المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القاعدة الثانيةفي تقرير مقتضى إن، ولو، الشرطيتين، بحسب الزمان - ترتيب الفروق واختصارها - جـ ١

[البقوري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌ترجمة الإمام الفقيه أحمد بن ادريس القرافي (*) مؤلف كتاب الفروق في القواعد الفقهية:

- ‌ترجمة الفقيه الشيخ ابن الشاط

- ‌ترجمة الفقيه الشيخ محمد بن ابراهيم البقوري

- ‌القواعد الكلية بالنسبة إلى ما بعدها

- ‌القاعدة الأولى: في تقرير أنه الشريعة قامت برعاية المصلحة ودرء المفسدة

- ‌القاعدة الثانية: في أقسام المصلحة والمفسدة على الجملة

- ‌القاعدة الثالثة: في الحكم في اجتماع المصالح، وفي اجتماع المفاسد، وفي اجتماعهما

- ‌القاعدة الرابعة: في حكم المصالح والمفاسد المبنية على الظن

- ‌القاعدة الخامسة: فيما يترك من الصالح لسبب، وفيما يفعَل من المفاسد لسبب

- ‌القاعدة السادسة: في بيانه أنه ليس كل المصالح يؤمر بكسبها، ولا كل المفاسد ينهى عن فعلها

- ‌القاعدة السابعة: فيما به يعرف ترجيح المصلحة والمفسدة

- ‌القاعدة الثامنة: في أمر الثواب والعقاب، هل هو في التفاوت وعدمه مرتبط بالأعمال أو بالمصالح والمفاسد

- ‌القاعدة التاسعة: في تقرير أن المصالح والمفاسد لا يرجع شيء منها إلى الله جل وعلا

- ‌القاعدة العاشرة: في أن الصالح والمفاسد بحسب العبيد -كما قلنا- قائمة معتبرة في الشرع

- ‌القاعدة الحادية عشرة:

- ‌القاعدة الثانية عشرة:

- ‌القاعدة الثالثة عشرة:

- ‌القواعد النحوية وما يتعلق بها

- ‌القاعدة الأولى: في الشرط

- ‌القاعدة الثانيةفي تقرير مقتضى إن، ولو، الشرطيتين، بحسب الزمان

- ‌القاعدة الخامسة: قاعدة التشبيه

- ‌القاعدة السادسة

- ‌القاعدة السابعة

- ‌القاعدة الثامنة

- ‌القاعدة التاسعة:فيما به يفترق جزء العلة عن الشرط وفيما به يشتركان

- ‌القاعدة العاشرة:في بيان المانع

- ‌القاعدة الثانية عَشْرَة

- ‌القاعدة الثالثة عشرة

- ‌القاعدة الرابعة عشرة

- ‌القاعدة الحامسة عشر

- ‌القواعد الأصولية

- ‌القاعدة الخامسة:في تقرير أنه ما ليس بواجب لا يُجْرِئُ عن الواجب

- ‌القاعدة الثالثة والعشرون

- ‌المتعلق منها بالعموم والخصوص وما يناسبها:

- ‌المفهوم

- ‌الخبر

- ‌القاعدة الأولى:في الفرق بين الرواية والشهادة

- ‌قواعد العلل

- ‌الاجتهاد:

- ‌القواعد الفقهية

- ‌قواعد الصلاة

- ‌الصوم

- ‌الزكاة

- ‌الحج

- ‌الجهاد

- ‌الذكاة

- ‌الأطعمة

- ‌الأيمان

الفصل: ‌القاعدة الثانيةفي تقرير مقتضى إن، ولو، الشرطيتين، بحسب الزمان

وأشهب. قالا: وإن قال: إن كلمت فلانا إلى ثلاثين سنة فكل امرأة أتزوجها طالق، فلا شيء عليه، وفي كلا الموضعين قد علق اليمين بالأجل.

الفرق بينهما أنه إذا وقَّتَ اليمين بالطلاق، فلا يسُدُّ على نفسه باب الإباحة، لأنه عند دخول الوقت يقرر على الإباحة فلزمه اليمين. وإن لم يوقت فقد وجب السد فلم يلزمه، وكان بمنزلة من قال: إن فعلت كذا فكل امرأة أتزوجها فهي طالق، فافترقا.

‌القاعدة الثانية

في تقرير مقتضى إن، ولو، الشرطيتين، بحسب الزمان

(42).

إعلم أن إن، المقرر في كلام العرب، وهو قول أئمة النحو - أن الفعل الذي بعدها - كان مضارعًا، أو ماضيًا - تخلصه للاستقبال. والجزاء - أيضًا - كذلك تخلصه للاستقبال، وأنها لا تدخل على المحقَّقَ، وإنما تدخل على المشكوك فيه. هذا هو المقرر عندهم في إن (43).

وأما لو، فشأنها أن الفعل الذي بعدها للدلالة على الزمان الماضى، كان ماضيًا من حيث صيغته، أو مضارعًا ماضيًا، كقولك: لو تام زيد أمس، قام عمرو. ومضارعًا، كقولك: لو يقوم زيد أمس، قام عمرو. ثم هي إذا دخلت على ثبوتين كانا نفيين، أو على نفيين كانا ثبوتين، أو نفى وثبوت كان النفى ثبوتًا، وكان الثبوت نفيًا، ويقولون لها: حرف امتناع الشيء لامتناع غيره (44). هذا هو المقرر في الحرفين.

(42) هذه القاعدة هي الفرق الرابع في كتاب الفروق للإمام القرافي جـ 1 ص 83.

(43)

علق الشيخ ابن الشاط رحمه الله على قول القرافي هنا "بأن إن لا تتعلق إلا بمعدوم مستقبل" بقوله: ليس الأمر كذلك، بل تتعلق. بالماضي، لكن الأكثر فيها تعلقها بالمستقبل. ومما اختاره يلزم منه دعوى المجاز في استعمالها في الماضي، والمجاز على خلاف الأصل

الخ. اهـ.

(44)

فهي كما يقولون ويوضحون: حرف امتناع الجواب لامتناع الشرط، نحو: لو جاء زيد اكرمته، ولو صبر لنال مطلوبه ومرغوبه.

ص: 78

ولنذكر مسائل متعلقة بالقاعدة المقررة بحسب الحرفين (45):

المسألة الأولى:

قال الله تعالى، حكاية عن عيسى عليه السلام:{إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} (46). فقال بعض المفسرين: إن ذلك وقع منه في الدنيا، وإن سؤال الله تعالى له قبل أن يدعيٍ ذلك عليه، فيكون التقدير: إن أكن أقوله فأنت تعلمه، فهما مستقبلان، جريًا على ما أصَّلنَاه (47).

وقيل: السؤال يكون يوم القيامة، وهذا هو المشهور، فيكونان ماضيين، وتخْرِمُ هذه الآية ما أصلناه. فقال ابن السراج: يجب تأويلهما بفعلين مستقبلين، تقديرهما: إن يثبت في المستقبل (48) أني قلته في الماضي يثبت أنك تعلم ذلك.

ومما يؤكد أن السؤال في الدنيا قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} (49) وإذ للماضي، والمخبر بهذا هو محمد في دار الدنيا. وقيل: هذا كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} (50).

ذكر شهاب الدين رحمه الله في هذه المسألة فائدة، ثم رتب عليها سؤالا.

فالفائدة قَال: اعلم أن عشرة أشياء في كلام العرب هي للاستقبال: الشرط، وجزاؤه، والأمر، والنهي، والدعاء، والوعد، والوعيد، والترجي، والتمني،

(45) وصفها الإمام القرافي رحمه الله بأنها مسائل غريبة جليلة، وذكر أنها أربع عشر مسألة، وتحدث عنها بإسهاب وتفصيل، اقتصر الشيخ البقوري على إيراد تسع منها، سيرًا على منهجه في الاختصار.

(46)

سورة المائدة: الآية 116.

(47)

وهو أن الفعل الذي يكون بعد إن، وكذا جوابها يتخلص للاستقبال، سواء أكان ماضيًا أو مضارعًا.

(48)

كذا في نسخة ح، ونسخة أخرى بصيغة الفعل المضارع، وهي أظهر وأوضح. والسبب مع ما قبلها من العبارة.

وفي نسخة ع: إن ثبت في المستقبل بصيغة الماضى، وهي حينئذ تؤول بالفعل المضارع.

(49)

سورة المائدة: الآية 116.

(50)

سورة النحل: الآية 1.

ص: 79

والإباحة، فهذه العشرة لا تتصور بحسب ماض ولا حاضر.

ثم قال: سؤال كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله يورده، وهو أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هي: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. وجاء في ذلك غير هذا مما يقرب لهذا، وهنا قاعدة (51)، وهي أن المشبه بالشيء، أعلى رتبته أن يكون. مِثلا، وقد يكون أدنى، وأما أعلى فلا يكون (52). ومن المعلوم في القواعد أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم، فكيف يخرج عن ظاهر هذا الحديث إلى القاعدة المقررة.

فأجاب عز الدين رحمه الله تعالى بما مقتضاه أن التشبيه وقع بين المجموعين، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم وآله، وهنا النبي إبراهيم عليه السلام وآله، فطلب في هذا الحديث أن يعطي الله من فضله وإحسانه لهذا النبي وآله مثل ما أعطى لإبراهيم وآله (53).

ثم إن آل إبراهيم كثير، فهم الأنبياء، وليس في آل نبينا نبي، والعطاء على نسبة المعطى إليه. ففضله على النبي لا يكون كفضله على غير النبي. فهذا المجموع الذي تصور في حزب إبراهيم وآله، إذا أخذ آله منه أنصباءهم كان الذي يأخذ إبراهيم من ذلك لا يساوي نصيب نبينا بوجه، فإن نبينا عليه الصلاة

(51) في نسخة ح: ومعَنَا قاعدة، وكذا في نسخة أخرى ثالثة، وقد كتبت خطًا بصورة معْنى، والأولى أظهر.

(52)

كذا في كل من نسخة الخزانة العامة بالرباط، ونسخة الخزانة الحسنية كذلك. وفي نسخة أخرى:"ومعنا قاعدة، وهي أن المشبه بالشيء أدق رتبة، وقد كون مثله وأما أعلى فلا يكون". وليس من فرق يظهر بين هذه النسخ في هذه العبارة سوى في التقديم والتأخير لبعض الكلمات. وأما المعنى فواحد. ويوضح ذلك أكثر، عبارةُ القرافي في هذه المسألة حيث قال: فكان رأي الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول: قاعدة العرب تقتضي أن المشبه بالشيء يكون أخفض رتبة منه، وأعظمُ أحواله أن يكون مثله".

(53)

كذا في نسخة ع وفي نسخة ح: أن التشبيه وقع بين المجموعين لمعنى النبي صلى الله عليه وسلم وآله .. ونسخة ثالثة: أن التشبيه وقع بين المجموعين. فالمشبه النبي صلى الله عليه وسلم وآله، والمشبه به إبراهيم عليه الصلاة والسلام وآله. وعبارة هذه النسخة أكثر ظهورًا ووضوحًا في اللفظ والمعنى مما في نسختى ع، وح.

ص: 80

والسلام يأخذ آله أخذًا دون أخذ آل إبراهيم ولا بد، للنبوة التى في آل إبراهيم،

فيكون ما يقع في خاصة نبينا أفضل، وزال الإشكال على هذا.

ثم إن شهاب الدين رحمه الله لم يرتض هذا الجواب وقال: هذا التكلف الكثير (54) فيه، هو من حيث اعتبار جميع ما أعطي من الخير للنبي وهذا لم يقع التشبيه فيه من حيث إن الدعاء للاستقبال، فما كان من خير أعطي للنبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا الدعاء لم يقع في التشبيه، وإنما وقع في التشبيه، الزائد على ما كان عنده (55) لَا طَلَبُ (56) أن يكون مثل ما كان لإبراهيم وآله، وهذا أيسر وأبين ولا كلفة فيه.

قلت: ما قاله شهاب الدين ظاهر، وما قاله الآخر وهو عز الدين، رحم الله جميعهم، ظاهر وحسن. ولكنه قال شهاب الدين بعد هذا في جواب عز الدين: لا يحتاج إلى التفصيل الذي ذكره الشيخ، مع أنه لا يصح، فإنه جعل متعلق جيع ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يلزم (57) تعلق الطلب بالواقع. فيلزم طلب تحصيل الحاصل وهو غير جائز (58).

(54) في نسخة ح: الكبير.

(55)

كذا في نسخة ع، ونسخة ح. وفي نسخة أخرى:"لم يقع التشبيه فيه، وإنما وقع التشبيه في الزائد على ما كان عنده، وعبارة هذه النسخة أظهر وأبين، وتتماشى مع ما عند البقوري في العبارة قبل هذه وهي قوله: "وهذا لم يقع التشبيه فيه".

(56)

في النسختين: ع، وح، وكذا في نسخة أخرى جاءت كلمة طلب في سياق العبارة مثبتة، فبقي المعنى غير ظاهر ولا واضح. ولعل الصواب في أن تكون مقرونة بلا النافية، فتكون العبارة هكذا: "وإنما وقع التشبيه في الزائد على ما كان عنده لا طلب (ي لا في طلب) أن يكون مثل ما كان لإبراهيم وآله. وهذا النفي الذي يقتضيه ظهور المعنى ووضوحه وسلامة التعبير مستفاد مما في الأصل الذي هو كتاب الفروق لشهاب الدين الرافي رحمه، حيث قال في هذه المسألة: فالحاصل له عليه الصلاة والسلام لم يقع فيه طلب البتة.

(57)

العبارة تحتاج إلى جار ومجرور وتقدير منه (أي يلزم منه، حَتَّى يبقى الكلام مترابطًا بين مفعولي جعل.

(58)

عبارة القرافي هنا رحمه الله وهو يستحسن جوابه في هذه المسألة ويعتبره سديدًا هي قوله: فهذا جواب حسن سديد، بناء على القاعدة في أن الدعاء لا يتعلق إلا بمستقبل معدوم، ولا يحتاج إلى ذلك التعب والتفصيل الذي ذكره الشيخ مع أنه لا يصح، فإنه جعل متعلق الطلب جميع ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيلزم تعلق الطلب بالواقع، وهو محال، كما يلزم منه تحصيل الحاصل وهو غير جائز. والجواب الحق هو هذا.

ص: 81

وهذا الذي ذكره لا يَلزم عزّ الدين، من حيث إن الإحسان الواقع لإبراهيم هو جملُة ذات أجزاء، والذي لنبينا عليه الصلاة والسلام كذلك جملة ذاتُ أَجْزَاء والجملة ذات الأجزاء يَصِحُّ أن يصْدُق عليها أنها مستقبَلةٌ ما دام جزءٌ واحد منها لم يقعْ، وطالَما بقِي نبيُّنا بل بقيتْ أمّتُه، بقِيت الجملةُ لم تقَعْ.

نعَمْ، وقعَ أَجْزَاءٌ مِنْها، وأما الجملة فما وقعَتْ وانما هي مستقبَلَة، فَانفصَل الإِشكال، والجوابانِ صحيحانِ.

فإن قيل: هذا يتَّجه على رواية في الحديث، وهي التي فها ذِكْر النبي وآله في الصلاة وفي البَرَكة، وذكْرُ إبراهيم وآله في الصلاة والبركة. والطريق الآخر الذي فيه: اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبْراهيم، وكذا أيضًا في البركة، لا يتجهُ هذا الجواب، وهذا أَخرجه مسلم.- قلنا: تُحْمَلُ هذه الرواية على الاخرى، ويكَون الآل واقعا على ذاته وعلى من تبِعه، كما قال: "لقد أُعطيتَ مِزْمارًا من مزامير آل داود، والمرَاد دَاوُد. (59).

المسألة الثانية:

ما قرّرناهُ في لَوْ، يُشْكل أيضًا بِقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (60). حيث إنه يلزم أن تكون كلمات الله تعالى نفدت، وليس كذلك، وهذا من حيث إنه نفْىٌ لقوله تعالى:"ما نَفِدَتْ كلمات الله". ونظيرُ هذه الآية: {نِعْمَ العبْدُ

(59) الخطاب في هذا الحديث النبوي لأبى موسى رضى الله عنه، حين سمعه النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن ويتلوه بترتيل، وأبو موسى لم يكن يعلم بذلك، فقال مخاطِبًا الرسوَل عليه الصلاة والسلآم:"لو كُنْتُ أعلمُ انك تسمع قرآتى لحبرته لك تحْبيرًا)، أى لجوَّدته ورتلته لك ترتيلا وتجويدًا أكثر. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب إن يسمع القرآن من غيره وهو يتلوه تلاوة جيدا، كما قال لعبد الله بن مسعود حين أمره بقرآة ما تيسرّ منه: "إني أحبُّ أن أسمعه من غيرى، عملا بقول الله تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}

(60)

سورة لقمان - الآية 27.

ص: 82

صُهَيْبٌ، لو لم يخف الله لم يَعْصِهِ"، يقتضى أنه خاف وعصَى مع هذا الخوف، وهذا قُبْح، فيكونُ ذَمًّا، لكن الحديث سِيقَ للمدح، فنَعَم للمدْح التام، والفضلاء يتولعون بالحديث كثيرا، والآية قَلَّ من يتفطَّنُ لهَا. (61)

وأجاب الناس عن الحديث بأجولة:

أحدها لابن عصفور، أنَّ لَوْ في الحديث بِمعنَى إنْ لمطلَق الربط، وإنْ، لا يكون نفيُها ثبوتا ولا ثبوتها نفيًا.

الثاني لشمس الدين الخسر وشاهى، لوْ في أصل اللغة لمطلق الربْط.

الثالث لعز الدين بن عبد السلام، قال:

المسبَّبُ قد يكون له سببٌ واحدٌ ينتةِى لانتفاء سببه، وقد يكون له سببانِ، فَلَا ينتفِي لانتفَاء أحَدِ السببين. وإذا كان الامر هكذا ولابد، فلِعدم المعصية سببانِ: الخوفُ، وهذا لِلْكثير من الناس، والْإجْلالُ، وهذا لخاصة الناس وفُضلاِنهم

فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم صُهَيْبًا في هذا الْحَظِ (62). فهو يقول: نعْمَ العبد صهيبٌ، لوْ لم يخَف الله ما حَمَله عَدَمُ خوفه على العِصيان، كما هو في الكثير، بل هو لا يعصيه مع عدَم الخوف، للاجلال الذي غلَبَ عليه.

الرابع: الجواب محذوف، تقديره: لو لم يخف الله عصَمَهُ اللهُ، ودَلَّ على ذلك قولُه: لَمْ يَعْصِهِ.

وهذه الأجولة تتأتى في الآية، غَيْرَ الثالِثِ.

ولشهاب الدين، رحمه الله جواب خامس، وهو يصلح للحديث وللآية، قال: لَوْ أصلُهَا أن تكون للربط بين شيئين؛ تقدم. ثم إنها - أيضًا -

(61) علق الفقيه ابن الشاط على هذه المسألة عند القرافي إلى قوله في: والآية قل من يتفطن لها فقال: ما قاله القرافي في ذلك ليس بصحيح، لأن لَوْ انما هي في اللغة لمجرد الربط خاصة، وما توَهم هو وكوفي إنما هو من قبيل مفهوم الشّرْط، فإن قيل به صحّ ذلك وإلَّا فَلا

(62)

في النسخة الحسنية: في هذا النمط، في نسخة أخرى ثالثة: في هذا القِسْم، وهي أظهر، وإن كان ما في النسختين ظاهرًا، وله وجه في المعنى المقصود.

ص: 83

تُستعمل لقطع الربط، فيكون جوابا لسؤال، محقَّقِ أو متوهَّم، وقع فيه ربط، فَتَقْطغه أنت لاعتقادك بُطلان ذلك الربطِ، كما لو قَال القائل: لو لم يكن زيدٌ زوجًا، لم يَرث، فتقول له أنْت: لو لم يكن زوجًا لم يُحْرَمْ، تُريد أنّ ما ذكرَتَه مِن الربط بين عدم الزوجية وعدم الارث، ليس بِحَقٍ، فمقصودك قطع ربط كلامِهِ، وتقول: لو لم يكن زيدٌ عالمًا لَأكْرِم، أي لشجاعته، جوابا لسؤالِ سائلٍ تتوهمهُ أو سمِعتَه، وهو يقول: إنه إذا لم يكن عالمًا لم يُكْرَم، فَيَرْبط بين عدم العِلم، وعدمِ الاكرام، فتقطع انت ذلك الربْطَ (63).

قلت: هذا جواب عز الدين رحمه الله بعينِهِ، وهو الذي قال فيهِ قبل هذا: إنه لا يُتصور أن يكون جوابا عن الآية، فمراد عز الدين ليس متوقفا على السَّبِبِيَّةِ، وانما أجاب بعدم الربط، وكان في الحديث عدم الربط، وأبْدَى علة عدم الربط، فذكر السببيْن كمَا الأمرُ هنا في مثال الموارثة (64) وفي مثال الإِكرام،

(63) علق الشيخ ابن الشاط على هذه الأجوبة المذكورة هنا وعند القرافي رحمه الله، فقال:

جواب أي الحسن بن عصفور يقتضى أنها مجاز في الحديث، والمجاز خلاف الأصل فلا يُدَّعَى إلَّا عند الضرورة.

وأما جواب شمس الدين بأنَّ لوْ في أصل اللغة لمطلق الربط، وإنما اشتهرت في العرف في انقلاب ثبوتها نفيا وبالعكس، والحديث إنما ورد بمعنى اللفظ في اللغة، فهو الصحيح، غير قوله:"وإنما اشتهرت في العُرف"، فإن ذلك العرف الذي ادعاه لم يثبتْ عن اللغة ولا عن الشرع، فهو عرف لغير أهل اللغة ولغير أهل الشرع، ولا حجَة في عرف غيرهما ولا اعتبار به في مثل هذا.

وأما جواب عز الدين فغايته أن أبْدى وجها لمطلق الربط، وارتفاع توهُّم ذلك المفهوم.

وأمّا جوابه هو (أى القرافي) فمُحْوج إلى تكلُّفِ سبْق كلام يكون هذا جوابًا له، وتقدير ذلك، وكل ذلك لا يصح في الآية، أمَّا سبْقُ كلام يكون هذا جوايا له فلم يكن في الأزل من يكون كلام الله تعالى جوإبا له، ولا يصح أن يكون كلام الله على تقْدير سبْق كلام، فإن هذا التقدير إنما معناه احتمال سبْق كلام الله، والله تعالى منزَّه عن مثل هذا الاحتمال، إذ تقرر أنه العالم بما كان ومما يكون وبما لم يكن ولا يكون.

ولذلك لما قال القرافي عن جوابه: إنه أصلح من الأجوبة المتقدمة من وجهين: عقب عليه ابن الشاط بأنه ليس بأصلح، لما فيه من دعوى سبق كلام يكون هذا جوابا له أو تقدير سبق كلام، والأصل عدم ذلك.

(64)

في نسخة ح، ونسخة أُخرى: الوِراثة، وكلاهما مصدر قياسي للفعل الرباعي: وارث. لقول ابن مالك في الفيته النحوية.

لفَاعَل الفِعَالُ والمفاعَلةَ

وغيْرُ ما مرَّ السماعُ عادَ لَه

ص: 84

فما ذلك إلّا لأجْل السببيْن، والله أعلمُ، وعلى هذا فلا يصلح أن يكون جواب شهاب الدين رحمه الله جاريا في الآية؛ قال في جواب عز الدين رحمه الله تعالى.

المسألة الثالثة:

ما قلناه أيضًا من أن إن لا تدْخُلُ إلا على المشكوك، يُشْكِل بقوله تعالى:{إِنْ كُنْتُمُ إِيَّاهُ تَعْبُدُونْ" (65)، فإن الله عالم بذلك قطعا، وبقوله: {وَإِنْ كُنْتُمُ فِي رَيْبٍ} (66)، فإن اللهَ تعالى تحقَّقَ أنهم في ريب، وهمْ يجدون الريب في نفوسهم قطعًا.

والجواب أن يقال: المراد كل ما كان شأنه أن يكون في العادة مشكوكًا فِيه بين الناس حسُنَ تعليقُهُ بإنْ مِن قِبَلِ الله تعالى ومِن قِبَلِ غيره، سواء كان معلوما للمتكلم أو للسّامع أو لَا، وكذلك يحسُنُ من الواحد مِنّا أن يقول: إن كان زيد في الدار فأَكْرِمْه، معَ أنه يعلم أنه في الدار، ولكنه حَسُنَ، لأنهُ شأنه أن يشك فيه، يخلاف إن طلعَتْ الشمس.

قلت: هذا يُعْترض (67) بقوله تعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (68) وكذلك نقول: إن يكن الواحد نصف العشرة فالعَشرةُ اثنانِ، وهذا أمرٌ لاشكّ فيه عادةً، بل يُقطعُ بأن الواحد لا يكون نصف العشرة.

وما أجاب به شِهابُ الدين هذا الفرضَ وَهو قوله: التعليق إنما هو على امرٍ مفروض، والفَرْضُ والتقديرُ ليس امرًا لازما في الواقع، بل يجوز أن يقعَ ويجوزُ ألا يقعَ - فيصير من قِيلَ المشكوك فيه - هُوَ لا يصلح جوابًا لنفى الشكّ عن وقوع هذا الفرض وبُعْدِه عنه، ودخوله في حَيِّزِ (69) المقطوعْ به.

(65) سورة البقرة: الآية 112.

(66)

سورة البقرة: الآية 23

(67)

في نسخة: "معترض" بصيغة اسم الفعول.

(68)

سورة آل عمران: الآية 144.

(69)

في ح: في جزء، وكلمة حيّز أنسَبُ في المعنى وأظهر.

ص: 85

والظاهر عندِي أن القاعدة التى يذكرها النحويون، وهي التي مرّت لنا، أنّ إن ليست مُحَصَّلَةً (70)، وأنَّ إن تقع في الموضعين معًا، واللهُ سبحانه وتعالى أعلم وأَحكم، كقوله تعالى:"أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ"(71) والآية الاخرى مع الفرض، فيهما نظر.

المسألة الرابعة

ما تقرر، من أنَّ إنْ لا تدخُل على شئٍ إلا كان فيه معنى الاستِقبال يُشكِل بمثل قوله تعالى:{إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} (72)، وبقوله {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} (73).

فأجاب شهابُ الدين عن هذا بأن تعلق إرادة اللهِ وعِلمِه بالأشياء تسمان: قسم واقع، وقسم مقدّر مفروض.

فالواقع هو أزلي، لا يمكن جعْل شيء منه شرطًا الْبَتَّة، والمقدر هو الذي جُعِل شرْطا. تقديو الكلام، مَتَى فرض عِلْم الله تعالى بأنَّ فيكم خيرًا، أتاكم خيرًا مِمَّا أُخذَ مِنكم، وكذلك المثال الآخَرِ، والفرض والتقدير أمرٌ متوقَّع في المستقبَل ليس أزليًا، فلذلك حسُن التعليق فيه على الشرط. (74)

المسألة الخامسة

إذا قال: إن دخلتِ الدار فأنتِ طالق ثلاثًا، ثم قال لها: أنتِ طالقٍ

(70) في ع: مخلصة، وفي نسخة ح، محصلة، كما في نسخة أخرى، وتكون صيغتها صيغة اسم مفعول، بمعنى أنها ليست محصَّلة الإِتقان والفهم لمكان استعمالها، وهي تستعمل مع المعلوم المحقق والمشكوك فيه.

(71)

سورة الانبياء: الآية: 34.

(72)

سورة الانفال: الآية: 70.

(73)

سورة النساء: الآية: 133.

(74)

علق الشيخ ابن الشاط عل هذه المسألة الرابعة قائلا: تقدَّم أن حروف الشرط تدخل عل غيْر المستقبل، بخلاف سائر ما ذكر مع الشرط (أى من السببب المانع)

ص: 86

ثلاثًا، قال مالك رحمه الله: تنْحَلُّ يمينُهُ. وقال الشافعي: يبْقَى التعليقُ حتى (75) يتزوجها في عقد ثان.

قلت: فالشافعي نظرَ إلى مُطلَقِ لفظِ التعليق، فأبقاه بعْدَ الثَّلاث، ومَالكٌ نظرَ الَى أن الطلاق أصلُهُ أن لا يقع إلا على مَا مَلَكَ، والمطلَّقَةُ ثلاثًا ما بقي له عليها مِلْك، وان جاءَ أن الطلاق يقع على غر المملوكةِ على فرض التزوج إذا كان في الكلام ما يدل عليه، وليس هُوَ هنا. (76)

المسألة السادسة (77)

اتفق الفقهاء على الاستدلال بقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (*) على الأمر بالتعليق، وهو يُشكلُ من حيثُ إنه ليس

(75) كذا في نسخة ح، ونسخة اخرى، وهي الاظهر والصواب، وهي في الفروق عند القراني في هذه المسألة، وفى نسخة ع حين، وهي لاشك خطأ من الناسخ.

(76)

اختصر البقُّوري رحمه الله هنا المسألة الخامسة والسادسة عند القرافي رحمه الله.

ففي المسألة الخامسة ذكر القرافى أن القاضى عبد الوهاب وغيره من العلماء رحمهم الله نصوا على إن حيث وأين من صيغ العموم، فيلزم على هذا أنه إذا قال المرء لزوجته: حيث وجدتك أو أين وجدتك، فأنتِ طالق فوجدها، طلقت، ثم وجدها في عدتها مرارًا أن تطلق عليه ثلاثًا لأجل العموم، وكذلك القول في متى، ولا يلزم بها إلا طلقة واحدة، وهو مشكل، لأن مقتضى نصهم على العموم التكرر تحقيقًا للعموم

وأنَّ كلما لما كانت للعموم تكرر الطلاق بتكرر المعلق عليه: ، قوله: كلما دخلت الدار فأنت طالق، فتكرر دخولها في عدتها طلقت ثلاثًا. ثم تناول القرافي الفرق بينهما على أساس الفرق بين المطق والعام، تقسيم التعليق إلى أربعة أقسام الخ

وفي السادسة المسألة ذكر أن الاصحاب (أي المالكية) نصوا على أن في قول القائل كل امرأَة أتزوجها من هذا البلد فهي طالق، يتكرر الطلاق بتكرر النساء من ذلك البلد، وأن القائل: كل امرأة أتزوجها فهي على كظهر أُمِّي أن الكفارة لا اتتكرر عليه، وأنه بزواج امرأة تتحلُّ يمينه مع تصريحه بالعموم في الصورتين ..... الخ.

(77)

اختصر البقوري هنا المسألة الثامنة عند القرافي، فلم يذكرها ولم يتعرض لها مثلما اختصر المسألة الخامسة والسادسة، وهذه المسألة الثامنة المختصرة، ذكر فيها الإمام القرافي رحمه الله أن الشرط ينقسم إلى ما لا يقع إلا دفعة واحدة كالنية، والى مالا يقع إلا متدرجا كالحول وقراءة السورة، وإلى ما يقبل الأمرين كإعطاء عشرة دراهم

الخ. ثم أورد كلام الإمام فخر الدين الرازي في كتابه المحصول عن هذا الموضوع.

(*) سورة الكهف: الآية: 23

ص: 87

هنا حرفُ تَعْليق، فإن إن الشرطية ليست هنا، وانما هي أن النَّاصبةُ بعْدَ حرفِ الاستثناء.

وبَيَانُه أن نقول أولا: الاستثناء من الأحْوال، (78)، والتقديرُ: ولا تقولَن لشيء إني فاعل ذلك غدا في حالةٍ من الحالات إلا معلِّقا بأن يشَاءَ الله، ثم حذفتَ معلّقا والباءَ من أنْ، وهي تُحذف معها كثيرا فيَكونُ النهى المتقدِّمُ مع الَّا المتأخِرة قد حصر (79) القول في هذه الحالة دون سائر الاحوال فتختص، وترْكُ المحرّم واجبٌ، وليس بذلك شيء يترك به الحرامُ إلا هذه الحالُ، فتكون واجبة، فهذا مُدْرَكُ الوجوب.

وأمَّا مُدْرَكُ التَّعْليق، فهوَ .. قوْلِنا. معلَّقا، فإنه يدل على أنه تعلق في تلك الحال، كما إذا قال له: لا تخرُجْ إلا ضاحِكا، فإنه يفيدُ الأمر بالضحك حالةَ الخروج. وانتظمَ معلقا معَ إن بالباءِ المحذوفة، واتَّجَهَ الأمر بالتعليقِ على المشيئة من هذه الصيغة عند الوعد بالافعال (80).

"فرع"

من هذا التقدير: لو قال: علَّقت طلاقَكِ على دخول الدارِ طُلِّقتْ بدخول الدار، بمنزلة ما إذا قال: أنتِ طالق إن دخلت الدار. ولو قال لها: جعلتُ دخول الدار سببًا لطلاقك لم تطلق بدخول الدار، إلا أن يُريدَ بالجعْل االتعليقَ، وهذا مِن حيثُ إن الشرع خَوَّلَ لَهُ التعليق، لَا نَصْبَ الأسْبَابِ.

(78) عبارة القرافي هنا أوضح حيث قال: "والجواب أن تقول: هذا استثناء من الاحوال، والمستثنى منه حالة من الأحوال، وهي محذوفة قبل أن الناصبة وعاملة في الخ .. إلى آخر ما عند القرافي وذكره البقوري.

وقد علق الشيخ ابن الشاط على هذه المسألة بقوله: ما قاله القرافي فيها من لزوم تقدير محذوف، به يصح المعنى المراد، صحيح، وما قاله في الفرع كذلك. اهـ.

(79)

في نسخة ع: حصرت بتاء التأنيث والصواب حذفها.

(80)

زاد القرافي هنا قوله: "فافهم ذلك فإنه من المواضع العسيرة الفهم والتقدير)

ص: 88

المسألة السابعة (81)

قد يُذكَرُ الشرط للتعليق، كقولنا: إن دخلتِ الدار فأنت طالق، وقد يكون مذكورًا بدون التعليق، كقوله تعالى:{وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (82).

وضابطُهُ أمرانِ: المنامبَبةُ، وعدمُ انتفاء المشروط عند انتفائه. فيُعلَمُ أنهُ ليسَ بشرط.

المسألة الثامنة:

قوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْل} (83).

قال جماعة من العلماء: الوقف عند قوله: "لَسْتُنَّ كَأَحَد مِنَ النِّسَاءِ"، يبدأ بالشرط، ويكون جوابه. {فَلَا تَخْضَعْنَ} دون ما قبله. وهذا لأن الله تعالى حكمَ بَتَفْضِيلهِن مطلَقًا على النِّساءِ من غير شرط، وهو أبلغُ في مَدحِهِنَّ.

(81) هي المسألة العاشر عند القرافي في الكلام على الفرق الرابع بين إن ولو الشرطيتين. وعبارته في أول هذه المسألة هي قوله: "قد يذكر الشرط للتعليل دون التعليق. وضابطه أمرن

الخ.

(82)

كما في الآية المذكوة، فالشكر واجب مع العبادة وعدمها، ومعنى الآية أنكم موصوفون بصفة تحث على الشكر وتبعث عليه، وهي العبادة والتذلل، فافعلوه فإنه متيسر لوجود سببه عندكم، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"من كان يومن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".

وقد علق الفقيه ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذه المسألة بقوله: ما قاله في هذه المسألة صحيح.

(83)

سورة الأحزاب: الآية 32.

وقد علقَ الشيخ ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذه الآية فقال: ما ذكره من الوقف عند قوله تعالى: "لستُنَّ كأحد من النِّساء" محتمل وليس بلازم، ويحتمل أن يكون المراد تفضيلهن بشرط التقوى، ويكون ما بعد ذلك ارشادا إلى ما كان إليهم من فضل التقوى، وهو الأسبق إلى الفهم. وما ذكرَهُ من أن ما اختاره أهل البيان والتفسر أبلغُ في مدحهنَّ صحيح لَوْ أن الآية وردت للمدح، لكنها لم تَرِدْ لذلك، والله أعلم.

ص: 89

المسألة التاسعة

تقرر لنا أن ما دخل عليه الشرط مستقبَل، وأن الجواب كذلك يكون، فإن الماضيَ لا يترتب على المستقبَل، ولكِنه يشكل بقوله تعالى:{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} (84).

والجواب أن الجواب محذوف. وقوله: {فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} تسليةٌ لتكذيبه، وأقِيم مقام الجواب، لَا أنه هو الجواب.

القاعدة الثالثة (85)

في تقرير مقتذى إذا، وتقرير الفرق بينها وبيْن إن الشرطية.

فاعْلَمْ إنَّ إذا تَرِدُ للظرفية المحْضَة، كقوله تعالى: "وَالَّلِيْلِ إِذَا يَغْشَى} (86). وقد ترِدُ إذا هَذِهِ ومعها المعْنَى الشَّرْطِي، كقوله تعالى:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (87)، ثم قال {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} .

فعَلَى هذا قد اشتركتْ مع انْ في الشرطية، لكنهُما افترقا من حيث إن الشرطيةَ دخيل (88) في إذا، وهُوَ في إنّ أصْل، وأنَّ إنْ حَرْفٌ وإذا اسْمٌ.

(84) سورة فاطر: الآية. 4

(85)

هي موضوع الفرق الخامس والسبعين من كتاب الفروق. جـ 2 ص 97.

وقد علق عليه ابن الشاط بقوله: ما قاله القرافي في ذلك صحيح، إلا قوْله في أنْ: إنها تدل على الزمان التزاما، فإن أراد أنها تدل على ذلك بنفسها وعلى مما شرطوه في دلالة الالتزام من أنها يسبق ذلك فهم السامع فليس بصحيح، وإن أراد أنها تدل على الزمان التزامما، بمعنى أنها من الحروف التي تلازم الدخول على الفعل، والفعل يدل على الزمان فهي تدل على الزمان التزاما من هذا الوجه فذلك صحيح.

(86)

سورة الليل: الآية 1.

(87)

سورة النصر: الآية 1.

(88)

في نسخة ع: الشرط دخيل، وهو يتطابق مع مما بعده من ضمير التذكير بالشرطية فإن الوصف فعيل بمعنى مفعول يستوى لفظه في التذكير والتأنيث فيقال: رجل جريح، وامرأة جريح، ولذلك قال ابن مالك في ألْفيتِه:

وناب نقلا عنه ذو فعيل

نحو فتاةٍ أو فتىً كحِيلٍ

ص: 90

ومنَ الفروق المذكورة بينهمَا: أنّ إنْ تدل على الزمان بالالتزام وعلى الشرط بالمطابَقة، وهو ما تقدم ذِكْرهُ والإِشارة اليه، وإذا على العكس من ذلك.

ومنها: أنَّ إنْ لا يُعَلَّقُ عليها إلا مشكوك فيه، وإذا أعمُّ، تَدْخُل على المحقَّق وإلمشكوكِ فيه.

قلت: وقد تقدم البحث في هذا المعنى وأنه مشْكِل.

ومن الفروق النحوية - زيادةَ على ما سَبَقَ ذِكرُه أولا - أنّ إنْ لا يكون ما بعدَها إلا مجزومًا في اللفظ أو في الوضع، وإذا يكون ما بعدها مخفوضا بها في الأكثر.

وأيضًا، فإنْ، بُنِيَتْ بالأصالَةِ، لأنَّها حرف، وإذا بالفرعية لأنها اسم. (89)

وقال شهاب الدين رحمه الله هنا: إذا ظَرْفٌ، والظروف يجوز أن تكونَ أوسعَ من المظروف، فيجوز لهذا أن يُقال: إذا قال: إذا مِتُّ فأنتِ طالق، يلزمه الطلاق، لأن الظرف يجوز أن يكون أوسعَ من المظروف، فظرفُ الموت يحتمل دخول زمن من أزمنة الحياة فيه، فيقعُ في ذلك الزمانِ الطلاقُ في زمن الحياة فيلزمه، بخلاف ما إذا قال: إن مِتُّ فأنت طالق، لأنه لا طلاق بعد الموت.

قال: وأوْرَدَ بعض الفضلاءِ سؤالًا، فقالَ: الشرط وجوابه إذا جعل الشرط ظرفا، لابد أن يكونا معًا واقعيْن فيه، نحو: إذا جاء زيد فأكرمه، فالمجيء والإِكرام في زمن واحدٍ، ولذلك جوَّزُوا أن يعمل في إذَا كِلا الفِعْلَيْنِ، واختاروا الثاني، لأنه لَيس مضافا إليه، ومن حيث أنهم أجازوا عمل كل واحد منهما فيه دلَّ على ما قلناه، لأن من شرط العامل في الظرف، أن يكون واقعًا فيه.

(89) فإذا ظرف لما يستقبل من الزمان خافضة لشرطها، منصودة بجوابها، بمعنى أن الفعل الواقع في جوابها هو العامل في نصبها، وهي مبنية، وأن الجملة الشرطية الواقعة بعدها هي في محل جر مضاف إليه، وفي ذلك يقول ابن مالك في ألفيته النحوية:

وألْزَموا إذا إضافة إلى

جُمَل الأفعال كهُنْ إذا اعتَلَى

ص: 91

فإذا تقرر هذا، فالِذكْرُ ضدُّ النسيان، فكيف اجتمعا في قوله تعالى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (90)، والضِدَّانِ اجتمعا في قوله تعالى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ، والضِدَّانِ لا يجتمعان، فجوابُهُ أن يقال: الظرف أوسع من المظروف.

ومثل هذا الاشكال: {وَلَنْ يَنْفَعُكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} (91)، فإذْ بدلٌ من اليوم، واليومُ يومُ القيامة، وإذ ظلَموا يومُ الدنيا، فيكف يكون ذلك، والدنيا ليست عينَ الآخِرة، فقال ابن جِنِّي: الظرف يجوز أن يكون أوسعَ من المظروف، فَزَمَنُ الظلم يجوزُ أن يكون أوسعَ منهُ حتى يمتدّ ليوم القيامةِ فينطلِق عليه يومُ الظلم، فيتحِدانِ، فتحسُنُ البدَلية.، وقد يكون الظرف مساويًا للمظْروف نحو صمتُ يوم الخميس. (92)

قلت: ولْنذُكْر هنا مسألة متعلقة بالشرط، من حيث هو شرط، فنقول:

الشرط ينقسم إلى ما لا يقع إلا دفعة أإحدة كالنية، وإلى مالا يقع إلا مُستَدْرَجًا، كقراءة السورة، وإلى ما يقبل الوجْهَيْن، كعطيةِ عشرةِ دراهم.

قال الإمام في المحصُول (93): فإن كان الشرط وجود هذه الحقائق اعتبر من

(90) سورة الكهف: الآية: 24.

(91)

سورة الزخرف: الآية: 39.

(92)

علق ابن الشاط على الأشكال المذكور في هذه الآية بقوله: إنما وقع الاشكال في الآية بناء على أن إذ بدل من اليوم، وليس ذلك بصحيح بلا إشكال. وما المانع من إن يكون معنى الكلام ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب بسبب ظلمكم إذ ظَلمتم.

هذا لا مانع منه البتَّةَ.

(93)

المراد بالإمام صاحب المحصول: هو الفقيه الضليع الموسوعي الاصولي المدقق الجامع بين المنقول والمعقول فخر الدين الرازي. وقد شرح كتابه المحصول شهاب الدين القرافي رحمه الله، واختصره الإمامان: سراج الدين الارموى، وتاج الدين الارمرى في كتابيهما التحصيل، والحاصل، فجاء القرافي ولخصه من كل ذلك كتابه المسمى بتنقيح الفصول في أختيار المحصول، وجعله مقدمة لكتابه الذخيرة في الفقه، ثم لما رأى الناس اهتموا به وضع لهم عليه شرحا مختصرا يكون عونا لهم على فهمه وتحصيله، وبيان بعض المقاصد التي لا نكاد تُعلمُ إلا من جهته لانه لم ينقلها عن غيره وسماه: شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الاصول، وهو مطبوع طبعة جديدة منقحة عن دار الفكر.

ص: 92

الأول والثالثِ اجتماعُ اجزائه، ووجودُها في زمن واحد، لإمكان ذلك، واعتبر من الثاني وجودُ آخِرِ أجزائه، لأنه الممكن فيه، وان كان الشرط عدم هذه الحقائق اعتبر من الجميع أول أزمنة العدَم، لصدق العدم حينئذ في الجميع.

قال شهاب الدين، رحمه الله:

ويَرِدُ عليه سؤالان: الأوَّلُ أن القائل: إن أعطيتتى عشرة دراهم فأنت حُرٌّ، يخرج عليه حرًا إذا أعطاه العشرة مجموعة كما قال ومتفرقة. ولا خلاف في هذا السؤال.

والثاني، أن كلامه في العدم لا يتلخص، لأن لن ولا، وضعا لنفي المستقبل العام، فإن جعل العلق للشرط العدم بصيغة لا ولن كان الشرط استغراق العدم أزمنة العمر، أو الزمان الذي عينه، لا ما قاله، والله أعلم.

القاعدة الرابعة (94)

في تقرير حصر المبتدأ في الخبر.

العلماء يقولون: قد يكون المبتدأ محصورًا في الخبر وقد لا يكون، والظاهر أن المبتدأ محصور في الخبر مطلقًا. والخبر قد يكون محصولًا في المبتدأ وقد لا يكون.

وبيان ذلك من حيث إن المبتدأ لا بد أن يكون أخص من الخبر أو مساويًا، فإن كان أخص، كقولنا: الانسان حيوان، فقد انحصر فيه ضرورة، وان كان مساويًا كقولنا: الانسان ناطق، فقد انحصر أيضًا، فكما لا يكون الانسان إلا حيوانًا، كذلك لا يكون الإنسان إلا ناطقًا.

(94) هي موضوع الفرق الثالث والستين من كتاب الفروق: جـ 2، ص 41، وموضوع هذه القاعدة مما يتناوله علماء البلاغة في علم المعاني ويبحثونه في باب القصر وأنواعه، فهي ألصق بعلم البلاغة منه بعلم النحو، وأنسب إليه بهذا المعنى، ولعل المؤلف ذكرها في القواعد النحوية وأدرجها فيه من باب التوسع والتقارب بين علمي البلاغة والنحو باعتبارهما من علوم الآلة والوسائل. والله أعلم.

ص: 93

وأما الخبر، وان كان مساويًا للمبتدأ فقد انحصر أيضًا في المبتدأ كما انحصر المبتدأ فيه، وإن كان أعم فلم ينحصر، فإن الحيوانية تكون في الانسان وفي الفرس (95).

قلت: وقد لا يسلم هذا البحث الذي قاله شهاب الدين رحمه الله، فإن الأخص الذي هو الانسان مركب من الحيوانية والناطقية، والحيوان دال على الجزء الواحد مما كان في الخاص، والمركب من جزءين لا يحصر في أحد جزءيه ولا يتعقل؛ إلا أنه قد يقال: هذه مغالطة من حيث الخروج عن الأعم والأخص إلى المنفرد والمركب، وما ذكره المؤلف صحيح باعتبار العموم والخصوص.

وقولنا: الانسان ناطق، لا يصح أيضًا، لأن فرض المساواة يمنع أن يكون أحدهما حاصرًا والآخر محصورًا. إذ المعنيان متنافران، ويصدق أيضًا كما قلنا: أن المبتدأ حصر فيه الخبر فيكون الشيء الواحد حاصرًا ومحصورًا.

ثم قال شهاب الدين: ومع ما قلناه، فقد فرق العلماء بين قولنا: زيد قائم، لم يجعلوه للحصر. وبين قولنا: زيد القائم، فجعلوه للحصر، ثم قال:

والجواب عن هذا السؤال أن الحصر حصران: حصر يقتضى نفي النقيض فقط، وحصر يقتضى نفي النقيض والضد والخلاف وما عدا ذلك الوصف على الاطلاق، فهذا الحصر الثاني هو الذي نفاه العلماء عن الخبر إذا كان نكرة. وأما الحصر الأول فلم يتعرضوا له (96).

(95) علق ابن الشاط على قول القرافي في أول هذا الفرق: إن المبتدأ يجب انحصاره في خبره مطلقًا، كان معرفة أو نكرة، بسبب أن خبر المبتدأ لا يجوز أن يكون أخَصَّ، بل مساويًا أو أعم

إلخ. فقال ابن الشاط: ما قاله القرافي هنا من أن المبتدأ يجب انحصاره في الخبر مطلقًا، بمعنى إنه لا يوجد إلا فيه ومعه، ليس بصحيح، بل الصحيح أنه لا يجب ذلك، لا مطلقًا ولا مقيدًا.

وقوله: بسبب أن خبر، لمبتدأ لا يجوز أن يكون أخص، بل مساويًا أو أعم، ليس بصحيح أيضًا، بل لا يجوز أن يكون الخبر إلا مساويًا للمبتدأ لا أخص ولا أعم، فإنه إذا أخبر بشيء عن شيء فليس المراد إلا أن الذي هو المبتدأ هو بعينه الخبر.

وهو تعليق وتعقيب مهم كسائر تعاليقه في الفروق رحمه الله، فليتأمل كلامه بإمعان، فإنه دقيق

(96)

في نسخة ح: فلم يتعرض إليه.

ص: 94

وبيان ذلك أنك إذا قلت: زيد قائم. فزيد منحصر في مفهوم قائم، لا يخرج عنه إلى نقيضه، لكن قولنا: قائم، مطلق في القيام، فهي (أي القضية) موجبة، جزئية، في وقت واحد، فنقيضها إنما هو السالبة الدائمة، وهو أن لا يكون زيد قائمًا دائمًا لا في الماضى ولا في الحال ولا في الاستقبال. ومعلوم أن هذا النقيض منفى إذا صدق قولنا: زيد قائم في وقت، وكذلك جميع الاخبار التى هي نكرات، الحصر فها ثابت بحسب النقيض لا بحسب غيره. وإذا صدق المقيّد صدق المطلق، ولم يخالف الدليل العقلي على هذا. ولا يلزم من عدم الاتصاف بالنقيض عدم الاتصاف بالضد، والخلاف بالحصر في النكرات باعتبار النقيض لا باعتبار غيره (97)

قلت: هذا التقرير غير بين، فهو - أولا - جعل التناقض محققًا من حيث الخبر وحده، وهو لا يتعقل. فحقيقة التناقض اختلاف قضيتين بالإيجاب والسلب، على وجهة تقتضى لذاتها صدق إحداهما وكذب الأخرى. ثم إنه لا يحتاج إلى شيء مما ذكر لعدم صحة انحصار المبتدأ في الخبر؛ قال دائما. وقد مضى مع دليله البرهاني (98) والله أعلم.

قليت: ظهر لي بعد كتب الاعتراض سقوطُهُ، وأنه غير وارد ولا بد.

قال شهاب الدين: وأما غير النكرة، فأذكر فيه مسائل توضحه.

المسألة الأولى:

قوله عليه السلام في الصلاة: "تحريمها التكبير، وتحليلها: التسليم"(99)، استدل به العلماء على انحصار سبب تحريمها في التكبير، وسبب

(97) في ح: ولا يلزم عدم الاتصاف بالنقيض عدم الاتصاف بالضد والخلاف بالحصر في النكرات.

فالحصر في النكرات باعتبار النقيض لا باعتبار غيره. فليتأمل.

(98)

في نسخة ح: وقد مضى على دليله الواهي. فليتأمل وليصحح.

(99)

أخرجه أئمة السنة الاعلام: أحمد بن حنبل وًا بو داود والترمذى عن علي رضى الله عنه.

ص: 95

تحليلها في التسليم. فلا يدخل الصلاة حتَّى يحرم عليه جميع ما تحرمه الصلاة إلا بالتكبير، ولا يخرج من الصلاة ويحل من تلك الأشياء التى ارتبط إليها إلا بالتسليم، قامت الألف واللام في الخبر مقام إلا إذا تقدمها النفي (100).

ثم المراد بالتكبر، المشروع في أول الصلاة، وبالسلام، المشروع آخرها عند تمامها، فلا يدخل في هذا، السلام الذي هو في أثنائها على وجه السهو. ولهذا نقول: من اتفق له ذلك فلا يحتاج إلى تكبير، بل بقي ذلك التكبير لم ينحل منه، والقول بأنه يعيد التكبير مشكل، إذ الذي يعيد، يلزمه أن يعيد الصلاة، وحيث لم تبطل الصلاة لم يبطل ذلك التكبير. فعلى هذا، القولُ بإعادة التكبير حيئنذ مشكل، والأظهر خلافه.

المسألة الثانية:

قوله صلى الله عليه وسلم: "ذكاة الجنين، ذكاة أمه"(101)، يقتضى حصر ذكاة الجنين في ذكاة أمه.

قال شهاب الدين هنا: معنى اووم أن ذكاة الجنين تغني عن ذكاة أمه (102)، وذكاة الجنين هي الذبح الخاص في حلقه، هذه هي الحقيقة العرفية،

(100) عبارة القرافي هنا أظهر وأوضح، حيث قال: استدل بالحديث العلماء على انحصار سبب تحريمها في التكبر، وسبب تحليلها في التسليم، فلا يدخل (المصلى) في حرماتها إلا بالتكبير، ولا يخرج من حرماتها إلى حلها إلا بالتسليم، فهذا خبر معرف بالألف واللام اقتضى الحصر في التكبير دون نقيضه الذي هو عدم التكبر، وضده الذي هو الهزل واللعب والنوم والجنون، وخلافه الذي هو الخشوع والتعظيم، فأى شيء فعل من هذه الأضداد والخلافات ولم يفعل التكبير يدخل في حرمات الصلاة

إلى آخر كلامه هنا. فليرجع إليه من أراد التوسع فيه.

(101)

أخرجه أئمة السنة: أحمد بن حنبل، وأبو داود، والترمذي عن أبي سعيد رضى الله عنه. قال العلماء: وهذا ما لم يخرج الجنين من بطن أمه، وفيه حياة مستقرة، وإلا كانت الذكاة فيه واجبة.

(102)

كذا في نسخة ع. وفي نسخة ح: أن ذكاة الجنين تغني عنها ذكاة أمه، وهي نفس العبارة الموجودة عند القرافي في المسألة، وهي أظهر وأوضح من حيث اللفظ والمعنى المراد، وهي نفس العبارة التي أقى بها الفقيه المحقق قاسم بن الشاط الانصاري رحمهم الله أجمعين. ومما قاله ابن الشاط في ذلك: لم يقل أحد أن عين ذكاة الجنين هي عين ذكاة أمه، ولا يصح أن يقال ذلك، وإنما يقال هذا القول على سبيل المجاز لا غيره، لامتناع أن يكون المتحد متعددا. وقال: إن ما قاله القرافي بأن الاضافة لأدنى ملابسة، وهي حقيقة لغوية، صحيح. وما قاله من الفرق بين الاضافة والاسناد كذلك، لأن الإسناد يلزم فيه مراعاة الفاعل.

ص: 96

فجعل هذه الذكاة هي عين ذكاة أمه إنما يصدق حينئذ على سبيل المجاز، كقولنا:

أبو يوسف، أيو حنيفة (103)، والأصل عدم المجاز، وهو خلاف الظاهر، فكيف

يقال: إن هذا اللفظ، بوضعه يقتضى أن عين ذكاة الجنين هي ذكاة أمه.

فقال: قلت: سؤال حسن، والجواب عنه يحتاج إلى جودة فكر، فيقول: الاضافة إلى المصادر تصح بأدنى ملابسة، بخلاف الإِسناد إلى الفعل، فيفرق بين ذكيت الجنين، فهذا لا يصدق إلا إذا قطعت منه موضع الذكاة، وذكاة الجنين تصدق بأيسر ملابسة، واحد الطرق (أي طرق الملابسة) إنه جزء من أمه، وأمه قد ذكيت، فهو قد ذكي. فعلى هذا التقدير، ذكاة أمه هي عين ذكاته حقيقة لا مجازًا.

قلت: تطويل، وتهويل. فقوله صلى الله عليه وسلم:"ذكاة الجنين ذكاة أمه"، المقصود منه تبيين شريعة يَشْرعَها. فالمراد بقوله: ذكاة الجنين، الذكاة: الشرعية المطلولة في الجنين هي الذكاة: التى شرعت لكم، وبيِّنَتَ (104) في أمه، فلا حاجة للجنين إلى أكثر منها، وقام معنى الحصر الذي ذكره الفقهاء رضي الله عنهم، ولا حاجة لشيء مِمَّا تقدم.

ثم قال: واعْلَمْ أن هذا الحديث، يُروَى بالرفع في الذكاة الثانية وبالنصب، فتمسكَتْ المالكية والشافعية برواية الرفع، وتمسَّكَ الحنفيةُ في قولهم: يذَكِّى

(103) هذا تشبيه لأبى يوسف بشيخه الإمام أبى حنيفة النعمان، فهو أكبر تلامذته، أكثرهم فقهًا، وأخذا عنه، حتَّى صار أشبه به في المكانة العلمية والفقهية فكأنه هو أبو حنيفة، فيقال: أبو يوسف أبو حنيفة.

وهذا التشبيه والتفسير بهذه الجملة هو من الأمثلة التي يأتي بها النحاة أثناء الكلام على جواز تقدم الخبر على المبتدأ أو على جواز منعه فيما إذا كان كل منهما معرفة أو نكرة، ولم تكن هناك قرينة يتميز بها المبتدأ من الخبر سوى الوضع اللغوى والترتيب الاصلى بجعل المبتدأ في أول الجملة، وقال ابن مالك في ألفيته النحوية:

والأصل في الاخبار أن تؤخَّرا

وجوَّزوا التقديم إذ لا ضررا

فامنعه حين يستوى الجزآن

عرفا ونكرا، ادمَيْ بيان

ومثالنا يجوز فيه تقديم الخبر على المبتدأ فيقال: أبو حنيفة أبو يوسف، لانه معلوم أن أبا حنيفة أعظم وأشهر علما ومكانة من أبى يوسف، فأبو يوسف هو المشبه، وأبو حنيفة هو المشبه به، وإن تقدم في اللفظ والنطق.

(104)

ويحتمل ان تكون الكلمة هكذا: "وثبتت في أمّه"

ص: 97

الجنينُ برواية النصب. والتقدير عندهم: ذكاة الجنين أن يُذَكَّى ذكاةً مِثْلَ ذكاةِ أمّه، ويسقُطُ ما قالُوه بإبدآءِ احتمالِ آخر، وهو أن يقال:"بَلْ التقدير"(105) ذكاة الجنين داخلة في ذكاة أمه فحُذِفَ حرف الجر، فانتصبَ الذكاةُ على إنه مفعول، كقولنا: دَخلتُ الدار، ويكون المحذوف أقَلَّ مِمَّا قدَّرهُ الحنفي، ويكون في هذا التقديرِ جمْعٌ (106) بين الروايتيْن.

المسألة الثالثة:

قوله صلى الله عليه وسلم: "الشفعةُ فيما لم يُقسَم"(107)، يقتضي حصر الشفعة في الذي هو قابلٌ اللقسمة ولمْ يُقسَم بعْدُ. والخبرُ - هاهنا - ليس معرفةً، بلْ مجرورٌ، وتقدير الخبر؛ الشفعة مُستحَقَّة فيما لم يُقسَمْ.

وكذلك، قوله صلى الله عليه وسلم:"الأعمال بالنيات"(108) أيْ، الأعمالُ معتبرة بالنياتِ، فالعملُ بغير نية لا يُعتبَر شَرْعا.

قلت: فإذَنْ، الحصرُ ليس خاصًا بالمعرفة، قد يكون مع المعرفة ومع النكرة مِثْل ما في هذه المسألة.

قلت: والظاهرُ أنه لا حصر في قوله: الشفعة فيما لم يُقْسَم، لأنه لو قَدَّرنا بعدَ هذا القول: الشفعة فيما قسم، الشفعة فيما لا يقبل القسمة، لمَا ناقض الكلام الأولَ ولا الجمع. يخلاف ما إذا قلنا: الأعمال معتبرة بالنيات، والأعمال معتبرة بغر نية، كان في الكلام تنافُرٌ، والله أعلم.

(105)"بل التقدير" ناقص في نسخة الخزانة الحسنية: خ. ح.

(106)

في ن ح: "ويكون هذا التقديرُ جَمَعَ بين الروايتين: رواية الرفع، ورواية النصب (ايْ بصيغة الفعل الماضى جمعَ، فيتحد المعنى في كلتا النسختين.

(107)

اخرجه الإمام البخاري رحمه الله عن جابر رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فيما لم يُقْسَم.

(108)

حديث صحيح مشهور اخرجه ائمة الحديث عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله وعن سائر الصحابة أجمعين.

ص: 98

المسألة الرابعة:

قوله تعالى: "الحجّ أشهر معلومات"(159) أي، زمن الحج كذا، وفيه - أيضًا - الحصر، غيرَ أن الحصر هل هو بحَسَبِ الإِجزَاءِ أو بِحَسَب الفضيلة؟ والأولُ، مذهب الشافعي، والثاني مذهب مالك، فمن أحرم قبلَهُ عند مالك أجزأه، بخلاف الشافعي.

قلت: فهذا الحصر - أيضًا - لا مَعَ المعرفة وهو كثر، فَلو قُلتَ: مالُكَ مائَةٌ، وعبيدُكَ عشرُون، لكان المعنَى لا مال لك إلا مِائَةٌ، ولا عبيدَ لَكَ إلا هذه العِدّةُ.

المسألة الخامسة:

قال الغَزَالي: صديقي زيْد، وزيدٌ صديقي، فالأول يقتضى حصر أصدقائك في زيد، فلا تُصادِقُ أنتَ غيرَه، وهو يجوز أن يصادقَ غيرَك، والثاني يقتضي حصره في صداقتك، فلا يجوز أن يصادق غرك، وأنت يجوز أن تصادق غيرَه.

قلت: الأول مسلَّمٌ، والثاني ممنوع.

المسألة السادسة:

قال الإمام فخر الدين في كتابِ الإعجاز له: الالف واللامُ قد ترِد لحصر الثاني في الأول، بخلاف ما تقدم من الحصر، فإنه الأول في الثاني، ومثاله: زيدٌ القائم، أي لا قائم إلا زَيْدٌ.

قلت: الظاهر أن الألفَ واللام ليست هي المفيدةَ لهذا، فإنها لو كانت كذلك لَا طَرَدَ، وهذا باطل كما تقدم من قوله عليه السلام:"تحريمُها التكبر، وتحليلها التسليم"، وكذلك زيد القائم، إن جاء جوابا لمن قال: ما قامَ إلَّا عَمْرٌ، فهي كما قال، فلو أن قائلا قال: أخبروني مَنْ جمعَ أوصافا كثيرة؟ فقال.

(159) سورة البقرة: الآية 197.

ص: 99