المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌قواعد الصلاة وهي خمس:   القاعدة الأولى (1) نقرر فيها الفرق بين استقبال الجهة - ترتيب الفروق واختصارها - جـ ١

[البقوري]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌ترجمة الإمام الفقيه أحمد بن ادريس القرافي (*) مؤلف كتاب الفروق في القواعد الفقهية:

- ‌ترجمة الفقيه الشيخ ابن الشاط

- ‌ترجمة الفقيه الشيخ محمد بن ابراهيم البقوري

- ‌القواعد الكلية بالنسبة إلى ما بعدها

- ‌القاعدة الأولى: في تقرير أنه الشريعة قامت برعاية المصلحة ودرء المفسدة

- ‌القاعدة الثانية: في أقسام المصلحة والمفسدة على الجملة

- ‌القاعدة الثالثة: في الحكم في اجتماع المصالح، وفي اجتماع المفاسد، وفي اجتماعهما

- ‌القاعدة الرابعة: في حكم المصالح والمفاسد المبنية على الظن

- ‌القاعدة الخامسة: فيما يترك من الصالح لسبب، وفيما يفعَل من المفاسد لسبب

- ‌القاعدة السادسة: في بيانه أنه ليس كل المصالح يؤمر بكسبها، ولا كل المفاسد ينهى عن فعلها

- ‌القاعدة السابعة: فيما به يعرف ترجيح المصلحة والمفسدة

- ‌القاعدة الثامنة: في أمر الثواب والعقاب، هل هو في التفاوت وعدمه مرتبط بالأعمال أو بالمصالح والمفاسد

- ‌القاعدة التاسعة: في تقرير أن المصالح والمفاسد لا يرجع شيء منها إلى الله جل وعلا

- ‌القاعدة العاشرة: في أن الصالح والمفاسد بحسب العبيد -كما قلنا- قائمة معتبرة في الشرع

- ‌القاعدة الحادية عشرة:

- ‌القاعدة الثانية عشرة:

- ‌القاعدة الثالثة عشرة:

- ‌القواعد النحوية وما يتعلق بها

- ‌القاعدة الأولى: في الشرط

- ‌القاعدة الثانيةفي تقرير مقتضى إن، ولو، الشرطيتين، بحسب الزمان

- ‌القاعدة الخامسة: قاعدة التشبيه

- ‌القاعدة السادسة

- ‌القاعدة السابعة

- ‌القاعدة الثامنة

- ‌القاعدة التاسعة:فيما به يفترق جزء العلة عن الشرط وفيما به يشتركان

- ‌القاعدة العاشرة:في بيان المانع

- ‌القاعدة الثانية عَشْرَة

- ‌القاعدة الثالثة عشرة

- ‌القاعدة الرابعة عشرة

- ‌القاعدة الحامسة عشر

- ‌القواعد الأصولية

- ‌القاعدة الخامسة:في تقرير أنه ما ليس بواجب لا يُجْرِئُ عن الواجب

- ‌القاعدة الثالثة والعشرون

- ‌المتعلق منها بالعموم والخصوص وما يناسبها:

- ‌المفهوم

- ‌الخبر

- ‌القاعدة الأولى:في الفرق بين الرواية والشهادة

- ‌قواعد العلل

- ‌الاجتهاد:

- ‌القواعد الفقهية

- ‌قواعد الصلاة

- ‌الصوم

- ‌الزكاة

- ‌الحج

- ‌الجهاد

- ‌الذكاة

- ‌الأطعمة

- ‌الأيمان

الفصل: ‌ ‌قواعد الصلاة وهي خمس:   القاعدة الأولى (1) نقرر فيها الفرق بين استقبال الجهة

‌قواعد الصلاة

وهي خمس:

القاعدة الأولى (1)

نقرر فيها الفرق بين استقبال الجهة في الصلاة وبيْن استقبال السمت.

إعْلَمْ أنَّهُ يرفع في الذهب أن استقبال الجهةِ يكفي، وجاء استقبال السَّمْتِ لَا بُدَّ منْه، وهذه الاطلاقات في غاية الإِشكال بسبب أمور:

أحدُهَا أن هذا الكلام لا يصح، لا بِحَسَب من بَعُد عن الكعبة ولا بحسب من قرُبَ. أما مَن قرُب فَفَرْضُهُ استقبال السَّمْت بلا خلاف، وأما من بَعُد فلا أحدَ يقول: إن الله تعالى أوْجب عليه استقبال عيْنِ الكعبة ومُقابَلَتها، فإن ذلك تكليف ما لا يطاق، بل الواجب عليه أن يبذل جهده في تعيين جهة يَغلب

(1) هي موضوع الفرق الخامس والتسعينَ بين قاعدة استقبال الجهة في الصلاة وبيْن قاعدة استقبال السمت". جـ 2، ص 151.

وقد علق الشيخ المحقق ابن الشاط رحمه الله على كلام القرافي هنا بما يزيده وضوحا وبيانا فقال: أما مُعايِنُ الكعبة، فلا خلاف في أن فرضهُ استقبال سمتها كما ذكر، وأما غير المعايِن فنقْلُ الخلاف فيه معروف، هل فَرْضهُ استقبال السمت كالمعاين أم فرضُه استقبال الجهة؟ وظاهر المنقول عن القائلين بالسمت أنهم يريدون بذلك أن المستقبل للكعبة فرضه أن يكون بحيث لو قُدِّرَ خروجُ خط مستقيم على زوايا قائمة من بين عينه نافذا إلى غيْر نِهاية لمَّر بالكعبة قاطعا لها، لا أنهم يريدون أن فرضه استقبال عينها ومعاينتها، فإن ذلك -كما قال- من تكليف مالا يطاق، ولا قائل به

والحنفية سمحة، ودين الله يُسْرٌ. اهـ

ص: 381

على ظنه أن الكعبة وراءها، وإذا فعل ذلك وجبَ عليه استقبالها إجماعا، فصار السمتُ مجْمَعاً عليه باعتبار، والجهة مُجْمَعاً عليها باعتبار، ولا خلاف يصح على هذا.

وأيضا فنقول: أجْمَعَ الناس على أن الصف الطويل الذي يكون في طوله مائةُ ذِراعِ، صَلاتُه صحيحة، والكعبة طوُلها خمس وعشرون ذِراعا، وذلك يوجبُ أن بعض الصَّفِّ خارجٌ عن السَّمت، (2). وأيضا فإن البلديْن المتقَارِبِيْن يكون استقبالهما واحداً، معَ أنّا نقطع بأنهما أطَوُل من سمت الكعبة، فهذه الأشياء توجب الإِشكال في أمر الجهة، وفي أمر السمت.

والجوابُ ما كان يذكره الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله قال: لاشك أن الواجِبات، منها ما وجب إيجابَ الوسائِلِ، ومنها ما وجَبَ إيجاب المقاصد، (3) وهذا قد تقرر في المقاصد، والوسائل حيث ذكِرَتْ قاعدتهما.

فنقول:

الخلاف إنما هو، هل الواجب وجوب المقاصد، السَّمتُ أو الجهة؟ قولان، وهذا من حيث إن السمت هل وَجَب استقبالُه أوْ لَا؟ قولان، قيل: وجبَ، وقيل: لم يجب. ولا قائل بأنه من باب إيجابِ الوسائل، بل المقاصد، والجهة واجبة بالإِجماع، والخلاف هل وجوبها من باب إيجاب الوسائل أو من باب إيجاب المقاصد؟ قولان. فمالِكٌ يقولُ: من باب إيجاب المقاصد، فإذا اجتهد فأدَّاهُ اجتهاده إلى شيءٍ مَّا، كان أدَّى ما عليه، ومَن قال: من بابِ الوسائلِ، إذا ظَهر الخطأ لزمتْه الإِعادة.

والجوابُ عن الصف الطويل أن المرادَ بالاستقبال، الاستقبالُ العادي، والعادَةُ أن الصف الطويل اذَا بَعُدَ يَسيرًا عما كان أقصر منه يكون مستقبلا له،

(2) قال الفقيه ابن الشاط رحمه الله: (إجماع الناس على صحة صلاة الصَّفِ الطويل مع خروج بعضه عن السمت، وهو أقوى حجج القائلين بالجهة (اي القائلين بأن المطلوب والفروض استقبال جهة الكعبة لا عينُها ومعاينتها)، وهذا طبعا بالنسبة لغير القريب والمعاين لها والمشاهد لها، فلا خلاف في أن فرضه استقبال سمتها كما ذكر.

وقد ذكر شهاب الدين القرافي رحمه الله أن عرض الكعبة عشرون ذراعا، وطولها خمسة وعشرون ذراعا على ما قيل، والصف الطويل مائة ذراع فاكثر، فبعضه خارج عن السمت قطعا.

(3)

قال ابن الشاط: ما ذكره الامام القرافي رحمه الله، حاكيا له عن عز الدين بن عبد السلام رحمه الله، من أن الواجب على ضربين: واجب وجوب الوسائل وواجب وجوب المقاصد، صحيح كما ذكر.

ص: 382

وكذلك الحال في البلدين (4) المُرَادُ بالاستقبال المطلوب، العادي لا الحقيقيُّ، والله سبحانه أعلم وأحْكَمُ.

القاعدة الثانية (5)

لم جُعِل بعض البقاع معتبَرا في أداء الجماعات (6) وقصْر الصلوات، ولم يكن ذلك الاعتبار بحسب الأزمان؟

فالجواب أنا نقول: القاعدة المقررة أن المظانَّ شأنها أن تُعتَبَر، حيث يكون الوصف الذي به يعلّل الحكم حِفياً في نفسه، فتُوضَع المظِنة لأجْل ذلك

(4) عبارة القرافي هنا: أن البلدين المتقاربيّن يكون استقبالهما واحداً، مع أنا نقطع بأنهما أطول من سمت الكعبة، ولم يقل أحد بأن صلاة أحدهما صحيحة والأخرى باطلة، ولو قيل ذلك لكان ترجيحا من غير مرجحِ، فإنه ليس أحدهما أولى من الآخر بالبطلان.

وقال ابن الشاط في آخر تعليقه على هذا الفرق ما نصه: جميع ماِ قاله (اي القرافي) في هذا الفصل تحرير خلاف، ولا كلام فيه، غيرَ أن الصحيح من الأقوال أنَ الجهة (اي استقبال جهة الكعبة) واجبة وجوب المقاصد، وأن الاعادة لازمة عند تبين الخطأ، والله أعلم. اهـ.

(5)

هي موضوعِ الفرق الثامن والتسعين بين قاعدة البقاع جُعِلَتْ الْمظانُّ منها معتبرة في أداء الجمعات وقصْر الصلوات، وبين قاعدةِ الأزمان لم تُجْعَلْ المظان منها معتبرة في رؤية الأهِلة ولا دخول اوقات العبادات وترتيب أحكامها

جـ 2. ص 225.

قال القرافي رحمه الله في أوله: إعلَم أن الفرق بين هاتيْن القاعدتين مبني على قاعدة وهي: أن الوصفَ الذي هو معتبر في الحكم، إن امكن انضباطه لا يُعْدَلُ عنه إلى غيْره كتعليل التحريم في الخمْر بالسكر، والربا بالقوتِ، وغيْر ذلك من الاوصاف المعتبرَة في الاحكام. وإن كان غير منضبط أقيمتْ مظِنته مُقامه. وعدَم الانضباط إما لاختلاف مقاديره في رتبه، كالمشقة سبباً للقصر وهي غير منضبطة المقادير، إذْ ليس مشاق الناس في ذلك سواء، وكالعقل الذي هو مناط التكليف، ويختلف في الناس بسبب اعتدال المزاج وانحرافه، فربَّ صبي مُعْتدِل المزاج يكون أعقل من رجل منحرف المزاج، فالعقل يختلف في الرجال والصبيان، فجُعل البلوغ مظنته، وهو منضبط، وهكذا يظهر هذا الموضوع بصورة أجلى وأوضح، من خِلَالِ هذا الكلام عند القرافي رحمه الله. اهـ.

(6)

كذا في النسختين ع، ح. والذي في كتاب الفروق الجمعات، وهو أصوب وأظهر، بدليل ما ياتي من الكلام على كون ثلاثة أميال مظنة سطع الأذان للجمعة.

ص: 383

الخفاء، فأربعين ميلَا مظنة المشقة للمسافر، وثلاثة أميال مظنة سماع الأذان للجمعة، فإذا كان الوصف الذي به التعليل ظاهراً وغير خفي لم توضع المظنة.

ولمَّا كانت هذه القاعدة هكذا وجِدَ الخفاء بحسَب الْمَظانِّ التي وضعتْ وفيها اعتبار المكان، ولم يوجد ذلك بحسَب الزمان، فالْأهلةُ التي ارتبطت العبادةُ بها كرمضان، وغيره لا حاجة إلى مظِنَّةٍ من جهة الزمان تقوم مقامه، فإن المَظنَّة إنما تكون عند عدم الانضباط، أما معهُ فَلا.

والانضباط موجود بأشياء، إن كنا نقول بالمناخ فظاهرٌ، وإن كنا لا نقول به فنُكَمِّلُ العِدةَ ثلاثين، هذا مع الغَيْم، ومع الصَّحو نَعتَبر الرؤية، فأيُّ فائدة لوضع المظنَّة هاهنا.

قال شهاب الدين رحمه الله: والمظنة هي في الرتبة الثالثة من التَّعْليل، وذلك أن الحِكْمَةَ توجب كون الوصف علة معتبَرَة في الحكم، فإذا ثبتَ كونه معتَبرا، إن كان منضبطا اعتمد عليه ولم يُحْتَجْ إلى المظنة، وإن لم يكن منضبطا أقيمت مظنته مقامه، فالحكمة في الرتبة الأولى، والوصف في الرتبة الثانية، والمظنة في الرتبة الثالثة، وهذه الثلاثة مثالُها في السَّفر أن مَصْلحة المكلَّف في راحته، وصلاحُ جسمه يوجب أن المشقة إذا عرضت توجب عليه تخفيف العبادة، لئلا تعظم الشقة فتضيعَ مصالحه بضعف جسمه، فتوفير قوّته هُوَ المصلحة والحكمة الموجبة لاعتبار وصف المشقة سببَ الترخيص، فالمشقة في الرتبة الثانية منها، لأن الأثرَ فرْعُ المؤثِّر، والمظنة فرْعٌ قد تكون مُوجِبةً للحكم، وإن لم يكن الوصف حاصلا، وهذا لأن الاعتبار للغالب لا لِلنادر، فقد تحصل المشقة وقد لا، ولكن الغالب حصولها. (7)

(7) قال القرافي هنا رحمه الله:

فإن قلت: ما الفرق بين المظنة والحكمة التي اختُلِف في التعليل بها؟ وما الفرق بين الثلاثة: الوصفِ والمظنةِ والحكمة؟ قلتُ: الحكمة هي التي توجب كون الوصف علة معتبرة في الحكم. فاذا ثبتَ كوُنه معْتَبراً في الحكم، إن كان منضبطا اعتمد عليه من غير مظنةِ تُقام مُقامه، وإن لم يكن منضَبطا أقيمت مظنته مُقامه. فالحكمة في الرتبة الأولى، والوصف في الرتبة الثانية، والمظنة في الرتبة الثالثة.

ص: 384

قال شهاب الدين رحمه الله:

فإن قلت: مجرد الالتِقاء لا يحصل به الإِنزال، فكيف جُعِل مَظِنَّةَ الإِنزال؟ فأجابَ بأنه قد يحصل من الناس من يُنزِل بمجرد الملاقاة، ومنهم من يُنزل بالفكرة.

قلتُ: الأولى أن يقال: الغالبُ على الناس أنه إذا حصل التِقاء الختانيْن قلَّ أن يقَع النزْعُ الا بعد تمام العمل بالإِنزال، فتلك الحالة الأخرى إذا اتفقت قد يكون معها شيء من الانزال وهو بدايته، وقد لا يحصل اعتباره ببداية العمل،

= ومن الفرق بين المظنة والحكم، أن القطع بعدم الحكمة لا يقدح، والقطعُ بعدم مظنون المظنة يقدح (أي في بناء الحكم عليه).

ثم قال القرافي رحمه الله: وينبغي أن يتفطن لهذه القاعدة والتفاصيل، فهى وإن انبنى عليها بيان هذا الفرق فهى يحتاج اليها الفقهاء رحمهم الله كثيرا في موارد الفقه والترجيح، ثم زاد القرافي رحمه الله قائلا في هذه المسألة وموضحا لها اكثر مما عند البقوري بكلام هام جدا في هذا الموضوع، فقال:

إذا تقررت هذه القاعدة فنقول:

إنما اعتُبرت البقاعُ في الجمعات، وهي ثلاثة أمْيال، في الإِتيان اليها، لأنها مظنة أذانِها وسماعِهِ من تلك المسافة إذا هدأت الأصوات وانتفتْ الموانع، لقوله صلى الله عليه وسلم: الجمعة على من يَسْمَعُ النداء، فجَعَل مظنة السماع مَقامَ السماع، ولذلك جُعِلتْ البقاعُ التي في مسافة القصر معتبَرة في قصْر الصلواتِ، لأنها مظنة المشقة الموجبة للترخيص.

وأما أهلة شهور العبادات كرمضان وشوال وذوي الحجة ونحوها فلا حاجة فيها إلى مظنة من جهة الزمان، بسبب أن القطع بحصولها موجود من جهة الرؤية أو إكمال العدة، فيحْصُلُ القطعُ بالمعنى المقصود، فلا حاجة إلى مظنةٍ، من جهة أن الزمان يقوم مقامه، فإن المظنة إنما تُعتبَر عند عدم الانضباط، أما معه فلا.

فإذا ظنَنَّا أن الهلال يطلع في هذه الليلة بسبب قرائن تَقَدَّت: إما من تَوالي تمام الشهور فنظن نقصَ هذا الشهر، أو من جهة طلوع القمر ليلة البدْر قبل غرُوب الشمس فنظن تمام هذا الشهر، أو من جهة تأخره في الطلوع عند غروب الشمس فنظن نقصان هذا الشهر وغيْر ذلك من الأمارات الدالة عند أرباب المواقيت على رؤية الأهلة، ويوجب أن هذه الليلة هي مظنة الهلال، فإنا لا نعتبر شيئا من ذلك ولا نقيم المظنة مقام الرؤية، لأن لنا طريقا للوصول إلى الوصف المطلوب إما بالرؤية او كمال العِدَّة. والقاعدة أنه لا يُعْدَل إلى المظنة إلا عند عدم انضباط الوصف دائما أو في الأغلب. وها هنا ليس كذلك، فلذلك سقط اعتبار المظان من الأزمنة. وكذلك أوقات الصلوات لما كانت منضبطة في نفسها لحصول القطع بها في اكثر صورها لم تقم مظانها في الصور مقامها، وبهذا يظهر الفرق بين قاعدة البقاع أقيمت مظانها مقامها، وبين الازمنة لم تُقَمْ مظانها في الصور المذكورة، وسِرُّهُ ما تقدم من القاعدة الكلية التي تقدم تقريرها قبْلُ.

ص: 385

وذلك التقاء الختانيْن، اذ لا شيء يكون مضبوطا غير ذلك، وان لم يكن الانزال يحصل بمجرد الالتقاء غالبا، وانما يكون نادرا، ولكنه هو المنضبط عندنا في ذلك لا غيره.

القاعدة الثالثة (8)

لِمَ خُصّت البقاع المعظَّمة بالصلاة، والازمنةُ المعظمة بالصيام؟

فأجاب عن هذا شهاب الدين رحمه الله بما مقتضاه:

ان القصد الحقيقي تعظيم الموْلَى جلَّ وعَلا، وليس في قدرة البَشر أن يعظموه كما يجِبُ له، فاكتفى منهم أن تظهر عليهم آثار التعظيم كما تظهر عليهم مع ملوكهم.

ولمّا كان الشأن أن العظيم إذا مُرَّ ببيته (9) وحيث هو، يُسَلَّم عليه ويخضع له بالمقال والفعل، من حيث إنه ينحني ويتضآل ويُقَبِّلُ البساط إلى غير ذلك من

(8) هي موضوع الفرق التاسع والتسعين: جـ 2. ص 170. ونصه بتمامه عند القرافي:

الفرق التاسع والتسعون بين قاعدة البقاعَ المعظمة من المساجد تُعَظَّمُ بالصلاه ويتاكد طلب الصلاه عند ملابستها، وبين قاعده الأزمنة المعظمة كالأشهر الحرم وغيْرها لَا تعظم بتاكد الصَّوْم فيها.

(9)

عبارة القرافي هنا رحمه الله هي: "ومن ذلك (اي من التعظيم للناس) والتأديب معهم أن أحدنا إذا مرَّ ببيوت الاكابر يسلم عليهم ويحييهم بالتحية الآئقة بهم، والسلامُ في حقه تعالى محالٌ، لأنه دعاء بالسلامة وهو سالم لذاته عن جميع النقائص، أو هو من السالمة وهي التامين من الضرر، وهو تعالى يُجِير ولا يجارُ عليه، فاستغْنى عن ذلك لتعذر معانيه في حقه تعالى. بل ورَدَ أن نقول له تعالى: أنتَ السلام، ومنك السلام، واليك يعود السلام، حيّنا ربَّنا بالسلام، أي أنتَ السالم لذاتك، ومنك يصْدُر السلام لعبادك، وإليْك يرْجعُ طلبُها فأعْطِنا إيّاها.

ولما استحال السلام في حقه تعالى أقيمت الصلاة مقامه ليَتَميَّز بيت الرب عن غيره من البيوت بصورة التعظيم بما يليق بالربوبية، ولذلك نابت الفريضة عن الناقلة في ذلك لحصول التمييز بها. أقول: ومن هنا يظهر أساس قول الشيخ خليل بن اسحاق المالكي رحمه الله في مختصره للمدونة، وهو يتحدث عن تحية المسجد، والاكتفاءِ بأداء الفريضة عنها حين تقام الصلاة، او يضيق وقتها، فقال:"وتأدتْ بفرض"، أي يكتفى بَالفريضة، ويحصل له ثوابُ تحية المسجد إن تواها مع الفريضة.

ص: 386

الأفعال جُعِل للعبيد مع مولاهم مثلُ ذلك، فإذا دخلوا مسجده حيَّوْهُ بركعتين. وإنْ جاءُوا إليه في البيت الأعْظَم له وحيث أظهر خيْرَه ونعمته على كل مَنْ أقبل عليه يبايعونه ويلوذون بقصو ويُحُفّون به مستبشرينَ فرحين، كان مثْلُ ذلك بمكة إذا جاءها كلُّ من جاءها، فهذا أوجَبَ تخصيص البقاع بهذه العبادة، ولمْ يكن عندها الصومُ، لأن العادةَ في التعظيم للملوك ليسَ هو بالصوم.

ثم الأزْمَانُ لم يكن فيها زمانٌ اشتهر بالله واختص به كاختصاص الكعبة والمساجد، فلم يكن للأزمنة ما ذُكر من الصلاة، لهذا المعنى.

ثم قال: قد ورد أنه ينزل الرب إلى سماء الدنيا في الثلث الآخِرِ من الليل، (10) فأجاب بأنْ قال: الأزمنة التي جَرَتْ العادة بقدوم الملِك فيها على الرّعايا، شأنها أن تعظم بالزينة وما يناسبها، وكان يلزمنا مثل ذلك في هذا الزمان، غير أن الليل لا يناسبُ الصيام، فشرع فيه ما يناسبه من التضرع والدعاء والاستغفار.

قلت: هذه القاعدة من أصْلها، كيف تصح؟ واللهُ جعلَ الصلاة معتبَرةً بالأزمان. نفْياً وثبوتا، كما جعلها بالبقاع نفيا وثبوتا، فقد نهى عن الصلاة في وقتين او ثلاثة على ما جاء في بعض الأحاديث، (11) وقد أمر بالصلاة في أوقات معلومة بالليل والنهار، بحسب الفرائض بحسب النوافل، وأيْضاً فالثلث الآخر من الليل هو

(10) الحديث اخرجه الجماعة من أئمة الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل دهشا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيبَ له، من يسألنى فأعطيَه، من يستغفرني فأغفر له"، وأورده السيد السابق في كتابه فقه السنة.

والمرادُ من الحديث أن الله تعالى يتجلَّى على عباده، تجليا خاصا، فيتجَلَّى عليهم بالمغفرة والرحمة، والرضوان واستجابة الدعاء في ذلك الوقت، خاصىة وهُمْ في حالة التهجد والقيام بالنوافل في الثلث الاخير من الليل، والقنوت والاستغفار بالْأسْحارِ.

(11)

ونصه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: شهِد عندي رجال مرْضيُّون وأرضاهم عندى عُمَرُ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعْد العصر حتى تغرب". حديث صحيح، وهي عند الشروق والغروب منهيُّ عنها نهي تحريم.

ص: 387

وقت للتهجد، وأفضل التهجد بالصلاة كما قال تعالى:{ومن الليل فتهجد به نافلةً لك} (12) الآية، و {يا أيها المزمِّلُ قمْ الليل إلا قَليلا} (13).

وهذا كله خلاف ما قاله هو، وشهر رمضان مطلوب فيه الصلاة والصيام، ولا سيما الآخِر من الشهر في الليل، ففي ذلك الوقت كان عليه الصلاة والسلام يَرْصُدُ ليلة القدر.

قلت: وهو أيضا لم يذكر حكمة الصوم كما ذكر حكمة الصلاة، وحكمته أنه استعداد للقاء المعظَّم بصورة النظافة مطلقا، والصوم ياتي بذلك بحسب الظاهر، أذ تقل الانجاس في جوفه، وتقِلُّ الأشغال التي تخرجه عن محل اللقاء، وبِحسَبِ الباطن أيضاً فإن الجوع يعين على الإقبال ويصرف عن القواطع، والله أعلم، وهو الموفق للصواب.

القاعدة الرابعة (14)

لِمَ كانت أوقات الصلوات يجوز إثباتها بالحساب والآلات وكل ما دل عليها، والْأهِلةُ في الرمضانات لا يجوز إثباتها بالحساب على المشْهور؟

فقال: شهاب الدين رحمه الله:

= والمراد بالصلاة المنهي عنها في الحديث صلاة النافلة، إذْ الفريضة تصلّى في أي وقت لمن حصل له تاخيرها عن وقتها لعذر من الأعذار الشرعية من النوم او النسيان.

وبالنسبة للمذهب المالكي وفقهه فإن النهي عن النافلة بعد صلاة العصر يمتد إلى حين صلاة المغرب، وهو ما عَبَّر عنه الشيخ خليل بن اسحاق المالكي رحمه الله بقوله في المختصر: "وَمُنِعَ نفْل وقتَ طِلوع الشمس وغروبها وخطةِ جمعة، وكُره بعد فجر وفرْض عَصْر، إلى أن ترتفعَ قيْد رُمْح، وتُصَلَّى المغرب، إلا ركعتي الفجر، والْوِرْدَ قبل الفرض لنائمٍ عنْه

الخ. وفي كلامه لفُّ ونشْر مرتّب، فقوله إلى أن ترتفع قيد رمح عائدٌ إلى قوله: وكُرِهَ بعد فجْر، وقوله: وتُصَلى المغربُ راجع إلى قوله: وبَعْدَ فرْض عَصْرِ". اهـ

(12)

سورة الاسراء: الآية 79. وتمامها قوله تعالى: "عسى أن يبعثك ربك مقاما محموداً".

(13)

سوز المزمل: الآية 1.

(14)

هي موضوع الفرق الثاني والمائة بين قاعدة أوقات الصلوات يجوز إثباتها بالحساب والآلات وكل ما دل عليها وبين قاعدة الأهلة في الرمضانات لا يجوز اثباتها بالحساب" جـ 2. ص 178.

ص: 388

إنَّما كان هذا الفرق من حيث ان الله تَعَمدَنا في الأهِلة بالرؤية، أو بالإِكمال ان تعذرت الرؤية، ولم يتَعَبَّدْنا بخروج الهلال من الشُّعَاع. وفي الأوقات الأخَرِ تعبَّدَنا فيها بحصول أوقاتٍ وبروزها في نفسها، فكان لنا أن نستدل على حصولها بكل دليل يوصل إلى ذلك، لأن العبادة مربوطة بالزوال مثلا، ولم تُرْبَط لنا بخروج الهلال من شعاع الشمس، بل برؤيته، فإن أغْمِيَ علينا فنكمل (15) العِدة ثلاثين (16).

(15) كذا في نسخة ع، وفي ح: نكمل بدون الاتيان بالفاء، وهو الصواب المتفق مع المقرر في القواعد، حيث إن جواب الشرط فعل مضارع ليس فيه ما يدعو إلى اقترانه بالفاء. وفي نسخة اخرى: كملنا العدد ثلاثين، بصيغة الماضي في الجواب، وهو يكون كذلك، قال ابن مالك في ألْفِيَته النحوية عن فعل الشرط وجوابه:

وماضيْين أو مُضارعيْنِ

تُلْفِيهما او متخالفَيْنِ

(16)

قال شهاب الدين القرافي رحمه الله في أول الكلام على هذا الفرق:

"وفيه (أي في اثبات الهلال بالحساب) قولان عتدنا وعند الشافعية رحمهم الله تعالى. والمشهور في المذهبين عدم اعتبار الحساب. فإذا دَل تَسْيِيرُ الكواكب على خروج الهلال من الشعاع من جهة عِلْم الهيْئة لا يجب الصوْمُ. قال سَنَدٌ من اصحابنا: فلو كان الإِمام هي الحساب لمْ يُتَّبَعْ، لإِجماع السلف على خِلافه، مع أنّ حساب الأهِلة والكسوفات والخسوفات قطعِي

(اي فكان ينبغى أن يعتمَدَ عليه كأوقات الصلوات، فإنه لا غاية بعد حصول القطع).

والفرق - وهو المطلوبُ ها هنا - وهُو عُمْدَةُ السلف والخلَفِ أن الله تَعَالى نصَبَ زوال الشمس سببَ وجوب الظهر، وكذلك بقية الأوقات، لقوله تَعَالى، "أقِمْ الصلاة لدلوك الشمس"(أي لأجل دُلوك الشمس وهو الزوال)، وكذلك قوله تعالى:"فسبحان الله حين تُمْسون وحين تُصْبحون وله الحمد في السموات والارض وعشيا وحين تُظْهرون". قال المفسِّرون: هذا خبَرٌ معناه الامرُ بالصلوات الخمس في هذه الاوقات وبإيقاعها فيه. وغَير ذلك من الكتاب والسنة، الدال على أن نفس الوقت سبب، فمن عِلمَ السبَبَ بأى طريق كان لزمَه حكمه، فلذلك اعتُبِر الحسابُ المفيد للقطع في اوقات الصلوات.

أما الأهلة فلم يَنْصَبْ صاحب الشرْع خروجَها من الشعاع سببأ للصوم، بل رؤية الهلال خارجا عن شعاع الشمس هو السببُ، فاذا لم تحصل الرؤية لم يَحْصُل السبب الشرعي فلا يثبتُ الحكم، ويدُل على أن صاحب الشرع لم يَنْصِب نفسَ خروج الهلال عن شعاع الشمس سببا للصوم، قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:"صوموا لرؤيته وأفطِرُوا لرؤيته"، ولَمْ يقُلْ لخروجه عن شعاع الشمس كما قال تعالى:"أقِم الصلاة لدلوك الشمس"، ثم قال:(اي النبي صلى الله عليه وسلم في تمام هذا الحديث: "فإن غُمَّ عليكم (أيْ خفيتْ عليكم رؤيته) فاقُدُروا له، وفي رواية: "فأكْملوا العدة ثلاثين .. ، فنصَبَ رؤية الهلال أو إكمال العدة ثلاثين، ولم يتعرض لخروج الهلال عن الشعاع

الخ.

ثم قال القرافي رحمه الله: فلأجل هذا الفرق (أي بيْن قاعدة أوقات الصلوات تثبت بالحساب، وقاعدة الأهلة في رمضانات لا يكون إثباتها بالحساب) قال الفقهاء رحمهم الله تعالى:

ص: 389

وذكر ها هنا شهاب الدين رحمه الله إشكاليْن: أحدهما بحسب أوقات الصلاة، والثاني بحسب رؤية الأهلة فقال:

العادَة المستمرة للمؤذِّنين القائمين بالأوقات أنهم إذا شاهدوا المتوسط (17) أمَرُوا الناس بالصلاة والصوم، معَ أن الأُفق يكون صاحِياً لا يخْفَى فيه طلوع الفجر لو طلع، ومع ذلك فلا يجد الناظر للفجر أثراً البتة، وهذا لا يجوز، فإن الله تعالى جعل ظهور الفجْر فوق الأفُق سببَ التكليف.

ثم أوْرَدَ على نفسه سؤالا فقال:

فإن قُلْتَ: هذا جُنوحٌ منك إلى أنه لابد من الرؤية، وأنتَ قد فرقت بين البابين ققال: الفرق أنِّي لم أشترط الرؤية في الأوقات، ولكني جعلت عدم اطلاع الحِسِّ على ذلك حين الصحْو دليلا على عدم حضور الوقت، بخلاف الأهلَّة هي المربوطة بالرؤية.

قلت: كما جَعَلتْ الرؤيةُ الحُكْم تعلّقَ بها من أجل قوله عليه الصلاة والسلام: "صوموا لرؤية الهلال وأفطِرُوا لرؤيتِهِ". كذلك يجب عليك أن تجعل الادراك المحقَّقَ سببا لوجوب الصبح، من أجل قوله تعالى:"حتَّى يتبين لكم الحيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"، فإذا الموضعان على السواء في اعتبار الإِدراك المحقق أن يحصل فيتحقق الإِشكال.

قلت: والظاهر عندي أن الصبح من بين سائر الصلوات هي منوطة بشيء اضافي لا بشيء واقع في نفسه، لأجل قوله:"حتى يتبيَّن"، ويكون فعْل المؤذنين لهذا لا يصح، وهي كالهلال، فإنه - أيضا - امْرٌ اضافي، معرفته دخول

= "إن كان هذا الحِسابُ (اي حِساب رؤية الأهلة غير منضبط فلا عيرة به، وان كان منضبطا، لكنَّه لم يَنْصِبْه صاحبُ الشرْع سببا، فلم يَجِبْ به صوم، والْحق من ترديد الفقهاء (اي من كلامهم في هذا الشأن) هو القسم الثاني دون الأول.

(17)

عبارة القرافي أكثر ظهورا ووضوحا وهي: "انهم إذا شاهدوا المتوسط من دَرج الفلك أو غيرها من درَج الفلك الذي يقتضى أن درجة الشمس قَرُبَتْ من الأفق قُرْبًا يقتضى أن الفجر طلع أمرُوا الناس بالصلاة والصوم مع أن الأفق يكون صاحيا

وهذا لا يجوز

الخ.

ص: 390

الشهر، لأنه مربوط برؤيتنا، أو ما يقوم مقامها من التحقيق بحصوله، وذلك الإِكمال، والله أعلم.

الإِشكال الثاني أن المالكية جعلت رؤية الهلال في بلد من البلاد سببا لوجوب الصوم على جميع أقطار الأرض. (18)

(18) كلام الإِمام القرافي هنا عن هذا الإِشكال الثاني أوضح وأبيَنُ، فقد قال في ذلك رحمه الله: الإِشكال الثاني أن المالكية جعلوا رؤية الهلال في بلد من البلاد سببا لوجوب الصوم على جميع أقطار الارض، ووافقتْهُم الحنابلة رحمهم الله على ذلك، وقالت الشافعية رحمهم الله: لكل قوم رؤيتهم"، واتفق الجميع على أن لكل قوم فَجْرَهم وزوالهم وعصْرهم ومغربهم وعشاءهم فإن الفجر إذا طلع على قوم يكون عند آخرين نصْف الليل، وعند آخرين نصف النهار، وعند آخرين غروب الشمس إلى غير ذلك من الاوقات

بحسَب قرْب ذلك القطر الذي غربت فيه الشمس، وكذلك بقية الأوقات تختلف هذا الاختلاف.

قال القرافي: وكذلك وقع في الفتاوى الفقهية مسألة أشكلت على جماعة من الفقهاء رحمهم الله في أخوين ماتا عند الزوال: أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب، أيُّهما يَرث صاحِبه؟ فأفتى الفضلاء من الفقهاء بأن المغربي يرث المشرقي، لأن زوال المشرق قبل زوال المغرب، فالمشرقي مات أوَّلًا، فيرثه المتأخِرُ لبقائه بعده حيًّا، متأخر الحياة فيرث المغربيُّ المشرقيُّ.

ثم خلُص القرافي رحمه الله إلى النتيجة من هذا الكلام، فقال:

إذا تقرر الاتفاق على أن أوقات الصلوات تختلف باختلاف الآفاق، وأن لكل قوم فجْرَهم وزوالهم وغيْرَ ذلك من الأوقات، فيلزم ذلك في الأهلة، بسبب أن البلاد المشرقية إذا كان الهلال فيها في الشعاع وبقيت الشمسُ تتحرك مع القمر إلى الجهة الغربية، فما تصل الشمس إلى أفق المغرب إلا وقد خرج الهلالُ من الشعاع فيرَاهُ أهل المغرب ولا هاه اهل المشرق. هذا أحَدُ أسباب اختلاف رؤية الهلال، وله أسباب أخر، مذكورة في علم الهيأة لا يليق ذِكرها ها هنا، إنما ذكرتُ ما يقرب فهمُهُ.

ثم زاد قائلا: واذا كان الهلال يختلف باختلافَ الآفاق وجبَ أن يكون لكل قوم رؤيتهم في الأهلة، كما أن لكل قوم فجرهم وغيْر ذلك من اوقات الصلاة. وهذا حق ظاهر، وصوابٌ متعين. أما وجُوب الصوم على جميع الأقاليم برؤية الهلال بقطْر منها فبعيد عن القواعد، والأدلة لم تقتضِ ذلك، فاعْلَمْهُ.

والملاحظ أن الفقيه المحقق قاسم ابن الشاط لم يعلِّقْ على شيء مما جاء في هذا الفرق مما يستنتج منه أنه يراه صوابا وصحيحا وسليما عند القرافي، والله أعلم.

أقول: ومن الأدلة على اعتاد الرؤية واعتبار اختلاف المطالع كما قرره القرافي ما أخرجه بعض أئمة الحديث عن كُرَيب رضي الله عنه أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمْتُ الشام وقضَيت حاجها، فاستُهِل علي رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدِمتُ المدينة في آخر الشهر، فسألني ابن عباس: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة

ص: 391

قلت: ليس هكذا على الإِطلاق، بل فيه تفصيل مختلف. قال رحمه الله: وقال الشافعي: لكل قوم رؤيتُهم. واتفق الجميع على أن لكل قوم عصرهم ومغربَهم، وكذا سائر الأوقات. وهذا لأن البلاد الشرقية قد يكون فيها الليل حالما هو النهاز في المغرب.

قلت: بالتفصيل الذي في المذهب، ومن جملته أن يكون الأقليم واحداً، وأمّا إذا اختلفت، فلا إشكال. ومعَ هذا التفصِيل قد يقال: الوقت واحد، فإذا يرفع الاختلافُ فالاختلافُ في الجميع، فلا إشكال، والله أعلم، وهو الموفق للصواب.

= الجمعة، قال: أنت رأيته؟ قلت: نعم، ورآه الناس وصاموا، وصام معاوية، فقال: لكنا رآيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ ، قال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

اهـ. رواه ائمة الحديث: مسلم، وابو داود، والترمذي، والنسائي رحمهم الله ورضي عنهم اجمعين.

قال هنا بعض شراح الحديث من المعاصرين: فرؤية الهلال في قطر لا تَسْري على قطر آخر، لأن كل فطر مخاطَبُون بماَ يظهر لهم فقط، كأوقات الصلاة، ولوْ كلِّفوا بما يظهر في جهة أخرى لشق عيم ذلك ومعلومٌ أن المطالعَ تختلف، فَرَبْطُ كل جهة بمطلعها أخف وأحْكَم. فإذا ثبتَتْ رؤية الهلال في جهة وجب على أهل الجهة القريبة منها من كل ناحية أن يصوموا، والقرب يحصل باتحاد المطلع، بأن يكونَ دَونَ اربعة وعشرين فرسخا، (والفرسخ عند العلماء الفقهاء ثلاثة اميال، والميل الفا ذراع على المشهور، وقيل: ثلاثة آلاف ذراع، وهو الراجح والمعتمد، وعلى هذا بعض الصحب والتابعين واسحاق والشافعي.

وقال الجمهور: إذا ثبتتْ رؤية الهلال في بلد وجب على كل المسلمين العمل بها، وعليه الائمة الثلاثة (اي ابو حنيفة، ومالك، واحمد)، قاله الخطابي، وقال ابن الماجشون: لا يلزَمُ أهْلَ بلدٍ رؤيةُ غيرهم، إلا أن يثبتَ عند الامام الاعظم (وهو الخليفة السلطان)، فيلزَمُ الناس كلَّهم، لأن البلاد (أيْ الخاضعة لخلافته، وإمارته وطاعته) وفي حقه كالبلد الواحد، وحكمُهُ نافذ على الجميع. اهـ. وقد رأيت أن أنقل هذا البحث المتعلق برؤية الأهلة عند الإِمام القرافي، وأن أورد كلامه فيه بتمامه، لأهمية الموضوع في حد ذاته، ولنفاسة هذا البحث ودقته، واهتمام الخاصة والعامة به من الناس، ولحديثهم فيه احيانا بغير علم ودراية، ودون معرفة بمباحث الرؤية وضوابطها الفلكية، وبما قاله العلماء الفقهاء المتخصصون فيها. سواء منهم الأقدمون أو المتأخرون والمعاصرون، وخاصة علماء الفلك التوقيت.

وقد تكلم في ذلك بعمق وتوسع، وتحدث فيه بتحقيق وتفصيل استاذنا وشيخنا الجليل الفقيه المحقق، والفلكي المدقق العلامة الشهير، الأستاذ محمد بن عبد الرازق في كتابه القيم (العذب الزلال في مباحث رؤية الهلال)، وفي مباحث اخرى خاصة بالموضوع، منها ما نشر في

ص: 392

القاعدة الخامسة (19)

نقرر فيها الفرق بين أسباب الصلاة وشروطها يَجِبُ الفحصُ عنها، وأسباب الزكاة لا يجبُ الفحصُ عنها.

اعْلَمْ أن أسباب التكليف وشروطه وانتفاء الموانع لا يجبُ تحصيلُها إجماعا، إنما الخلاف فيما يتوقف عليه ايقاع الواجب بعد وجوبه، وفيه ثلاثة مذاهب. ثالثها الفرق بين الأسباب تجب دون غيرها فلا تجبُ، فلا أحدَ يقول: يجبُ علينا أن نحصِّل نصابا حتى تجب عليه الزكاة (20) ولا يجب أن يوفي الدَّيْن لغرض أن تجب عليه الزكاة، لأنه مانعٌ منها.

فإذا تبين هذا فأقول:

الواجبات انقسمت قسمين: قسْمٌ يجب فيه الفحص، وقسم لا يجب.

والضابط للفرق بينهما أن الواجب، تارة يقتضي الحال فيه أنه لابُدَّ من طريان سببه

= مجلة دعوة الحق التي تصدرها وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية بالملكة المغربية، ومنها ما لم ينشر وقدمه الشيخ في ملتقيات إسلامية حول رؤية الأهلة، فأجاد وأفاد في كل ذلك افادة جليلة وأجاد اجادة عظيمة مقنعة، فشفي الغليل، وأزال الاشكال، فمتعه الله بوافر صحته وبارك في حياته وجزاه خيرا على ما أسداه وقدمه من مباحث في هذا الميدان، ونفع بفقهه وعلمه وبما كتبه وألفه في كل مجال من العلوم الاسلامية، آمين. فليرجع إلى ذلك الكتاب الهام، والى المباحث القيمة المتصلة به من أراد التوسع في ذلك. اهـ

(19)

هي موضوع الفرق التسعين بين أسباب الصلاة وشروطها يجبُ الفحص عنها وتفقدُها، وقاعدة أسباب الزكاة لا يجبُ الفحص عنها. جـ 2. ص 142

وقد علَّق عليه الفقيه المحقق قاسم بن الشاط رحمه الله بقوله: ما قاله فيه صحيح، غير أنه ذكر في آخره في القسم الثاني أشياء من فروض الكفايات، وكان الأولى أن يقتصر على ما هو من فروض الأعيان، لأن فروض الكفايات لا تخص كل مكلف. ولا تتوجه على من لا علم عنده، بخلاف فروض الأعيان

اهـ.

(20)

كذا في النسختين، ومقتضى تناسق العبارة أن يقال: حتى تجب علينا، أولا أحد يقول: يجب. عليه أن يحصل نصابا حتى تجب عليه الزكاة.

وعبارة الفروق عند القرافي هي: فلا يجب على أحد أن يحصل نصابا حتى تجب عليه الزكاة، لأنه سببُ وجوبها، ولا يوفّي الدين لغرض أن تجب عليه الزكاة لأنه مانع منها.

ص: 393

وترتيب التكليف عليه جزْما لا محيد عنه، كالزوال ورؤية الهلال، فإنه لابد أن يكون في الوجود ويترتب عليه وجودُ التكليف قطعا، فهذا يجب الفحص عنه، كان شرطا أو سبباً، اذ لو أهْمِلَ لوَقع التكليف، والمكلَّف غافل، فَيَعْصي بترك الواجب بسبب إهْمَالِهِ إذا علِمَ أنه لابد أن يكون منه هلال رمضان وأوقات الصلوات وما أشبه ذلك، وأمَّا ما لا يتعيَّن وقُوعُه من الأسباب والشروط فلا يجبُ الفحصُ عنْهُ لعدم تعيُّنِهِ، فيمكن أن يقالَ: الأصْلُ فيه عَدَمُ طريانِه لأجْلِ عدم التعيين، وقد يكون ذلك حجة للمكلف عند الله تعالى. ومنْ ذلك إذا كان فقيراً، ولَهُ أقَاربُ أغْنياءُ، وهو في وقت يجوز أن يموت أحدهم فيرثه فينتقل المال إليه، فتجبُ الركاة عليه بإغفال ذلك وترْك السؤال عنه. (21)

قلت: ولنذكر مسائل تليق بهذا الباب:

المسألة الأولى: قال مالك رحمه الله: لا يتنفل واحدٌ مضطجعا، ويتنفّلُ قاعداً.

- فالجواب أن الجلوس أحد أركان الصلاة حال الاختيار، فجاز التنفل به، وليس كذلك الاضطجاع، لأنه ليس بركن في الصلاة حال القدرة.

قلت: ويمكن أن يقال: ذلك رخصة، ولم ترِد في الاضطجاع، فَتُقْصَرُ على حسَبِ ما وردت.

المسألة الثانية: قال ابن القاسم: يُحْكى الأذان في النافلة دون الفريضة، وكِلاهما صلاة، فالجواب أن النافلة أخفض رتبةَ من الفريضة، فجاز فيها ما لمْ يَجُزْ في الفريضة.

قلت: وهذا الفرق يقضي بأن الشروع لا يصير غير الواجب واجبا، وإن صيّره فتبْقى رتبتُهُ دون الواجب الاصلي.

(21) تمام هذا الكلام عند القرافي رحمه الله هو كالتالي: "فيجب عليه الزكاة بإغفال ذلك، وترْك السؤال عنه إذا كانوا في بلاد بعيدة عنه يؤدي إذا ترك اخراج الزكاة مع وجوبها عليه، ولو فحَصَ لحاز المال ووجبت عليه الزكاة، ومع ذلك لا يجب عليه الفحص في هذه الصورة لعدم تعين هذا، فقد يقع وقد لا يقع

اهـ.

ص: 394

المسألة الثالثة: قال مالك رحمه الله: إذا اجتهد فصَلَّى قبل الوقت فعليه الإِعادة أبداً، واذا اجتهد في القِبلة فصلى إلى غيرها فلا إعادة عليه الا في الوقت. فالجواب أن الوقت، المطلوب فيه إدراكه والإِحاطة به، فإنه يتوصل إليه مشاهَدَةً، فتعادُ الصلاة لذلك أبدًا، والقِبلة، الفرض فيها الاجتهاد عند غير المعاين، فاذا بَذَلهُ فقد أتى بما عليه، وأيضا فاجتهاده الثاني ليس أولى من اجتهاده الآخر، فلم يَتْرُك أحدَ الاجتهاديْن للآخَر.

المسألة الرابعة: فال ابن عبد الحكم: لا يتنفل في السفينة إلى غيْر القبلة، ويتنفْل على الدابة إلى غير القبلة، والجواب أن الاستقبال في السفينة متيسر، وعلى الدابة متعذر.

المسألة الخامسة، قال مالك: إذا تكلَّم عمدا بطلتْ صلاتُه، وإن تكلم سهوًا لم تبطل، واذا أحدث بطلتْ على كل حال، فلِمَ كان الفرق؟ والكلامُ مضادٌّ للصلاة كما هو الحدَثُ، فالجواب أن الكلام غير منافٍ للصلاة كما هو الحدث مُنَافي للصلاة، فوقعَ الفرق.

المسألة السادسة، قال مالك: تُصَلَّى النافلة بتيمم الفرض، ولا تُصَلَّى فريضةٌ بتيمم نافلة، وقد كان الحج يجزئ فيه فعلُ الندب عن الفرض، فالجواب أن الحج فيه مشقة شديدة، لأنه لامما كان قد رجع إلى بلاده، فَجُعِلَتْ سننه تنوب عن فرائضه، وليس كذلك الصلاة، لأنه لا مشقة في الإِتيان بالفرض، إذ أمْرُهَا خفيفٌ.

المسألة السابعة، قال مالك: لا يلزم الإِمامَ أن ينوي الامامة إلا في الجمعة والخوف، والكلُّ صلاة هُوَ بها إمام، فالجواب أن هذه الصلاة لا تصِح إلا في جماعة، فَلزِمَ الامامَ أن ينوي ذلك، وغيرُها من الصلوات تصح في غير جماعة فلا يلزمه ذلك.

المسألة الثامنة، قال مالك: تُصَلَّى النافلة بتيمم الفريضة ولا تُصَلَّي فريضة

ص: 395

بتيمم نافلة، والكل صلاة، فالجواب أن الأصول، اللائق بها أن تكون متبوعة لا تابعة، والفرائض أصول، والنوافل فروع، فكان ذلك لهذا.

المسألة التاسعة، قال مالك: تعاد الصلاة في الجماعة إلا المغرب، والجميع صلاةٌ، فالجواب أن صلاة المغرب ثلاثُ ركعات، والنَّفْلُ لا يكون ثلاث ركعات، وأحَدُ الصلاتين لابدَّ أن يكون نفلا، فيؤدي إلى ايقاع النَّفْلِ ثلاثا، ولا قائل به.

المسألة العاشرة، قال مالك: يَرُدُّ المُصَلّي السلام إشارةً ولا يرُدُّ المؤذِّن اشارةً، وكِلاهما ممنوع من الرّد نُطقا، فالجواب أن المصلي ممنوع من الكلام في الصلاة، ومَن تكلم عامدا بطلت صلاُته، فجعل ردّ السلام اشارة بدلاً عن النطق الذي مَتَى وُجد أبطل الصلاة، والأذان لا يفسده الكلام، اذْ لو تكلم كلاما خفيفا لم يفسُدْ أذانه، فلم يُجعل له بَدلٌ.

قلت: والأولى أن يقال: جعلت الإِشارة بالأصبع - رداً في الصلاة، رخصةً كمقصَرُ على بابها، والله أعلم.

المسألة الحادية عشرة، قال مالِك: يؤذِّن على غير وضوء، ولا يقيم إلا على وضوء، والجميع أذان، فالجواب أن الإقامة عقِبَها الصلاةُ، فاشتُرِطت الطهارة لها لئلا تحتاج إلى خروج للطهارة بعد الإقامة، وذلك لا ينبغي. ثم إنه يوقع الصلاة منفصلة عن الإِقامة إن كان اماما أو فَذّا، وليس شِرْعَتُها هكذا، بلْ متصلة إلا لضرورة.

المسألة الثانية عشرة، قال مالك: تقضِي الحائض الصومَ ولا تَقْضِي الصلاة، وكلاهما عِبادة على البدن. فالجواب أن المشقة تَلْحقُ في قضاء الصلاة لتكررها كل يوم خمس مرات، وليس كذلك الصوم فإنه غير متكرر.

المسألة الثالثة عشرة، قال مالك: إذا انقضَى دم الحيض صحّ صومُها، ولا يتوجه علها الخِطاب بالصلاة إلا بعد اغتسالها، وكلاهما عبادة على البدن،

ص: 396

فالجوابُ أن الصلاة لا تصح الا بعد اغتسالٍ، فلم تتوجه إلا بعد صحة أدائِه، والصومُ غيرُ مفتقِرٍ إلى ذلك، ألا تَرى أن صوْمَ الجنُبِ صحيح.

المسألة الرابعة عشرة، قال مالك: يجوز أن تقرأ الحائضُ ما شآت، ولا يجوز ذلك للجنب، فالجواب أن الأصول مبنية على أن الضرورات تبيحُ مالا يبيحُه غيرُها، والضرورة عندنا داعية للحائض أن تقرأ، مخافة أن تنساه، ولا ضرورةَ مع الجنُبِ، لأن زوال المانِعِ بيده. (22)

(22) هذه المسائل الاربع عشرة كما سبقت الاشارة في اولها، هي كلها مما أضافه الشيخ البقوري لكتاب شيخه القرافي رحمهم الله ونفع بعلمهم جميعا آمين.

ص: 397