المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الجهاد وفيه أربع قواعد:   القاعدة الأولى (1): لِمَ صحّ أخْذُ الجزية من الكفّار - ترتيب الفروق واختصارها - جـ ١

[البقوري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌ترجمة الإمام الفقيه أحمد بن ادريس القرافي (*) مؤلف كتاب الفروق في القواعد الفقهية:

- ‌ترجمة الفقيه الشيخ ابن الشاط

- ‌ترجمة الفقيه الشيخ محمد بن ابراهيم البقوري

- ‌القواعد الكلية بالنسبة إلى ما بعدها

- ‌القاعدة الأولى: في تقرير أنه الشريعة قامت برعاية المصلحة ودرء المفسدة

- ‌القاعدة الثانية: في أقسام المصلحة والمفسدة على الجملة

- ‌القاعدة الثالثة: في الحكم في اجتماع المصالح، وفي اجتماع المفاسد، وفي اجتماعهما

- ‌القاعدة الرابعة: في حكم المصالح والمفاسد المبنية على الظن

- ‌القاعدة الخامسة: فيما يترك من الصالح لسبب، وفيما يفعَل من المفاسد لسبب

- ‌القاعدة السادسة: في بيانه أنه ليس كل المصالح يؤمر بكسبها، ولا كل المفاسد ينهى عن فعلها

- ‌القاعدة السابعة: فيما به يعرف ترجيح المصلحة والمفسدة

- ‌القاعدة الثامنة: في أمر الثواب والعقاب، هل هو في التفاوت وعدمه مرتبط بالأعمال أو بالمصالح والمفاسد

- ‌القاعدة التاسعة: في تقرير أن المصالح والمفاسد لا يرجع شيء منها إلى الله جل وعلا

- ‌القاعدة العاشرة: في أن الصالح والمفاسد بحسب العبيد -كما قلنا- قائمة معتبرة في الشرع

- ‌القاعدة الحادية عشرة:

- ‌القاعدة الثانية عشرة:

- ‌القاعدة الثالثة عشرة:

- ‌القواعد النحوية وما يتعلق بها

- ‌القاعدة الأولى: في الشرط

- ‌القاعدة الثانيةفي تقرير مقتضى إن، ولو، الشرطيتين، بحسب الزمان

- ‌القاعدة الخامسة: قاعدة التشبيه

- ‌القاعدة السادسة

- ‌القاعدة السابعة

- ‌القاعدة الثامنة

- ‌القاعدة التاسعة:فيما به يفترق جزء العلة عن الشرط وفيما به يشتركان

- ‌القاعدة العاشرة:في بيان المانع

- ‌القاعدة الثانية عَشْرَة

- ‌القاعدة الثالثة عشرة

- ‌القاعدة الرابعة عشرة

- ‌القاعدة الحامسة عشر

- ‌القواعد الأصولية

- ‌القاعدة الخامسة:في تقرير أنه ما ليس بواجب لا يُجْرِئُ عن الواجب

- ‌القاعدة الثالثة والعشرون

- ‌المتعلق منها بالعموم والخصوص وما يناسبها:

- ‌المفهوم

- ‌الخبر

- ‌القاعدة الأولى:في الفرق بين الرواية والشهادة

- ‌قواعد العلل

- ‌الاجتهاد:

- ‌القواعد الفقهية

- ‌قواعد الصلاة

- ‌الصوم

- ‌الزكاة

- ‌الحج

- ‌الجهاد

- ‌الذكاة

- ‌الأطعمة

- ‌الأيمان

الفصل: ‌ ‌الجهاد وفيه أربع قواعد:   القاعدة الأولى (1): لِمَ صحّ أخْذُ الجزية من الكفّار

‌الجهاد

وفيه أربع قواعد:

القاعدة الأولى (1):

لِمَ صحّ أخْذُ الجزية من الكفّار علَى أن يتمادَوْا على كفرهم، ولَمْ يصحّ أخذُ شيء من الفاسقين على أن يقَرّوا على الزنى ويتمادَوْا عليه، ومَفْسَدَةُ الكُفرِ أشدُّ من مَفسدة الزنى؟

وقد طَعَن بعض الطاعنين على أخذ الجِزْية، فقال: شأن التشريع درء المفسدة العظمى بإيقاع الفسدة الدنيا وتفويت المصلحة، ومفْسدة الكفر تُرْبي (2) على مصلحة أخذ المال الماخوذ في الجزية من الكُفَّار، بل على جملة الدنيا وما فيها.

والجواب عن هذا السؤال، وهُوَ إبداء الفرق بين القاعدتين، أنَّ إقرار الكافر على الكفر ما كان القصدَ الأكبر بذلك بعْد أخذ المال، بل ليقع إسلامُ ذلك

(1) هي موضوع الفرق السابع عشر والمائة بين قاعدة أخذ الجزية على التمادي على الكفر فيجوز، وبين قاعدة أخذِ الأعواض على التمادي على الزنى وغيره من المفاسد فإنه لا يجوز إجماعا جـ 3. ص 9.

وموضوع الجهاد في سبيل الله، وفضله وثوابه عند الله ورد ذكره في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وتوسع علماء التفسير والحديث والفقه في أحكامه المتعددة، كما أن الجزية ورد ذكرها في قوله تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} سورة التوبة. الآية 29.

والجزية وأحكامها تابعة لأحكام الجهاد، ولذلك تكلم عنها كذلك علماؤنا رحمهم الله، وتناولوها بشيء من البيان والتفصيل سواء في محب التَّفسير أو الحديث أو الكتب الفقهية والأحكام السلطانية.

(2)

كذا في نسختي ع، وح، وعند القرافي، وفي نسخة ثالثة يربو، من الفعل الثلاثي ربا، بمعنى زاد ونما، وقد جمعتهما الآية الكريمة في قول الله تعالى في تحذير الناس من الربا:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} . سورة الروم. الآية 39

ص: 427

الكافر في غير ذَلك الوقت، فَهُوَ أوْلى من قَتْله، فإن قتْلَهُ يوقعه في الهلكة الدائمة قطعاً، وبقاؤه يُبقي الطمع فيه، عساه أن يرجع فيسعَدَ، وإن هو مات على الكفر فقد يخُرج من ظَهره، ولو على بعدٍ، من يومن بالله، والسَّبَبُ لِإيجَادِ من يومن بالله ولوْ بأي وجْه كان، من أعظم المصالح، وأخذ المال منه ما كان إلا لينبعثَ بذلك الذل إلى الإيمان ويفارق الكفر. (3)

القاعدة الثانية (4)

الفرق بين ما يوجب نقض العهد وما لا يوجبه.

إعْلم أنّ عقد الجزية موجب لعصمة الدماء وصيانةِ الأموال والأعْراضِ، وذلك العقد يحصل لهم بشروط يشترطها عليهم، مضت سنة الخلفاء الراشدين بها، وهي مستفادة من قوله تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} . وقد ذكر ابن حزم في مراتب الاحماع أشياء، (5) وهي: أن يعطُوا أربعة مثاقيل ذهَبا في انقضاء كل عامٍ قمري، صَرْفُ كل دينار اثنا عشر درهما، وأن لا يُحْدِثوا كنيسة ولا بِيَعاً ولا دِيراً ولا صَومعة، ولا يجدّدوا ما خرب منها، ولا يمنعوا السلمين من النزول في كنائسهم وبيعهم ليلا أو نهارا، ويُوسعوا أبوابها للنازلين ويُضيفوا من مرّ

(3) عبارة القرافي هنا أيْبن وأوسع، وهي قوله: بيانه (أي وجه الجواب عن السؤال) أن الكافر إذا قُتِلَ انسدّ عليه باب الايمان، وباب مقام سعادة الجنان، وتحتَّم عليه الكفر والخلود في النيران وغضب الديان، فشرع الله تعالى الجزية رجاء أن يسلم في مستقبل الأزمان، لاسيما مع اطلاعه على محاسِن الاسلام، والِإلتجاء إليه بالذُّل والصغار في أخذ الجزية، فإذا أسلم لزم من إسلامه إسلام ذريته فاتصلتْ سلسلة الإِسلام من قِبَله بدلا عن كذلك الكفر، وإن مات على كفره ولم يُسْلم فنحن نتوقع إسلام ذريته المخلفين من بعده، وكذلك يحصل التوقع من ذرية ذريته إلى يوم القيامة، وساعة من إيمان تعدل ساعة من كفر. إلى آخر ما قاله القرافي رحمه الله في هذا الفرق.

(4)

هي موضوع الفرق الثامن عشر ومائة بين قاعدة ما يوجب نقض الجزية، وبين قاعدة ما لا يوجب نقضها، جـ 3. ص.11.

وقد اطال فيه القرافي، ولم يعلق عليه ابن الشاط بشيء رحمهما الله.

(5)

عبارة القرافي هنا: قال ابن حزم في مراتب الاجماع: الشروط المشترطة عليهم أن يعطوا اربعة مثاقيل ذهبا في انقضاء كل عام قَمري، صرف كل دينار اثنا عشر درهما

إلى آخر ما هو مذكور عند القرافي واليقوري نقلا عن ابن حزم رحمهم الله جميعا.

ص: 428

بهم من المسلمين، ويُقَدِّموا لَهُمْ في المجالس، ولا يتشبهوا بهم في شيء من ملابسهم، ولا فرق شعورهم، ولا يتكلموا بكلامهم، ولا يتكنوا بكُناهم، ولا يركبوا على السروج، ولا يتقلدوا شيئا من السلاح، ، ولا يحملوه مع أنفسهم ولا يتخذوه، ولا ينقشوا خواتمهم بالعربية، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يطرحوا في طرق المسلمين نجاسة، ويخفون النواقيس وأصواتها، ولا يظهرون شيئا من شعارهم، ولا يتخذون من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين، ويرشدون المسلمين، ولا يُطلعون عليهم عدوا، ولا يضربون مسْلما، ولا يسبون أحدا من الانبياء عليهم السلام، ولا يظهرون خمراً (6)، ولا نكاح ذات محرم، قال: فمتى أخلّوا بواحدٍ من هذه الشروط اخْتُلف في نقض عهدهم، وقَتلهم وسبْيهم، وأخذِ أموالهم ..

قال شهاب الدين رحمه الله: بعْضُ ضَعَفة الفقهاء قال: هي شروط، وفقْدُ شرط واحد كفقد جميعه، فمض ى أخل بضرط من هذه فقدْ نقض العهد. (7)

والذي عليه الجمهور: مالك، أبو حنيفة والشافعي، واحمد بن حنبل، أن الشروط ليست على السواء، كما الأمر في تكاليف السلم، فبعضُها إن أخل به يوجبُ له الكفر، وبعضها يقال إنها كبائر ولا نقضى بكفره، وبعضُها يقال: هي صغائر، فكذلك الذمي، عقد الجزية عليه تنقسم شروطه إلى ما ينافيه كالقتال والخروج عن أحكام السلطانِ، والى ما لا ينافيه، وبعضُه هو كالكبيرة بالنسبة إلى الإِسلام، كسَبِّ المسلم أو إظهار الترفّع عليه، وبعض آخرُ دون ذلك.

(6) قال محقق كتاب الفروق: "الصواب في الكلمات الخمس حذف النون"، ووجْه ذلك اعتبار كون تلك الأفعال كلها معطوفة على الفعل الأول المنفي المنصوب بأن.

(7)

عبارة القرافي هنا: "واعلمْ أن الجمهور من مذاهب العلماء كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم لا يروْن النقض بالإِخلال بهذه الشروط كيف كان، بل بعضها يوجب النقض، وبعضها لا يوجب، وقد سبق إلى خاطر الفقيه أن المشروط شأنه الانتفاء عن انتفاء أحد شروطه ولو كان ألْف شرط، إذا عدم واحد منها لا يفيد ما عداه كما يجده في شرائط الصلاة والزكاة وغيرهما إن عدم شرط واحدٌ عدم جميع الشروط، فلذلك يخطر لضعفة الفقهاء أن شروط الجزية ينبغي أن تكون كذلك، وليس الأمر كذلك، وأن قاعدة ما يوجب النقضَ مخالفة لقاعدة ما لا يوجبه، فإن عقد الذمة عاصم للدماء كالإسلام، وقد ألْزم الله تعالى المسلم جميع التكاليف في عقد إسلامه كما ألزم الذمي هذه الشروط في عقد أمانه.

ص: 429

وطريقة الجمهور أن الشروط ثلاثة أقسام: منها ما اتفقوا على أنه موجب لمنافاة عقد الذمة، كالخروج على السلطان، ونبْذ العهد، والقتال بانفرادهم أو معَ الأعداء ونحو ذلك، ومنها ما اتفقوا على أنه لا ينافيه كركوب الخيل وترْكِ ضيافة المسلمين ونحو ذلك، وقسم ثالث، اختلف فيه، هل يلحق بالقسم الأول فينقض، أو بالثاني فلا ينقض. من ذلك إذا أظهروا معتقدهم في المسيح عليه السلام أو غيره أدبناهم، ولا ينتقض العهد بذلك. وزِناهم بالمسلمة، إن كان كرها نقض العهد بذلك، وإن كان طوْعاً فلا ينقض العهد بذلك عند مالك. وينتقض عند ربيعة وابن وهْب. فإن غرها بأنه مسلم وتزوجَها فعن ابن نافع ينتقض.

قال التونسي من أصْحابنا: لمْ يجعل مالك القتل في الحِرابة نقضا، وهو يقول: غصْبُ المسلمة وقهرها على الوطء نقض، قال: وهو مشكِل، إلَّا أن يكون العقد اقتضاه، قال ابن القاسم: إن كان امتناعهم من الجزية لظلم من الإِمام أو غيره رُدُّوا إلى ذمتهم. وقال الداودِي: إن كان خروجهم من ظلم فهو نقض، لأنهم لم يعاهدوا على أن يَظلموا من ظلمهم. وروي عن عمر رضي الله عنه أن ذِمّياً نخس بغلا عليه مسلمة فوقعت، فانكشفت عورتها، فأمر بصلبه في ذلك الموضع، وقال: إنما عاهَدْناهم على إعطاء الجزية عن يدٍ وهو صاغِرون.

ثم إذا قلنا: نقتُلُهم -إذا حارَبُوا- ونسبي نساءهم، هل يُفْعَلُ بالضعفاء الذين يُعْلم أنهم خرجوا معهم لأنهم مغلوبون كذلك، أو لا؟ ، استثناهم ابن القاسم، ولم يستثن أصْبَغُ أحَداً. قال المازري، وينتقض عهدُهُم إذا صاروا عيْناً للْحَرْبِيّين علينا.

القاعدة الثالثة: (8)

ما الفرق بين البِر والتودد. حتى أُمِرْنا بِبرّهم، ونُهيِنا عن التودد لهم؟ فنقول:

(8) هي موضوع الفرق التاسع عشر والمائة بين قاعدة بر أهل الذمة، وبين قاعدة التودد لهم". جـ 3. ص. 14. لم يعلق عليه بشيء الفقيه ابن الشاط رحمه الله.

ص: 430

إنا لمّا عاهدناهم حسُن بنا أن لا نضيعهم، وأن نلطُف بهم، وأن نوقع معهم الأخلاق الجميلة لا خوفا منهم ولا تعظيما لهم، ثم نستحضر مع ذلك في قلوبنا عداوتهم لنا ولنبينا حتى لا نودهم ضرورةً، كما اتفق لأبي الوليد الطرطوشي حيث رأى وزيرا من الرهبان للخليفة قد أجلسه بإزائه، فقال رضي الله عنه:

يا أيها الملك الذي جودُه

يطلبه القاصد والراغبُ

إن الذي شَرُفْتَ من أجله

يزعُمُ هذا أنه كاذبُ

فاشتد غضبُ الخليفة عند سماع الأبيات، وأمَر بالراهب فسحب وضُرب وقُتل، وأقبل على الشيخ أبي الوليد أكرمه وعظمه بعد عزمه على أذيته. وهذا الخير بسبب استحضاره بغض الراهب للنبي عليه الصلاة والسلام (9).

ورُوي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول في أهل الذمة: أعينوهم ولا تظلموهم، فظهر أن الاحسان إليهم لا يخالف بغضهم، وأن ودَّهمْ غيْرُ بِرِّهِم.

(9) وعبارة الاممام القرافي رحمه الله في اول هذا الفرق كما يلي:

إعْلَمْ أن الله تعالى منعَ من التوددِ لأهل الذمة بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} الآية الأولى من سورة الممتحنة. فمنع الموالاة والتودد. وقال في الآية الأخرى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} ، وقال في حق الفريق الآخر:{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} سورة الممتحنة. الآية 9. وقال صلى الله عليه وسلم: "استَوْصُوا بأهل الذمَّة خيْرا"، فلابد من الجمع بين هذه النصوص، وإن الإحسان لأهل الذمة مطلوب، وإن التودد والموالاة منهي عنهما، والبابان ملتبسان فيحتاجان إلى الفرق.

وسِرُّ الفرق أن عقد الذمة يوجب حقوتا علينا لهم، لانهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام. فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوءٍ أو غِيبَة في عرض أحدهم، أو نوع من انواع الإذاية، أوْ أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة الإِسلام.

وكذلك حكى ابن حزم في مراتب الإجماع له أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلدنا يقصدونه وجبَ علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموتَ دون ذلك، صونا لمن هو في ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة، وحكى في ذلك إجماع الأمة.

فعقد يؤدي إلى تلف النفوس والأموال، صونا لمقتضاه عن الضياع، إنه لعظيم.

وإذا كان عقد الذمة بهذه المثابة تعيَّن علينا أن نبرهم بكل أمر لا يكون ظاهره يدل على مودات القلوب ولا تعظيم شعائر الكفر.

ص: 431

القاعدة الرابعة: (10)

نقرر فيها الفرق بين عقد الجزية وغيره من العقود التي يحصل بها (11) التأمين والأمن، فنقول:

(10) هي موضوع الفرق الثالث والعشرين والمائة بين قاعدة عقد الجزية وبين قاعدة غيرها مما يوجب التأمين، جـ 3 ص 23. ولم يعلق ابن الشاط بشيء على ما جاء عند القرافي في هذا الفرق.

قال القرافي رحمه الله في أوله: وهو (أي ما يوجب التأمين) إما المصلحة أو الأمان. والجميع يوجب الأمان والتأمين، غير أن عقد الجزية يكون لضرورة ولغير ضرورة، لأن الله تعالى إنما أوجب القتال عند عدم موافقتهم على أداء الجزية، لقوله "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" فجعل القتال مغَيّىً إلى وقت موافقتهم على أدائها، ولا يعقده إلا الإِمام، ويدوم للمعقود لهم ولدراريهم إلى قيام الساعة، إلا أن يحصل للعقد ناقض كما تقدم، وأنه ليس رخصة على خلاف القواعد، بل على وفق القواعد كما تقدم بيان ذلك.

(11)

كذلك في نسخة لترتيب الفروق، وهو الصواب والتعبير السليم. وفي كل من نسختي ع، وح. الذي يحصل به التأمين، وهو غير صواب، لأن اسم الوصول نعت لكلمة العقود التي هي جمع تكسير، لغير العاقل، وكل جمع من هذا القبيل يعتبر مؤنث المعنى والتعبير، وإليه ويرمز المرتجز القائل:

إن قومى تجمعوا

وبقتلي تحدثوا

لا أبالي بجمعهم

كل جمع مؤنث

والجزية في نظر الفقهاء وتعريفهم لها هي: ضريبة سنوية على أهل الذمة يقدر الإِمام الخليفة قيمتها، وتفرض على الرجال البالغين الأقولاء، فلا جزية على صبي، ولا زائل العقل، ولا امرأة، ولا فقر عاجز، ولا شيخ فان ولا أعمى ومن في معناهم من الضعفاء العاجزين، كما يعفي منها من يحارب ويقاتل مع جيش المسلمين. والجزية بالنسبة لأهل الذمة، في مقابلة زكاة الأموال عند المسلمين، وذلك ما جعل كثيرا من كتب الفقه تذكرها بجانب الزكاة.

وكما أن لأهل الذمة حقوقا بمقتضى عقد الجزية، فإن عليهم واجبات بمقتضى نفس العقد، وذلك باحترام الإسلام والمسلمين ومراعاة شعورهم، وعدم التنقيص من الإِسلام وكتابه القرآن المبين، ونبيه الكريم، وعدم الدعوة للعقائد المخالفة للاسلام، وعدم التظاهرة بتناول المحرمات من خمر وخنزور، وعدم بيعهما للمسلمين. وعلى هذا الأساس من عقد الجزية وما يستوجبه من حقوق وواجبات يقوم التساكن بين أهل الذمة والمسلمين.

وهناك الخراج، وهو ضريبة تفرض على رقبة الأرض، ويقدر الإِمام قيمتها، كما فرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة ضريبة تجارية مقدارها نصف العشر في مال التجارة في حال انتقالهم من بلد إلى بلد.

ص: 432

عقد الجزية وعقد الصلح وعقد الأمان، هي وإن استوت في إعطاء الأمان، فهي تفترق من حيث ان الجزية ليست إذا أخذناها منهم رخصة من حيث إحتياجنا للمال، بل لما قدمناه من المصلحة العظيمة من رجاء إسلامهم.

وأما الصلح والأمان فما يكون إلا رخصة (12). وأيضا فالصلح والأمان يكونان للمال، والجزية لا بد فيها من أخذ المال.

ثم الأمان قد يكون من آحاد المسلمين إذا كان تأميناً لواحد أو قليل، وأما التأمين للجيش فليس إلا للأمير لرخصة (13)، ولما رأى في ذلك من مصلحة.

وأيضاً وقع الفرق بأن شروط الجزية مضبوطة من حيث قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} . وقد تقدم ذكر ابن حزم لها، وشروط الصلح مختلفة بحسب ما يظهر للامام في ذلك الوقت من المصلحة. وأيضاً فالجزية لا أمد لها، والصلح له أمد محدود. وأيضاً فالجزية توجب علينا الذب عنهم وطرد عدوهم عنهم. وأهل الصلح هم لنا كالأجانب، إلا أن يشترط في الصلح ذلك.

قلت: ولنذكر هنا مسألتين فقهيتن، بينهما اشتباه، ثم وقعت الخالفة في الحكم (14).

المسألة الأولى، قال ابن القاسم: إذا دخلت المرأة من أهل الحرب إلينا بأمان فأسلمت فولاؤها للمسلمين، فإن سبي أبوها بعد ذلك جر ولاء ابنته إلى معتقه.

وقال: إذا أعتق المسلم لنصراني (15) فلحق بدار الحرب ناقضا للعهد ثم سُبي، فأعتقه من صار اليه، فإنه يكون ولاؤه للذي أعتقه أخيرا، وينتقل عن الأول،

(12) كذا في النسخ كلها: (فما يكون) بالإفراد، ويظهر أن الأنسب والصواب أن يقال:(فما يكونان) بالنية كما هو في العبارة الموالية بعد هذه.

(13)

كذا في نسخة ع، وح: لرخصة بالتنكير. وفي نسخة ثالثة للرخصة بالتعريف.

(14)

هاتان المسألتان مما أضافه الشيخ البقوري رحمه الله وألحقه بكتاب أستاذه القرافي رحمهما الله جميعا.

(15)

النصراني: ثابتة في ع، ونسخة ثالثة، ساقطة في نسخة ح.

ص: 433

وفي كلا الموضعين قد ثبت الولاء، فالفرق بينهما أن ولاء الابنة كان للمسلمين لعدم من يستحقه من جهة القرابة، فلما وجد ذلك انتقل إليه. والنصراني لما سبي بعد عتقه بطل عتقه الذي كان من المسلم الاول، وصار كأنه عبد لم يعتق قط، فإذا أعتقه الثاني كان الولاء له.

المسألة الثانية، إذا أسلمت أم ولد الذمي، ثم أسلم الذمي بعدها كان أحق بها، ما لم يحكم ببيعها أو عتقها على الخلاف، ويعود الولاء إليه. وإذا أسلمت جاهلة الذمي، فوطئها بعد الإسلام فحملت، ثم أسلم، كانت كالتي قبل الإسلام، ولا يعود إليه الولاء، وكلتاهما أم ولد الذمي.

فالفرق أنها إذا حملت قبل الإسلام في الكفر، فقد ثبت وجود حرمة الاستيلاد في. حالة يثبت له عليها الولاء فيها، فترجع إليه إذا أسلم، وليس كذلك إذا أولدها بعد الاسلام، لأن الاستيلاد حصل منها في حالة لا يصح أن يثبت له عليها ولاء، فلذلك لم يثبت له عليها ولاء إذا أسلم.

ص: 434