الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعظيمُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لربِّه
إذا كان التعظيمُ ثمرةً من ثمراتِ المعرفةِ فقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أعرفَ الخلقِ بربِّه، وكيفَ لا يكونُ كذلكَ وهو الذي اصطفَاهُ ربُّه وعلَّمَه {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء:113]، ومنْ تدبَّرَ في عبادةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وذكرِهِ ودعائِه ولجوئِه إلى ربِّه عَلِمَ أنَّهُ أعظَمُ من عَظَّمَ الله تعالى، فقدْ كان صلى الله عليه وسلم يقومُ من الليلِ حتى تتفطَّرَ قدماه، فقالتْ له عائشة رضي الله عنها: تفعلُ ذلك وقد غُفِرَ لك ما تقدمَ من ذنبِك وما تأخرَ!! فقال صلى الله عليه وسلم: «أفلا أحبُّ أن أكون عبدًا شكورًا» (1).
ومن تعظيمِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لربِّه أنه كان يسدُّ جميعَ الأبوابِ التي تُفضِي إلى الغلوِّ فيه وإخراجِه عن حدودِ العبوديةِ والرسالةِ التي أَنْزَلَهُ اللهُ تعالى إيَّاها، فكان صلى الله عليه وسلم يقولُ:«لا تُطْروني كما أطرتِ النصارى ابنَ مريمَ، إنما أنا عبدُه، فقولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه» (2).
وعن محمدِ بن جبيرِ بن مطعِمٍ عن أبيه قال: أتى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أعرابيٌّ فقال: يا رسولَ الله! جَهِدت الأنفسُ، وضاعتِ العيالُ، ونُهكتِ الأموالُ، وهلكتِ الأنعامُ، فاستسِقِ اللهَ لنا، فإنا نستشفِعُ بكَ على اللهِ، ونستشْفِعُ باللهِ عليكَ. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«ويحك! أتدري ما تقولُ؟» ، وسبَّحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فما زالَ يسبِّحُ حتى عُرِفَ ذلك في وجوهِ أصحابِه، ثم قال: «إنَّه لا
(1) البخاري (1130)، مسلم (2819)، الترمذي (412).
(2)
البخاري (3445)، مسلم (1691)، أحمد (155).
يُسْتَشْفَعُ باللهِ على أحدٍ من خَلْقِه، شأن اللهِ أعظمُ من ذلك» (1).
وعن ابن عباسٍ قال: قال رجلٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ما شاءُ اللهُ وشئتَ، فقال صلى الله عليه وسلم:«أَجَعَلْتَنِي للهِ ندًّا؛ لا بل ما شاءَ اللهُ وحدَهُ» (2).
وعن عبدِ اللهِ بن الشخيرِ قال: انطلقتُ في وفدِ بني عامرٍ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدُنا. فقال: «السيدُ اللهُ» فقلنا: وأفضلُنَا فضلًا وأعظمُنَا طَوْلًا. فقال صلى الله عليه وسلم: «قولوا بقولِكم أو بعضِ قولِكم، ولا يَسْتَجْرِيَنَّكُم الشيطانُ» (3).
قال في (النهاية): «أي لا يَسْتَغْلِبَنَّكُم فيتخِذُكم جَريًّا، أي رسولًا ووكيلًا، وذلك أنهم كانوا مَدَحُوه، فَكَرِهَ لهمُ المبالغةَ في المدحِ، فنهاهم عنه» (4).
وقولُه صلى الله عليه وسلم: «السيدُ اللهُ» أي السؤددُ على الحقيقةِ إنما هو للهِ ?، لأنه المتصفُ بذلك على الإطلاقِ فهو الذي الخلقُ خلقُه، والملكُ ملكُه، وهو المتفضلُ بكلِّ النِّعَمِ، وهو المتصرفُ في الخلقِ كيفَ شاءَ، وهو صاحبُ السؤددِ على الحقيقةِ، وأما غيرُه ممن حصَّل سؤددًا فإنما هو سؤددٌ ناقصٌ وغيرُ كاملٍ، ولهذا فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر عن نفسِه بأنه سيدُ ولدِ آدمَ غ، وهو سيدُهم في الدنيا والآخرةِ ـ صلواتُ اللهِ وسلامِه وبركاتِه عليه ـ، ولكنَّ
(1) رواه أبو داود (4101) بيند فيه ضعف.
(2)
رواه أحمد (1742).
(3)
رواه أبو داود (4172)، وأحمد (15726).
(4)
النهاية (1/ 739) ط: الشاملة.
السؤددَ الذي يليقُ بالإنسانِ، للرسولِ صلى الله عليه وسلم منه الحظُّ الأكبرُ والنصيبُ الأوفرُ، وأما السؤددُ الكاملُ على الحقيقةِ فهو للهِ ?
…
فالرسولُ صلى الله عليه وسلم لحمايَتِه جنابَ التوحيدِ، ولحرصِه على ألا يحصلَ غلوٌّ يُؤَدِّي إلى محذورٍ أرشدَ عليه الصلاة والسلام وبيَّنَ أن السيدَ هو اللهُ وأن السؤددَ الحقيقيَّ إنما هو للهِ ـ (1).
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعظمُ اللهَ تعالى من خلالِ تدبرِ آياتِ القرآنِ، وكان صلى الله عليه وسلم يخشى من نزولِ العذابِ على هذه الأمةِ ففي صحيحِ البخاريِّ من حديثِ جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما قالَ: لمَّا نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهِك» . قال: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أعوذُ بوجهِكَ» قال: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَاسَ بَعْضٍ} قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هذا أهونُ أو هذا أيسرُ» (2).
وكان غ إذا رأى غيمًا عُرِفَ في وجْهِه، قالت عائشةُ: يا رسولَ اللهِ! الناسُ إذا رأوُا الغيمَ فَرِحُوا، رجاءَ أن يكونَ فيه المطرُ، وأَراكَ إذا رأيتَ غَيْمًا عُرِفَ في وجْهِكَ الكراهَيَةُ! فقال:«يا عائشةُ! وما يُؤَمِّنني أن يكونَ فيه عذابٌ؟ قد عُذِّبَ قومٌ بالريحِ، وقد رأى قومٌ العذابَ فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف:24]» (3).
وكان صلى الله عليه وسلم من تعظيمِه لربِّه يتأثرُ بالآياتِ التي يخوفُ اللهُ بها عبادَه فعن عبدِ الله بن عمرِو رضي الله عنه قال: انكسَفَتِ الشمسُ يومًا على عهدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم،
(1) انظر شرح سنن أبي داود للشيخ عبد المحسن العباد (27/ 446)، ط. الموسوعة الشاملة.
(2)
رواه البخاري (4262)، والترمذي (2991).
(3)
رواه البخاري (4454)، ومسلم (1497).
فقامَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يصلِّي، فلم يَكَدْ أن يسجُدَ ثم سَجَدَ، فلم يكد أن يَرْفَعَ رأسَهُ، فجعلَ ينفُخُ ويبكِي ويقولُ:«ربِّ ألم تَعِدْني ألا تعذِّبَهم وأنا فيهم؟ ربِّ ألم تَعِدْني ألا تعذِّبَهم وهم يستغفرون؟ ونحن نستغفِرُك» ، فلما صلَّى ركعتينِ انجلَت الشمسُ، فقامَ فحمِدَ اللهَ تعالى وأثنَى عليه ثم قال:«إنَّ الشمسَ والقمرَ آيتانِ من آياتِ اللهِ، لا ينكسِفَانِ لموتِ أحدٍ ولا لحياتِه، فإذا انكسَفَا، فَافْزَعُوا إلى ذكرِ اللهِ» (1).
وقد ذكرْنَا شيئًا من تعظيمِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لربِّه في أمهاتِ العبادةِ كالصلاةِ والحجِّ وذكرِ الله تعالى.
* * *
(1) رواه أبو داود (1194)، والنسائي (547).