الله: وهذا البيت لشيخنا الإمام الصدر العالم جمال الفضلاء، رئيس زمانه في العلوم، وسيد وقته في التحصيل والفهوم، حمال الدين الشيخ أبي عمرو بأرض الشام، وأفتى فيه وتفنن، وأبدع فيه ونوّع، رحمه الله وقدس روحه الكربمة .. الخ.
وهذه المسألة، على طولها وما فيها من افتراضات وجزئيات في هذا الفرق عند القرافي، من أطول الفروق عنده ولم يعلق عليها الفقيه المحقق العلامة المدقق قاسم ابن الشاط الانصاري رحمه الله، ولم يعقب عليها بشيء من تعليقاته التى يوردها في كثير من الفروق.
وإنما ذكرت شيئًا مما قاله القرافي في هذه المسألة وفي البيتين السالفين، لما في ذلك من إلقاء مزيد ضوء عليها بالنسبة لما عند البقورى من اختصارها واقتصاره فيها على ما هو اهم وآكد من أمثلتها وجزئياتها، ومما في الاطلاع عليه منها فائدة.
هذا البيت ينشد على ثمانية أوجه، لأن ما بعد قبلِ الأول، قد يكون قبلَيْن، وقد يكون بَعْدين، وقد يكونان مختلفين، فهذه أربعة أوجه، ثم قد يكون عوض قبل الأول، بعد، فتكون ثمانية. ثم أقول - أيضًا -: إن ما في البيت تكون زائدة، وموصولة، ونكرة موصوفة، والحكم في الوجوه كلها واحد، لا تتغير الفتوى بحسب ذلك. ثم إن القبل، والبعد لا يصح أن يكون هنا الا بشهر تام، ليس من حيث إن القبل والبعد لا يصدقان الا على ذلك، بل يصدق على اليوم وأقل منه، ولكن لقرينة في البيت عينت ما قلناه، فهو المقصود في البيت لا غيره.
ثم إن القبلية والبعدية - أيضًا - تصدق بحسب المجاور أولا والمجاور آخرا، وتصدق بحسب المتأخر جدًا، وبحسب السابق جدًا، فنحن نقول: يومنا هذا قبل يوم القيامة، ويومنا هذا بعد يومٍ، خُلِق فيه آدم، وذلك كله حقيقة. كما أن القبلية والبعدية على المجاورين حقيقة. ولكن المراد هنا المجاور بحسب التقديم وبحسب التأخر.
فإذا تقرر هذا، فأقول:
اعلم أن الأجوبة الثمانية منحصرة في أشهر (37): طرفان وواسطة، فالطرفان جمادى الآخرة وذو الحجة، والواسطة شوال وشعبان.
وتقريب ضبطها أن حميع البيت إن كان قبل، فالجواب بذي الحجة، أو بعد، فالجواب جمادى الآخرة، أو مركبة من قبل ومن بعد، فمتى وجدت في الآخر قبل وبعد، أو بعد قبله، فالشهر مجاور لرمضان، فإن كل شيء هو قبل بعده وبعد قبله. فالكلمة الأولى إن كانت حينئذ قبل فهو شوال، لأن المعنى قبله رمضان. هذا إن اجتمع آخرَ البيت قبل وبعد. فإن اجتمع قبلان، أو بعدان، وقبلهما مخالف لهما، ففي البعدين شعبان، وفي القبلين شوال.
(37) في نسخة: في أربعة أشهر، بذكر كلمة أربعة، وكذا في نسخة أخرى.
المسألة الثانية (38):
قال مالك: إذا قال لامرأته: أنت طالق رأس الشهر تَنجز الطلاق في الحال، واذا قال لأمته: أنت حرة رأس الشهر يوقف العتق إلى أمده ولم ينجَّزْ، والطلاق والعتق قد علق بوقت لا بد أن يأتي.
فالفرق بينهما، أن الطلاق إنما نُجِّز في الحال، لأن الوطء لا يجوز أن يتوقف، ولهذا نُهِي عن نكاح المتعة، حيث انها توقيت للوطء (39)، وليس كذلك العتق إذا علقه رأس الشهر، فهو إنما وقت الخدمة، وذلك جائز، لأن المنفعة تتوقت كالإجارة، ألا ترى أنه يمنع من وطئها، فافترقا.
فإن قيل: فيلزم على هذا أن من قال: ان قدم فلان فأنت طالق قبده بسنة، أن ينجَّز الطلاق، وكذا، ان قال: ان مات، قلنا: لا يلزم، من حيث إن الشرط يمكن أن يقع وألا يقع. ثم الموت الذي لا بد منه يجهل أن يتأخر عن موت المرأة المطلقة، فيكون كالقدوم الذي لم يقع، فلذلك قلنا بعدم التنجيز، فلم يكونوا فيه موقتين للوطء، ولا بد، والله أعلم.
المسألة الثالث:
قال عبد الملك: إذا قال رجل لامرأته وهي حامل: أنت طالق - إذا وضعت - واحدة، وأنت طالق الساعة واحدة، طلقت اثنتين. وإذا قال: أنت
(38) هذه المسألة هي مما زاده الشيخ البقوري، وأضافه إلى كتاب شيخه القرافي كما أشار إليه في التمهيد للمسألة الأُولى قيل هذا.
(39)
عن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة عام خيبر، (متفق عليه)، ولفظه في صحيح الإمام البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وعن الحمُر الأهلية زمن خيبر، (أي نهى عن نكاح المتعة حين أو وقت غزوة خيبر، والنهي في الحديث للتحريم، ولذلك أجمع علماء الإسلام على تحريم نكاح المتعة وهو النكاح إلى أجل (أي تزوج المرأة لمدة معينة يستمتع في الزوج بها، ثم يطقها بعد انتهائها، وذلك أن الإسلام ينظر إلى أن عقد الزواج على أنه عقد تأبيد بين الزوجين إلى أن يفرق بينهما الأجل المحتوم، فيجب أن تكون عقد تأبيد في صيغة العقد وألفاظه، وفي نية كل من الزوجين وعزمه وقصدِهِ، والأعمال بالنيات.
طالق الساعة واحدة (أي طلقة واحدة) وأنت طالق - إذا وضعت - واحدة، لم تطلق إلا واحدة، وكلاهما طلاق متعلق بوضع الحمل.
فالفرق بينهما أنه لما قال: أنت طالق - إذا وضعت - طلقت في الحال، فصارت مطلقة رجعية، فلما قال: وأنت طالق "الساعة" لزمته الأخرى، لأن الطلاق يلحق الرجعية، فلزمت اثنتان. وإذا قال: أنت طالق الساعة طلقت واحدة، وبقيت مطلقة رجعية أيضًا، فإذا قال: وأنت طالق إذا وضعت، فقد علق وقوع الطلاق بوقت هي فيه غير زوجة لا يقع عليها فيه طلاق، لأنها بالوضع تبين منه، - إذ به تخرج عن العدة، فافترقا.
لكنه لقائل أن يقول: قلتم: إن الرجعية يلحقها الطلاق، وهذه - حين طلقت الساعة - هي رجعية، فلم لا يلحقها الآخر الذي هو قوله: وأنت طالق إذا وضعت، بأن ينجز ذلك الطلاق الآن كما نجز حين بدأ به، ولا يكون طلاق بعد عدة؟ والله أعلم.
وقد يقال في الجواب: التنجيز ثان (40) عن تحقق صحة الوقوع في الوقت الذي ربط به الطلاق، ووقوع الطلاق بعد الوضع لا يصح في حق الرجعية، لأنها بالوضع تبين، ويصح في حق التى لم تطلق، فيتصور التنجيز فيها دون الرجعية، والله أعلم.
لكنه ييقى الإشكال في البحث من أوله، من حيث إنه بني على أن الواو تعطي الترتيب، وليس كذلك. ثم لو سلمنا بهذا وقلنا بأنها للترتيب، ففي أصل البحث إشكال من حيث إنه يمكن أن تموت المرأة قبل أن تضع، فيصير الشرط بهذا يمكن أن يقع، فلا ينجز الطلاق، كما قال في مسألة الموت قبل هذه المسألة، فإما أن يقال بالتنجيز في المسألتين، أو بعدم التنجيز فيهما، والله أعلم.
(40) ثانٍ: اسم فاعل من ثناه يثنيه عن الشئ إذا صرفه عن فعله، وحال دون ذلك بكيفية أو أخرى.
المسألة الرابعة:
قال مالك: إذا قال رجل لرجل: ان لم أقضك حقك إلى شهور فامرأتي طالق فقضاه، ثم ظهر على ردئ بعد الشهر فإنه يحنث، سواء علم بذلك أو لم يعلم. فإذا قال لزوجته: أنت طالق إن لم آتك بخادم إلى شهر، فجاء بخادم، فظهر على عيب في بعد الشهر لم يحنث، وفي الجميع قد وجد العيب في المحلوف عليه، فالفرق بينهما أن الدراهم إنما وقع الحنث عليها، لأنه مضى الأجل المحلوف عليه ولم يقضه حقه، للزومه بدل الردئ، وفي الخادم لم يمض الأجل إلا والمجيء موجود، ولم تقع اليمين على صفة فيحنث متى وجد خلافها كالدراهم، وإنما وقعت على المجيء، والمجيء قد وجد، وفي الدراهم وقعت اليمين على صفة، وهي وفاء الحق، وذلك لم يوجد، فافترقا.
المسألة الخامسة:
قال مالك رحمه الله: إذا قال لأمته: أنت حرة إذا مات فلان، فإن وطأها لا يجوز له، وإذا قال: إن مت فأنت حرة، فوطؤها جائز له، وكلاهما عتق متعلق بموت.
فالفرق بينهما: إذا علق وقوع العتق بموت زيد حصل عتق متعلق بموقَّت، فكان حكمه حكم العتق إلى أجل، وإذا علقه بموته كان تدبيرًا، والفرق بين المدبَّرة (41)، والمعتقة، يقرر في موضعه.
فإن قيل: القول - هنا بأن الوطء لا يجوز له، يخالف ما قرر في المسألة الثانية التى هي خامسة باعتبارها، فالظاهر أن يلغى الشرط، لإمكان موت الزوجة قبل موته، ولإمكان موت الأمة قبل موته، أو لا يلغى ويعتبر، فينجز في الموضعين، ولا يعتبر ما ذكر من الإمكان.
(41) العبد المدبر بفتح الدال، وفتح الباءِ مشددة، وكذا الأمة المدبرة، هو الذي أو هي التى يقول لها السيد:(أنت حرة عن دبر مني)، (وأنت حر بعد دبر مني)، أي بعد إدبارى عن الحياة الدنيا وإقبالي على الحياة الأخرى، فيصير حرًا بعد ذلك.
قلنا: الفرق أن الزوجة تصور عليها عقد النكاح بوجه متيقن، فأصله ألا يحل بالشك، فإن الشك لا يقاوم اليقين، والأمة تصور عليها عقد مالك الرقبة كذلك بوجه متيقن، فهو - أيضًا - لا يحل بالشك بل باليقين، فلذلك قلنا ببقاء ملكه عليها، إلا أن يقع موت فلان، وقلنا: إنه لا يطأ، من حيث إنه أدخل على نفسه ذلك الشك، ولا حق للأمة في الوطء، بل هو له، ولا يخل تركه بعقدة الملك، بخلاف عقدة النكاح، فإن تركه مضاد لعقدة النكاح، وللحرة فيه حق، فقلنا بأنه لا يطأ هنا دون هنالك.
المسألة السادسة:
قال ابن القاسم: إذا قال رجل لامرأته: إن دخلت هاتين الدارين، فأمتي حرة، فدخلت إحداهما عتقت، وإذا قال لعبدين: إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما حران، فدخلهما أحدهما، لم يعتق واحد فهما حتى يدخلا جميعًا، ودخول البعض في الكل موجود، فالفرق بينهما أن في العبدين علق العتق بصفة تكون منهما جميعًا، فإذا وجدت من أحدهما فلا عتق، وإذا قال لأمته: أنت حرة إن دخلت هاتين الدارين، فإذا وجد الدخول لإحداهما وجب العتق، لأنه علقه بصفة المحلوف عليه، فإذا وجد البعض وجب انفاذه، لأنه كوجود الكل، لأن المقصود الامتناع من الدخول، وضد ذلك يؤخذ من البعض كما يؤخذ من الكل، فافترقا لذلك.
قلت: الفرق غير واضح، فيمكن أن يقال: هو اختلاف قول. ويمكن أن يقال في الفرق: ليس تعدد الداخل كتعدد المدخول فيه، فعلى الداخل المتعدد أن يرجع إلى واحدة، ومعنى التعدد فيه مقصود، والمدخول فيه ليس كذلك، والله أعلم. وهذا التفريق قد يكون إيضاحًا للفرق المذكور، لا مخالفًا.
المسألة السابعة:
إذا قال: كل امرأة أنكحها إلى ثلاثين سنة، فهي طالق إن كلمتُ فلانا، لزمه الحنث إن كلمه قبل الأجل فيمن تزوج قبل الحنث وبعده، قاله ابن القاسم