الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحمدُ من طرقِ تعظيمِ اللهِ تعالى
ومن الوسائلِ التي تُفضِي إلى تعظيمِ اللهِ تعالى وإجلالِه: كثرةُ حمدِه سبحانه وتعالى والثناءِ عليه سبحانه وشكرِه على نعمِه. وقدْ روى البخاريُّ عن أبي أمامةَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا رَفَعَ مائدتَه قال: «الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، غيرَ مكفيٍّ، ولا مودَّعٍ، ولا مستغنَىً عنه» .
فاللهُ تعالى لا يستطيعُ أحدٌ أن يكافِيه على إنعامِه أبدًا، لأنَّ شكرَه سبحانه هو نعمةٌ من نِعَمِه كما قيل:
إذا كان شُكري نعمةَ اللهِ نعمةً
…
عليَّ له في مثلِها يجبُ الشكرُ
فكيف وقوعُ الشكرِ إلا بفضلِه
…
وإنْ طالتِ الأيامُ واتَّصلَ العمرُ
إذا مسَّ بالسرَّاءِ عمَّ سرورُها
…
وإن مسَّ بالضرَّاءِ أعقَبَها الأجرُ
فما منهما إلا لهُ فيه نعمةٌ
…
تضيقُ بها الأوهامُ والسِّرُّ والجهرُ
فالمعظِّمُ لربِّه عز وجل يعترفُ بقلبِه أنَّه لو أنفقَ جميعَ عمرِه في قيامِ الليلِ وصيامِ النهارِ ولم يَزَلْ لسانُه رطبًا بذكرِ اللهِ، فإنَّه لا يستطيعُ تأديةَ شكرِ نعمةٍ واحدةٍ منْ نعمِ اللهِ عليه. ومعَ ذلكَ فإنَّه يَجِبُ على العبدِ أن يَلْهَجَ بحمدِ اللهِ تعالى وشكرِه والثناءِ عليهِ وأن يقدِّمَ ذلكَ بين يَدَيْ دُعائِهِ وسؤالِه.
فإنَّ الحمدَ يتضمَّنُ مدحَ المحمودِ بصفاتِ كمالِه، ونعوتِ جلالِه، معَ محبَّتِه والرِّضَا عنه، والخضوعِ له. فلا يكونُ حامدًا من جَحَدَ صفاتِ المحمودِ، ولا من أعرضَ عن محبَّتِه والخضوعِ له. وكلَّما كانت صفاتُ كمالِ المحمودِ أكثرَ كان حمدُه أكملَ، وكلما نقصَ من صفاتِ كمالِه نقصَ من حمدِه
بحَسَبِها. ولهذا كانَ الحمدُ كلُّه للهِ حمدًا لا يحصِيهِ سِوَاهُ، لكمالِ صفاتِه وكثرتِها. ولأجلِ هذا لا يُحْصِي أحدٌ من خلقِه ثناءً عليه، لما له من صفاتِ الكمالِ، ونعوتِ الجلالِ التي لا يحصِيها سِوَاهُ.
ومعلومٌ بالفِطَرِ والعقولِ السليمةِ والكُتُبِ السماويَّةِ: أنَّ فاقدَ صفاتِ الكمالِ لا يكونُ إلهًا، ولا مدبِّرًا، ولا ربًّا، بل هو مذمومٌ، معيبٌ ناقصٌ، ليسَ له الحمدُ، لا في الأولى ولا في الآخرةِ. وإنَّما الحمدُ في الأولى والآخرةِ لمن له صفاتُ الكمالِ، ونعوتُ الجلالِ، التي لأجلِها استحَقَّ الحمدَ.
وكذلكَ حمدُه لنفسِه على عدمِ اتِّخَاذِ الولدِ المتضمِّنِّ لكمالِ صَمَدِيَّتِه وغِنَاه وملكِه، وتعبيدِ كلِّ شيءٍ له. فاتِّخَاذُ الولدِ يُنَافِي ذلكَ، كما قال تعالى:{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ} [يونس:68].
وحمدُ نفسِه على عدمِ الشريكِ، المتضمِّنِ تفرُّدِه بالربوبيَّةِ والإلهيَّةِ، وتوحُّدِه بصفاتِ الكمالِ التي لا يوصَفُ بها غيرُه، فيكونُ شريكًا له. فلو عَدِمَها لكانَ كلُّ موجودٍ أكملَ منه. لأنَّ الموجودَ أكملُ من المعدومِ. ولهذا لا يحمدُ نفسَه سبحانه بعدمٍ، إلا إذا كانَ متضمِّنًا لثبوتِ كمالٍ. كما حَمِدَ نفسَه بكونِه لا يموتُ لتضمُّنِه كمالَ حياتِه.
وحَمِدَ نفسَه بكونِه لا تأخُذُه سنةٌ ولا نومٌ، لتضمُّنِ ذلك كمالَ قيوميَّتِه.
وحَمِدَ نفسَه بأنَّه لا يعزُبُ عن علْمِهِ مثقالُ ذرةٍ في الأرضِ ولا في السماءِ، ولا أصغرُ من ذلك ولا أكبرُ، لكمالِ علمِه وإحاطتِه.
وحَمِدَ نفسَه بأنَّه لا يظلِمُ أحدًا، لكمالِ عدلِه وإحسانِه.
وحَمِدَ نفسَه بأنَّه لا تدركُه الأبصارُ، لكمالِ عظمَتِه، يُرى ولا يُدْرَكُ، كما أنه يُعْلَمُ ولا يُحَاطُ به علمًا. فمجرَّدُ نفْيِ الرؤيةِ ليسَ بكمالٍ. لأنَّ العدمَ لا يُرى. فليسَ في كونِ الشيءٍ لا يُرَى كمالٌ ألبتةَ. وإنَّما الكمالُ في كونِه لا يحاطُ به رؤيةً ولا إدراكًا، لعظمَتِه في نفسِه، وتعلِّيهِ عن إدراكِ المخلوقِ له. وكذلكَ حَمِدَ نفسَه بعدمِ الغفلةِ والنسيانِ، لكمالِ علمِه.
فكلُّ سَلْبٍ في القرآنِ حَمِدَ اللهُ به نفْسَه فلمضادَتِه لثبوتِ ضِدِّه، ولتضمُّنِه كمالَ ثبوتِ ضِدِّهِ.
فعلمت أنَّ حقيقةَ الحمدِ تابعةٌ لثبوتِ أوصافِ الكمالِ، وأنَّ نفيَها نفيٌ لحمدِه، ونفيُ الحمدِ مستلزمٌ لثبوتِ ضدِّه (1).
* * *
(1) مدارج السالكين (1/ 26).