الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقيقةُ تعظيمِ اللهِ تعالى
ذكرَ الهرويُّ رحمه الله في (منازلِ السائرينَ) حقيقةَ تعظيمِ اللهِ تعالى فقال: «تعظيمُ الحقِّ سبحانه هو ألا يجعلَ دونَه سببًا، ولا يَرَى عليه حقًّا، أو ينازَع له اختيارًا» .
وهذا من دُرَر كلامِه رحمه الله، وقد شَرَحه الإمامُ ابنُ القيمِ فقال: «هذه الدرجةُ تتضمنُ تعظيمَ الحاكمِ سبحانه صاحبَ الخلقِ والأمرِ
…
وذكر من تعظيمِه ثلاثةَ أشياءَ:
إحداها: أن لا تجعلَ دونَه سببًا، أي لا تجعَلْ للوصْلةِ إليه سببًا غيرَه، بل هو الذي يوصِلُ عبدَه إليه، فلا يوصِلُ إلى اللهِ إلا اللهُ، ولا يقرِّبُ إليه سِوَاه، ولا يُدِني إليه غيرُه، ولا يُتَوصلُ إلى رضاهُ إلا به، فما دلَّ على اللهِ إلا اللهُ، ولا هَدَى إليه سِواه، ولا أَدْنَى إليه غيرُه، فإنه سبحانَه هو الذي جعلَ السببَ سببًا، فالسببُ وسببيتُه وإيصالُه كلُّه خلقُه وفعلُه.
الثاني: أن لا يَرى عليه حقًّا، أي لا تَرى لأحدٍ من الخلقِ لا لك ولا لغيرِك حقًّا على اللهِ، بل الحقُّ للهِ على خلقِه وفي أثرٍ إسرائيلي: أن داودَ عليه السلام قال: يا ربّ بحقِّ آبائي عليك. فأوْحَى اللهُ إليه: يا داودُ! أيُّ حقٍّ لآبائِك عليَّ؟ ألستُ أنا الذي هديتُهم ومننْتُ عليهم واصطفيتُهم وليَ الحقُّ عليهم.
وأما حقوقُ العبيدِ على اللهِ تعالى؛ من إثابةٍ لمطيعِهم، وتوبتِه على تائِبِهم، وإجابَتِه لسائِلِهم، فتلك حقوقٌ أحقَّها اللهُ سبحانه على نفسِه بحكمِ وعدِهِ وإحسانِه، لا أنَّها حقوقٌ أحقُّوها هم عليه، فالحقُّ في الحقيقةِ للهِ على عبدِه.
وحقُّ العبدِ عليه هو ما اقتَضَاه جودُه وبرُّه وإحسانُه إليه بمحضِ جودِه وكرمِه، هذا قولُ أهلِ التوفيقِ والبصائرِ.
الثالث: وأما قولُه: ولا ينازِعُ لهُ اختيارًا، أي إذا رأيتَ اللهَ عز وجل قد اختارَ لك، أو لغيرِك شيئًا؛ إما بأمرِه ودينِه، وإما بقضائِهِ وقدرِه، فلا تنازع اختيارَه، بل ارضَ باختيارِ ما اختارَه لك فإن ذلك من تعظيمِه سبحانه. ولا يَرِدُ عليه قَدَرُه عليه من المعاصي، فإنه سبحانه وإن قَدَّرَها لكنه لم يختَرْها له، فمنازَعتُها غيرُ اختيارِه من عبدِه، وذلك من تمامِ تعظيمِ العبدِ له سبحانه» (1).
والمؤمنُ ـ من تعظيمِ ربّه تبارك وتعالى يرى الخيرَ في كلِّ ما يأتي به اللهُ ـ، ويعلَم أنَّ الله تعالى يريدُ به الخيرَ واليسرَ والفلاحَ الذي قد يأتي في ثَوبِ البلاءِ والشدةِ والضيقِ، ولذلك قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«عجبًا لأمرِ المؤمنِ إن أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمنِ، إن أصابتْه سراءُ شَكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه ضَرَاءُ صَبَرَ فكانَ خيرًا له» (2).
إن غيرَ المؤمنِ لا يصيبُه من هذا الخيرِ شيءٌ لأنه لا يعظمُ اللهَ تعالى ولا يرضَى بقضائِه، ويرى لنفسِه الحقَّ على اللهِ تعالى، كما قالَ صاحبُ الجنتينِ:{وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف:36].
أما المؤمنُ المعظِّمُ لربِّه تبارك وتعالى فإنَّه يرضى بما قدَّرَهُ الله عليه، ويصبِرُ على البلاءِ، ويسألُ ربَّه أن يرفَعَ عنه هذا البلاءَ وأن يثبِّتَه على الحقِّ،
(1) مدارج السالكين (2/ 501).
(2)
أخرجه مسلم (5318).
كما أنه يعودُ باللائمةِ في نزولِ هذا البلاءِ على نفسِه، ويعلمُ أنه مستحقٌّ له وأن اللهَ عز وجل لم يظلمْهُ وإنما ابتلاهُ بذنوبِه تنبيهًا وإيقاظًا حتى يتدارَكَ أمرَهُ، ويصلحَ شأنَهُ، كلُّ ذلك لأنه لا يرى لنفسِه حقًّا على الله تعالى كما قال الناظمُ وأحسن:
ما للعبادِ عليه حقٌّ واجبُ
…
كلَّا ولا سعيٌ لديه ضائعُ
إن عُذِّبُوا فبعدلِه أو نُعِّموا
…
فبفَضْلِهِ وهو الكريمُ الواسعُ
* * *